الطرز الإيرانية في الفن الإسلامي
وكان الأمراء المسلمون ينقلون الفنانين من بعض أنحاء الإمبراطورية الإسلامية إلى الأنحاء الأخرى، ويستدعون إلى مقر حكمهم بعض من تمتد شهرتهم من الفنانين الناشئين في سائر الأقاليم الإسلامية. وكان لهذا أكبر الأثر في تكييف الطرز المختلفة في الفنون الإسلامية والتقريب بينها وتأثير بعضها على بعض.
وكان للفروق الإقليمية والجنسية، ولنشاط الأسرات الحاكمة أثر في طبيعة الفنون الإسلامية عامة؛ فأصبح ذوو الخبرة بها يقسمونها إلى طرز أو مدارس فنية: هي الطراز الأموي في الشرق، والطراز الأموي في الغرب (الأندلس) والطراز العباسي والطراز الفاطمي والطراز السلجوقي والطراز الإيراني التتري، والطراز المملوكي والطراز الأسباني المغربي، والطراز الصفوي والطراز المغولي الهندي والطراز التركي.
وليس معنى هذا أن الفرق عظيم بين هذه الطرز أو المدارس الفنية، فهو في بعض الحالات صعب إدراكه على غير الأخصائيين، ولا سيما الفرق بين الطرز الفنية في الإقليم الواحد؛ فقد يمكن معرفة بدء الأسرات الحاكمة وتاريخ انتهائها؛ ولكن الطرز الفنية يتطور بعضها عن بعض؛ فالفصل بينها أمر وضعي واصطلاحي إلى حد كبير، وهي تتعاون وَيُؤَثِّر بعضها في بعض.
وقد كانت إيران ميدانًا لأربعة من الطرز الإسلامية التي ذكرناها، وهي الطراز العباسي والطراز السلجوقي والطراز الإيراني المغولي أو التتري والطراز الصفوي.
(١) الطراز العباسي
أما الطراز العباسي فهو الذي ساد في الأقاليم الإسلامية بعد أن انتقل مقر الحكم إلى بغداد على يد العباسيين. وكان أهم مظاهر هذا الطراز استخدام الآجُرِّ والجِصِّ في العمائر، عِوَضًا عن الحجَر الذي كانت تُشَيَّد به العمائر في الشام، وأثَّرت النظم المعمارية القديمة في عمارة المساجد في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)؛ فكانت الجوامع الكبيرة ذات أعمدة أو دعائم تحمل السقف مباشرة بدون عقود في بعض الأحيان، وكانت هناك مساجد ذات أعمدة خشبية.
ويمتاز الطراز العباسي في الفنون التطبيقية أو الفرعية باستخدام الموضوعات الزخرفية الساسانية، مع تهذيب بسيط يجردها في بعض الأحيان من العنف والقوة. وأكثر ما يظهر هذا في التحف المعدِنية وفي المنسوجات التي كانت تُصنع في العراق وإيران في القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة (الثامن والتاسع بعد الميلاد). كما امتاز هذا الطراز بالخزف ذي البريق المعدِني الذي كان يُصنع في إيران والعراق ومصر وإفريقية، وسوف نفصل الكلام عن ذلك في الفصول القادمة من هذا الكتاب.
(٢) الطراز السلجوقي
أما الطراز السلجوقي فَيُنْسَبُ إلى السلاجقة، وهم قبائل من التركمان الرُّحَّل، قَدِمُوا من إقليم القرغيز في آسيا الوسطى واستقروا في الهضبة الإيرانية. وكان السلاجقة من أتباع المذهب السُّنِّيِّ، وأُتيح لهم منذ القرن الخامس الهجري (منتصف القرن الحادي عشر الميلادي) الاستيلاء على السلطان في الشرق الأدنى، ولكن إمبراطوريتهم الواسعة لم تلبث أن تمزقت، وآل حكمُها إلى أسرات صغيرة أسسها بعض أفراد أسرتهم أو كبار قوادهم (الأتابكة)، ثم قَضَى عليها المغول في القرن السابع الهجري (بداية القرن الثالث عشر بعد الميلاد). وقد كان الأمراء السلاجقة يشملون الفنون برعايتهم في آسيا الصغرى والعراق وإيران، ولكن العنصر التركي الذي ينتمون إليه لم يظهر تأثيره في العمائر والتحف الفنية في عصرهم؛ لأنهم كانوا يستخدمون أبناء البلاد أنفسهم في الأقاليم الإسلامية المختلفة، ويشجعونهم بما يكلفونهم به من عمل أو يشترونه من تحف فنية. ومع ذلك كله فقد نشأ تحت رعايتهم طراز قائم بذاته امتاز بضخامة العمائر واتساعها ومظهرها القوي، كما امتاز أيضًا باستخدام رسوم الكائنات الحية محوَّرَة عن الطبيعة، على النحو الذي امتازت به الفنون الإسلامية عامة. ومن مميزات الطراز السلجوقي عدا ذلك كثرة استخدام الزخارف المجسمة ولا سيما في وجهات العمائر.
ومما يُلاحَظ في العمائر السلجوقية على وجه الإطلاق ما للمدخل من الضخامة وخطورة الشأن، كما تمتاز العمائر السلجوقية المختلفة بتنوع الزخارف في أبوابها تنوعًا تزيده الثروة الزخرفية ظهورًا ويكسب البناء طابعًا خاصًّا.
وكذلك كانت صناعة التحف المعدِنية زاهرة في العصر السلوجوقي، وكانت مقاطعة خراسان في طليعة الأقاليم السلجوقية التي امتازت في هذا الميدان؛ ولا غَرْو فإنها كانت في عصر الدولة السامانية (٢٦١–٣٨٩ﻫ؛ أي ٨٧٤–٩٩٩م) مركزًا عظيمًا لإنتاج التحف والأواني من البرونز وتزيينها بالزخارف الإيرانية القديمة ذات الطراز الساساني. ونحن نعرف في بعض المتاحف والمجموعات الأثرية الخاصة عددًا كبيرًا من التحف المعدِنية لا تزال عليها زخارف من الطراز التي سبقت العصر الإسلامي، ولكن فيها بعض تفاصيل دقيقة تَظهر لذوي الخبرة، وتدل على أن هذه التحف مصنوعة في صدر الإسلام، واحتفظ الفنانون في صناعتها بالأساليب الفنية الساسانية، بل احتفظوا عَدا ذلك بأشكال التحف والأواني القديمة. أما في عصر السلاجقة فقد ذاعت شهرة خُراسان بصناعة التحف من النُّحاس والفضة وتطبيقها (تكفيتها) بالفضة في القرنين الخامس والسادس بعد الهجرة (الحادي عشر والثاني عشر بعد الميلاد). وكانت هذه التحف تُزين في أغلب الأحيان بأشرطة أفقية من الزخارف فيها كتابات نسخية تنتهي بعض قوائم الحروف فيها برسوم رءوس آدمية، وفيها رسوم راقصات وفرسان ومناظر طرَب وموسيقى وبهلوان، وما إلى ذلك مما سيأتي الكلام عليه حين نفصل الحديث عن صناعة التحف المعدِنية في الفن الإيراني.
على أن المدينة التي قُدِّرَ لها أن تصبح أعظم مركز لصناعة التحف المعدِنية المُنزلة بالفضة والذهب هي مدينة الموصل في القرنين السادس والسابع بعد الهجرة (الثاني عشر والثالث عشر بعد الميلاد). وامتازت منتجاتها بدقة الزخارف المطبقة؛ أي المطعمة، وباستخدام الذهب في التطبيق أو التكفيت؛ مما أكسب تلك التحف جمالًا وإبداعًا عظيمين؛ ولا عجب فقد كانت كراهية اتخاذ الأواني من المعادن النفيسة سببًا في العمل على تطبيق النُّحاس والبرونز بزخارف الفضة والذهب.
وقد كان لمدرسة الموصل أكبر الأثر في تطور صناعة المعادن في سائر الأقطار الإسلامية؛ فقد رحل منها صناع كثيرون إلى القاهرة وحلب وبغداد ودمشق، وأسسوا مدارس جديدة لصناعة التحف المعدِنية وتطبيقها بالفضة والذهب في أسلوب فني يظهر فيه التأثر بأساليب مدرسة الموصل في هذا الميدان.
وازدهرت صناعة الخزف في العصر السلجوقي، وظهرت المهارة التي وَرِثَها صُنَّاع الخزف الإيرانيون والعراقيون عن العصور القديمة. وأقبل القوم على استخدام القاشاني لتزيين الجدران، والخزف لصناعة الأواني الجميلة، وذاعت شهرة مدينتي الرَّقَّة والموصل، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام هو مركز ثالث من مراكز إنتاج الخزف في العصر السلجوقي، بل هو أعظمها على الإطلاق. ونقصد مدينة الري جنوبي طهران؛ فقد ظلت هذه المدينة حتى القرن السابع الهجري (النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي) مقر صناعة زاهرة جدًّا، وموطنًا لإنتاج أنواع دقيقة وبديعة من الخزف الذي أكسب إيران في هذا الميدان شهرة لا تُدانيها شهرة الصين في ذلك العصر، والذي امتاز بتنوع أشكاله وجمالها وإِبداع زخارفه واتزانها. والواقع أن أكبر مركز لصناعة الخزف ذي البريق المعدِني كان في مصر إبَّان العصر الفاطمي، ثم أصبحت القيادة في هذا الميدان لمدينة الري منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي).
أما صناعة الزجاج وتمويهه بالمينا، فقد كان مركزها في العصر السلجوقي منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) في إقليم سورية، وكانت زخارفه الدقيقة تشبه زخارف الخزف المصنوع في الري والتحف المعدِنية المصنوعة في الموصل.
وقد ازدهرت في عصر السلاجقة صناعة السَّجَّاد التي كانت قبل ذلك في يد القبائل الرُّحَّل بآسيا الوسطى، ومما يؤسف له أننا لا نعرف اليوم نماذج من هذه الصناعة بإيران في العصر المذكور؛ فإن ما بقي من منتجات تلك الصناعة لا يتجاوز بعض قطعٍ تُنسب إلى آسيا الصغرى، وقد كانت في مسجد علاء الدين بقونية، وهي اليوم محفوظة بالمتحف الإسلامي في إستانبول. وأول هذه القطع من مختلف درجات الأحمر والأزرق، وكانت الأرضية في ذلك السَّجَّاد مزينة بزخارف هندسية مكرَّرة أو برسوم أشكال صغيرة كثيرة الأضلاع، ويحف بالأرضية من الجهات الأربع إطار من رسوم حروف كوفية لا تُقرأ.
على أن السلاجقة في آسيا الصغرى أُتيح لهم القيام بعمل حازم جليل؛ فقد قضَوْا على الصِّبْغَة البيزنطية التي كانت سائدة في تلك البلاد منذ العصور القديمة وجعلوها «مِنطقة نفوذ» إيرانية؛ فصارت الثقافة الإيرانية والأساليب الفنية الإيرانية صاحبة السيادة في بلاطهم بمدينة قونية، وظل تأثير الطُّرُز الفنية الإيرانية عظيمًا في العمائر والتحف الفنية التي أنتجتها تركيا منذ عصر السلاجقة حتى عصر الأتراك العثمانيين.
(٣) الطراز الإيراني التتري
وجدير بنا أن نذكر أن المغول حين قضَوْا على دولة مُلوك خوارزم في النصف الأول من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، كانوا غرباء عن المدنية الإيرانية، ولم يكونوا قد أخذوا من الحضارة بنصيب وافر، ولكنهم لم يلبثوا أن تأثروا بالثقافة الصينية في الشرق والثقافة الإيرانية في الغرب، فعملوا بعد ذلك على رعاية الفنون والآداب.
وأسس هولاكو في إيران أسرة حكمتها حتى سنة ٧٣٦ﻫ/١٣٣٦م وهي الأسرة الإيلخانية التي تهذَّب أفرادها وأتباعهم بالحضارة الإيرانية، ثم اعتنقوا الإسلام، ولكنهم لم يقطعوا أسباب العلاقة بينهم وبين أقربائهم من المغول في الشرق الأقصى؛ ولذا امتاز عصرهم في إيران بتأثير الأساليب الفنية الصينية في فنون إيران.
على أن خلفاء هولاكو لم يَفْطِنوا في بداية الأمر إلى ما في نمو النظام الإقطاعي في إيران من خطر على دولتهم؛ فدَبَّ إليها الانحلال وانقسمت إيران بعد سقوط هذه الأسرة إلى دويلات محلية، كالدولة المظفَّرية في إقليمي فارس وكرمان ودولة الكرت في هراة، ودولة الجلائريين في العراق، وغيرها من الدويلات التي ظلت قائمة حتى قضى عليها تيمورلنك في نهاية القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) حين استقر له الأمر في بلاد ما وراء النهر، وبدأ سلسلة فتوحات أخضع فيها إيران وجزءًا من جنوبي الروسيا والهند وهزم جيش بايزيد سلطان الأتراك العثمانيين عند أنقرة سنة ٨٠٤ﻫ/١٤٠٢م.
وبعد وفاة تيمورلنك سنة ٨٠٧ﻫ/١٤٠٥م أفلح ابنه شاه رخ في الاستيلاء على عرش إيران وبلاد ما وراء النهر، واتخذ مدينة هراة عاصمة له؛ فازدهرت فيها الفنون والآداب على يده وفي عهد خلفائه، حتى قامت الأسرة الصَّفَوِيَّة سنة ٩٠٧ﻫ/١٥٠٢م وتطور الفن برعايتها تطورًا أدَّى إلى قيام طراز فني جديد.
ولكن ما فعله المغول وتيمور وخلفاؤه في سبيل الفن وتشجيع الفنانين، يجعلنا نغض الطَّرْف عما حدث في حروبهم الأولى من تدمير واضطهاد.
أما المساجد في الطراز الإيراني المغولي فقد زادت أناقة واتزانًا كما يظهر في مسجد فرامين وفي جامع جوهر شاد بمدينة مشهد. ويمتاز هذا الجامع الأخير بتناسب أجزائه المختلفة. وشاع في عصر التيموريين بناء المساجد التي تعلوها قبة ضخمة، ويؤدي إليها مدخل عالٍ يَلْفِت النظر بعظمته وفخامته. ومن أبدع العمائر التي تُنْسَب إلى القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) الجامع الأزرق الذي شُيِّدَ بمدينة تبريز في منتصف هذا القرن، وكانت في وسطه قاعة كبرى عليها قبة وحولَها قاعات أخرى وفي أحد جوانبها مقبرة مقنطرة أو مقبية. وقد زُيِّنَ هذا المسجد بفسيفساء من الخزف غاية في الإبداع والجمال، وفيها اللون الأزرق الفاتح والأزرق الغامق والأسمر والأخضر الغامق، كما أن فيها بعض الفروع النباتية المذهبة.
وقد عظم شأن المدارس في العصر التيموري، ولكن لم يطرأ على بنائها في هذا الطراز تغيير كبير. ومن الأمثلة التي لا تزال باقية في حالة جيدة مدرسة خرجرد على مقربة من الحدود الأفغانية، وقد شيدت سنة ٨٤٩ﻫ/١٤٤٥م على يد مهندسين معماريين من شيراز، وتتكون من صحن مربع تحيط به أربعة إيوانات ذات طابقين وأقبية أسطوانية الشكل وعقود إيرانية مدببة. ومما يلاحظ في كثير من تلك المدارس وجود منارة أسطوانية مرتفعة تحف بجانبي المدخل المستطيل الشكل أو المربع، ويتوسط المدخل عقد إيراني كبير.
واستخدم البناءون الجِصَّ بكثرةٍ في زخارف العمائر الإيرانية التترية ولا سيما في المحاريب، ولكن التجديد الحقيقي في زخارف العمائر التي تُنسب إلى هذا الطراز إنما هو استخدام الخزف والقاشاني المختلف الأنواع. والواقع أن أولئك الفنانين أُتِيحَ لهم أن يصلوا في الزخرفة بقوالب الآجُرِّ وبفسيفساء القرميد والخزف إلى غاية الإبداع والإتقان، ولا سيما في العصر التيموري الذي يُنسب إليه المسجد الأزرق في تبريز، وقد غلبت هذه التسمية على المسجد المذكور للون القاشاني الذي يغطي جدرانه. ولا ريب في أن الفسيفساء الخزفية في هذا المسجد تبدو كأنها رُسمت بدقة توازي دقة الفنانين الذين كانوا يشتغلون بزخرفة صفحات الكتب وتذهيبها، فضلًا عن أن هذه الفسيفساء الخزفية المتعددة الألوان تُذَكِّر بما أُولعَ به القوم في بلاد ما وراء النهر من تعدد الألوان في سجاجيدهم.
وعُنِيَ الفنانون في ذلك العصر باستخدام المقرنصات أو الدلايات في تزيين العمائر عناية تُذَكِّر بما اتجه إليه زملاؤهم في الطراز الأندلسي المغربي، كما نرى في قصر الحمراء؛ حيث أسرف الفنانون في استخدام المقرنصات إسرافًا كاد يؤدي إلى الملل وفقد البساطة الفنية، بينما أفلح الإيرانيون في استعمال هذه الزخارف بدون مبالغةٍ تُفْقِد عمائرَهم الاتزانَ والاحتشام.
ويظهر تأثير الشرق الأقصى واضحًا في العناصر الزخرفية التي استُخدمت في الطراز الإيراني المغولي، كالحيوانات الخرافية والصور الآدمية ذات السِّحْنة الصينية. واحتفظت بغداد بشهرتها في كتابة المصاحف بالخط الجميل وتذهيبها، وأصاب الخطاطون فيها توفيقًا عظيمًا في الخط النسخي الكبير، وكانوا يحددون الحروف بالذهب ويزينون الأرضية بالفروع النباتية الجميلة. وفي نهاية القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) انتقلت الزعامة في هذا الفن إلى مدينتي تبريز وسمرقند.
والواقع أن فنون الكتب ازدهرت في عصر المغول ازدهارًا سوف نعرض له في الصفحات القادمة، وحسبنا أن نذكر الآن أن المصورين كانوا يشتركون أحيانًا في رسم زخارف القاشاني والخزف، وأن الأساليب الفنية الصينية كانت غالبة في بداية عصر المغول، ثم هضمها الإيرانيون وحوروها تحويرًا جعلها توافق روحهم الإيرانية والإسلامية. وثمة مخطوطات نَرَى في بعض صورها تأثير الأساليب الفنية الصينية، كما نرى في البعض الآخر بقاء الأصول الموروثة عن المدرسة السلجوقية. وخير مثال على هذا مخطوط من كتاب جامع التواريخ للوزير رشيد الدين يرجع إلى سنة ٧١٤ﻫ/١٣١٤م، لا يزال جزء منه محفوظًا الآن في الجمعية الآسيوية الملكية بلندن، والجزء الآخر في مكتبة جامعة أدنبرا.
أما صناعة السَّجَّاد فليس لدينا ما يشهد بازدهارها في ذلك العصر اللهم إلا في بلاد القوقاز التي كانت تُنْتِجُ أنواعًا من السَّجَّاد، قوام زخارفه حيوانات خرافية وحقيقية مرسومة بطريقة اصطلاحية ظاهرة، بينما بدأت الأقاليم الإيرانية نفسها في صناعة السَّجَّاد ذي الجامة؛ أي الصرة، ولكن هذه الصناعة لم تبلغ عصرَها الذهبي إلا في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي).
على أن هذا الطراز لم يُصِبْ نجاحًا كبيرًا في صناعة المعادن، بل إن الدقة التي عرفناها في الطراز السلجوقي عند الفنانين الذين اشتغلوا بتطبيق البرونز والنُّحاس بالمعادن النفيسة، هذه الدقة اختفت أو كادت اللهم إلا على السيوف والخناجر والخوذات. وقد ظهرت في ذلك العصر الخوذة الناقوسية الشكل التي كانت تُلبس فوق العمامة، وكان يتصل بها جزء لوقاية القسم الأعلى من الوجه وفيه فتحتان للعينين. أما السيف المستخدم في هذا العصر فكان مستقيمًا ذا نصل عريض قد طُبقت فيه غالبًا زخرفة تمثل رسم العراك بين التنين والعنقاء.
وعلى كل حال فإننا نتبين في العمائر والتحف التي تنسب إلى عصر المغول وعصر تيمور وخلفائه ما امتازت به إيران في الفنون الإسلامية من محافظة على قسط وافر جدًّا من أساليبها الفنية القديمة، ومن مَيْلٍ إلى رسوم الكائنات الحية وإلى الزخارف النباتية الرشيقة.
وصفوة القول أن عصر المغول، ولا سيما عصر خلفاء تيمور، كان عصر نهضة عظيمة في الفنون والآداب، ولعله من الناحية الفنية أقوى العصور في إيران على الإطلاق.
(٤) الطراز الصفوي
أفلح الشاه إسماعيل في أن يستوليَ على عرش إيران سنة ٩٠٧ﻫ/١٥٠٢م، وأن يؤسس الأسرة الصَّفَوِيَّة، نسبة إلى الشيخ صفي الدين أحد الأولياء في مدينة أردبيل. وهي أولى الأسرات التي أصبح المذهب الشيعي في عهدها المذهب الرسمي لبلاد إيران. وكان طبيعيًّا ألا يتركها العثمانيون — وهم أبطال الجنس التركي والمذهب السني — آمنة في أملاكها المترامية الأطراف؛ فقامت بين العثمانيين والإيرانيين حروب انتهت باستيلاء الترك على الجزء الغربي من أملاك الدولة الصَّفَوِيَّة؛ واضْطُرَّ الإيرانيون إلى أن يقيموا داخلَ حدودهم الطبيعية وأن يلتفتوا إلى تقاليدهم الوطنية القديمة؛ فيبعثوا في البلاد نهضة إيرانية حقة، وصلت بها في الميدان الثقافي إلى الذروة العليا، ولا سيما في عصر الشاه عباس الأكبر.
ويمتاز الطراز الفني الذي ازدهر في إيران على يد الأسرة الصَّفَوِيَّة بأن كل الأساليب الفنية التي كانت إيران أخذَتْها عن الشرق الأقصى في عصر المغول والعصر التيموري تطورت وهضمها الذوق الإيراني؛ فَبَعُدَتِ الشُّقَّة بينها وبين أصولها الصينية. كما يمتاز أيضًا بزيادة الميل إلى قصص الأبطال الإيرانيين القدماء، وبالإقبال على تصوير هذه القصص في المخطوطات وفي غيرها من التحف الفنية. وعُنِيَ الفنانون فضلًا عن ذلك بدراسة بعض نواحي الطبيعة والحياة اليومية، وتجلَّى ذلك في صورهم وفي الزخارف التي استعملوها.
وقد زاد عدد المراكز الفنية في إيران، وكانت تبريز عاصمة الأسرة في البداية؛ فعمل فيها أعلام الخطاطين والْمُذَهِّبِين والمصوِّرين والمجلِّدين، وأثَّر نشاطهم في ميادين فنية أخرى؛ فامتد نفوذهم إلى تصميم الفسيفساء الخزفية التي كانت تزين جدران العمائر وقبابها، كما ظهر أيضًا في زخارف المنسوجات بأنواعها المختلفة. ثم نقل الشاه عباس مقر الحكم إلى أصفهان في نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وعُنِيَ بتجميلها، وبنى فيها المساجد والقصور وأقام الطرق المعبَّدة؛ فأصبحت هذه المدينة من أزهر مدن الشرق، وصارت في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) المحور الذي تدور حوله الحياة الفنية الإيرانية، وطغى فيها أسلوب رضا عباسي، الذي سيأتي الحديث عنه في الصفحات القادمة.
وإذا أردنا أن نفهم طبيعة هذا الطراز الصفوي وجب علينا أن نذكر أمرين: الأول نمو العلاقات بين إيران ودول الغرب واتصال الأمراء الصفويين بالأسرات الحاكمة في أوروبا، والثاني بقاء ما كان بين إيران والشرق الأقصى من علاقات فنية قديمة.
على أن خلفاء الشاه عباس لم يلبثوا أن انصرفوا إلى الاستبداد والخلاعة؛ فاستطاعت الدولة العثمانية أن تحتل إقليم العراق، الذي كان من أملاك الصفويين إلى سنة ١٠٤٨ﻫ/١٦٣٨م، حين استولى السلطان مراد الرابع على بغداد وضم بلاد العراق إلى الدولة العثمانية، بعد أن قامت فيه على يد الإيرانيين أضرحة فخمة لكبار رجال الشيعة.
وأخذت عوامل الضعف تدب في الدولة الصَّفَوِيَّة، وقلَّت عناية أمرائها بالفن ورجاله؛ فساء نوع المنتجات الفنية وكثر الإنتاج بالجملة للأسواق وأصحاب الذوق العادي، ولا سيما الغربيين الذين كانوا يقعون من تحف الشرق بكل عجيب خارج عن المألوف.
وقد كان الأفغان خاضعين للدولة الصَّفَوِيَّة، ثم ثاروا عليها في عهد الشاه حسين وهزموه سنة ١١٣٥ﻫ/١٧٢٢م وسقطت أصفهان في يدهم؛ فكان هذا الحادث إيذانًا بسقوط الصفويين، وإن كان بعض أمرائهم ظلوا بعد ذلك يحكمون نحو عشر سنين في إقليم مازندران جنوبي بحر قزوين.
ومن أبدع العمائر التي تُنْسَب إلى الطراز الصفوي ضريح وجامع الشيخ صفي الدين بأردبيل. وقد بُدِئ تشييده في نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وتم في منتصف القرن التالي. ويتكون هذا الضريح من مدخل ضخم تليه حديقة مستطيلة توصل إلى المباني التي تحيط بفناء داخلي يقع إلى يساره الجامع القديم، وهو عجيب ومُثَمَّن الشكل فيه ستة عشر عمودًا من الخشب وفيه حنيات للنوافذ، ولا محراب له، وإنما تقع القبلة في اتجاه مدخله. وإلى يمين الفناء ضريح الشيخ صفي الدين، وبجواره بهو من الآجُرِّ، في جانبه الأيسر عقد كبير مدبب تعلوه حلية من المقرنصات، وفي البهو عدد من النوافذ فوقَها وتحتَها زخارفُ من الفسيفساء الخزفية.
ومن أفخم المساجد الصَّفَوِيَّة مسجد الشاه في أصفهان؛ فهو يمتاز بامتداده وضخامته وجمال تخطيطه على الرغم من أن إيواناته الثلاثة غير متصلة؛ مما يُفقد البناء شيئًا من الارتباط والتماسك.
وقد أقيمت أضرحة عظيمة لأئمة الشيعة وكبار رجالاتهم في العراق ولا سيما في كربلاء وسامرا والنجف، وكانت تمتاز بقبابها البصلية الشكل ومناراتها الأسطوانية المرتفعة.
وكانت العمائر الدينية في العصر الصفوي تُحلى بالفسيفساء الخزفية ذات الألوان الجميلة ورسوم الزهور والفروع النباتية البديعة؛ مما أكسبها طابعًا خاصًّا تَجلَّى فيه ما للإيرانيين من ذوق جميل، وغرام بالفن، ودراية بما للألوان الهادئة المنسجمة من سِحْرٍ وجاذبية.
ولم يُعْنَ الصفويون بتشييد القصور فحسب — كقصر جهل ستون وهشت بهشت وآينه خانه — بل عُنوا أيضًا بتشييد الأسواق والخانات في المدن الكبيرة والطرقات التِّجارية الرئيسية. والواقع أن معظم العمائر الإيرانية في العصر الصفوي من مساجد وأضرحة ومدارس وخانات وأسواق وقصور، تشترك في طابعها الفني العام وتمتاز بما فيها من الاتزان وجمال النِّسَب.
أما جدران القصور الصَّفَوِيَّة فكانت تُكسى بتربيعات القاشاني المحلاة بأجزاء من موضوعات زخرفية، تُكَوِّن في مجموعها صورًا وثيقة الصلة بالصور التي كان ينتجها أعلام المصورين في ذلك العصر، كما كانت الأسقف والجدران تُزَيَّنُ بالتطعيم أو النقوش على «اللاكيه».
وسوف نرى عند الكلام عن فنون الكتاب أنها وصلت إلى أوج عزها في بداية العصر الصفوي؛ فأصبحت إيرانية لحمًا ودمًا، وذاع صِيت تبريز في إنتاج المصاحف الفنية الفاخرة وتذهيب صفحاتها الأولى والأخيرة فضلًا عن رءوس السور وعلامات الأجزاء والأحزاب، وزاد إنتاج المخطوطات الجميلة من الشاهنامه ودواوين الشعراء ولا سيما نظامي وجامي وسعدي. وكان المذَهِّبون يصيبون أبعد حدود التوفيق في دقة مزج الألوان وإتقان الرسوم الهندسية والفروع النباتية إتقانًا يبدو فيه التوازن والتماثل، ولا يترك زيادة لمستزيد. ولا يظهر إتقان هذه الرسوم في المخطوطات فحسب، بل إننا نراه في تربيعات القاشاني على الجدران والقباب. أما المجلِّدون فقد أتقنوا إنتاج الجلود المذهبة ذات الطبقات والمناطق المختلفة البروز.
وكان المصور العظيم «بهزاد» حلقة الانتقال من الأسلوب التيموري في النقش والتصوير إلى الأسلوب الإيراني البحت في عصر الدولة الصَّفَوِيَّة، ونبغ كثير من تلاميذه. وبدأت عادة تأليف المرقَّعات لجمع الصور المستقلة ونماذج الخطوط المنسوبة إلى أعلام الخطاطين والمصورين. ثم ظهر المصور رضا عباسي وتبعه كثيرون من الفنانين بأصفهان وغيرها من البلدان الإيرانية في رسم السيدات والغلمان ذوي القدود الممشوقة.
والواقع أن ازدهار فن النقش والتصوير كان له صداه في سائر ميادين الطراز الصفوي؛ فامتد نفوذ المصورين إلى رسوم السَّجَّاد والمنسوجات والخزف في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد).
وسوف يأتي الكلام عن هذه الآثار الفنية النفيسة التي تُعد من بدائع الفن الإيراني في عصوره المختلفة، فنرى السجاجيد الثمينة ذات الألوان الغنية والرسوم المختلفة الوثيقة الصلة بزخارف جلود الكتب، كما نرى المنسوجات ذات الزخارف التي تشبه رسوم المخطوطات، وتعبر عن غرام الإيرانيين بالحدائق وبالقصص المستمدة من تاريخهم الوطني.
ومما يمتاز به الطراز الصفوي في ميدان الأسلحة استخدام السيوف المقوسة عوضًا عن السيوف المستقيمة العريضة التي استُخدمت في عصر التيموريين، فضلًا عن الخناجر الصَّفَوِيَّة التي ذاع صِيتها في أنحاء العالم الإسلامي بجمال زخارفها النباتية والحيوانية.
•••
على أننا نود أن نتحدث عن بعض ميادين الطرز الإيرانية كوحدة قائمة بذاتها؛ ليتسنَّى لغير الأخصائيين من القراء أن يقفوا على بدائع ما أنتجه الإيرانيون في العمارة وفنون الكتاب والخزف والسَّجَّاد وغير ذلك، وليمكنهم أن يَرَوُا الطابع العام الذي يميز هذه الآثار الفنية عن غيرها في سائر الأقطار الإسلامية.
وسوف يتاح لنا في الصفحات التالية أن نعرض بشيء يسير من التفصيل، بعض ما أجملناه في هذه المقدمة عن الطرز الفنية المختلفة التي ازدهرت في الهضبة الإيرانية، وفي بعض الأقاليم التي خضعت للإيرانيين من الوجهة السياسية أو الثقافية.
Nabia Abbott: The Rise of the North Arabic Script and its Kuranic Development, with a Full Description of the Kuran Manuscripts in the Oriental Institute (University of Chicago 1939).
وراجع ما كتبه الأستاذ فييت من الهوامش في ترجمة كتاب البلدان لليعقوبي، ولاسيما ص٤١.
وراجع كتاب «بيدايش خط وخطاطان» (بالإيرانية) تأليف حاجي ميرزا عبد المحمد خان إيراني، ص١٥٨–٢٦٠ (طبع مصر سنة ١٣٤٥ﻫ).