خمارويه ابن طولون
١
قال أبو العباس: «فسأنفذ إليهم من هذا الباب ومن كل باب حتى تنقضَّ على رءوسهم دولتهم، وسألحق منذ اليوم بجيش إسحاق لحرب خمارويه، فهل أذنت يا أبت؟»
٢
في ذلك الوقت كان فارس آخر عليه شعار الطولونية قد جاوز حدود مصر إلى الشام يؤيده أسطول بحريٌّ قد جاوز مضيق دمياط ومضى موازيًا له في البحر؛ لتحصين الشواطئ الشامية، هذا الفارس هو أبو عبد الله الواسطي وزير الدولة الطولونية ورفيق نشأتها، وقد عقد له خمارويه بن طولون ملك مصر وبرقة والشام والثغور على جيش كبير، وأخرجه للقاء إسحاق.
•••
وبلغ النبأ خمارويه بن أحمد بن طولون فعبَّأ جيشه وخرج للقائهم في سبعين ألفًا من المصريين، عليهم السلاح والزرد، ولكن جيش إسحاق لم يتلبث ومضى في طريقة، فما هي إلا جولة وجولة حتى غلب إسحاق على دمشق ففتحها، وانحدر إلى فلسطين يطلب عرش مصر أو رأس خمارويه، وأبو العباس بن الموفق على المقدمة يُغَنِّي لنفسه في شعر كليب بن وائل:
ومضت أسابيع ثم التقى الجيشان، ورأى أبو العباس وجه خمارويه، ورأى خمارويه وجه أبي العباس، واقتتل الشابان اللذان ترتبط بهما مصاير الدولتين … ثم كانت الوقعة التي شابت لها مقادم أبي العباس، فخلف وراءه جنده وأتباعه وما احتاز من مغانم، وفر على أدباره وحيدًا يلتمس السلامة، فما وقف به فرسه حتى بلغ أبواب دمشق، ولكن دمشق يومئذ كانت قد بلغها النبأ، فأغلقت أبوابها دونه، وتركته على الطريق يلتمس الدفء والمأوى فلا يكاد يجد، واستأنف الفرس عدوه بفارسه المنهزم، حتى بلغ ثغر طرسوس، ولكن المقام لم يَطِبْ للأمير في طرسوس، كما لم يَطِبْ له المقام من قبل، فقد خاصمه «يا زمان» البحري صاحب الثغر، وثار به أهل المدينة، فَأَجْلَوْهُ عن ديارهم، فخرج وحيدًا طريدًا قد ضاقت عليه الأرض، فاعتلى ظهر جواده وأطلق له العِنان، حتى بلغ قصر أبيه الموفق في بغداد بعد غياب عام ونصف عام في حرب لم يظفر فيها بغير الإياب …
وأوى الشاب الثائر إلى بيته صامتًا مكروبًا، لا يكاد يجد مساغًا للطعام والشراب، ولا سبيلًا إلى المنام.
٣
وهمَّ أبو العباس أن يجيب فذابت الكلمات على طرَف لسانه، ومضى أبوه في حديثه: «… وإنما يأتي أجل بني طولون يوم تصفرُ أيديهم من المال، فلا يجد الجند يومئذ لهم رزقًا في دولتهم، ولا يجدون هم في أيديهم من المال ما يرشون به الوزراء ويصطنعون القواد … وقد تولى اليوم أمرهم إسحاق ومحمد بن أبي الساج، كل منهما يطمع في عرش الطولونية، فلا يزالان يطلبان لها الغرة ويضعفانها بما يثيران في بلادها من أسباب الفتنة، فدعهما يا بني وما تولياه من أمرٍ حتى يأذن الأجل.»
قال أبو العباس: «يا أبَهْ …»
قال أبوه: «اصمت لا أب لك! إنما هي سياسة الدولة، وقد جرَّبْتَ ما جربت حتى رأيت عاقبة أمرك.»
•••
وكرَّ إسحاق ومحمد بن أبي الساج راجعَيْنِ بمن معهما من فلول الجيش إلى الحدود يتربصون أن تحين لهم فرصة، وسِيقَ الأسرى منهم إلى مصر.
وقال خمارويه لصاحب خزانته، وقد اطمأن به مجلسه في قصر الميدان بحاضرة ملكه: «انظر كم عدد هؤلاء الأسرى، فادفع إلى كلٍّ منهم ثلاثمائة درهم، فإنما هم إخواننا في الدِّين، وعُدَّتنا في حرب أهل الشرك، وقد نزلوا ديارنا، فلهم علينا حق الضيف على مضيفه.»
ثم أشرف خمارويه عليهم فخاطبهم: «إنما أنتم ضيوفنا، فمن أراد منكم أن يقيم بيننا فله علينا حق المواطن في وطنه، ومن أراد الرحيل فقد أذنَّا له.»
فعجَّ الأسرى بالدعاء لمصر وأميرها، واستأسروا له طائعين فكانوا جندًا من جنده.
وذاع في الناس ما فعله خمارويه بأسراه، وما أغدق عليهم من بره، وراح الخبر يتنقل على الأفواه وينحدر مع الركبان حتى بلغ شاطئ الفرات، حيث كان يقيم عسكر إسحاق في انتظار الموقعة التي زعم أنْ سَيُقَوِّضُ بها عرش بني طولون.
وقال جندي من جند إسحاق لصاحبه: «أسمعْتَ يا أخا ناجيةَ ما فعل ملك مصر؟»
فابتسم صاحبه وقال: «نعم، والله لئن كانت الموقعة لأستأسرنَّ له، فيكون لي على ضفاف النيل دار وجار.»
قال محدثه ضاحكًا: «… وثلاثمائة دينار.»
كان الجند في مضاربهم يتحدثون هذا الحديث وأشباهه جادين أو هازلين، وإن في خيمة القيادة لحديثًا له طعم آخر، يدور بين القائدَيْنِ اللذين يليان أمر الجيش: إسحاق بن كنداج، ومحمد بن أبي الساج.
قال إسحاق: «… فإن الموفق قد عقد لي اللواء وولاني مصر، فهي لي حتى يخلعني عنها السلطان.»
قال ابن أبي الساج: «وأنا، أين يكون موضعي، ولك الجند والإمارة؟ أتراك أدنى مني منزلة إلى الموفق، أو أبْصَرَ بشئون الحكم، أو أَعْرَفَ بفنون الحرب؟»
وغضب ابن أبي الساج غضبة أعجمية … فقال، وقد وضع يده على قائم سيفه: «أدعوى وسخرية!»
ثم رد يده إلى موضعها وقال في صوت يحاول أن يكون أكثر هدوءًا مما يدل عليه انفعاله: «ولكن لا، سأدعك وما اخترت لنفسك، لتختبر قوتك، وتعرف قدرتك في الميدان وحيدًا لا يسندك ابن أبي الساج.»
ودار على عقبيه فخلَّف إسحاق وراءه، وخرج من ساعته إلى النهر فاستقل زورقًا عبر به الفرات إلى الشام، حيث يلحق بخمارويه مستأمنًا يعرض عليه طاعته.
٤
لم يَطُلْ مقام خمارويه بمصر بعد الوقعة التي كانت، فما هو إلا أن دبر شئون الحاضرة، وجدد آلة الحكم، وجمع شتات السلطان، ثم أخذ يعبئ جيشه لأمر قد خط خطته، وأحكم تدبيره، وكأنما كانت تلك المعركة التي خاض غمرتها منذ بضعة عشر شهرًا أذانًا له بفتح جديد، فخرج إلى الشام في جيش قويٍّ، قد استكمل أهبته واستتم عدته وعدده، وبلغ دمشق فأقام بها حينًا ثم أصعد في البادية موليًّا وجهه شطر العراق …
ولقيه في الطريق محمد بن أبي الساج، فانضم إليه بمن وراءه من غلمانه وجنده، ثم قصد إسحاق في الرقة، فعبر إليه الفرات مع ابن أبي الساج فأزاحه عن موضعه واشتد وراءه عدْوًا، وهو يدك الحصون ويحوز البلاد، حتى غلب على الجزيرة والموصل وبلغ سامرَّا، حيث كانت حاضرة الخلافة، وخطب له محمد بن أبي الساج على منابر الجزيرة والموصل ودعا له.
وسعى الوسطاء بالصلح بينه وبين الموفق فكان، وكتب الخليفة المعتضد بيده عهد الصلح، ووقَّعه الموفق وولده، واعترفت له الدولة بالولاية على مصر والشام والثغور.
وعاد خمارويه من حيث أتى، وسأله محمد بن أبي الساج أن يوليه الجزيرة والموصل، يحكمهما باسمه ويدعو له، ودفع إليه ولده «ديوداد» يصحبه إلى مصر، رهينة على الولاء.
•••
كتب الخليفة عهد الصلح لخمارويه، ثم أوى إلى قصره راضي النفس، موفور الهناءة، كأن لم يكن به ولا بالدولة شيء، فما خلا بنفسه حتى دعا بالشراب والندمان، وجلس غير بعيد منه مغنيه «أبو حشيشة» وقد اقترح عليه صوتًا يغنيه:
فما انتهى المغني من صوته حتى خلع الخليفة وقاره، وقد نال منه الشراب واستخفه الطرب، فرمى قَلَنْسُوتَهُ ودار في الغرفة يرقص، ولم يزل يدور ويدور حتى سقط من الإعياء بين أيدي غلمانه، فحملوه إلى قصر الحرم، لا يحس ولا يعي.
ذلك كان شأن الخليفة في قصره ذلك اليوم، وقد كان ذلك شأنه في كل يوم، وفي الساعة نفسها كان في قصر آخر غير بعيد من قصر الخليفة اثنان يعنيهما من أمر الخليفة وأمر الدولة ما لا يعنيه جالسين وجهًا لوجه، قد خلا لهما المكان وازدحمت في رأسيهما الخواطر، ولكنهما مما جثم على صدريهما من الهم قد آثرا الصمت، فلا حس ولا حركة ولا بِنْت شَفَة، ولا شيء غير النظرات يتبادلانها في وجوم وأسًى، ذانك هما الأميران أبو أحمد الموفق ولي عهد الخلافة، وولده أبو العباس …
قال الشيخ في هدوء: «فما تصنع أنت؟»
فبدا الانكسار في وجه الأمير الشاب، وتذكر الماضي القريب فأطرق وعاد إلى الصمت …
ودخل غلام الأمير يؤذنه بحضور بعض من كان ينتظر من أصحاب سره …
وخلا الأمير بأصحاب سره، وهم بضعة نفر من أهل العزم والقوة، ليس فيهم إلا من يتمنى جاهدًا أن يكون على يديه مصرع خمارويه وتقويض دولته، منهم من نشأ في نعمة بني طولون، ومنهم من سلبه بنو طولون نعمته …
وتقدم الأمير إلى حاجبه أن يستوثق من الباب، فلا يأذن لقادم ولا يؤذنه بقادم، ثم أقبل على جلسائه فقال: «ماذا وراءكم من النبأ؟»
قال إسحاق: «إن مولاي لعليم بكل ما هنالك، فما تخفى عليه خافية في أطراف البلاد، ولكن هذا العهد الجديد يا مولاي! …»
قال الموفق: «خلِّ عنك ذلك العهد وحدثني بما عندك.»
قال إسحاق: «فإني لم أزل على ما عهدني مولاي، فليَرْمِ بي حيث شاء، فلن أعصي له أمرًا.»
قال الأمير: «بورك فيك يا إسحاق، وأرجو ألا ينال من عزمك ما تلقى من المكاره في سبيل حفظ الدولة من أطماع الخوارج، ولعلك أن تكون في خرجتك المقبلة إلى الشام أكثر توفيقًا وغنمًا … وسيجتمع لك الجيش قبل أن يستدير هلال العام الجديد … أما أنت يا أبا محمد!»
قال أبو محمد لؤلؤ الطولوني: «أما أنا فما نسيت بعد … وقد أعددت العدة لتحقيق ما أشار به مولاي … وقد أَجْمَعَ أَرْبَعةُ آلافِ أَسْوَدَ مِنْ غلمان خمارويه أمرَهُم على ما يعلم مولاي …»
قال الموفق: «وترى السودان أهلًا لتحقيق الخطة؟»
وتحالف أصحاب السر على الكتمان ثم افترقوا.
٥
كان خمارويه في ساعة صافية من أكدار الملك، قد طابت نفسه وهدأت خواطره، فليس يشغله شيء غير أمر نفسه، وما أقل ساعات الأنس والمسرة في حياة ذوي الهمة من الملوك وأصحاب السلطان … إنهم مما يشغلهم مِنْ هِمِّ أنفسهم وهموم الناس لا يكادون يظفرون بمثل هذه الساعة إلا عابرة في العام بعد العام، كأنهم يدفعون ضريبة الجاه والسلطان من سعادتهم ومسراتهم على مقدار ما يكون سلطانهم عاليًا أو نازلًا …
وأغفلت أم آسية فيما تقص على الأمير من خبر ابنته ما يلزمها من الاحتشام في حضرة الأمير، ورعاية الرسوم الملوكية، وقد كان لأم آسية من الحرمة عند خمارويه ما يسمح لها أن تتبسط في حضرته وتنسى الاحتشام، أليست قابلة أولاده جميعًا وحاضنتهم، ولها عليهم مثل حق العمة ودلال الخالة، فإنها لتقيس مكانتها عند الأمير بمكانتها من ولده.
قال خمارويه: «هيه يا أم آسية!»
قالت: «كان ذلك منذ بضعة أشهر، وكان مولاي الأمير في سفرته إلى الشام، وخطب إليَّ ابنتي «آسية» شاب من أهل الستر والصيانة، ولم أكن أملك يومئذ ما أتجمل به، وامتنع «أبو صالح الطويل» خازن مولاي أن يدفع إليَّ ما طلبت … وإنه لبخيل …»
وضحك خمارويه وقال: «جزاك الله يا أم آسية! ما يزال هذا دأبك منذ كنت تقدمين المسألة في صدر كل حديث، قولي، وسأدفع إليك ما منعه أبو صالح.»
•••
كان الأمير يستمع إلى حديث القابلة مأخوذًا به، كأنما يتنقل معها حيث سارت منزلة بعد منزلة، فما بلغت من حديثها هذا الحد حتى انتبه من سكرته على صيحة أخرى غير الصيحة التي وصفت أم آسية … ثم تتابعت الصيحات كأن الناس قد دهمهم الفزع الأكبر، فنهض من مجلسه عَجْلان يستطلع الخبر …
وجاء حاجبه مهرولًا يقص عليه: «السودان يا مولاي!»
قال الأمير وفي وجهه علائم الجد: «ما شأن السودان؟»
ولبس خمارويه شِكَّته، وقصد إلى دار صاحب الشرطة، وفي يده سيف مسلول، فما رآه السودان حتى أخذتهم هيبته، وأعجلهم سيف الأمير فمن ناله منهم هلك، وتفرق جمعهم أباديدَ ذات اليمين وذات الشمال، وتتبعهم غلمان الأمير يقتلون كل من لقوه منهم، فهلك منهم من هلك، واستخفى من استخفى، حتى يبيض وجهه، وسكنت الفتنة وأمن الناس، وعادت الحياة في مصر كما كانت: تجري مجراها آمنة مطمئنة.
وجيء إلى الأمير بهارب من السودان كان مستخفيًا في بعض أزقة المدينة، فلما استنطقه الأمير نطق …
وظهر لخمارويه بعض ما كان خافيًا من أسباب فتنة السودان، فكتب إلى الموفق في بغداد كتابًا يذكره فيه بما بينهما من عهد، ويسأله القبض على لؤلؤ الطولوني والقصاص منه، جزاء سعيه بالفتنة بين جند مصر.
٦
كان محمد بن أبي الساج في كرسي الإمارة من بلاد الموصل، قد اجتمعت في يده كل أسباب السلطان، فلولا أنه قد دفع ولده «ديوداد» إلى خمارويه رهينة على الولاء لاستبد بالأمر وخلع طاعته …
وتأذى ابن أبي الساج مما وصلت إليه حاله، وإنه لفي الذروة من الغنى والجاه والسيادة، وراح يقلب جوانب الرأي …
وجاءته الأنباء بأن إسحاق قد اجتمع له في «الرقة» جيش، فما لبث أن نسي كل شيء مما كان يفكر فيه إلا ما بينه وبين إسحاق من عداوة، فجمع جموعه وخرج لقتاله.
والتقيا مرة ومرة، ودارت الدائرة على إسحاق دورة بعد دورة.
واجتمع له جيشه بعد شتات، وانضم إليه من انضم، من حيث يعلم وحيث لا يعلم، فعبر الفرات إلى الشام في جيش قوي لم يجتمع له مثله …
وجاء البريد خمارويه في مصر بما كان من أمر إسحاق فعبأ جيشه واستكمل آلته ومضى …
وردَّ إسحاق على وجهه كسيرًا مهزومًا لا يقفه شيء حتى عبر إلى الرقة … واتخذ خمارويه جسرًا على الفرات فعبر إليه …
ونظر إسحاق حوله، فإذا جيشه أباديد قد تبعثر كل مبعثر، ففر بمن بقي له من الجند إلى حصن قد اتخذه هنالك يحتمي به.
ورأى الهول الهائل من جيش خمارويه يزحف إليه من أمام، وذكر الكمين الذي يتربص به من جيش ابن أبي الساج من وراء، فلم يرَ لنفسه مذهبًا إلا أن يرسل إلى خمارويه مستأمنًا يسأله الصفح ويعاهده على الولاء.
وأمنه خمارويه وولاه الجزيرة وما والاها.
وضحك القدر ساخرًا ضحكة رن صداها في الدولة بين أقطارها الأربعة، وبلغ النبأ بغداد حيث كان الموفق وولده أبو العباس في انتظار أخبار المعركة، وحيث كان الخليفة المعتمد بين الندمان والقيان لا يكاد يُفِيقُ من نشوته.
قال الشيخ: «الموفق! إنه أبوك يا أبا العباس وصاحب أمرك، وإن إليه سياسة هذه الدولة، فدعه وما يملك من أسباب هذه السياسة، ولا عليك من أمر صاحب مصر، ولا من أمر غيره حتى يظهر لك وجه التدبير …»
قال الشيخ وقد نهض مغضبًا: «أوَّه! والله لا رأيتَني بعدها في مجلسك، قد واللهِ عذرتُ أباك الموفق مما يجد منك، وهو لا يريد إلا صلاحك، فلستُ متحدثًا معه منذ اليوم في شأن من شأنك.»
ثم مضى الشيخ نحو الباب فلم يستجب للنداء، ولم ينعطف يَمنةً ولا يسرةً حتى جاوز قصر الأمير …
وتضاعف هم الأمير فلزم بيته أيامًا لا يلقى أحدًا غير غلمانه ولا يلقاه أحد، فلما كان بعد أيام لبس سواده وأخذ زينته وقصد إلى قصر الخليفة المعتمد.
وهش الخليفة للقاء ابن أخيه وبسط له وجهه ومجلسه، ودخل الأمير الشاب فجلس غير بعيد من عمه، وتسلل نُدمان الخليفة وجواريه، وخلا لهما المكان …
ثم خرج أبو العباس من حضرة الخليفة بعد ساعة، ومعه عهد منه بولايته على الشام فراح يسعى سعيه منذ اليوم لتأليف جيش يقوده نحو الشام لينتزعها من يد خمارويه، ويحطم عرشه، فيوحد الدولة تحت الراية العباسية، بعد ما أوشكت أن تتفرق، ويثأر من خمارويه لبعض ما ناله في المعركة التي كانت، ويُرِي أباه أين رأيٌ مِنْ رَأْيٍ؟ وأين عزيمة من عزيمة؟ وزيَّن له شبابه.
٧
وإنه لفي خلوته يومًا يفكر في مثل هذه الخواطر المتباينة، إذ طرق طارق من بعيد، فأجدَّ له من ماضيه ذكريات …
قال ابن أبي الساج: «ويراني الموفَّق أهلًا لكل ذلك؟»
قال أبو سعيد: «ولأكثر من ذلك، فلم يخْفَ على مولاي أنك لم تُعْطِ خمارويه الطاعة إلا مصانعة، حتى تستمكن منه فتَثِبَ وثْبَتَكَ، ثم ليجتمع لك من مال الولاية ما اجتمع لتنفقه في حربه حتى تظفر به.»
قال وصوته يختلج من التأثر: «وعند مولاي علم ذلك كله؟»
قال أبو سعيد: «وإنه ليعلم ما وراء ذلك مما لا آذن لنفسي أن أحدثك به.»
ثم لم يَكَدْ يودع صاحبه حتى أخذ في شأنه يدبر أمر الجيش.
•••
وأوى خمارويه إلى خيمته ليستريح، ودعا بديوداد بن محمد بن أبي الساج، وكان رهينة عند خمارويه منذ تولى أبوه الموصل، ومَثَلَ الفتى بين يدي الأمير مبهورًا تكاد أنفاسه تسابق أجله مما به من الذعر والفزع، ونظر خمارويه إليه مشفقًا ثم ابتسم وقال: «اذهب يا بنيَّ موفورًا إلى أبيك، فحدِّثه أن خمارويه لا يأخذ الأبناء بغدر الآباء.»
ثم دعا صاحب خزانته فأمره أن يدفع إلى الفتى ألف دينار ويهيئ له كسوة وزادًا ليلحق بأبيه.
وورد على الفتى مما رأى وسمع ما لم يخطر له على بال، فاضطربت أنفاسه في صدره وأكبَّ على بساط خمارويه باكيًا يقول: «مولاي! قد برئتُ من أبي فكن لي …»
قال خمارويه: «بل اذهب إلى أبيك، فذاك أحب إلينا، وإن غدر.»
وعبر جيش خمارويه الفرات إلى الرقة فالموصل، واستطاب خمارويه المقام ثَمَّةَ، فقال لغلمانه: «إن بي حاجة إلى أن أتروح من نسيم دجلة، فهيئوا لي هنا مقامًا.»
فصنعوا له سريرًا طويل القوائم أثبتوها في قاع النهر، وجعلوا له عرشًا على الماء …
ثم دعا خمارويه إسحاق بن كنداج فوكل إليه أمر تأديب ابن أبي الساج، وضم إليه من ضم من جنده وقواد جيشه، وكرَّ راجعًا إلى الشام.
ودارت الحرب سِجالًا بين إسحاق وابن أبي الساج صاعدة هابطة، ومقبلة مدبرة، حتى لم يبقَ إلا فلول تحارب فلولًا، وخمارويه في مأمنه ينظر حتى يتفانى أعداؤه.
وكانت العاقبة على إسحاق فمضى مهزومًا إلى الرقة ثم عبر الفرات إلى خمارويه وتبعه ابن أبي الساج حتى صار بينهما النهر.
وتمثَّل لابن أبي الساج خيال المنتصر، ووقع في وهمه أنه مستطيع أن يمضي قدمًا، فيخترق الشام ويحوز ملك بني طولون، أليس قد غلب إسحاق صاحب ولاية خمارويه؟
وكتب إلى الموفق يعلمه بالفتح والنصر، ويطلب منه المدد.
وردَّ عليه الموفق يشكره ويطلب إليه أن يتوقف حتى يبعث إليه بما طلب …
٨
كان اليوم عيد الفطر، وقد خرج الناس بعد صلاة العيد من الجامع مثنى مثنى وثلاث ثلاث، وجماعات مؤتلفة، يحيي بعضهم بعضًا، ويسأل بعضهم عن بعض، قد تخففوا من أعباء الحياة فما يذكرونها، وإن وجوههم لتطفح بِشرًا ومسرَّة …
وكان في الميدان فارس على سرجه قد غدا على طائفة من الجند يعرضهم صفوفًّا على الأهبة مستكملين عدتهم، ما فيهم إلا فتى قد باع نفسه وأقسم ليبلغن في طاعة مولاه إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
وترجَّل الفارس عن فرسه وأقبل على اثنين من قواده يُسِرُّ إليهما حديثًا، ثم راح يتخلل صفوف الجند راجلًا، فدار بينها دورة وقصد إلى فرسه يهم أن يعتليها، حين أقبل نحوه رجل من عُرض الطريق، فوقف الفارس وأسند يده إلى معرفة فرسه وعلى شفتيه ابتسامة، ودنا منه الرجل فحيا وسلم ثم قال: «كأنك يا أبا العباس قد نسيت أن اليوم عيد، فهلَّا ذكرتَ — حين نسيتَ نفسك — أن عليك لهؤلاء الجند حقًّا أن تُسَرِّحَهم يومًا يستطعمون طعم الحياة كما يحياها الناس؟»
قال أبو العباس: «لا تزال تهزل يا يحيى والدنيا تجدُّ … أرأيت العدو الرابض على حدود الدولة يغفل لو غفلنا عنه يومًا، ولو كان يوم عيد؟»
قال أبو العباس عابسًا: «خَسِئْتَ، دعْ عنك حديث النجوم وما تكذب به من ذلك على الناس لتخدعهم عن ذات أنفسهم، فوالله لئن صار الأمر إليَّ يومًا لأقطعنَّ ألسنة المنجمين، فلا يكونون فتنة للعامة، ومعجزة للخاصة.»
قال ضاحكًا: «وتقطع لساني، فيقول الناس كان أول ما فعل أبو العباس حين ولِيَ الأمر أنْ قطع لسان نديمه وصاحبه يحيى بن علي!»
قال أبو العباس، وقد غلبته ابتسامته: «وأقطع لسانك.»
فانفلت يحيى من بين يديه عَجْلانَ، وهو يقول: «رأيت في النجوم أنك لا تفعلها.»
وشيعه أبو العباس ضاحكًا، ثم وثب إلى ظهر حصانه.
ثم اتخذ مجلسه من الأمير على مقربة.
ورفع الموفق رأسه عن كتابه ثم أقبل على نديمه يحييه ويلطف له …
قال يحيى: «لقد مررت الساعة بالأمير أبي العباس ابن مولاي، وهو يعرض الجند في الميدان، وها أنا ذا أرى مولاي حبيسًا بين هذه الكتب، أفليس اليوم يا مولاي عيدكما وعيد الناس؟»
قال يحيى: «فسترسل إليه يا مولاي بعد أن أفرغ من الحديث إن أذنتَ لي.»
قال الموفق: «ما وراءك يا أبا أحمد؟»
قال: «يا مولاي! إني لأعلم مقدار ما يشغل بالك وبال مولاي أبي العباس من أمر هذه الطولونية التي تجاذب أطراف الدولة منذ سنين، وقد استخبرت النجوم فأخبرتني …»
قال المنجِّم: «صبرك يا مولاي، إنما هي أخبار تصدق وتكذب، ولعل فيها على الحالين ما يدل دلالة، ومولاي أعلى عينًا، وأبصر بسياسة الملك.»
قال الموفق: «هيه!»
قال: «وقد أخبرتني النجوم أن هذه الدولة لم يَحِنْ أجلُها بعدُ.»
فضحك الموفق ساخرًا، وقال: «نعم.»
قال: «وستمضي سنوات … وتكون الطولونية أدنى إلى بغداد مما هي اليوم.»
قال الموفق غاضبًا: «ماذا؟ …»
وكأنما همَّ أن يبطش به ثم أمسك.
قال يحيى: «صبرك يامولاي، إن في حديث النجوم رمزًا يشبه رؤيا الحالم، أنا إنما أتحدث بما تراءى لي، وليس عليَّ تعبيره … وقد رأيت الطولونية تكون أدنى إلى بغداد مما هي اليوم، وسيكون بتدبير ولدك أبي العباس يا مولاي أقصى ما تبلغ من الدنو، حتى يقع ظلها على عرش الخليفة.»
قال الموفق ساخرًا: «بس! أمسكْ عليك يا يحيى، لقد كذبتْكَ نجومك، أو لا فأنت منذ اليوم لا تحسن ما تقول، لو زعمت غير أبي العباس لكان خبرًا، فليس شيء أبغض إلى أبي العباس في دنياه من طولون، وددت لو سمع منك ما تقول ليدقَّ عنقك.»
قال يحيى: «فيأذن لي مولاي أن أفرغ من حديثي قبل أن يقدم أبو العباس فيدق عنقي، ولم أروِ خبرًا؟»
قال الموفق ضاحكًا: «قل.»
قال المنجم: «آمنت بالله! فهل غَضِبَ عليَّ مولاي، وما قلت إلا ما أذن لي فيه!»
ودخل أبو العباس فحيا، وجلس بين يدي أبيه وخلى بينهما يحيى بن علي فحيا وانصرف.
قال الموفق لولده أبي العباس: «ما وراءك يا أحمد؟ لقد كنت على أن أرسل إليك الساعة لتتهيأ للرحلة في جيشك إلى خراسان وبلاد الجبل؛ فإن أمرًا ذا بال ينتظرك هناك.»
قال أبو العباس: «خراسان وبلاد الجبل؟»
قال أبو العباس: «يا أبت!»
قال أبوه وفي نظرته جدٌّ صارم: «ماذا؟»
قال الموفق: «قد علمتُ، ولكن أمر الطولونية يا بني لم يَحِنْ بعد، وقد دبرْتُ الأمر على ما دعوتك إليه، وما أحسبك تخالف عن أمري.»
وازدحمت في رأس أبي العباس خواطره، فصَمَتَ برهة ثم قال: «ولكنَّ غلماني يا أبت قد تهيئوا لغير خراسان.»
وضاق صدر الموفق لعناد ولده فهَمَّ بأمر، ثم ذكر أنه يوم الفطر والناس جميعًا غادون على مسرَّاتهم فأمسك عما اعتزم وقال في لين ووداعة: «لست أعني أن تبدأ رحلتك اليوم يا بني، وإنما دعوتك لتتهيأ لها، فإذا كان بعد أيام فاغدُ عليَّ، وقد اجتمع لك رأيك.»
ثم انصرف بوجهه عن أبي العباس؛ ليعبث بما بين يديه من رسائل أصحاب البريد … وبقي أبو العباس صامتًا برهة، ثم تسلَّل إلى الباب، وعين أبيه تتبعه من حيث لا يريد أن يشعره.
ومضت أيام ثم دعاه أبوه إليه، فلما مَثَلَ بين يديه قربه وأدناه وأقبل عليه بوجهه وهو يقول: «أراك اليوم وقد اجتمع لك رأيك، وستكون وجيشك غدًا على طريق خراسان.»
قال أبو العباس: «لا يا مولاي، سأكون في جيشي قِبَل مشرق الصبح على الطريق إلى الشام.»
قال أبو العباس: «إنما صلاح الدولة أردتُ، وقد ولاني عمي أمير المؤمنين المعتمدُ الشامَ، فلست أخرج إلا إليها، طاعة لأمير المؤمنين، وصلاحًا لأمر الدولة التي أوشك أن يتوزعها أبناء الأعاجم.»
ثم هب أبو العباس من مجلسه فاتخذ طريقه إلى الباب.
وثارت ثائرة الموفق فصاح بغلمانه وأمرهم أن يأخذوا عليه الطريق أو يردوه على وجهه وصدع غلمانه بما أمر، فلم تمضِ إلا دقائق حتى كان أبو العباس المعتضدُ بنُ الموفَّق سجينًا في غرفة من دار، ليس معه إلا غلام من غلمانه، وقد وُكِّلَ به طائفة من الجند، وأغلقت دونه أبواب وراءها أبواب.
وكان الجيش في الميدان ينتظر مقدَم أميره، وطال انتظاره ثم بلغه النبأ بما كان من الأمر فاضطرب الجند وركب القُوَّاد وقد أزمعوا أمرًا من أمرهم ليردوا مولاهم إلى حريته، وثارت بغداد كلها لأميرها الشاب ثورة حاطمة.
ونظر بعضهم إلى بعض ثم تفرقوا كأن لم يسألْ سائل، ولم يُجِبْ مجيب.
٩
وأقام شهرًا بالموصل على ضيق العيش وذل المسألة وسقوط المروءة، ثم انحدر إلى بغداد يطلب جوار أبي أحمد الموفق.
وأقام إسحاقُ أميرًا على الموصل والجزيرة جميعًا.
•••
قال أبو أحمد الموفق وقد غلبه حنان الأبوة: «حسبك يا أبا بكر، أفَتُرَاه هينًا عليَّ؟ إنما هي سياسة الدولة، وقد يظن هذا الغلام أنه مستطيع ببضعة آلاف من غلمانه أن يفرغ من أمر الطولونية، وما أراه إلا ناسيًا ما كان من أمره وأمر خمارويه منذ قريب، أو لا، ولكنه في سبيل طلب الثأر قد غفل عن التدبير، إن خمارويه ليملك من أمر نفسه ما لا نملك من أمر أنفسنا، وإنه ليستطيع ببعض ما في يديه أن يشتري جيش العباسية كله، فماذا تغني القوة والعدد الجمُّ؟ وإن خمارويه لشاب في يده المال والجاه، وفي دمه إرث من طباع الأعاجم، فلعله لو كان فارغًا من مشاغل الجهاد أن تهلكه البطالة والشباب والغنى، أو يهلكه السرف وانتهاب اللذات، فنأتيه يومئذ بلا جهد، أما بالحرب فهيهات!»
قال ابن أبي ليلى: «وَيْ! وترى الأمر خافيًا عليَّ كما خفي على ولدك أبي العباس، فما هذه الجيوش التي تسير عن أمرك لقتاله حينًا بعد حين، فلا تزال معه في إقبال وإدبار، من الرقة إلى الموصل، ومن الموصل إلى الرقة؟»
قال الموفق: «تعني جند ابن أبي الساج وصاحبه؟ لقد أبعدتَ يا أبا بكر، فوالله ما ظننت يومًا أنني بالغ من الطولونية شيئًا بواحد من الرجلين، وإنني لأعلم علم اليقين ماذا يريدان من هذه الحرب، إنما بلاؤهما يا أبا بكر من أجل ما يطمعان فيه من الإمارة والسلطان لا من أجل الدولة، وقد رأيت عاقبة أمرهما.»
قال: «فهل حسبتني أتخلى عن إسداء المعونة إليهما، وقد خرجا لقتال عدوي وعدو الدولة؟ إنني إلا أربح بذلك فما خسرت شيئًا، فقد تركتهما وما يطيقان من أسباب الكيد له حتى يكون ما هو كائن.»
قال ابن أبي ليلى: «فقد أيستَ من أمر الطولونية يا أبا أحمد؟»
قال الموفق: «أما هذه فلا … ولكن …»
وقطع عليه دخول غلامه يؤذنه بمقدم محمد بن أبي الساج، وعليه غبار السفر من الموصل، فاعتدل الموفق في مجلسه، وألقى إلى جليسه نظرة ذات معانٍ، ثم تهيأ لاستقبال القادم …
قال، وكأنما يأتي صوته من مكان بعيد: «في طاعتك يا مولاي.»
وأخذته حبسة فتنحنح ثم سعل.
وكان ابن أبي ليلى لاصقًا بمكانه صامتًا لا يتحرك كأنما أصابه مسخ، فالتفت إليه الموفق سائلا: «كيف رأيت يا أبا بكر؟»
ثم قصد إلى الباب، وخلَّف الموفق في مجلسه وعلى شفتيه ابتسامة وفي عينيه انكسار.
•••
كان أبو العباس على أديم منقوش في الغرفة التي جعلها أبوه سجنًا له، وقد أسند رأسه إلى راحته، وأسبل جفنيه يفكر في أمره، وجلس غير بعيد منه غلامه «طريف»، قد جمع يديه في حجره، وعيناه شاخصتان إلى مولاه لا يكاد يطرف، وقد شمل الغرفة صمت كصمت القبور، إلا أنفاسًا تتردد، تعلو حينًا حتى تبلغ أن تكون زفرة شاكٍ، وتخفت أحيانًا فتشبه أنفاس محتضَر.
وكان قد مضى أيام على الأمير في سجنه لا يطعم شيئًا من زاد، فإن غلمان أبيه ليحضرون له المائدة الحافلة في موعد كل طعام، فيردها لم يتبلع منها بشيء، فيعودون من حيث أتوا، لا يعترض منهم معترض، ولا ينبِس ببنت شَفَة، وفى وجوههم الكآبة وفي عيونهم الانكسار وفى صدورهم همٌّ لا يبرح، شفقة على أميرهم وحبًّا له، فلولا ما يخشون من بأس الموفق لتمردوا على الولاء له …
وقال طريف لمولاه، وقد نال منه ما رأى من ذبوله وإطراقه وصمته: «إلى متى يا مولاي؟»
قال أبو العباس: «إلى أن يحين الأجل … فإن كنت قد مللت الصحبة فقد أذنت لك.»
قال طريف: «يامولاي!»
قال أبو العباس: «اسكت، لا مولى لك … أرأيت الموفق مُخْرِجِي من هذا الجب، وقد ألقى بي إليه إلا أن يحين الأجل … تلك كلمته دائمًا كلما سأله سائل عن موعد أمر لم يقطع فيه برأيٍ … ستنهار الطولونية يوم يحين أجلها … وسيخرج أبو العباس من سجنه يوم يحين أجله! … ولكن لا، سيحين هذا الأجل بيدي، بيدي وحدي …»
فنظر إليه أبو العباس كالمغضب وقال: «ماذا تعني؟»
قال طريف ولسانه يلجلج في فمه: «لن تستعجل أجلك بيدك يا مولاي، وأنت من أنت، إن وراء كل ضيق فرجًا!»
قال أبو العباس ساخرًا: «ماذا فهمتَ يا غبي؟ حسبتني أعني ذلك؟ والله لا كان، ولن أموت حتى أبلغ الثأر بيدي من تلك الدولة الباغية، لا أنتظر حتى يحين أجلها كالذي يزعمه الموفق، وإنما بيدي سيحين ذاك الأجل.»
وهدأت نفس الغلام هونًا ما، وعاد إلى مجلسه بين يدي مولاه، وقال كأنما يريد أن يصرفه عن الفكر في أمر يحاوله: «لقد أذكرني مولاي ذكرى، فإن رأى أن أقصها عليه …»
وتشوَّف أبو العباس إلى جديد يتفرج به مما هو فيه من ضيق النفس، فقال: «هيه يا طريف.»
قال الغلام: «فسأقص على مولاي ما كان من أمر يحيى بن علي المنجم ومولاي الموفق في يوم الفطر، وكنت بالباب أسمع — من حيث لا أريد — ما يدور بينهما من الحديث.»
فابتسم الأمير وقال: «ماذا سمعت من حيث تريد، أو من حيث لا تريد؟ …»
قال طريف: «زعم يحيى أنه استنبأ النجوم، فأنبأته بأمر الطولونية، وأنها ستكون أدنى إلى بغداد مما هي اليوم، حتى تصير في القصر الحسني، وتدخل دار صاعد، وتسير بها الشذوات في دجلة، وتضاء لها الأنوار في قصر الخلافة، ويقع ظلها على عرش أمير المؤمنين! …»
قال طريف: «فإن للحديث تتمة، فقد زعم المنجم أن الطولونية ستبلغ ذلك كله على يدي مولاي أبي العباس!»
لقد عقد النية منذ اليوم على أن يعيش لينتقم.
١٠
ثم أهلَّ الأمير على فرسه مديدًا مستَوِيَ القامة، كأنه قطعة من جبل، يحف به خاصته والمختارة من جنده، وقد حبس الناس أنفاسهم إجلالًا وهيبة، فليس فيهم متحدث ولا مشير ولا متحرك من موضعه، وبلغ الموكب باب الميدان، فانفرج الغلمان صفين ودخل الأمير …
ومُدَّت الموائد للعامة في القصر والميدان تنتظم الآلاف من أبناء الشعب قد أقبلوا على طعام الأمير فرحين داعين له، وهو يشرف عليهم من قصره سعيدًا بما بلغ من محبة الشعب ومن توفيق الله.
واستقر الأمر في مصر والشام لخمارويه بن أحمد بن طولون …
•••
كانت الشمس ضاحية، وقد جلس خمارويه على دكته من قبة الهواء في أعلى القصر، يشرف على الميدان والبستان، وعلى المدينة والجبل، وعلى النيل والصحراء؛ فما شيء في المدينة وأرباضها إلا نالته عيناه، كأنما اختُصرت له الحاضرة وما يحيط بها في رسمٍ مصوَّر يطالعه في إطاره من هذه الشرفة الشارعة في أعلى القصر.
وسُمِع حفيف ثوب ناعم يتسحب على آثار خطًا راتبة كأنها توقيع عازف بارع، واستدار «زريق» نحو الطريق، وقد برزت مخالبه وقَفَّ لِبْدُه، ثم خطا إلى الوراء خطوة يفسح الطريق، والتفت خمارويه ينظر من القادم، وأهَلَّت صبية قد كعب ثدياها وتحير في وجنتيها ماء الشباب، وعلى شفتيها ابتسامة الرضا والأمان، وقالت في صوت ناعم: «السلام على مولاي ورحمة الله.»
وتهلل خمارويه وأجاب باسمًا: «وعليكِ السلام، تُرَى من علمك يا بُنَيَّة أن تناديني كذلك، إنما أنا مولى الناس ولكنني أبوك، فهلا ناديتِني بأحب أسمائي إليَّ؟»
قالت: «يامولاي …»
قال: «بل قولي: يا أبَهْ!»
واتخذت «قطر الندى» مجلسها إلى جانب أبيها من الشرفة باسمة، وأطلت تنظر …
وأخذ عينيها منظرُ السباع في الميدان تنساب من مرابضها إلى الرحبة تتشمس ويُهارِش بعضها بعضًا، وقد أخذ السُّوَّاسُ يلحظونها من وراء القضبان، وراحت طائفة منهم تنظف المرابض وتهيئ لكل سبع وأنثاه غذاءه وشرابه في مربضه …
وأخذ سبع ضخم من سباع الرحبة يتحبب إلى لَبُؤَةٍ من اللَّبَات قد انفردت عن صاحبها، فما دنا منها حتى اعترضه سبع، وسُمِعت زأرة قد تفرق صداها في أنحاء الميدان، واجتمعت الآساد ثم افترقت، راحت اللبؤة تمشي إلى جانب أسدها مزهوة …
وقهقه خمارويه ضاحكًا، والتفت إلى ابنته يقول: «كيف رأيتِ يا بنية؟»
ثم تحولت تنظر إلى الجانب الآخر من البستان حيث قامت النخيل باسقة قد كسيت أجسامها رقائق النحاس المُذهب، فبدت كأنها أساطين من الذهب قائمة قد غرست فنمت وأثمرت، وتدلى قطافها ياقوتًا أحمر، وكان الماء المدبَّر ينبثق من أنابيب قد غابت في الجذوع الذهبية، فما يُرى منها إلا قَطْر متتابع يتدحرج على أساطين الذهب كأنه تحت ضوء الشمس حبات من لولو منتثر، ثم لا يزال يقطر متتابعًا حتى يتجمع في أصول النخل، إلى فساقيَّ معمولة يفيض الماء منها إلى قنوات تتفرع بين شعاب البستان متلوية، ولها تحت الشمس بريق وشعاع.
وكان البستاني يعمل بمقراضه في الرياحين الملونة على أرض البستان، فلا يزال يدور حواليها عن يمين وشمال ومقراضه في يده يقص من أطرافها ما يقص ويعفي ما يعفي، ثم انتصب ووقف ينظر إلى الرياحين وقد سوَّاها بمقراضه كتابةً ناطقة ذات معانٍ، وبرزت لعين الأمير في شرفته كأنه يقرأ منها في صحيفة …
وطابت نفس الأمير وافترَّتْ شفتاه عن ابتسامة راضية، ثم نزل عن دكته واتخذ طريقه إلى دار الحرم يقدمه «زريق» حارسه، وتصحبه ابنته قطر الندى، وغُلِّقت أبواب القبة وأسدلت الستور على الشرفات …
•••
ودخل على الأمير غلامه بَرْمَش فقال: «يا مولاي قد أحضرنا الجوهريَّ.»
قال الأمير: «يدخل.»
فدخل شاب عليه زي أهل العراق، في وجهه طول، وفى عينيه سعة، وقد امتدت منابت الشعر من رأسه حتى كادت تبلغ حاجبيه، وتدلت على فمه شعرات من شاربه، وكان في يده صرة قد جمع عليها أصابعه يحذر أن تفلت …
ونظر إليه الأمير فاحصًا ثم قال في جفوة: «ما اسمك؟»
قال الجوهري: «عبدك الحسين بن الجصاص.»
قال الأمير: «فمن أهل العراق أنت؟»
قال: «في العراق أهلي، وإنما أنا جار الأمير، وغَذِيُّ نعمته وربيب داره.»
قال الأمير ونظر إلى غلامه برمش: «جاري وربيب داري؟»
قال برمش: «إنه يا مولاي يقيم في الدهليز من دار الحرم، ليبيع جواري الأمير ما يطلبن، وهو حريص على التشرف عند الناس بجوار الأمير لمكانته من ذلك الدهليز.»
ثم دنا الغلام من مولاه يُسِرُّ إليه: «وإن به يا مولاي شيئًا من الغفلة!»
فابتسم الجوهري وخطا نحو الأمير حتى بلغ أدنى مكان منه، وقال: «نعم، وما أراه أهلًا لأن يملكه أحد من ملوك الأرض غير مولاي الأمير.»
ثم فك عَقْد الصرة، فما كاد يفتحها حتى قفز إلى الباب عَجْلان وهو يصيح: «جواهري.»
وتبعه الحاجب مسرعًا في دهشة لا يكاد يدركه، وقام الأمير عن كرسيه غضبان …
ذلك أن صرة الجوهري حين فتحها لم يكن فيها إلا نعله … وكان أراد أن يخلعها عند الباب، فنسي ووضع الجوهر مكانها وصرَّ النعل في المنديل!
وضحك الأمير حين علم بما كان حتى لم يكَدْ يسكت، ثم دعا بالجوهري ثانية فمثل بين يديه …
•••
فابتسمت بوران ابتسامة فاتنة وقالت: «رضاي يا مولاي أن ترضى.»
وأسرت في نفسها أمنية أغلى وأعلى …
وحقق لها الأمير ما تمنت، فما هي إلا أيام حتى تم بناء المجلس الذي اشتهته، وسماه الأمير «دار الذهب»، وكانت دارًا عجيبة لم تشهد لها الدنيا مثيلًا في قصر من قصور الملوك، قد طليت حيطانها كلها بالذهب واللازورد، في أحسن نقش وأبدع زينة، وجعل في حيطانها مقدارَ قامةٍ ونصفٍ صُوَرٌ بارزة من خشب محفور على صورة الأمير وصور حظاياه والمغنيات اللاتي يغنينه، في أحسن تصوير وأبهج تزويق، وجعلت على رءوسهن الأكاليل المرصَّعة من الذهب والجوهر، وفي آذانها الأقراط الثقال، ولُوِّنت أجسامها بأصناف تشبه الثياب من الأصباغ العجيبة.
•••
•••
ذلك كان شأن خمارويه في مصر منذ عاد من غزاته مظفَّرًا، قد ثبت له الأمر في مصر والشام والثغور، ودعي له على منابر الموصل والجزيرة، أما أمر الدولة يومئذ في بغداد فكان مختلفًا جدًّا، فلم يكن ثمة دار الذهب، ولا بركة الزئبق، ولا قبة الهواء، ولا ملاعب السباع، ولا برج الساج، ولاخَرَجَات الصيد والطرد … لا شيء إلا الأمير السجين في عداوة بني طولون يكاد يخرج من جلده غيظًا، وإلا أبوه الكهل قد أنضاه طول السفار لمجاهدة أعداء الدولة على أطراف البادية، وإلا الخليفة المعتمد بين النُّدمان والقِيان يترشف ثمالة الكأس، وإلا ولده وولي عهده من بعده «جعفر المفوَّض» لا يكاد من خموله وضعف همته يجري له ذكر على لسان أو يطيف بخاطر إنسان، وقد خلت خزائن الدولة فليس فيها أبيض ولا أصفر إلا مخلفات للذكرى قد بقيت في الخزانة من أيام منشئ الدولة أبي جعفر المنصور.
وبدا لكل ذي عينين أن دولة الخلافة قد أشرفت على الآخرة، على حين كان اسم بني طولون يتردد صداه قويًّا بين أربعة أقطار الدولة الإسلامية.
ولكنَّ أبا أحمد الموفق على ما به من جراح وما في قوَّته من وهن، لم يكن قد يئس بعد، بل لعله كان في ذلك اليوم أعظم أملًا في تجديد شباب الدولة، وكذلك كان ولده أبو العباس، وإنه لحبيس بين أربعة جدران.
١١
أهلَّ هلال شعبان من سنة ٢٧٧، فلم يلبث في الأفق إلا لحظات ثم غاب، وأخذ الظلام يتسحب على بغداد وما حولها، فما ثمة نور يلمح إلا خلجات من شعاع النجم البعيد يتراءى على ماء دجلة كأنه خط من صحيفة، وإلا أضواء متناثرة تلوح وتخفى من خَلَل نوافذ الدُّور وراء أستارها، وفى جنح الليل كان قائد من قواد الطولونية على رأس جيش من الفرسان والرَّجَّالة في طريقه إلى بغداد، ولكن أحدًا من حماة المدينة لم يعترض طريقه؛ إذ كان في يد قائده جواز من الموفق يأذن له في المرور.
ولم يطُلْ مقام ذلك القائد في بغداد، فما هو إلا أن بلغته حيث يقيم رسالة من الموفق حتى انحدر إليه في خراسان، ثم اتخذ طريقه من ثمَّةَ إلى الموصل فالجزيرة لأمر من أمر الموفق …
ولم يلبث الموفق طويلًا حيث كان، فقد اشتد به وجع النقرس، فعاد إلى بغداد محمولًا على سرير يتعاور أكتاف أربعين من غلمانه … فبلغ بغداد في أوائل سنة ٢٧٨.
وأظله الموت، ولكنه ظل يكافح ليعيش ويبلغ من أمر الدولة ما قدَّر ودبَّر، فإنه لتأخذه الغَشْية بعد الغشية ثم لا يلبث أن يُفيق … ورأى المحيطون به ما ينتظره من أمر الله، فأجمع كل منهم نيته على أمر، وبدا للخليفة في قصره أنْ قد آن له أن يملك حريته ويصير إليه أمر الدولة كله بعد أن صبر زمانًا والسلطان كله في يدي أخيه الموفق، وازدحمت الأمانيُّ على ذوي السلطان فتحفز كل منهم لوثبة يكون له بها أمر.
وأهوت دقة حاطمة على القفل الأخير، فلم يلبث أن انفتح الباب وهمَّ أبو العباس بأمر ثم تراجع وردَّ السيف إلى غمده، فقد رأى على رأس القادمين غلامه «وصيفًا»، فاطمأن وسُرِّي عنه، وعلم أنهم لم يقصدوا إلا خلاصه من أسره.
وقال «وصيف» والكلمات تتواثب على شفتيه: «أدرك أباك يا مولاي فإنه يُحتضَر، وقد أوشك أمر الدولة أن يتفرق.»
•••
فتح المُحتضَر عينيه بعد غشية، فأبصر إلى جانب فراشه ولده أبا العباس قد غَشَّى عينيه الدمعُ، والمكان خالٍ إلا منه، فلا شيء بينهما إلا نجوى صامتة تسر بها عينان إلى عينين، ومضت فترة قبل أن يقول المحتضَر وقد اجتمع في رنة صوته ورَنْوَة عينيه كلُّ حنان الأبوة: «كيف تجدك يا بني؟»
قال أبو العباس وقد خنقته عبرته: «إنني بخير ماعشتَ يا أبتِ!»
قال الموفَّق باسمًا: «أرجو أن تظل بخير أبدًا، فلا تجد في نفسك مما كان، فذلك أمر قد انكشفت لك أوائله، ولعلك أن تعرف آخرته عن قريب … لقد أبلى أبوك يا بني في هذه الدولة بلاء عظيمًا، حتى أطاع العاصي، وهدأ الثأر، واطمأن النافر، ولم يبقَ إلا هذه الطولونية في المغرب قد زين لها الغنى والحداثة ما زين من الأماني، ولم تخفَ على أبيك من خبرها خافيةٌ منذ كانت، ولكني آثرت أن أصطنع السياسة فيما بيننا من ظاهر المودة، حتى لا تجاهرَ بالعصيان، وهي على خزانة السلطان وفي يدها نصف خراج الدولة … وقد حمل أبوك العبء كله راضيًا على ما به من جَهد، وعمك الخليفة المعتمد على ما تعرف من أمره، لا يكاد يفيق من نشوته، وقد جعل العهد من بعده لولده جعفر المفوَّض، ثم لأبيك، فلعله حين ينفذ أمر الله أن يُلْهَمَ الخير فيجعل إليك ما كان بيدي من الأمر ويبايع لك … فإذا آل إليك هذا الأمر يا بني فلا تعجل على عدوك حتى تستمكن منه، وإذا حزبك يومًا أمر من الأمر ولم تجد الوسيلة، فاحبس نفسك على ما تكره حتى ينقاد لك العصِيُّ، فقد حبسك أبوك يومًا وأنت أحب إليه.»
وجاشت عواطف المحتَضَر بالذكرى فصمت برهة، ثم تخفف من أشجانه وأقبل على ولده ليتم حديثه إليه، قال: «وقد قامت سياسة بني طولون على محاولة اصطناع ذوي السلطان في الحضرة بالمال والصهر فلا يخدعنك ما يحاولون معك …»
ثم ابتسم وقال: «وأنت يا أبا العباس شاب من همِّك النساء والطعام، فلا تدع لخمارويه بن طولون أن يقودك من هذا الزمام يوم يصير إليك الأمر، فإن لجواري مصر فتنة.»
قال أبو العباس منكرًا: «يا أبَهْ! …»
قال الموفق: «إنه المزاح يا بني مما فاض على قلبي من السرور برؤيتك راشدًا …»
ودخل الوزير أبو الصقر إسماعيل بن بلبل، وكان قد حاول من أمسه أمرًا يتقرب به إلى الخليفة في شأن من شئون الموفق، فلما رآه الموفق ساعتئذ هش له وأدناه، ولم يحدثه في شيء مما كان، وخلع عليه وعلى ولده أبي العباس جميعًا، ثم خرج الرجلان من حضرة الموفق فمضى كل منهما لوجهه …
وعاش الموفق بعدها أيامًا، ثم أسلم زمامه إلى بارئه، وبويع لأبي العباس «المعتضِد» من غده بولاية العهد مكان أبيه — بعد جعفر المفوَّض — ولكن أبا العباس لم يقنع بما قنع به أبوه من قبل، فلم يهدأ حتى رضي الخليفة بخلع جعفر، واستقل أبو العباس المعتضِد بولاية العهد، واجتمع له من السلطان ما لم يجتمع يومًا لأبيه.
وكان الخليفة المعتمد قد ظن أنه ملك الأمر كله يوم مات الموفق، فإذا المعتضد قد سلبه الأمر كله حتى لم يبقَ له شيء مما كان له في حياة الموفق.
وبدأ بين الشابين اللذين يليان أمر المشرق والمغرب أمر ترك كلًّا منهما، وليس له فكر إلا في صاحبه.
وخلا خمارويه بوزرائه وأصحاب مشورته يبادلهم الرأي في أمره وأمر المعتضد بن الموفق، وقال له مشيره: «لا عليك يا مولاي من أمره، إن هو إلا ولي العهد، وإنك لوثيق الصلة بالخليفة، وهو ولي الأمر وصاحب السلطان.»
واطمأن خمارويه هونًا ما، ولكن البريد لم يلبث أن جاءه من بغداد بوفاة الخليفة المعتمد على الله، والبيعة لولي عهده أبي العباس المعتضد بالخلافة، وقد صار إليه كل شيء في الدولة!
•••
وطال حديث خمارويه إلى نفسه، وطال حديثه إلى وزرائه وأصحاب مشورته، وأرِقَ لياليَ لا يغمض له جفن، وراح يلتمس هدوء النفس بين الحظايا والقيان وفي دار الذهب، وعند رحبة السباع، وفي قبة الهواء، وعلى أرجوحته الرجراجة في بركة الزئبق، وفي الصيد والطرد، ولكن ذلك كله لم يُجْدِ عليه شيئًا ولم يلهمه الرأي، وألهمته ابنته قطر الندى …
وكانت قطر الندى بنت خمارويه قد كبرت، وبلغت شأوًا، ونضجت عقلًا وأنوثة …
واجتمع خمارويه بخاصته وأصحابه فأفضى إليهم بما اجتمع عليه رأيه، فكلهم قد رضيه ورآه صوابًا، وكان في المجلس أبو عبد الله الحسين بن الجصاص الجوهري، وكان قد دنا وحظي وبلغ من نفس الأمير منزلة أصحاب المشورة.
وبات خمارويه على نية وأصبح على عمل …