تيمور الأعرج
كان تيمور لنك من أعظم ملوك المغول شأنًا، وأوسعهم سلطانًا، وأشدهم طغيانًا، يمت بنسب بعيد إلى جنكيز خان — على ما يُقال — وبينهما مائة وسبعون عامًا؛ فقد ظهر جنكيز في منتصف القرن الثاني عشر، وظهر تيمور في أوائل القرن الرابع عشر. وتخلل العهدين ظهور هولاكو الذي اشتهر بتخريب بغداد وقتل المستعصم واضعًا السيف في دار السلام أربعين يومًا، مُحرقًا دورها، نابشًا قبورها، بانيًا بكتب العلماء مجبولة بالطين إصطبلات خيوله، وجاعلًا منها جسورًا على نهر دجلة للعبور عليها.
جاء في دائرة المعارف عن القرماني: كان تيمور رجلًا ذا قامة شاهقة، كأنه من بقايا العمالقة، عظيم الجبهة والرأس، شديد القوة والبأس، أبيض اللون إلى احمرار، عظيم الأطراف، عريض الأكتاف، مستكمل البنية، مسترسل اللحية، أعرج اليمينين، وعيناه كشمعتين، جهير الصوت، لا يهاب الموت. وكان من أبهته وعظمته أن ملوك الأطراف وسلاطين الأكناف إذا قدموا عليه وتوجهوا بالهدايا إليه كانوا يجلسون على أعتاب العبودية والخدمة نحوًا من ممد البصر من سرادقاته، وإذا أراد منهم واحدًا أرسل أحد خدمه ينادي باسمه فينهض في الحال.
وقد اختلفت الأقوال في نشأته، وكثرت حولها الأساطير؛ فقيل: إنه لما وُلد كانت كفاه مملوءتين دمًا، فقال بعضهم: يكون شرطيًّا، وقال بعضهم: ينشأ لصًّا، وقال بعضهم: قصابًا سفاكًا، وقيل مثل ذلك في جنكيز خان. والسبب في تسميته بالأعرج أنه سرق في بعض الليالي غنمة فشعر به الراعي فضربه بسهمين، أصاب بأحدهما فخذه وبالآخر كتفه؛ فأبطل كلتيهما فازداد كبرًا على فقره، ولؤمًا على شرِّه.
وكان جده حاكمًا على كرش فاغتُصِبت منه وعُمْر تيمور ثلاث سنوات، فقضى طفولته في الفاقة والحرمان. ولما بلغ أشده جمع من البادية والصحراء والغاب رجالًا أقسموا له اليمين أن يُساعدوه على استرجاع مُلكه. وكان هو ورفاقه يسرقون ما وراء النهر، فشعر بهم السلطان حسين، صاحب هراة، وظفر بهم فضربهم، وأمر بصلب تيمور. وكان للسلطان ولد يُقال له: غياث الدين، فشفع فيه واستوهبه من أبيه، فقال له أبوه: هذا مادة فساد، وإن بقي ليُهلكنَّ العباد، فقال غياث الدين: وما عسى أن يصدر من نصف آدمي وقد أُصيب بالدواهي؟
فوهبه له، فقربه منه وزوَّجه شقيقته، ثم إنه غاضبها بعض الأيام فقتلها، فلم يبقَ له إلا الخروج والتمرد، إلى أن كان من أمره ما كان، حتى استصفى ممالك ما وراء النهر، واسترقَّ العباد، وصافى المغول، وتزوج بنت ملكهم قمر الدين، ثم ظفر بغياث الدين فقتله، ووضع السيف في أهل سجستان، واستخلص ممالك العجم، ثم زحف إلى الهند فاقتحم دلهي، وأسر مائة ألف من السكان، وأحرق البيوت والهياكل ثم انتقل إلى الشام والعراق فاكتسحها، وبلغ بلاد أرمينيا وملك بني عثمان، وكانت له تلك الوقائع المشهورة.
واتخذ سمرقند قاعدة لمُلكه، وبنى فيها الجوامع وجمَّلها بالحدائق الغناء، وأحاطها بالأسوار، ولقَّب نفسه الخان الأكبر مُردِّدًا قول أحد شعرائه: «يجب أن لا يكون على الأرض سوى سيد واحد، كما أنه لا يوجد في السماء غير إله واحد.»
وكان يُحسن الفارسية والتركية والمغولية، وله إلمام بالأدب وغيرة على الدين الإسلامي؛ ولهذا كان يعفو في فتوحاته عن رجال القضاء والشرع والعلم، ويهتم ببناء الجوامع، على أن هذا لم يكن يمنعه من التخريب، مُضيفًا إلى فظائعه بذخًا غريبًا.
من هذه الفظائع أنه بعد ذبحه سكان أصفهان أمر كل جندي أن يأتيه بعدد من الرءوس المقطوعة، وكان الجنود قد تعبوا من التقتيل فصاروا يشترون الرءوس ويُقدمونها له حتى بلغ عددها سبعة آلاف، وفي «الأبخاز» حمل الناس على الإسلام، ومن أبى عذَّبه، ومن هرب إلى الكهوف أضرم فيها النار وأحرقه، وفي هراة بنى من الجماجم أبراجًا، فعدوا منها ٧٠ ألف جمجمة، وفعل مثل ذلك في تكريت وحلب وبغداد، وعندما حاصر سيواس بعث أهلها نحوًا من ألف ولد يحملون نُسخًا من القرآن وهم يضجون «الله! الله!» راجين بعملهم هذا اكتساب عطفه، فقال: ما هذا الثغاء الذي أسمعه؟ وأمر أن تُؤخذ الكتب منهم، وأن تدوسهم الخيل، فهلكوا جميعًا.
ولما دخل دمشق أظهر التشيع وأوقع على أهلها جريرة كونهم أعانوا بني أُمية وهم سُنَّة، وأحرق المدينة عقابًا لهم، وفي بغداد أباح النهب ثمانية أيام، ثم قتل أهلها وبنى من رءوسهم ١٢٠ برجًا، ثم خرب البلد إلا المستشفيات والمدارس والجوامع، وفي إحدى مدن آسيا الصغرى ربط رءوس الفرسان الأرمن بأرجلهم وألقاهم في الحُفر ودفنهم أحياء، وتغلب على بايزيد فوضعه في قفص من حديد حتى مات.
وكان يتسلى بمجادلة علماء السُّنة في حلب وتخويفهم، وقد ألقى عليهم يومًا هذا السؤال: مَن هم الشهداء حقيقة؟ مَن قُتلوا من جنودي أم من أعدائي؟ فقال أحدهم: مَن قاتل في سبيل الله فهو الشهيد، وقال تيمور: أنا أعرج وضعيف، وقد فتحت إيران وطوران والهند، فأجابه المفتي: احمد الله ولا تقتل أحدًا، فقال: والله ما قتلت أحدًا بإرادتي، وما كنت أبدًا البادئ بالعدوان، وأنتم علة مصائبكم. بهذه الأحاديث كان يتلهى مع العلماء بينما كان رجاله يُقيمون من الجماجم أهرامًا.
أما بذخه الغريب فيُمكننا أن نأخذ صورة عنه فيما صنعه في سمرقند، بعد رجوعه إليها ليستريح من وعثاء السفر والحروب، وهو في الستين من العمر. فقد بنى قطرًا من المرمر المزدان بألوان الخزف والفسيفساء، وجعل فيه مستسقيات ينبعث منها الماء عمدًا في السماء، ونصب مائتي خيمة من الحرير المقصب والمخمل المذهب لسكناه، وأقام ملاعب للخيل وأمكنة لأجواق الموسيقى، ثم أولم وليمة فخمة حضرها بنوه والملكات والحكام والعظماء، وسفراء الدول كالصين وروسيا واليونان ومصر وإسبانيا.
وكانت الهنود ترقص على الحبال، وأرباب الفنون والصناعات الذين كان يستقدمهم من جميع البلاد التي غزاها يتبارون في إظهار مهارتهم؛ فالفرَّاءون يلبسون جلود الدببة والنمرة والسباع، والفراشون يعملون من أمراس الكتان جِمالًا تتحرك، ومن الأقطان عصافير ومنائر، والسراجون يصنعون الهوادج على الجمال، وفي كل هودج فتاة تفتن الأنظار، وصانعو الحصر يرسمون بالخط الكوفي سطورًا مؤلفة من القضبان.
وكانت الخمور تُسكب في أكواب الذهب، واللحوم تُشوى على الأشجار المقطوعة من الغاب، والموائد مبسوطة على مدى النظر وعليها كل ما راق وطاب. في ذلك اليوم زوَّج ستة من أحفاده، فكانوا يُبدلون ثيابهم تسع مرات، وكلما بدلوها تركوا ما عليها من الحلي والجواهر لأتباعهم. وكان رجاله ينثرون على الضيوف بين الحين والحين قطعًا من المرجان والياقوت والعقيق والفيروز والذهب والفضة، بينما الشعراء يُنشدون قصائد المديح بالعيد.
ولم يكن تيمور ينتهي من بذخه إلا ليعود إلى غزوه وتفظيعه، فلما انقضى هذا المهرجان العظيم التفت إلى مَن حوله وقال: إن انتصاراتي لم تتم دون إراقة دماء؛ ولهذا عزمت على التكفير عن ذلك بمحاربة عُباد الأصنام في الصين؛ فليكن الجيش الذي ساعدني على ارتكاب القتل عوني في التكفير عنه؛ ليقيم الجوامع على أنقاض الهياكل. وخرج من سمرقند في مائتي ألف مقاتل، ولكن البرد والجليد أفنيا الكثير من جنوده، وأصابته الحمى في أترار فقضى نحبه.
هذا هو تيمور الأعرج الذي يُعد أكبر الفاتحين منذ الإسكندر إلى اليوم، والفرق بينه وبين جنكيز خان أنه كان ذا عِلم ومعرفة، وله اطلاع على آداب العرب والفرس، بينما كان جنكيز أميًّا لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب، ولكن الاثنين أمعنا في التخريب. نعم، إن تيمور كان مسلمًا فأبقى على الجوامع وشاد كثيرًا منها، غير أن جنكيز المجوسي لم يكن يُفرِّق بين الأديان؛ فأدخل في بلاطه الأكفاء بلا نظر إلى المذهب، ووضع لأمته شرائع قيِّمة. وعلى كلٍّ، فقد كان الطاغيتان أكبر نقمة نزلت على البلاد الشرقية، والمدنية الإسلامية.