تولستوي
عندما شنَّ الألمان هجومهم الأوَّل على روسيا وتغلغلوا في أراضيها شطْر موسكو، مروا في طريقهم ببلدة تولستوي، فأمعنوا فيها تخريبًا وبددوا ما في خزائنها من كتب هذا الفيلسوف وآثاره، كأنما هم أرادوا فيما نهبوا وأحرقوا أن يصبوا جام انتقامهم على تلك القرية التي أخرجت أكبر عدو لمبادئهم؛ فقد كان تولستوي رسول السلام وهم دُعاة الحرب، ينادي بالمساواة وهم ينكرونها، ويُعارض الخدمة العسكرية وهم يُقدِّسونها.
وليس حب السلْم والدعوة إلى المساواة أصل الشهرة التي أحرزها تولستوي؛ فإن هذه التعاليم السامية قد سُبق إليها، وقديمًا ردد صداها العالم القديم بما نقله لنا التاريخ من أقوال كونفوشيوس، فيلسوف الصين: «انسَ الإساءة ولا تنسَ الإحسان.» أو «تصرَّفْ مع الآخرين كما تريد أن يتصرفوا معك.» إن شهرة تولستوي ترجع إلى أمرين: الأول مُعارضته الإنجيل الذي يدين به، فتراه من جانب يُعلِّم مثله حبَّ القريب والعفو والتسامح، والبُعد عن الإكراه والشدة، ويتقيَّد بذلك الأدب الذي سماه نيتشه أدب العبيد؛ أي مَن لطمك على خدك الأيمن فأدِرْ له الأيسر، ومن جانب آخر يُنكر الخطيئة الأولى كما ينكر سِر الفداء، ولا يؤمن بالخلود بل يرى أن في الاتكال على الحياة الثانية ورجاء القيامة ضعفًا وصغارًا. ويعتبر أن هذه الحقائق الخالدة من الحب والمُسالمة، وعدم اتقاء الشر بمثلِه يُمكن للإنسان الاهتداء إليها لنفسه بدون مَعونة الإنجيل، وعليه فلا يهم أكان الإنجيل مُنزلًا أم من صُنْع البشر. فمسيحية تولستوي مَشُوبة بالتجديف، وهي أشبه بوَحْدانية بوذا منها بشيء آخر.
والأمر الثاني أن تولستوي كان أوَّل مَن طبَّق تعاليمه على نفسه، فدافع عن الفلاح ولبِس جُبَّة الفلاح، وناهض العظماء وتخلَّى عن مكانه العظيم بينهم، وحارَب الأغنياء وحرم نفسه من التمتع بثروته، فلم يكن يحمل في كِيسه إلا بضْعة دُرَيْهمات. وكل الظواهر تدل على أنه لو تُرِك الأمر إليه نفْسِه لفرَّق مالَه على الفلاحين، ولكنه كان أبًا لأسرة كبيرة كثيرة العدد، فكانت زوجته تتولى إدارة ثروته الأدبية، وبنوه إدارة أملاكه والتصرف بها وفقًا لعادات الأسرة وتقاليدها. والحق يُقال: إن حياة تولستوي كانت مثلًا للغرابة، وعلى الرغم من نبالة مَحتده، فقد نزل إلى معاشرة سائر طبقات الاجتماع، واحترف غير مهنة، فكان مُعلِّم مدرسة، وإسكافًا وفلاحًا، وتقلَّب بين الترف والشظف، كما تقلَّب بين الإيمان والجحود. أما فلسفة تولستوي فتُختصر بكلمة أبي العلاء المعرِّي:
ولكن زُهد تولستوي لم يكن بالسكوت والعُزْلة، بل بتجريد قلمه لمُحاربة الاستبداد والظلم والفساد والملكية والاشتراكية، فانتهى إلى النتيجة التي انتهى إليها فيلسوف روسي آخر هو البرنس كوروباتكين؛ أي إلغاء التجنيد ومَحْو الحدود، والوطنية، وإبطال المحاكم والعقاب بالموت، ولا فرق بين الاثنين سِوَى أن كوروباتكين يدعو إلى التمرد، وتولستوي يُوصي بالرفْق واللِّين. بل هو يذهب إلى أبعد من زميله؛ فلا يكتفي بشجب النظام الحالي وحقوق الملكية، والقَمْع والقصاص، بل يصب سخطه على المدنية بأسرها، مُتَّهمًا العلم والرُّقي بأنهما منبع الشر والفساد، مُتمنيًا خراب المُدن الكبرى التي هي مسرح البذخ والتهتُّك والإجرام. وهو كجان جاك روسو يطلب العودة إلى الطبيعة وساحة الحياة البدوية الأولى.
وفي كتابه «البعث» يدرس وجهًا آخر للحب — أمير يُغوي خادمة — فيجول في وصْف البِغاء والإثم جولة شاعر مُلْهَم، طارحًا على بُساط البحث مسألة التبعة الأدبية، مُحاولًا أن يجد في الطبيعة البشرية مهْما بلغت من الانحطاط عُذْرًا يُبرِّرها، ويدفع عنها العار، قائلًا مع هيكو باحترام المرأة الساقطة، وأن يُبرهِن لنا أن مكارم الأخلاق وروح التضحية لا تنحصر بقوم دون آخرين؛ فقد تكون عند الحقير والفقير ولا تكون عند السيِّد الكبير.
وعلى الجملة كان تولستوي واقعيًّا وخياليًّا معًا؛ ولهذا لم يخلُ من المناقضات، وأعظم تناقض كان في شخصه؛ فإن تعاليمه تقضي بالعزوبة وهو لم يُحافظ عليها، وبالفقر ولم يتجرد أبدًا من المال. على أن هذا لا يطعن في إخلاصه الذي يتجلَّى في كل ما كتب، ولا تجد صفحة لا يقطر من سطورها لبان الحنو والرحمة، وكل مَن كان يدنو منه كان يشعر بسِحْر أخلاقه المَلَكية، وما في حركاته من البساطة والبُعد عن التكلف.
وهو وَحْدَه القائل: إن كل إصلاح اجتماعي يجب أن يبدأ بالآداب، وأن لا يُفرض فرْضًا، بل يجب أن ينبع من أعماق الضمير الفردي. وهكذا يرجع في النتيجة إلى التمرُّد في كل شيء كسترنر، فيقول: على الإنسان أن يسمع صوت ضميره ولا يخضع إلا له.
كل فرد يحمل في نفسه الشريعة والأنبياء، ولكن طبيعة تولستوي لا تنتهي به إلى حب الذات مثل سترنر، ولا إلى قسْوة نيتشه الأرستقراطية، بل إلى الرحمة وإنكار الذات.