هربرت سبنسر
من أعظم مفكري الإنكليز في القرن الماضي، وقد بقي اسمه حتى صدر هذه المائة على لسان كل أديب وعالم، ولكن الشهرة كالأزياء لها عهد وينقضي؛ فقلما تجد اليوم من يستشهد به مع أنه لم يطرق موضوعًا إلا ترك فيه أثرًا عميقًا من تفكيره، ولا سِيَّما في الحرب التي شهرها على الاشتراكية والنظام البرلماني.
كان سبنسر أعدى عدو للاشتراكية، ومع ذلك فالاشتراكيون يستندون إليه في دعم مذهبهم، ويتخذونه على الرغم منه حليفًا لهم؛ لأنه أظهر منذ الساعة الأولى ميله إلى جعل الأرض ملكًا للأمة. ولكن الذين يستشهدون به ينسون أنه طالب بتعويض عادل للمُلاك؛ فهو يعترف بحق الأمة في ملكية العقار، ولكنه لا يعترف لها بحق الاستيلاء على كل ما أضافه الإنسان إلى الأرض من عمله الخاص، أو ماله المُكتَسَب بعرق جبينه، وجُل ما يحق لها السيطرة عليه هي الأرض الصخرية والمستنقعات والغابات.
يقول سبنسر: إن ملكية الأرض بادئ ذي بدء كانت عملًا استبداديًّا، لا يخلو من السرقة والتزوير، فكان فيه اللص يتلو اللص. ويُقدِّم مثلًا على ذلك النورمانديين؛ فقد اغتصبوا الأرض اغتصابًا من الدانماركيين والسكسون، كما اغتصبها السكسون من السلت، والسلت من أبناء بريطانيا العظمى الأصليين. فإذا أراد المجتمع اليوم أن يستولي على عمل ألفي سنة فقد أتى أمرًا إدًّا، وارتكب من اللصوصية أعظم مما ارتكب أولئك. ثم إن دخول العقار في حَوْزة الأمة لا يأتي بالفائدة المطلوبة؛ لأن إدارة المجتمع لا تضاهي إدارة الفرد في تصريف الأمور وتسييرها سيرًا مُوفَّقًا.
وفي برنامج الاشتراكيين مادة أخرى لم يقف سبنسر فيها عند رأيه الأول: تلك حرية المرأة. فقد رأى بالاختبار أنه من الخطر إشراك المرأة في السياسة، وأبى عليها ما للرجال من الحقوق السياسية؛ لأنها لا تقوم بما يقومون به من الواجبات، ولا تُساهم في الخدمة العسكرية كثيرًا أو قليلًا.
ولا بد هنا من القول: إن رجوع سبنسر عن رأيه الأول في هاتين المسألتين: ملكية الأمة للأرض وحرية المرأة، كان نتيجة العلم والاختبار، وإذا أخذنا على رجال السياسة تقلُّبهم في أقوالهم وأعمالهم فلا يسعنا الطعن في المفكرين أمثال سبنسر، عندما يُعيدون النظر في آرائهم القديمة ويُمحِّصونها على ضوء الحقيقة والواقع.
على أن هناك أمرًا ثبت فيه منذ البداية ولم يحد عنه قيد شعرة، وهو اهتمامه بالطبقة العاملة؛ فقد دافع عنها دفاعًا مستطيلًا، وظل حتى النهاية يُردِّد ويُعدِّد ما يكتنف مستقبل الأكثرية من ظلام وشقاء، فالبطالة والازدحام في المساكن الضيِّقة المُظلمة الفاسدة الهواء، والمِهَن المُضنية، والشيخوخة المُحزنة، والانقسام البليغ بين الطبقات، وتفاوت الأرباح الهائل، وحصة الأسد المُعدَّة منها للمخدوم على حساب الخادم … كل هذه الأدواء يشكو سبنسر ويتألم منها، إلا أنه لا يظنها غير قابلة للشفاء.
كان سبنسر من المتفائلين المؤمنين بالرقي، على شرط أن لا يبقى الإنسان مكتوف اليدين، بل يتدخل تدخلًا فعليًّا في مقدرات نفسه، ولكنه لا يعتقد بدواء سحري يشفي من الأمراض كافة؛ فهو يبني فلسفته على ناموس النشوء والارتقاء، ويُشبِّه جسم المجتمع بجسم الفرد؛ أي أنه قابل مثله للتأثر بعوامل خارجية كالتربة والمناخ، وداخلية كالمِزاج والأهواء. وكما يبدأ نماء الجسم بالجرثومة يبدأ نماء المجتمع بالأسرة، ثم القبيلة، إلى أن تتألف الأمم والشعوب، فتنقسم حينئذٍ إلى فئتين أو جيلين أو مثالين: مثال ينتحل الجندية، ومثال ينتحل الصناعة.
والفرق بين المثالين أن المرء يفقد حريته في الأول على أن تُكفَل له حاجاته من مطعم ومسكن وكساء، بينما يظل في الثاني حرًّا يعتمد على نفسه في هذه الحاجات. على أن المثال الخالص عسكريًّا كان أو صناعيًّا غير موجود. ويُمكن القول: إن دول أوروبا مزيج من الاثنين؛ فهي نصف عسكرية ونصف صناعية. ويرى سبنسر أن المثال العسكري غالب في ألمانيا، والصناعي في إنكلترا وأميركا، وفيهما دليل ناصع على ما يمكن للشعب أن يصل إليه من البَسْطة والغِنَى بدون الحرب.
ويقول سبنسر: من العجيب أن الطبقات العاملة تشعر بضرورة السِّلم وتكره الفكرة العسكرية، ومع ذلك نراها تحاول من حيث لا تدري تطبيق نظامها الاستبدادي على الصناعة، بإخضاع الفرد للدولة، فيصير الصُّناع جنودًا يتحكَّم بهم النُّظار والمُفتِّشون، بدلًا من الضباط والقُواد.
ويرد زعماء الاشتراكية على هذا بقولهم: إن الفرق عظيم بين الحالين؛ لأن النظار والمفتشين هم مندوبون خاضعون لرقابة الشعب، مُعرَّضون للانتقاد والعزل، فلا يمكن للعامل أن يكون مُقيَّد الحرية كالجندي.
وعلى الجملة فالاشتراكية في نظر سبنسر رجوع إلى الوراء لا يتفق مع سير الحضارة.
أما عداؤه للنظام البرلماني فراجع إلى فكرته الأساسية التي تجعل من المجتمع جسمًا حيًّا، ينمو ويكبر حسب شرائع طبيعية لا قِبَل للإنسان أن يُبدِّل فيها كما يشاء. والحياة الاجتماعية لا تنتظم اتِّباعًا لخطة يرسمها العقل والمنطق، بل اتباعًا للحاجات الماسة، ولن تجد مجتمعًا راقيًا قام طبقًا لبرنامج أو خطة موضوعة من قبل بالمناقشة الرسمية، ففي أي حال كان لا سبيل للإنسان أن يُغيِّر الأشياء الطبيعية إلا بخضوعه للشرائع الطبيعية.
وهذا ناموس عام ينطبق على الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وعلم الاجتماع. وبما أن نمو المجتمع تابع لأسباب عمومية، لا سلطة للإرادة البشرية عليها، فسيادة الشعب مربوطة بالجهل، لا يمكنها أن تهتدي الطريق أو تعرف الوسائل التي ينمو بها المجتمع، وجل ما تستطيع هو أن تُقر وتُثبت هذه الوسائل، وعليه فليسن المندوبون عن الشعب ما شاءوا من الأحكام والشرائع والقوانين؛ فالعِبرة في جعلها ذات فعل نافذ. وقد عمل سبنسر إحصاءً للقوانين التي صدرت في إنكلترا ولم تُنفَّذ، فإذا بها فوق ما يتصوره العقل.
من أين إذن هذه الثقة العمياء بما يمكن للبرلمان أن يُجريه من إصلاح؟ وعلامَ هذا الإيمان بالحكومة الذي يُشبه ايمان المتوحش بالصنم؟ يعزو سبنسر ذلك إلى انتشار التعليم. ومن العقائد الراسخة في الأذهان أن التعليم يُهذِّب الشعب ويُنيره، وهذا وهْم؛ لأنه لا يوجد صلة بين قضية هندسية وأدب النفس. ولا يكفي تعليم الأولاد ما هو الخير ولماذا يُسمَّى خيرًا ليصنعوا الخير عندما يكبرون؛ فانتشار التعليم غير كافٍ ليجعل الشعب قابلًا للحكم الحر، ولا بد من الأخلاق، بل قد يساعد التعليم الناقص على نشر أخطاء كثيرة.
وإذا كان المثقفون لا يقبلون بمُطالعة ما يُخالف طريقة تفكيرهم وشعورهم، فما قولك بالشعب إذا كان لا يتذوق إلا ما يُوافق هوًى في نفسه! وأبلغ دليل على نتائج هذا التعليم هو هذه النشرات التي تُغذي الأوهام؛ لأن الجريدة تسعى قبل كل شيء إلى إرضاء مشتركيها، فتُقوِّي فيهم بهذه الطريقة أميالًا شتَّى يصعب تحقيقها، وتجعلهم يظنون أن الحكومة قادرة على معالجة كل الشئون، ومن واجبها التدخل في كل كبيرة وصغيرة، وتُردِّد على مسامعهم في كل سانحة إمكان تبديل النظام الحالي. وبما أنهم هم الذين سينتخبون، فمن مصلحتها تقوية هذه العقيدة في رءوسهم، وهكذا يُصبح الشعب الذي هو صاحب السيادة أُلعوبة في يد رجال السياسة.
ثم يحمل سبنسر على النواب حملة شعواء، مُتهمًا إياهم بالجهل والوعود الكاذبة والأثرة وتضحية مصالح البلاد في سبيل مصلحتهم الخاصة.
لقد كان لِما كتبه «سبنسر»، وخصوصًا في كتابه «الفرد ضد الدولة»، صدًى بعيد حتى قيل عنه: إنه فوضوي. وما لا ريب فيه أن هذا الكتاب الصغير قد ساعد كثيرًا في بث الدعوة إلى الفوضوية، ولا سِيما في الولايات المتحدة، بتشويههم كلامه وتفسيره تفسيرًا يوافق مصلحتهم. وسبنسر نفسه يقول: بين وَيْلَينِ هُما: استبداد الاشتراكية وحرية الفوضى أُفضِّل الفوضى مع كل ما فيها من شقاء. ولكنه ليس فوضويًّا بكل معنى الكلمة؛ لأن الفوضويين يُطالبون بإبطال كل وظائف الدولة، بينما هو يريد إبطال البعض ودعم البعض الآخر؛ فيطلب من الحكومة عدم التدخل في شئون الدين والتربية والأعمال الخيرية؛ لتكتفي بالمحافظة على النظام.
هناك في نظره مبدأ عام يُسيطر على عِلم السياسة، وهو التعارض بين أدب الأسرة وأدب الدولة. أدب الأسرة يقضي بالعناية الفائقة للولد الضعيف الهزيل، المحروم من نعم الحياة، والاشتراكية تريد إدخال هذا الأدب في الحكومة؛ لتساعد أصحاب العاهات والعيوب وضروب النقص. وهذا ما جعلهم يتَّهمون سبنسر بقساوة القلب، مع أنه يطلب أن تقوم جمعيات خاصة بعمل الخير، لا أن تتلهى به الحكومات فتصل إلى تقهقر النسل بدلًا من تحسينه. هو يريد أن يتحمل كل إنسان مسئوليته، فلا يتكِّل على غيره في ضعفه وكسله وجهله، فلا يبقى في ميدان الجهاد وتنازع البقاء إلا الأنسب، وليس الأنسب هو القوي، بل الأكثر أهليَّة واستعدادًا.