جزيرة الأبالِسة
ليست الأبالِسة سِوَى فئة من الآلهة التي اعتنقتها الأديان البشرية من قديم الأزمان؛ فكان للخير آلهة هي منبع اللذات، وللشر آلهة هي الشياطين التي تجلب الآلام للعالم. ولهذه الشياطين وظائف مختلفة؛ ففي الهند شيطان للعقم، وشيطان للقحط، وشيطان لليبس، وعلى رأسهم «مارا» الذي يوحي الأفكار الباطلة والأقوال الخبيثة والأعمال الشريرة، ويُجرِّب على الدوام بوذا وتلاميذه. وفي الفُرس شياطين معروفة بالكذب والخداع تسكن القبور والجبال والأرض المقفرة، وتحاول إغراء البشر، ولا تُطرَد بغير الصلاة ودعاء الكهنة والمجوس. وفي بابل وآشور شياطين للطاعون والحمَّى والشلل والدم والنار، وهي تُعالَج أيضًا بالصلاة والاستهواء؛ فكان الكهنة يراقبون العليل ويُصغون إلى ما يقول في حالة الهذيان، فيكتشفون الداء وأحيانًا اسم العدو الذي تجب محاربته. وفي مصر رئيس الشياطين هو «سيت» إله الظلمات، وما المرض سِوى صراع بين الشيطان والإنسان، وعلاجه أيضًا بالتعاون والرُّقَى.
وكانت البغضاء القائمة على التعصُّب للدين والوطن تدفع الناس إلى احتقار آلهة أعدائهم واعتبارها من الشياطين؛ ولهذا قد تجد الاسم الواحد يُطلق عند فريق على الإله، وعند فريق على الشيطان. وقد فعل اليهود كغيرهم فكانت آلهة أعدائهم الفينيقيين مثل: مولوك، وبعلزوب شياطين عندهم. ولنشأة بعلزوب هذا حديث طريف لا بأس من ذكره هنا.
لا يخفى اليوم على أحد خطر الذباب وتأثيره في نشر الأمراض كالحمَّى والكوليرا والملاريا ومرض النوم. ويروي كلوديوس أوليانوس الكاتب اللاتيني في مقتطفاته أن سكان شواطئ الاستبراس، وهو نهر في الحبشة، كانوا يُضطرون كل عام إلى الهجرة هربًا من أسراب الذباب الذي ينتشر كالضباب، فيحجب عنهم وجه السماء، هذا الذباب هو «تسي تسي» ناقل مرض النوم يعيش على شواطئ الأنهر في ظل الميموزا والموز، فتقفر من أجله شواطئ النيل الأعلى والاستبراس طوال ستة أشهر، إلى أن يأتي الخريف باعتدال أيامه ولياليه؛ ولهذا كان المصريون يؤلِّهون شمس الخريف لأنها تقهر الذباب، وانتقلت هذه العبادة إلى القيروان؛ حيث كان يُسمَّى هذا الإله الخاص «أخورس»، ثم إلى فينيقيا فسُمِّي بعل زبوب؛ أي «الإله الذباب»، ولكن اليهود حرَّفوا الكلمة إلى بل زبوب، وجعلوا الإله شيطانًا والذباب كذلك.
وكان لوثر لا يزال يعتقد أن الذباب مُشيطنة؛ فكان إذا وقع الذباب على وجهه أو على كتابه يغضب ويصيح: «إليك عنِّي يا قرد إبليس وأتباعه، كلما فتحت توراتي تأتني أيها الذباب الخبيث بأقذارك كأنك تقول: هذا الكتاب لي وفي إمكاني أن أُلوِّثه بدهني.»
وبعض الشياطين في بلاد يهوذا مأخوذ عن أصنام الوثنيين أو عن الملائكة؛ فإن بين الملائكة أشرارًا، وأحد هؤلاء وقف في طريق بلعام عندما نهض لتلبية بالاق بن صفور، ملك مؤاب الذي استنجده على إسرائيل «سفر العدد إصحاح ٢٢»، ومثله الذي كان يعتري شاوول فيضرب داود بيده الكنانةَ ليصرف الروح الشرير عنه «سفر الملوك إصحاح ١٦»، وكذلك الذي أثار داود أن يُحصي إسرائيل فبعث الرب وباء في إسرائيل، فسقط من إسرائيل ٧٠ ألف رجل، وبعث الله ملاكًا إلى أورشليم ليدمرها، وإذ كان يُدمِّر نظر الرب فندم على الشر وقال للملاك: كفى. «سفر الأيام الأول إصحاح ٢١».
هذه الملائكة الساقطة أو الشياطين كانت تعيش في عزلة، وهي في ظمأ دائم وتعب مستمر، فدبَّت إلى جسم الإنسان واتخذته لها مقرًّا تتغذى من مادته، وتسبب له الهستريا والصرع والجنون؛ ولهذا كان الأقدمون يُسمُّون المُصابين بهذه الأمراض مشيطنين.
وكما كانوا يعزون الأمراض العصبية إلى الشياطين كانوا يعزون إليها ظواهر الأرض الجيولوجية، فتقول أسطورة يابانية: إن جزيرة كيوشو احتلَّتها الشياطين. وقد أتتها من أقاصي العالم حاملة معها تلك الأبخرة ذات الروائح الغريبة، ففجَّرت فيها بُحيرات من الماء الحار ولُجَجًا من الأوحال المصهورة الغالية، وقدحت في أعالي الجبال شرار النار، فكانت تُسمع طقطقة القشرة الأرضية كما كانت تتدحرج الصخور فوق الجزيرة والبحر، وجرت أنهار من الحمم، واشتعلت غابات الصنوبر، وابتلعت الأرض الأكواخ مع سكانها.
وظل سلطان الأبالسة على الجزيرة عصورًا وهي تُجدِّد فيها الأذى والشر إلى أن جاءها يومًا ستة من الرهبان، ونزلوا في تلك الأرض غير المضيافة، هؤلاء الرهبان كانوا مُشبَّعين بالحكمة وأرواحهم مُتنزهة عن شوائب الأرض، فاختفت الأبالسة لدى ظهورهم تاركة بخارها الكريه الرائحة وماءها الفاتر الغالي، وشرع الرهبان بإقامة المعابد الجميلة، مُرصَّعة بكل ما تقدمه الصناعة الصينية من غريب الألوان والتزاويق، ورنَّت على الشاطئ أجراس الهيكل تدعو المؤمنين من أقصى الأرض إلى هذه الجزيرة المُطهَّرة.
وأبلغ هذه التماثيل أثرًا صورة إله الحرب؛ فإن لها رأسًا أسود مُخيفًا، يُزيِّنه قرنان قصيران، وجسمًا مُركَّبًا من الحِمَم أو الشَّبَه «البرونز»، مُرتكِزًا على صخر وفخذاه غارقتان في الماء، وكأنه وهو يضع يدًا على وركه ويقبض بالأخرى على الصولجان يُهدِّد البشر من علو سلطانه.
وقد حُفرت في الأرض مراجل مختلفة الحجم يصلها الوحل الأصفر والأحمر وهو في حالة الغليان، كأنه عصيدة سميكة تفور حتى أطراف القِدْر الذي تُطبخ فيه ثم تغور.
ومن هذه التماثيل واحد أخضر كالبحر، وآخر يُلقِّبونه «غدير دم الأبالسة» قرمزي جميل يصبغ الأقمشة التي تُلقى فيه بلون أحمر. أما مياه «جحيم الكاهن» فإن حرارتها تبلغ درجة عالية، حتى إن أحد الزوار سقط يومًا فيها، فذهب لحمه حالًا، ولم يستطع ذووه أن ينتشلوه إلا هيكلًا من عظام.
وقد زاد أقوالهم تأثيرًا ونبوءاتهم مهابة بُخارُ البراكين المتصاعد من حولهم، كأنه أرواح التماثيل المنتصبة أمام أبصارهم، وهذا ما جعل جزيرة الأبالسة أرض الحديث المُوحى، والشفاء العجيب.