العمارة
إذا تذكرنا أن الفن هو تعبير الإنسان عن إحساسه الروحي وترجمته خياله وعاطفته، عرفنا أن الذي يعنينا من العمارة في تاريخ الفن ليس ما يقوم فيها على العلوم الرياضية، وإنما المظاهر التي لا نستطيع شرحها أو تفسيرها بالاستنباط أو بالأدلة الميكانيكية والعلمية، ولعل هذا أكبر الفرق بين ما يُعْنَى به المهندس في دراسة العمارة وما يُعْنَى به مؤرخ الفن.
•••
وإذا أردنا أن نتبين مميزات العمارة الإيرانية بوجه عام وبدون أن نَنْفُذ إلى التفاصيل التي لا تهم غير الأخصائيين، وجب علينا أن نعرف المواد التي استخدموها، وأن نتبين أنواع العمائر التي شيدوها، والعناصر المعمارية التي ابتدعوها أو نبغوا في استخدامها، ثم الأساليب الزخرفية التي اتخذوها لتزيين مبانيهم.
والمعروف مما كتبه الجغرافيون في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وما بعده، أن إيران كانت عامرة بالمدن الكبيرة، وأن هذه المدن كانت غنية بالعمائر العظيمة، ولكن الواقع أن العمائر الإيرانية التي ترجع إلى العصور الإسلامية القديمة لم يبقَ منها شيء كثير، ومع ذلك فإننا — بفضل الآثار التي لا تزال باقية والأنقاض التي كشفها المنقِّبون عن الآثار — نستطيع أن نستنبط من الحقائق ما نقف منه على تأثير العمارة الإيرانية الساسانية على العمارة في الأقطار الإسلامية عامة وفي إيران خاصة، كما نستطيع أن نتبين خواص العمارة الإيرانية وما كان لها في العمارة الإسلامية من شأن عظيم.
ويمكننا بوجه عام أن نقسم تاريخ العمارة الإيرانية إلى أربع مراحل كبيرة: الأولى من الفتح الإسلامي إلى نهاية القرن الرابع الهجري (بداية الحادي عشر الميلادي)، والثانية من بداية القرن الخامس حتى السابع (الثالث عشر الميلادي)، والثالثة في القرن الثامن (الرابع عشر الميلادي)، والرابعة من القرن التاسع إلى الحادي عشر (الخامس عشر إلى السابع عشر بعد الميلاد).
ففي المرحلة الأولى تطوَّرت الأساليب الساسانية تطورًا بطيئًا، ولم يبقَ لنا من عمائر هذه المرحلة إلا أطلال غير ظاهرة، فلا بد من الاعتماد على ما كتبه الجغرافيون والمؤرخون العرب عن المساجد الأولى في إيران والعراق.
أما المرحلة الثانية فلا تزال بعض عمائرها قائمة ومؤرخة أو يمكن تأريخها، ولا سيما المدارس والمنارات والأضرحة البرجية الشكل، وجُلُّها في وسط إيران وشماليها الشرقي.
وقد خلفت المرحلة الثالثة عددًا وافرًا من العمائر التي امتاز معظمها بالعظمة وإبداع النِّسَب وحسن التخطيط والعمل على بلوغ الكمال والإتقان.
أما المرحلة الأخيرة فقد بلغت فيها العمارة الإيرانية عصرها الذهبي على يد تيمور وخلفائه، ثم برعاية بعض ملوك الأسرة الصَّفَوِيَّة، فَشُيِّدَت العمائر الفخمة من مساجد وأضرحة وخانات وأسواق وقناطر وقصور.
(١) مواد البناء
استخدم الإيرانيون الطوب والحجَر والخشب. وكان استخدام الطوب أعَم؛ لأن نقل الحجَر من المحاجر كان يتطلب نفقات طائلة، ولكنهم لم يكونوا مضطرين إلى ذلك مثل أهل العراق الذين لم يكن لهم بد من استخدام الآجُرِّ لقلة الخشب والحجَر، بينما كان الحجر والخشب موجودَيْنِ في إيران؛ فشيد الإيرانيون في العصور القديمة بعض العمائر الحجرية، كما شيدوا في العصر الإسلامي بعض الأبنية من الحجر تحدَّث المؤرخون والجغرافيون عنها، ولا تزال أنقاض بعضها قائمة إلى اليوم.
واستعمل الإيرانيون الجص والقاشاني في زخرفة عمائرهم، كما سنرى في الصفحات التالية. وفضلًا عن ذلك استعملوا الطوب نفسه في الزخرفة؛ فكانوا ينشئون منه الأشكال الهندسية وأشرطة الكتابات وما إلى ذلك من الرسوم لتزيين العمائر والمآذن.
ولعل استخدام الطوب والأحجار الصغيرة في العمارة الإيرانية منذ العصور الأولى هو الذي صرف البنائين عن تزيين العمائر بالحليات المعمارية المجسمة التي نرى مثلها في العمارة القوطيَّة مثلًا، والتي لا يمكن إتقانها إلا بنحتها في الأحجار الكبيرة نحتًا دقيقًا، وفضلًا عن ذلك فإن قلة النفقات شجعت المعماريين الإيرانيين على كثرة تشييد المباني ومهدت لهم طريق التجارِب والإبداع فيها، مما لا يتيسر تمامًا في العمائر الحجرية ذات النفقات الطائلة.
وامتازت بعض البلدان الإيرانية، ولا سيما شيراز وأصفهان، باستخدام السقوف الخشبية القائمة على الأعمدة، كما أن بعض المساجد القديمة كان فيها أعمدة من الخشب، وشيد الإيرانيون بعض القباب الخشبية الكبيرة، ولا سيما في قزوين ونيسابور.
(٢) تخطيط العمائر وزخرفتها
تأثر تصميم العمائر الإيرانية في الإسلام ببعض الأساليب المعمارية التي ورثها الإيرانيون عن الفنون القديمة التي ازدهرت في الهضبة الإيرانية وفي بلاد الجزيرة، كالبهو ذي الأعمدة الرفيعة والمَدْخَل ذي العقد الكبير. كما اختلف تصميم العمائر في بعض المقاطعات الإيرانية عنه في البعض الآخر بحسب التقاليد المحلية والأحوال الجوية؛ فكان أهل الشمال مثلًا — بما فيه من البرد القارس — يميلون إلى المساجد المسقوفة المغلقة، بينما أقبل أهل الجنوب على تشييد المساجد ذات الصحن والأبهاء المكشوفة.
ولكن تصميم المباني الإسلامية الإيرانية كان بسيطًا إلى حد كبير، وكان المعماريون يعوضون هذه البساطة بالعناية بالزخارف وبالانتفاع بنضارة الألوان في الكسوات الخزفية. والواقع أننا نرى تباينًا عظيمًا بين ما في العمائر الإيرانية من بساطة المظهر الخارجي وما ينبعث من داخلها من سحر جذاب وثروة زخرفية عجيبة.
ومما يزيد زخارف العمائر الإيرانية الإسلامية فخامة ما في رسومها من تعادل وتناسب، ومن ذوق سليم، أدركها المعماريون بتقسيم الجدران إلى إطارات أو حشوات كبيرة؛ أي «بانوهات» تناسب السطح وتخفف السأم الذي قد يبعثه التكرار المعروف في الطرز الإسلامية عامة.
والحق أن العمارة الإسلامية في إيران لا تمتاز بتنوع عناصرها المعمارية بقدر ما تمتاز بالذوق السليم، والوضوح، مع الدقة والنِّسَب الصحيحة المتزنة في جمع تلك العناصر والتأليف بينها.
(٣) أنواع العمائر الإيرانية في الإسلام
شيد الإيرانيون في العصر الإسلامي كثيرًا من المساجد والأضرحة والمدارس والأسواق والخانات فضلًا عن القصور الجميلة.
أما المساجد فقد كان أقدمها ذا إيوانات فيها أعمدة أو أكتاف، وكان استخدام الأعمدة الخشبية في بعض الأحيان سببًا في سرعة تهدم المساجد، ولكن استعمال الأعمدة الحجرية أو المصنوعة من الطوب أصبح شائعًا منذ القرن الثالث الهجري، ولم تكن هذه المساجد الإيرانية الأولى تختلف كثيرًا عن سائر المساجد في العالم الإسلامي في ذلك الوقت.
على أن أَبْيَنَ العناصر الإيرانية البحتة في عمارة المساجد تُرى في أبنية المدارس، وهي كليات دينية تشبه المساجد في تصميمها، وقد نشأت في إيران على يد السلاجقة، الذين اتخذوها — كما اتخذها المغول والتيموريون من بعدهم — أداة لنشر تعاليم المذهب السني. أما تخطيطها فقوامه صحن مكشوف تطل عليه قاعات ذات قباب، ويتكون من كل منها إيوان في وسط كل وجهة من الوجهات الأربع التي تشرف على الصحن، وتَحُفُّ بالإيوانات قاعات في طابقين، يسكنها الأساتذة والطلبة. وأقدم المدارس التي لا تزال قائمة في إيران مدرسة على مقربة من المسجد الجامع في أصفهان، وترجع إلى منتصف القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي). والواقع أن أعظم الجوامع الإيرانية خليط في تصميمها بين المدرسة والمسجد ذي الإيوانات والأعمدة أو الأكتاف، وتمتاز بأن إيوان القبلة فيها كبير يُتَّخَذ للصلاة، وعلى جانبيه قاعات ذات قبوات، ويمكن الوصول إليها من الصحن، وفوق هذا الإيوان قبة كبيرة.
وتتجلى طبيعة الشعب الإيراني وحبه للحدائق والمياه الجارية فيما نراه من وجود فسقية في صحن المسجد تحفُّ بها الشجيرات والزهور.
وكانت الأضرحة في إيران أعَمَّ منها في سائر الأقطار الإسلامية، ولا غَرْوَ فقد كان الإيرانيون يعظِّمون أولياء الله ويُعْنَوْنَ بذِكْراهم. وكانت الأضرحة أبنية مربعة وذات قبة تُشَيَّد للأولياء والصالحين؛ مما يُكسبها طابعًا دينيًّا، بينما كان الأمراء والأميرات يُدفَنون في مقابرَ على شكل أبراج.
وكانت مقابر أفراد الأسرات الحاكمة أبراجًا أسطوانية في معظم الأحيان ولها سقف مخروطي الشكل؛ مما يثبت العلاقة الوثيقة بينها وبين خيام الأمراء عند القبائل الرُّحَّل بآسيا الوسطى. وكانت بعض هذه الأبراج ذات جدران مضلعة فتصبح نَجْمية الشكل، كما في أبراج دماوند والري وفرامين.
وعُنِيَ الإيرانيون بتشييد الخانات الضخمة لمأوى المسافرين والقوافل، وكان أبدع ما في عمائر الخانات مداخلها المشيدة من الأبراج والعقود الشاهقة؛ مما يُكسبها العظَمة والفخامة.
بينما كانت الأسواق في إيران — كما في سائر الأقطار الإسلامية — طرقات ذات حوانيت صغيرة؛ ولكنها امتازت بقبواتها العظيمة وعقودها الضخمة، كما نرى في السوق الشاهاني بمدينة أصفهان.
أما القصور فقد كانت مظهرًا من العبقرية الفنية الإيرانية، ولكننا لا نكاد نعرف عنها شيئًا قبل القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) على الرغم من أنقاض قصر السلطان ألب أرسلان التي عُثر عليها في نيسابور، وأنقاض القصور الأخرى التي كُشفت في ساوه والري. وفي العصر الصفوي كانت القصور صغيرة الحجم، وكان كل ملك أو أمير يملك عددًا كبيرًا منها. وقد وصف الأوروبيون الذين زاروا إيران في ذلك العصر ما شاهدوه من قصور، فأَطْنَبُوا في ذِكر ما فيها من أدلة الترف والنعيم وحسن الذوق، وذكروا سقوفها الدقيقة، واللوحات المصورة على جدرانها، والأثاث الفاخر في قاعاتها، وأشاروا إلى القاعات التي كانت تُهَيَّأ في جدرانها طاقات لوضع الأواني الخزفية الجميلة، على نحو القاعة المشهورة في ضريح الشيخ صفي الدين بأردبيل.
والمعروف أن أعلام المصورين بين القرنين التاسع والعاشر بعد الهجرة (الخامس عشر والسابع عشر بعد الميلاد) كانوا يُستخدمون أحيانًا في زخرفة جدران القصور وسقوفها بالصور والرسوم، وفضلًا عن ذلك فقد استُعملت المرايا والمنسوجات النفيسة في تزيين الجدران، وصُنعت النوافذ الصغيرة من الخشب أو المعدن، وزُينت بالرسوم الهندسية ومُلئت بالخزف أو الجص والزجاج، أما الأبواب فقد بالغ الفنانون في زخرفتها بالرسوم على «اللاكيه».
(٣-١) العقد الإيراني المدبب
عُرفت العمارة الإيرانية القديمة العقود نصف الدائرة والعقود المدببة والعقود البيضاوية، وفي القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) ذاع استخدام العقد المدبب، الذي أصبح من ميزات العمارة الإسلامية، ونقلته عنها بعض الأقاليم الغربية. وسرعان ما عَمَّ استعمال العقد المدبب في كل العمائر الإيرانية، وصار يُنسب إلى إيران؛ حيث كان ارتفاعه يبلغ في بعض وجهات مساجدها زُهاء عشرين مترًا. وكانت العقود الفخمة تُكسب المبانيَ الإيرانية سحرًا وجلالًا عظيمين، وفي وجهات المساجد كانت القبوات والمقرنصات تزين باطن العقد، وتعلو المدخل الصغير الذي يوصل إلى داخل المسجد. ولعل أبدع أمثلة العقد الإيراني المدبب ما نراه في مسجد شاه بأصفهان.
(٣-٢) القبوات
استخدم المعماريون الساسانيون القبوات نصف الأسطوانية في التغطية، ونبغ الإيرانيون المسلمون في بناء القبوات العظيمة، ولا سيما في عمائر الأسواق كالسوق الشاهاني في أصفهان، وفي بعض المساجد كمسجد شاه والمسجد الجامع في أصفهان أيضًا، ولعل البناء باللَّبِن كان عاملًا كبيرًا في إتقان القبوات على اختلاف أنواعها.
(٣-٣) القباب٥
والمعروف أن القباب كانت تُبنى فوق معابد النار في إيران قبل العصر الإسلامي، ولا تزال أطلال بعض العمائر الإيرانية الساسانية قائمة، ويمكن بوساطتها تصور أحجام القباب التي كانت تعلوها والتي أفلح المعماريون الإيرانيون في إقامتها على قاعدة مربعة، فسبقوا بذلك روما التي لم تتقن في هذا الميدان إلا إقامة القباب على دائرة من الأعمدة أو على قاعدة أسطوانية مستديرة. وقد استخدم المعماريون الإيرانيون للوصول إلى هذا الغرض الدلايات أو المقرنصات؛ لتنهيض الأركان بالتدريج حتى تصل إلى مستوى استدارة القبة.
وامتازت القباب الإيرانية بارتفاعها ودقة نِسَبها وجمال استدارتها، وكانت في أكثر الأحيان بَصَلية الشكل، وذات ألوان سحرية جذابة بفضل كسوتها بتربيعات القاشاني.
(٣-٤) المآذن
كانت أغلب المآذن الإيرانية أسطوانية، وذات زخارف هندسية في الطوب، أو ذات كسوة من القاشاني، وفي أعلاها ردهة تقوم على دلايات أو مقرنصات وتكسب المئذنة شكل الفَنَار. وقد أصبح لمعظم المساجد منذ القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) مأذنتان يحفان بالمدخل، وتختفي قاعدة كل منهما خلفه، اللهم إلا في بعض المساجد مثل جوهر شاد، فإنهما ظاهرتان وتزيدان المدخل ضخامة وارتفاعًا.
والظاهر أن الإيرانيين اختاروا هذا الضرب من المآذن متأثرين بالأعمدة التي كانت تُقام لعبادة الشمس منذ العصور القديمة في الهضبة الإيرانية، وببعض الأبراج الهندية القديمة. ومهما يكن من الأمر فإن هذه المآذن الإيرانية تختلف عن سائر المآذن التي بناها المسلمون في الشام ومصر وشمالي إفريقية في أنها لا طبقات لها ولا نوافذ؛ فالمئذنة الإيرانية بناء شاهق مَبْنِيٌّ لِذاته وليس لتُهَيَّأ فيه سلالم تقود إلى رَدْهات أو دورات يسير فيها المؤذن. وفضلًا عن ذلك فإن المنارة الإيرانية الأسطوانية الشكل والشاهقة الارتفاع، قد عَمَّ استعمالها في إيران منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، بينما ظلت المآذن في القسم الغربي من العالم الإسلامي موكولة إلى ذوق الأفراد فلم يتقيدوا في أغلب الأحيان بضرب معين منها.
(٣-٥) المقرنصات٧
المقرنصات أو الدلايات حِلْيَات معمارية تشبه خلايا النحل، وتُرَى في العمائر مُدَلَّاة في طبقات مصفوفة فوق بعضها، وتُستعمل للزخرفة المعمارية أو للتدرج من شكل إلى آخر، ولا سيما من السطح المربع إلى سطح دائري تقوم عليه القباب، كما تقوم في بعض الأحيان مقام «الكوابيل» حين تُتخذ أسفلَ دورات المؤذن في المنارات. وأكثر ما استخدمها المعماريون الإيرانيون في وجهات العمائر، ولكنهم وُفِّقوا في جعلها لا تُثقل البناءَ أو تطغى على أصوله.
(٣-٦) الحِلْيَات المعمارية المجسمة
سنرى أن المعماريين الإيرانيين في الإسلام اتخذوا الزخارف المسطحة من القاشاني لتزيين عمائرهم. والواقع أنهم تجنبوا الحليات المعمارية المجسمة مما ناءت تحتَه العمائر الأوروبية والهندية. وقد كان تزيين الجدران بهذه الزخارف المسطحة التي لا ظل لها أكبر عامل في الوضوح والبساطة والهدوء والاتزان، وما إلى ذلك من الصفات التي تتجلى في العمائر الإيرانية فتُكسبها الجمال مع الاعتدال. وحَسْبنا أن نوازنَ بينَها وبينَ المباني الهندية في العصر الإسلامي لنتبينَ الفرق الشاسع؛ فإننا نجد جدران العمائر الهندية مثقلةً بالزخارف المعمارية البارزة والمجسمة؛ مما يسلب البناء مظهر البساطة، ويُكسب هَيْأَته العامة شيئًا من التعقيد والاضطراب.
(٣-٧) الزخارف الجصية
على أن أبدع الزخارف الجِصِّيَّة في العمائر الإيرانية الإسلامية ترجع إلى القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) حين كانت المحاريب في كثير من المساجد تُصنع من الجِصِّ ذي الزخارف الدقيقة التي تزيدها العناصر الكتابية بهجة ورونقًا.
ومن أعظم هذه المحاريب شأنًا محراب الجايتو من المسجد الجامع بأصفهان، وهو مؤرخ من سنة ٧١٠ﻫ/١٣١٠م وعليه اسم صانعه «بدر».
وكان الفنانون الإيرانيون يحفرون الرسوم في الجِصِّ ولا يطبعونها بالقوالب، كما كان يفعل الصناع في الأندلس وفي بعض الأنحاء الإسلامية الأخرى؛ ولذا خلت الزخارف الجصية الإيرانية من الروح الآلية المملة التي تسود الزخارف المطبوعة في أكثر الأحيان.
أما الموضوعات الزخرفية التي اتخذت في الجِصِّ فمختلفة الأنواع، بعضها وريقات وفروع نباتية، وبعضها رسوم هندسية صغيرة مثل المثلث والمثمَّن والنَّجْمة والمعَيَّن والدائرة الصغيرة، وبعضها أشرطة من الكتابة الكوفية. ومن أغنى العمائر الإيرانية بالرسوم الجصية مسجد حيدرية في قزوين، وضريح علويان في همذان، والمسجد الجامع بأصفهان، وضريح علي بن جعفر في مدينة قم.
وقد وصل الصناع الفنانون في إيران بين القرنين العاشر والثاني عشر بعد الهجرة (السادس عشر والثامن عشر بعد الميلاد) إلى استخدام الزخارف الجِصِّيَّة في القصور والبيوت، وإلى تلوينها في دقة وتنوع؛ فأصبحت تشبه رسوم الصور والصفحات المذهبة في المخطوطات التي تُنسب إلى ذلك العصر.
(٣-٨) الزخارف القاشانية
هي في الحق أبدع ما وصل إليه الإيرانيون في تزيين العمائر؛ فإننا لا نستطيع أن نتصور العمائر الإيرانية بدون لوحات القاشاني التي تكسوها فتكسبها طابعًا خاصًّا ونضارة غريبة.
وقد عرف الإيرانيون أنواعًا من كسوة الجدران، منها النجوم البسيطة ذات اللون الواحد أو اللونين، ومنها القطع الصليبية الشكل، ويغلب عليها اللونان الأزرق الفيروزي الفاتح أو اللازوردي الغامق، على أنهم اتخذوا أيضًا نجومًا وقطعًا صليبية مزينة بالرسوم الآدمية والحيوانية والنباتية الدقيقة، يزيدها البريق المعدِني جمالًا وبهجة.
والظاهر أن استخدام التربيعات المصنوعة من الخزف ذي البريق المعدِني يرجع إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، وقد كان مقصورًا في بداية الأمر على العمائر العظيمة الشأن، ولكن نمت صناعته نموًّا عظيمًا في نهاية القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وصار يصدر من مدينة قاشان إلى سائر أنحاء إيران والشرق الأدنى. وظلت هذه الصناعة زاهرة حتى منتصف القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، وكان مركزها الرئيسي في قاشان. أما التربيعات التي كانت تُصنع في مدينة الري أو في سلطاناباد، فقد كانت أقل جودة من منتجات قاشان.
أما الفسيفساء الخزفية فقد أُتقنت صناعتها على يد السلاجقة في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، ولكن الصناع في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) بَزُّوهم في هذا الميدان، وأفلحوا في تصغير الأجزاء المكونة منها الفسيفساء، وفي أن يؤلِّفوا منها الموضوعات النباتية والهندسية، في مجموعة من الألوان البراقة قَلَّ أن نرى مثلها إلا في الفنون الشرقية ولا سيما الفن الإيراني. وكانت الفسيفساء الخزفية أقل نفقة من التربيعات المصنوعة من الخزف ذي البريق المعدِني؛ لأن الأخيرة كانت تُعاد إلى الفرن بعد رسم الزخارف، ولم تكن هذه العملية يسيرة ومضمونة. وعلى كل حال فإن هذه الصناعة بلغت عصرها الذهبي في القرنين التاسع والعاشر بعد الهجرة (الخامس عشر والسادس عشر بعد الميلاد)، وكان مركزها في أصفهان ويزد وقاشان وهراة وسمرقند وتبريز.
(٣-٩) النقوش الحائطية
سوف نتحدث في الصفحات التالية عن حكم الإسلام في التصوير، وحسبنا الآن أن نذكر أن الأمم الإسلامية وبينها إيران، لم تعرف النقوش الحائطية ذات الموضوعات الدينية التي عرفتها الديانات المسيحية والبوذية والمانوية لشرح أصولها وحض أتباعها على السير في طريق الخير.
وغني عن البيان أن هذه النقوش الحائطية في العصر الإسلامي تأثرت بالأساليب الفنية في النقوش الحائطية التي رُسمت في إيران وأفغانستان وبلاد الجزيرة وجنوبي الروسيا وإقليم التركستان الغربي منذ بداية العصر المسيحي حتى قيام الإسلام.
وقد اختفت النقوش التي كانت تزين جدران قصر السلطان محمود الغزنوي (٣٨٩–٤٢١ﻫ؛ أي ٩٩٩–١٠٣٠م) والتي كانت تمثل جيوشه وفِيَلَته، فضلًا عن صوره في مناظر الحرب والطرب، وعن صور بعض الوقائع المشهورة في تاريخ الملوك الساسانيين.
أما في عصر المغول والتيموريين فلسنا نعرف عن النقوش الحائطية إلا بعض ما ذكرته المصادر التاريخية والأدبية عن قاعة استقبال عظيمة في شمالي هراة عمل في تصوير حيطانها أعلام المصورين، وما جاء في تلك المصادر عن قصر تيمور بمدينة سمرقند، وقد كانت تزين جدرانه نقوش «دونَها صور ماني والصور الصينية.»