الحماقة البشرية
لا أذكر أين قرأت أن أحد القواد العظام — وأظنه فيليبكوس إمبراطور القسطنطينية — كان كلما أشرف على معركة وأزفت ساعة القتال يذرف الدمع سخيًّا؛ حزنًا على من سيُقتل فيها من الرجال. وسواء أكانت دموع تمساح أم رحمة أم إفراط في التعبد، فهي شاهد على حماقة الإنسان الذي لا يحجم عن قتل أخيه الإنسان.
من يدري عدد الضحايا التي تفترسها الحرب من كل جيل منذ وُجد الإنسان على هذه الأرض إلى يومنا هذا؟ يقول فلاماريون: إن الحرب السبعينية وحدها أطاحت بنصف مليون رجل، وحرب الانقسام في أميركا بمليون، وحروب الإمبراطورية بخمسة ملايين. وإذا أضفنا إلى ذلك من قُتل في حروب إيطاليا والنمسا وغيرها بلغ مجموع القتلى ١٩ مليونًا.
وهكذا منذ بداية التاريخ لا ينقضي جيل دون أن تُبيد الحرب منه مثل هذا العدد. وقد يبلغ عدد القتلى في المعركة الواحدة مائتي ألف رجل، كما في غارات أتيلا أو المواقع التي هزم فيها ماريوس الروماني قبائل التتون والسمبر، أو حروب جنكيز خان وتيمور لنك اللذين كانا يُقيمان في كل محطة من طريق الفتوحات أهرامًا من رءوس القتلى، فيكون مجموع من يموت في كل عصر من العصور بالحروب الدينية والسياسية والأهلية على تقدير فلاماريون أربعين مليونًا.
منذ طروادة وداود وسميراميس وسِزوستريس وكِسرى وقمبيز والإسكندر أربعون مليونًا من الرجال تُراق دماؤهم كل مائة سنة، وكثيرًا ما يُرافق هذه الدماء ألحان المُرتِّلين والتسابيح للآلهة. أربعون مليونًا كل مائة سنة لو جُمعت معًا لبلغ عددها مليارًا وربع المليار؛ أي ما يقرب من عدد سكان الأرض اليوم.
يا له من رقم هائل! أربعون مليونًا كل مائة سنة؛ أي ٤٠٠ ألف كل سنة؛ أي ٣٠ ألفًا كل شهر؛ أي ١١٠٠ كل يوم؛ أي واحد في الدقيقة. فكأن البشرية قائمة للذبح أبد الدهر، لا تُسقط السكين من يدها دقيقة واحدة. لقد ورث الإنسان الحرب عن الحالة الحيوانية، ولا يريد أن يتخلص منها. مائة ألف من السنين على حساب البعض، ومائتا ألف على حساب البعض الآخر أتت على هذا الموجود منذ أُتيح له الوجود وهو يُناضل ويقاتل. وهذا ما يُسمونه تنازع البقاء.
تبدلت الوسائل ولم تتبدل الطباع، وتحولت أسلحته من النبابيت والسهام الحجرية إلى المدافع والمتفجرات، وشهوة الدم باقية كما هي.
يُقدر فلاماريون ما أُريق من الدماء في هذا المدى الطويل من التاريخ بنحو من عشرين مليونًا من الأمتار المكعبة؛ أي ما يجعل منها نهرًا كنهر السين، يجري وأنت تنظر إليه من مكانك يومين متواصلين قبل أن ينتهي، وتسير مراكب البحار على أمواجه الحمراء كما تسير اليوم في السين، يتصاعد منها نحو المباني والقصور من الروائح ما يتصاعد من الحفر في جحيم دانتي، ولو بُعث هذا المليار وربع المليار من القتلى، ونُصبت رِمَمُهم الواحدة فوق الأخرى لكان منها سُلم بشري يصل إلى القمر ويدور من حوله ويُوالي صعوده في اللانهاية، إلى أبعد من مليون من الأميال. ولو أخذت الرءوس وحدها وصُف الواحد إلى جنب الآخر لانتظمت عقدًا يُحيط بالكرة الأرضية ست مرات.
أضف إلى هذه الخسائر في الأجسام والأرواح ما يلحقها من الخسائر الأدبية بإتلاف منتوجات الفكر البشري، كما فعل هولاكو عندما خرب بغداد؛ فقد أقام جسرًا من الكتب في دجلة لتمر عليه جنوده.
وإذا نظرنا إلى أسباب الحروب وجدناها تافهة على حد قول الشاعر: يثير «صغيرات الأمور كبيرها»؛ فمن حروب طروادة التي كان سببها اختطاف امرأة إلى ما عقبها من الحروب، إلى الحرب العالمية الأخيرة التي لم يُعرف لها مثيل، لم يكن السبب يومًا على قدر المسبب، ولكن الطمع لا ينفك يلعب بالرءوس فتختار البشرية أفضل أولادها وأقواهم، ترضعهم وتغذيهم وتنميهم حتى إذا بلغوا زهرة الشباب أرسلتهم إلى الموت. طمع جنوني يجيش في رأس الواحد، فيجر القطيع البشري إلى الذبح.
ويضطر الباقون إلى الدفاع عن أنفسهم؛ فيُجارونه مُكرَهين. أين هذا من الحياة الهادئة العاملة المفكرة السعيدة يريدها الإنسان ويمنعه عنها الإنسان؟!
وقد يُظَن، وبعض الظن إثم، أن الحروب ضرورية لمنع الازدحام وتكاثر البشر تكاثرًا هائلًا يضيق عنه وجه البسيطة على حد قول الشاعر:
مع أنه في إمكان الأرض أن تُغذي عشرة أضعاف مَن عليها، كما أن التقتيل لا يؤثر في تخفيف العدد؛ لأن الإنسانية في تكاثر مستمر على نسبة مولود واحد في الثانية.
فالحرب في كل حال آفة على البشرية، ولو قدر الإنسان أن يتخلص منها واستغنى عن ضرورة الاستعداد لها، وعما يُسمونه السلم المُسلح لاستطاع أن يُلبي دعوة أمه الأرض بالإكثار من الأيدي العاملة؛ فتدر عليه خيرات لا تُحصى. ناهيك بالأموال التي تُنفق على ميزانية الحرب في كل دولة، فقد قدروا ما أُنفق منها في المائة الماضية بسبعمائة مليار، ولا نتكلم عما أُنفق في الحرب العالمية الأخيرة. هذه الأموال لو أُنفق معشارها فيما ينفع، كتعميم التعليم المجاني في كل صقع، وتحسين وسائل المواصلات بين البلدان بأسرع وأوفى مما هي عليه الآن، وإزالة الحدود الجمركية بين الممالك، وإنشاء المستشفيات الكثيرة، وإمداد الباحثين والمخترعين بما يحتاجونه، لوفرت للإنسان أسباب هنائه واستطاع أن يتغلب على الأمراض المستعصية، وأن يُطيل حياته إلى أقصى ما يمكن، إن لم يتمكن من التغلب على الموت.
حلم جميل لا أدري، ولا أحد في الناس يدري إذا كان في الإمكان استحالته حقيقة. وبينما العقلاء من الناس يُفكرون في تحقيقه كله أو بعضه فالأرض لا تزال تدور، وتشهد حماقة البشر، وتحتمل التفظيع والتخريب، وتلبس الحداد، وتغص بدم أبنائها المهراق على صدرها.