فنون الكتاب
عُنِيَ الإيرانيون بالمخطوطات عناية جعلتها تحفًا فنية ثمينة، لم ينافسهم في إنتاج مثلها شعب من الشعوب؛ فإن الإنسان إذا أُتيح له النظر في مخطوط إيراني قديم لا يكاد يدري بأي شيء يُعْجَب، أَبِدِقَّة الزخارف المذهَّبة وجمالها، أم بجاذبية الصور وسحرها، أم بإبداع الألوان ونضارتها، أم بجمال الخط ورشاقته أم بزخارف الجلد ورسومه. وهو في النهاية يُعجب بكل هذه الأشياء مجتمعة، ويذكر صبر الفنانين الإيرانيين ومثابرتهم في صناعة مثل هذه التحف.
(١) الخط الجميل
وقد مر بنا أن المسلمين تعلموا صناعة الورق على يد صناع من الصين، أسرهم العرب حين استولَوْا على سمرقند في نهاية القرن الأول بعد الهجرة (بداية القرن الثامن الميلادي)، وكثير من المخطوطات التي لا تزال محفوظة إلى اليوم يرجع إلى القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).
والملاحظ في الحروف العربية أنها مرنة، وأنها تحمل في ثناياها كل الصفات الزخرفية والشكلية التي ساعدت الخطاطين على التطور بها من الخط الكوفي البسيط إلى الخطوط الفارسية الدقيقة؛ فقد كانت الحروف في البداية واسعة ومفرطحة، ثم زاد ارتفاعها وبدأت في الرشاقة منذ القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي). وفي عصر السلاجقة زاد الخط الكوفي دقة وجمالًا كما ظهر الخط النسخي. وفي القرن السابع الهجري ظهر الخط الفارسي المعروف باسم «تعليق». وفي القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) ظهر نوع آخر يُعرف باسم «نستعليق» (نسخ + تعليق) وأصبحت تُكتب به كل المخطوطات؛ حتى لَيمكننا أن نقول: إن استخدام الخط النسخي في مخطوط من المخطوطات يكاد أن يؤكد نسبته إلى ما قبل القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).
«واكتمل في إيران في غضون القرن الثالث عشر الميلادي نوع من الخط الفارسي المستدير هو «خط التعليق» لتُكتب به المخطوطات غير الدينية، قَلَّت فيه — تمشيًا مع طبيعته الدنيوية — الانتصابات العنيفة التي تميزت بها الكتابات الدينية، وشاعت فيه عوضًا عن ذلك حياة وحركة تتجليان في تعويجاته واستداراته. ويسترعي النظرَ في قمم حروفه المنتصبة وفي أسافلها على السواء انسلاخاتٌ ظاهرة؛ سببها إعمال القلم فيها بسِنِّه لا بصَدْره.
وأهم ما يميز خط التعليق كثرة ما فيه من استلقاء وإرسال، وهو شبيه في استداراته بخط النسخ الذي تتضح فيه الاستدارات وتكثر استمداداته، وتَنْبو بعضَ الشيء عن مستوى التسطيح العام، حتى لكأنها الخطوط المستقيمة وهي ما تزال بعيدة عن الاستقامة لما فيها من تدوير. وتظهر في هذا النوع من الخط زوايا أشبه بالقوائم تُختتم بها الاستدارات يتسنى للكاتب بعدَها أن يَزِيد من سرعة يده.
وتتفاوت الاستمدادات في هذا النوع من الخط؛ فقد تكون من الرفع بقدر سُمك الشعرة، كما قد تكون غليظة لرسمها بصدر القلم أو لثقل في طبقة المداد فوق قطة القلم، وتكون نهاية هذه الاستمدادات إما إرسالًا بعرض القلم أو تعقيفًا بانحناءة راجعة. وعلى الرغم مما يبدو في سطور هذا الضرب من الخط من رشاقة بالغة، فإنك تلحظ فيه بوجه عام — إلى جانب هذه الرشاقة — شيئًا غير قليل من «البرود» والاتزان، ولا يسعك مهما يكن من الأمر إلا الإعجاب بقوة مبدعيه … وبينما نجد خط «النستعليق» يستمد أصوله من خط «التعليق» مباشرة، نلحظ في النستعليق خفة ولطفًا لا نجدهما في خط التعليق، ففي استداراته قوَّة وحياة، يقابلهما في خط التعليق جفاف واعتدال في مواطن الكلمة، هو نهاية تقوس سابق أو بدء لتقوس لاحق، الأمر الذي من أجله اكتسب خط التعليق شيئًا من العنف والجفاف لا تخف وطأته إلا عند الابتداء والانتهاء؛ ولهذا السبب عينه كان خط النستعليق أطوع في يد الكاتب من خط التعليق وأسلس انقيادًا، بحيث لا يؤثر ذلك في شيء ما على رونقه العام، فجمع بهذا جمعًا بين فضيلتي الحرية والتسامي.
وبينما نلحظ في خط النسخ غنًى وتناسبًا في الأجزاء، واعتدادًا بطبيعته، نجد في خط التعليق قوة، وشموخًا، وارتجالًا. ونلمس في خط النستعليق في مقابل ذلك صفات: هي الرقة والأناقة، والسهولة والليونة والطواعية، التي لم تَخْلُ بدورها من بعض الارتجال، وكلها صفات تدل على بلوغ الخطاطين درجة قصوى من التهذيب وسمو الإدراك.
وقد بقي هذا النوع من الخط الأسلوب القومي للكتابة الإيرانية، ولا يزال يتمتع حتى اليوم بقوةٍ هَيْهَاتَ أن يُصيبَها الضعف.»
والحق أن العصر التيموري كان العصر الذهبي في تاريخ تحسين الخط بإيران؛ فقد شمله بنو تيمور برعايتهم، وكان الأمير بدر الدين أحد وزراء تيمور من أعلام الخطاطين في عصره، كما أن إبراهيم ميرزا وبايسنقر ميرزا حفيدَيْ تيمور كانا من الخطاطين المشهورين. وقد ظهر في العصر التيموري نوعان آخران من الخط: هما الخط الديواني والخط الدشتي.
وكان طبيعيًّا أن تنمو صناعة الورق الثمين، حتى توصل الإيرانيون في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) إلى أن يصنعوا منه أنواعًا فاخرة من الحرير والكتان، عُنوا بضغطها وإكسابها بعض الألوان وتلميعها؛ لتليق بدواوين الشعر اللطيفة التي كانت تُكتب عليها. واشْتَهَرَت بعض المدن مثل تبريز ودولت أباد بأنواع ممتازة من الورق، كانت مراسيم الدولة وأوامر السلاطين والأمراء تُكتب على أنواع معينة منها، ولا سيما على ذلك النوع الرخامي الشكل الذي اختُصت إيران بإنتاجه، والذي امتاز بما فيه من تموج وتعاريج وعروق تجعله يشبه المرمر. وفضلًا عن ذلك كله فقد كان الإيرانيون يستوردون من الصين ضروبًا أخرى من الورق الفاخر، وكان الصينيون — كما نعرف — ينتجون أحسن أنواع الورق، كما كان للخط الجميل عندَهم منزلة عظيمة فقرنوه بالأعمال الإلهية المقدسة.
وصفوة القول أن توضيح المخطوطات بالصور وتحليتها بالرسوم الملونة كان في المرتبة الثانية بالنسبة إلى كتابتها بالخط الجميل، وأن الخطاطين الإيرانيين كانوا يكتبون الأدعية وأبيات الشعر وعبارات الحكمة في أوراقٍ، كان الهواة يبذلون الأموال الطائلة في سبيل الحصول عليها، كما يدفع الغربيون الآن الأثمان العالية للحصول على اللوحات المصورة بريشة أعلام المصورين.
(٢) التذهيب
إن أعظم المخطوطات القديمة شأنًا من الوجهة الفنية، هي المصاحف التي كانت تُكتب بين القرنين الرابع والسادس بعد الهجرة (العاشر والثاني عشر بعد الميلاد) والتي كانت تُذَهَّب وتُزَيَّن بأدق الرسوم وأبدعها؛ ولا غَرْو فقد كان الفنانون الذين يزينون الصفحات المكتوبة أرفع الفنانين قدرًا بعد الخطاطين أنفسهم، وكان المُذَهِّب أعظم أولئك الفنانين شأنًا. وحسبنا دلالة على علو مكانته أن كثيرين من المصورين كانوا يضيفون إلى أسمائهم لفظ «مُذَهِّب»، وأن المؤرخين كانوا يُعْنَوْنَ بالنص على أن بعض المصورين كانوا مذَهِّبين أيضًا.
وقد أشرنا إلى مكانة المذَهِّب بين الفنانين الذين كانوا يتعاونون على جعل المخطوط الإيراني تحفة فنية بديعة. وأكبر الظن أن الخطاط كان يُتِمُّ عمله قبل كل شيء، ولم يكن يفوته أن يترك الفراغ الذي يُطلب منه في بعض الصفحات لتُرسم فيه الصور المطلوبة بعد ذلك. وقد وصلَنا بعض مخطوطات لم تَتِمَّ بها الرسوم في كل الفراغ المتروك، وكان المخطوط يُسلم بعد ذلك إلى فنان أخصائي في رسم الهوامش وتزيينها بالزخارف، ثم إلى آخر لتذهيب هوامشه وصفحاته الأولى وصفحاته الأخيرة وأوائل فصوله وعناوينه وغير ذلك من الزخارف المتفرقة. وفي الحق أن الرسوم النباتية والهندسية المذَهَّبة كانت تصل في المخطوطات الثمينة إلى أبعد حدود الإتقان، ولا سيما في القرنين التاسع والعاشر بعد الهجرة (نهاية القرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر بعد الميلاد) حين بلغت الغاية في الاتزان والدقة وتوافق الألوان.
وليس غريبًا أن يصيب الإيرانيون والمسلمون عامة أبعد حدود التوفيق في تحلية الصفحات بالرسوم وتذهيبها؛ فإن هذه الفنون الزخرفية تتفق مع ميولهم واستعدادهم، حتى أصبحت زخارف الصفحات المذهَّبة نماذج تُنقل عنها الرسوم في التحف المعدِنية والخزفية والجِصِّيَّة وفي المنسوجات والسَّجَّاد، وكم توصل مؤرخو الفن — بفضل ذلك — إلى معرفة قسط وافر من تطور الرسوم والزخارف والعصور التي تنسب إليها؛ لأن عددًا كبيرًا من المصاحف والمخطوطات المذهَّبة مكتوب في نهايته تاريخ إنتاجه، وربما كان فيه أيضًا اسم الخطاط والمُذَهِّب أو البلد الذي صُنع فيه.
ولم يَعُدْ تزيين الصفحات في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) مقصورًا على اﻟ«سرلوح» أي الصفحة أو الصفحات الأولى المغطاة بالزخارف المذهَّبة، وعلى العناوين، وعلى الجامات (المناطق) التي كان يُكتب فيها اسم صاحب المخطوط، وعلى النجوم الزخرفية المذهَّبة التي كانوا يُسمون الواحدة منها «شمسة»، بل صارت الهوامش تُزَيَّن برسوم الزهور والنبات والحيوان، وبالرسوم الآدمية في بعض الأحيان.
أما زخارف الصفحات المذهبة فكانت في البداية خليطًا من العناصر الزخرفية الساسانية والبيزنطية والقبطية، فضلًا عن الرسوم المنقولة من كتب اليهود وكتب المسيحيين من أتباع الكنيسة الشرقية.
على أن أقدم المخطوطات المذهَّبة التي يمكن نسبتها إلى إيران نفسها ترجع إلى عصر السلاجقة، وتمتاز باستعمال الورق في معظمها وبأنها مكتوبة بالخط النسخي، وبأنها مستطيلة الشكل، وأن ارتفاعها أكثر من عرضها. ومن الرسوم التي يكثر استعمالها في هذه المخطوطات النجوم المسدسة أو المثمنة، والمراوح النخيلية (البالمت) والفروع النباتية المتصلة (الأرابسك). وقد بدأت في عصر السلاجقة طريقة جديدة في الزخرفة والتذهيب وظلت قائمة في العصور التالية، وقوام هذه الطريقة أن تُحاط سطور الكتابة بخطوط دقيقة، وأن تُملأ الصفحة خارج هذه الخطوط بمختلف الرسوم النباتية و«الأرابسك».
أما عصر المغول فلعل أبدع مخطوطاته المذهَّبة جزء من مصحف محفوظ في دار الكتب المصرية. وقد كُتب سنة ٧١٣ﻫ/١٣١٣م بمدينة همذان، للسلطان الجايتو خدا بنده، وبيد خطاط اسمه عبد الله بن محمد بن محمود الهمذاني، وهو من نوع المصاحف الكبيرة الحجم (٥٠ × ٤٠ سنتيمترًا) التي كانت تُقدَّم للأضرحة والمساجد، وكان كل جزء منها يُكْتَب في مجلد على حِدَةٍ. ويمتاز هذا الجزء — كسائر المخطوطات المغولية المذهَّبة — بالإبداع في الرسوم والألوان؛ فهو غني جدًّا بالرسوم الهندسية المختلفة من نجوم على أَضْربٍ شتى ومن مثمَّنات ودوائر متشابكة، وغير ذلك من الأشكال المملوءة برسوم النبات والأرابسك. ومما يزيد إعجابنا بهذه الزخارف الهندسية أن الإيرانيين عامة لم يكن لهم فيها مران خاص، بل كانوا يُقْبِلون على سائر العناصر الزخرفية أكثر من العنصر الهندسي، ومع ذلك فقد أتقنوها في هذا المصحف إتقانًا عظيمًا.
واستخدم المذهِّبون في العصر المغولي اللون الذهبي والأزرق والأحمر والأخضر والبرتقالي، وكانوا يتخذون الأزرق الغامق مركزًا تحيط به سائر الألوان.
وقد زاد الإقبال على رسوم النبات والزهور والطبيعة زيادة عظيمة في العصر التيموري؛ فزُينت بها هوامش الصفحات، كما استُعملت في زخرفة التحف الفنية المختلفة. والواقع أن العلاقة وثيقة جدًّا بين رسوم الصفحات المذهبة في العصر التيموري والرسوم المستعملة في سائر ميادين الفن من خزف وسَجَّاد وجلود كتب.
ولم يدخل على أسلوب التذهيب تغيير كبير منذ العصر الصفوي، اللهم إلا أن الألوان المستعملة قلَّ غِنَاها وصفاؤها، بينما أصبحت الدقة في رسم الزخارف نادرة. وكان هذا كله طبيعيًّا بعد أن فقد الفنانون قسطًا كبيرًا من رعاية الأمراء، وبعد أن اتصلت إيران بالعالم الغربي ولم يَعُدْ للمخطوطات ما كان لها قبل ذلك من عظم الشأن.