نيتشه
لقد شبه بعضهم المذاهب الفلسفية بالأزياء العصرية، وهذا التشبيه على ما فيه من قلة الاحترام إذا قابلنا بين الهدف الأسمى الذي ترمي إليه الفلسفة، وهي الحقائق الخالدة، وما تُمثِّل الأزياء من أباطيل العالم الزائلة، لا يخلو من الحقيقة؛ لأننا نرى الفلسفة تتبدل كالثياب والقبعات وربطات العنق؛ ذلك لأن الإنسان مطبوع على حب الجديد والرغبة في التنقل، فترى كل جيل يسعى إلى معارضة الجيل السابق، وكل فرد يحاول أن يتخذ مكانه تحت الشمس، فينكر أقوال مَن تقدَّمه، ويثور على أفكار السلف وعاداته وأذواقه، مُنزلًا عن العروش آلهتها ليُقيم بدلًا منها هياكل أخرى.
بالأمس جاء شوبنهَوَر فصوَّر الحياة في أسوأ مظاهرها، وأشدها ظلامًا، وأبعدها يأسًا، وطلع علينا تولستوي يحمل غصن الزيتون، ويُبشر بديانة الإنسانية المتألِّمة، وهي كلمات كانت لها رَوْعتها عندما قيلت للمرة الأولى، صادرة عن ضميرٍ حيٍّ واحترام صادق. أما اليوم فقد أصبحت تُردَّد على كل لِسان بحُكم العادة دون إخلاص أو اقتناع. وبعد شوبنهور وتولستوي لفت أنظار الناس في العالم القديم والجديد تعاليمُ سترنر ونيتشه، وهي تناقض كل المناقضة ما ألِفوه. ولقد كان المعروف عن الفلسفة أنها مَحبَّة الحكمة، فجاء سترنر ونيتشه يُجرِّدان الحكمة من الآداب والأخلاق. وبينما الناس تُردِّد مع الشاعر العربي:
نسمع صوتًا جديدًا يقول: «إن الآداب فكرة حمقاء، وإن الشعب المتعلق بأخلاقه قاصر العقل، قليل الإبداع، عاجز عن الرقي، وإن الشهوات وحب التمتع بالملاذ دُون الرجوع إلى نداء الضمير أو الشعور بوخزاته هي التربة الصالحة التي تنمو فيها أنصع زهرات الفكر.» وقد جاءت هذه الفلسفة مطابقة لأميال الكثيرين، فصادفت مَرْعًى خصْبًا في نفوسهم، وسَرَت حركة جديدة ضد الدين وضد الآداب وضد الاجتماع. ولكيْ نفهم حقيقة فلسفة نيتشه علينا أن نتكلم أولًا عن سترنر، وسترنر يرجع بنا إلى فيلسوف ألماني آخر سبقه في هذه الطريق هو هجل. كان هجل يقول: لا يوجد دين بل أديان، لا يوجد مبادئ بل وقائع، لا يوجد آداب بل عادات.
فتلقَّى تلاميذه هذا الكلام كسيف ذي حدين وتمادَوا في استعماله، هادِمين التقاليد الكنسية والعقائد الدينية. وبعد أن كان الإنسان ظِل الله على الأرض صار الله ظِل الإنسان في السماء. حينئذٍ ظهر سترنر فحطَّم صنم الإنسانية وبدل منه عبادة الأنانية المطلقة في كتابه «الوحيد ومُلكه»، ثم جاء نيتشه فحصر هذه الأنانية في الإنسان الأسمى؛ أي السوبر مان.
وقد حاول سترنر، بمنطق لا يخلو من الأناقة في التعبير، أن يُبرهن أن ما نسميه إنسانية غير موجود، وأنه ليس على المرء أن يخضع لِما هو خارج عنه، سواء أكان إلهيًّا أم بشريًّا، وأنه لا حقوق إلا حقوق الفرد، وأن ما ألِفناه واتخذناه كآيات منزلية، مثل الأدب والفضيلة وعظمة الشعب وما شاكل فكرة فُرضت علينا وأُشرِبَتْها نفوسنا، فصارت شغلنا الشاغل كالفكرة الراسخة في ذهن المجانين. وأي فرق بين مجنون يظن نفسه إمبراطورًا أو إلهًا، ورجل من الناس يتصور أنه وُجد على الأرض ليلبي دعوة ربه، فيكون مؤمنًا أو وطنيًّا أو ذا فضيلة.
هذه الفكرة الراسخة التي تحمل الإنسان على احترام الحكومة أو المعبد أو المجتمع هي في نظر سترنر عفريت يمتص دم الحياة، ولا يكون الإنسان حرًّا إلا إذا أنكرها وطردها من رأسه، وأبى الخضوع لها، وحريته لا تكون حقيقية إلا إذا استخدمها من أجل ذاته، وجعل من «أنا» الألف والياء؛ أي بداية كل شيء ونهايته، حتى إذا ما قطع كل الصلات الاجتماعية أمكنه أن يقول كما قالت إحدى بطلات كورنيل، عندما سُئلت بعد قتلها أولادها: ماذا يبقى لكِ؟ فأجابت: يبقى أنا، أنا وحسْبي.
«أنا» أي محبة الذات في أقصى حدودها، وأسمى ذُرواتها، وكل عوامل الأدب والأخلاق التي شغلت البشرية، وضغطت عليها طوال العصور ليْست إلا أوهامًا، وباسم هذه الأوهام كان الحكام والزعماء والمُربون يُسيطرون على العقول، ويُصرِّفون أمور الناس كما يفعل مُروِّضو الدببة، فيُرقِّصونها ويُقفِّزونها على نغم المزمار؛ فإذا تحررت «أنا» فقد تخلصت من القفز والرقص.
إن سترنر لا يُنكر الشعائر الإنسانية، ولكنه يُجردها من صفة الواجب. اسمعْه يقول: «أنا لا أعرف قانونًا. أُحب الإنسان لأن ذلك يروق لي، أما أن أُضحي نفسي له فتلك فكرة لا تخطر في رأسي أبدًا. أحبه لأني بالحب أستطيع الوصول إلى ما أريد، والعشق نفسه إذا قبِلت بحكمه وتركت لسِهام الألحاظ سبيلًا إلى قلبي؛ فلأن ذلك ضرْب من حب الذات. إني أُشفق على كل ذي إحساس فأتألم لألمه وأفرح لسروره؛ فأنا قادر على قتله براحة ضمير، ولكن لا على تعذيبه. أنا لا أتعلق بشيء، وغاية ما أطلب أن أعيش لنفسي وأتمتع بما أريد كما أريد. كل ما يُمكنني الاستيلاء عليه هو مُلكي، وكل الوسائل حلال في هذه السبيل: الإقناع والرجاء، والإكرام والكذب، والخداع والرِّياء. القوة وحدها تخلق الحق. ماذا تهمني مصلحة الآخرين؟ فمصلحتي أريد، والحرية لا تكون إلا بمَحبَّة الذات.»
اسمعْه يقول أيضًا: «إذا رأى الكلب كلبًا آخر يتلهى بعظْمة ولمْ يهجُم عليه لينتزعها منه؛ فلأنه شاعر بعجزه عن ذلك. أما الإنسان فيحترم حقَّ سِواه بعظْمة، وهذا ما يُقال له: الإنسانية، وإذا اعتدى عليه نسبُوه إلى التوحش وحب الذات. دعوني من حديث العدالة والخير العام. إن حب الذات وحدَه قائدي ودليلي، وهو يقول لي: استولِ على ما أنت في حاجة إليه.»
هكذا يُنكر سترنر الواجبات الاجتماعية ولا يعترف إلا بالمصلحة الذاتية. واليوم ما أكثر الذين ينفرون من هذه التعاليم ويستفظعونها في الظاهر، وإذا خلَوْا إلى أنفسهم قالوا: إنا معك يا سترنر! وهلْ كان أكثر المُحتكرين والمُضاربين الذين يمتصون دماء الفقير إلا من هذه الطبقة؟ لقد أقام سترنر سُلطان الأنانية على أنقاض كل سلطة إلهية أو بشرية. وما نيرون عند حرقه روما بتلذُّذ، وما لويس الرابع عشر عندما صاح: «المملكة أنا» إلا كالبَعوض إزاء هذا المُعلم في إحدى مدارس برلين، الذي يُنادي من كُوخه الحقير: الكوْن أنا.
لا حاجة بي إلى نقد مزاعم هذا الفيلسوف، فإذا كان أساسها حب الذات فلا أحد يُنكر أن حب الذات أساس الاجتماع، وما خرج الإنسان من ظُلمة الوحشية وارتقى في سلم العمران إلا على ضوء هذه العاطفة. فحب الذات شِرْعة طبيعية، بل هو الشِّرْعة الأولى: وجودها واجب ونافع، على شرط أن لا تتجاوز حدود الاعتدال والحكمة فتفسد وينقلب نفعها إلى ضرر؛ لأنه — كما يقول برونيتيار — لا حق لأحد أن يدعي السلطة الكاملة على ما يعمله أو يفكر به؛ لأنه لا أحد يختص بنفسه دون المجتمع؛ فهو مَدين له في الماضي، ومحتاج إليه في الحاضر. ينسى سترنر أن لحياة البشر شرائع طبيعية، وأن الممالك لم تقُم على فكرة راسخة كما يدعي، بل على غريزة البقاء؛ فالإنسان حيوان اجتماعي لا يستطيع أن يعيش وحيدًا، بل عليه أن يُرضي محبة ذاته، ويُرضي مَحبة ذات الآخرين.
ولو أراد الواحد منا أن يُحقق ادعاءات سترنر لعارَضتْه الوقائع، ووقفت الحقائق سدًّا في وجهه. ولو أراد سترنر نفسه الذي كان رجلًا هادئًا مُسالمًا أن يُجرِّب بالعمل ما يقول لمنعتْه شُرطة برلين وأعادته إلى الحقيقة والواقع. فتعاليم سترنر ليست شيئًا في نظر الفيلسوف، ولكن لها أهميتها في نظر المؤرخ؛ لأنه لم يكن بين الذين حاولوا هدْم العرش والهيكل. ومن أتباع هجل مَن استطاع مثله أن يحتج أبلغ احتجاج على النظام القهري الخانق الذي كانت عليه بروسيا في منتصف القرن الماضي. وما ذكرت هنا آراءه إلا لأنها — كما قلت — تساعدنا على فهم نيتشه وتفسير مذهبه.
•••
لم أجد كاتبًا حطَّم بمِعْوَل فلسفته أصنام العقائد، وأنزل الآلهة عن عروشها لينتصب مكانها إلهًا في عقول الناس مثل نيتشه. ولا أدري أكان الجنون الذي انتهى إليه فأوقف حركة عقله قبل أن تقف حركة جسده نتيجة هذا الإجهاد والجهاد، مع ما عُرف عنه من إفراطه في استعمال المخدرات، وغرامه الشديد بالموسيقى، أم هي ضربة لازِب لِما بين العبقرية والجنون من النسب المزعوم؟ على كل حال فإن غرابة أطواره، وميله إلى الوحدة، وغضبه الدائم على معاصريه من حَمَلَة الأقلام، وكبرياءه الفائقة أمور تحمل على الشك في أنه كان موفور الصحة خاليًا من شائبة المرض.
وفضلًا عن ذلك فهناك تناقض تام بين الرجُل والمؤلف؛ فإن دعة أخلاقه، ولطف معشره، وتعلُّق تلاميذه به، وحب النساء له، على الرغم مما كان يَكيل لهنَّ من الشتائم في كتاباته، لا يتفق مع ثورة الفكر والقلم التي صفَعَ بها جميع المبادئ القائم عليها نظام الاجتماع. لقد كان نيتشه أعدى عدو لهذا الاجتماع المملوء نفاقًا، كما كان جاك روسو من قبله. وكما نادى روسو بالعودة إلى الطبيعة والسليقة نادى بها هو أيضا، مع هذا الفرق بين الاثنين: أن روسو كان من عامة الشعب في عالم أرستقراطي، ونيتشه أرستقراطي الروح إلى أبعد حد في عالم أخذت الديمقراطية التي تنبَّأ عنها روسو تتحقق فيه.
لقد استولى على عرش كبريائه، ومن ذروة هذا العرش أرسل حكمه على البشر، فقسم الناس إلى فئتين، وجعل بينهما هاوية سحيقة؛ فئة النبلاء، وهم القلة، ولا يعني بالنبلاء تلك الطبقة المعروفة بقِدَم العهد أو الألقاب أو غير ذلك من الامتيازات، بل أصحاب الإرادة والعمل والأطماع، الذين خُلِقوا للإمارة والحُكم والإبداع، وفئة القطيع البشري الكثير العدد، أسير العبودية، عبودية التقاليد والحقد والحسد والبغضاء لكل سابق أو متفوق. كل ما هو سامٍ وعظيم في العلم لا يصدُر في اعتقاده إلا عن هذه الفئة القليلة من الأشراف. وبالعكس، إذا كان السلطان للعبيد فإن أعمالهم لا تأتي بغير السافل والدنيء، كما في الديمقراطيات حيث تغلب الكمية على الكيفية ويتحكم النِّعاج بالأُسُود.
فالمذهب الأرستقراطي، مذهب نيتشه، يزعُم أن الرُّقي يقوم على تنازع الطبقات أكثر منه على تنازع البقاء؛ أي بفوز الرجال العظام قادة الشعوب الذين يسكبون في عروق الأمم دمًا جديدًا، وإذن فتكون غاية الإنسانية إنتاج رجال عظام وتضحية الجماهير في سبيلهم. والمذهب الديمقراطي، وهو مذهب تولستوي، أيضًا يقول: إن الذي يكتب التاريخ هم الجماعات، وأما تلك القِلة التي تدعي الزعامة فضررها أكثر من نفعها؛ وعليه فغاية الإنسانية تضحية الفرد للجماعة لا الجماعة للفرد. ومعنى ذلك سلطة الشعب والتصويت العام فَالاشتراكية. وبما أن الرقي عمل اجتماعي؛ فلا يجوز حصْر فوائده في الأقلية، بل يجب أن يتمتع بها جميع الناس.
إن نيتشه لا يعترف بشِرْعة أدبية واحدة للبشر، بل عنده أدبان، أدب للجبابرة وأدب للأقزام، أدب للسادة وأدب للعبيد؛ فالرحمة والإحسان والأمر بالمعروف وحب القريب وسائر الفضائل التي تتغنى بها الجماعات شرٌّ في عُرفه، ولا صلاح ولا فضيلة إلا في القوة والشدة والتحكم، تلك هي صفات الأشراف أو عِلْية القوم التي لا تعرف من الواجبات إلا إطلاق العنان لغرائزها، فتكون حليتها حب الذات، والتجرُّد عن كل ما يسميه عامة الناس أدبًا.
اسمعه يقول: «مَحبَّة الذات لا تختص إلا بمَن كان شريف الروح؛ أي ذاك الذي عنده إيمان لا يتزعزع بأنه فوق الناس، وله يجب أن تخضع وتُضحِّي سائر الناس، فهو خارج عن نطاق الخير والشر.»
فالرجُل الأسْمى أو السوبرمان هو الذي لا دين له ولا وطن ولا أُسْرة، ولا قيمة للشرائع الأدبية عنده إلا بقدر ما تسمح له أن يكون السيد المُطاع.
هذه المبادئ الغريبة التي تمتاز بها تعاليم نيتشه تكاد تكون فِطْرية فيه، فقد شهد الحرب على العرش والهيكل وهو في الثالثة عشرة من عمره؛ فلم يجد في النصرانية إلا دين رِقٍّ واستعباد؛ لأنها بتعظيمها الزهد والرحمة والوداعة ونكران الذات قد جزَّت أشرف غرائز الإنسان، وبدلت منها فضائل كاذبة، وحوَّلت العالم إلى مستشفى كبير ليس فيه سِوى مَرْضى وممرِّضين، مع أن الواجب الأول على الإنسان أن يكون صحيح الجسم.
ولم يكن عداؤه للحُكم الديمقراطي بأقل من عِدائه للكنيسة؛ فهو يرى في الحكومات ويلًا على المدنية، إلا إذا استلم مقاليدها رجل ظالم، وبسَطَ دكتاتوريته عليها.
ولا يكفي الانعتاق من نير الدِّين والحُكم ليستحقَّ الرجُل الأسمى هذا اللقب، بل عليه التخلُّص من نير المرأة أيضًا. إن دليلة المُحْتالة تُقلق بال نيتشه؛ ولهذا فهو يحتقر الزواج ويُفضِّل أن تُعامَل المرأة على الطريقة الشرقية — كذا يقول — فلا يُطلَب من هذا الجنس الخائن الذي يُخْفي براثِنه تحت قُفَّاز مَخْمَلِي سِوَى اللَّذة والنسل الجميل. وأبغض النساء إليه المُترجِّلات اللائي يطمعن بالتصدُّر في المجالس، ويدَّعِين البطولة كمدام تيل، ومدام رولاند، وجورج ساند.
وهو لا يحترم من المفكِّرين والكتَّاب إلا مَن عرف أن يُصوِّر حياة عصره، مثل ميكافيلي وستاندال ودستوبوفسكي. أما الفلاسفة وعلماء النظريات فلا مقام لهم عنده؛ فينسِب الخمول لداروِن والرِّياء إلى «كانْت» والتسميم إلى «سبينوزا».
ويُعجَب بعصر الوحشية والقوة، ومن هذا الإعجاب يستقي كرْهه للعصر الحاضر، عصر الكسل والرفاهة، وعصر التقهقر الأدبي والفسيولوجي الذي يسمح للضعفاء بالحياة والتوالد، مما يؤدِّي إلى إضعاف النسل.
أما ناموس القوة الذي بشَّر به فقد قدَّمه إلى الناس في كتاب جعله إنجيل أو تَوراة الجبابرة: هكذا تكلَّمَ زرادِشت.
فهذا الكتاب الغريب الذي هو شِبْه توراة للجبابرة استعار فيه الإله زرادِشت ليُلَقِّننا شِرْعة الأقوياء، ويُقرِّبنا من حقيقة الإنسان المتفوِّق على الإنسانية. ولا أحاول إلا جولة صغيرة في هذا الكتاب الضخم المتشعِّب المسالك، الغامض الأبحاث، الكثير الرموز؛ لتلخيص ما يرمي إليه من تحقيق هذه الفكرة الهائلة السامية، التي ترفع الأنانية إلى درجة التقديس، فيبُزُّ فيها سترنر ومَن كتب قبل سترنر هذا في الموضوع هادمًا من أجلهم المبادئ الأدبية، مُحطِّمًا ألواح الوصايا التي تُدير نظام الاجتماع، جاعلًا الخير غير الخير، والشر غير الشر، مُبيحًا السرقة، مُشجِّعًا على القسوة، مُنكِرًا صحة كل شيء، مُعترِفًا بجواز كل شيء ما خلا الضعْف، مهْما يكن في هذا الضعف من بوادر الصلاح أو الفساد.
على أنه إذا جرَّدْنا زرادِشت من حلته الشرقية، وأخرجناه من جمال الإطار الذي يخلعه عليه البحر والجبل، وذاك الخيال الشعري البعيد المدى، لم نجد في هذه التعاليم ما يبدو للوهلة الأولى من جِدتها وغرابتها، بل ظهرت لنا في حلة مستعارة، وسمعنا من خلالها صدى أصوات فلاسفة آخرين، من أفلاطون الذي كان يريد في جمهوريته طبقة من الأشراف أبطال الحروب، إلى ميكافيلي الذي يرى في الديانة الوثنية تمجيدًا للعظمة والهيبة والقوة، إلى دي ميستر الذي يُنادي بالدَّم وضرورة الحروب للإتيان بعظيم الأعمال. وقديمًا قال الشاعر العربي:
وهذه القسوة الفائقة التي يُبشِّر بها نيتشه، وهذه الثورة على العادات والتقاليد والآداب الاجتماعية التي ينادي بها نجدها تحت أقلام الكثيرين من الكتاب والشعراء، كشلر، وبيرون، وبلزاك، وستاندال، ولكن أحق الناس بأن يكون مصدر وحيه هو شوبنهور. غير أن شوبنهور يتفوق عليه عند الاستنتاج؛ إذ يلجأ إلى الزهد مُلْقيًا نفسه في أحضان النرفانا نظير بوذا، وما النرفانا سِوَى الغيبوبة عن هذا العالم في سبيل الخلاص الأبدي؟
إن ما يمتاز به كتاب نيتشه هو جمعه بين النقائض؛ ليجذب إليه الناس ويُبعدهم عنه في آن واحد، يجذبهم إليه بما فيه من كراهة الكذب والنفاق، ومُحاربة ضعفاء العزيمة والإرادة، والإلحاح في استعمال الشدة والقسوة نحو ذاتنا ونحو سِوانا؛ فهو يتطلَّب جيلًا قويًّا ونسلًا جميلًا، ولا يرى للحياة معنى إن لم يتفجَّر من صخرتها العمل العظيم والإبداع، فيخال لنا في حالة الوهن والاضطراب التي تتخبط فيها الإنسانية اليوم أن نيتشه يحمل في نفسه آلام الحاضر كما يحمل آمال المستقبل. وهذا ما حبَّبه إلى الناشئة الطماحة، وجعله عظيمًا في عيونها. ويدفعنا عنه بما يحاول من فصل الإنسان عن الإنسان، وتقديسه الكبرياء والشر واحتقار الآخرين وحب الذات في أقصى حدوده.
ولقد شبَّهوا فلسفة نيتشه بالسم الذي يُفيد إذا أُخذ جرعات صغيرة؛ فقد يكون فيها علاج لداء العصر المُتفشِّي، من يأس وسوداء وملل من الحياة. أليْس هو القائل: «يجب أن نستيقظ كل صباح وفينا من الإرادة فوق ما لنا بالأمس، علينا أن نعرف العالم كي نحاربه، فلنحب الحقيقة وما فيها من شناعة وخبْث رائحة ومصاعب وأخطار، ولنخلع عنا اليأس، ولنقصر الشكوى والأنين، ولنقْوَ على إخفاء الألم، ولنهرب من الشفقة كما نهرب من العار، ولنجعل قلوبنا قاسية قساوة الماس؟» غير أن هذا العلاج لم يشفِ داء العصر المُستحكم، بل بدل مركز الثقل فيه وحوَّل ضعف الشبان وبأسهم إلى صلف وغرور، وربَّما دفع البعض إلى ارتكاب الآثام. على أن نيتشه ينكر هؤلاء التلاميذ في ضلالهم، بل يأبى أن يكون له أتباع؛ لأن الأتباع يدخلون في عِداد القطيع، أي العبيد، وعلى كل فرد أن يستقل في نظره وخبرته فيفهم العالم كما يريد.
لقد أراد نيتشه أن ينظم قصيدة الشدة والبطولة فجاءت أبياتها ملْأى بالنقائض، ومن خلال آياته وحِكمه وأناشيده وصوره كانت طريقه كثيرة الالتواء والمنعرجات؛ فهو ينهى عن الرحمة ويأمر بها، ويمنع الألم ويمتدح مزاياه، لا يكره الكتاب المقدَّس لِما فيه من العطف على الضعفاء، ويُعجب به لِما فيه من حب الانتقام: «عَيْن بعَيْن وسِن بسِن.» هذا من آداب السادة. وأما «مَن يلطمك على خدِّك الأيمن فأدِرْ له الأيسر.» فهو من أدب العبيد. وينكر الصداقة على المرأة، ويُشبِّهها بالهِرِّ ويتخذها صديقة له، ويوصي بالحب لتحسين النسل، ويطلب جَلْد المرأة بالسياط. ينهى عن الواجب ويأمر بالطاعة، فيحمل على الحكومات حملة شعواء لأنها تخدم الفضوليين الدخلاء على الحياة، ثم يقول: «أكرِم السلطة ولو كانت عرجاء.» إلى آخر ما هنالك من الوصايا المتناقضة الجائرة بين معناها الظاهر ومعناها الخفي.
وجملة القول: إن نيتشه يحملنا على إجهاد الفكر، ويمشي بنا على شفير الهاوية، أو فوق قمم خطرة، فلا يُطبق القارئ كتابه إلا وقد أصابه دوار، وصار كمَن يتلمَّس طريقه للهبوط من هذا العلو الشاهق إلى صعيد الحياة.
هذا هو نيتشه رسول القوة. لقد كان في حياته شاعرًا مغرمًا بالموسيقى وبنات الأفكار والأناقة الأرستقراطية، وكان لطيف المعشر محبوبًا، رقيق الشعور، شديد الإحساس، ولكنه كثير الأحلام؛ فجاءت فلسفته نتيجة لأحلامه وخياله أكثر منها نتيجة لأخلاقه، حتى انتهت به إلى الجنون. والغريب أن جنونه كان مبنيًّا على هذيان الاضطهاد والعظَمة؛ فظن نفسه لا زرادشت بل المسيح على الجُلْجُلَة. هذا الإله الذي حاربه لأنه إله المستعبدين أصبح غاية مُناه وأقصى مُشْتهاه، وربما كان ذلك يقظة الغيبوبة بالعودة إلى إيمانه القديم؛ لأن والد نيتشه كان قسِّيسًا.