التصوير
(١) كراهيته في الإسلام
لا بد لنا قبل الكلام عن التصوير الإيراني من أن نعرض لحكم الإسلام في الصور والتماثيل. ولنبدأ بأن نقرر أننا لا نعرف شيئًا يمكننا أن نستنبط منه أن عرب الجاهلية كانوا يكرهون الصور، أو كان لهم فيها حكم خاص. ثم نذكر بعد ذلك أن القرآن الكريم لا يحرِّم تصوير المخلوقات الحية أو عمل التماثيل لها، والآية التي كان يُفهم منها خطأً أن التصوير محرَّم في الإسلام، هي قوله تعالى في سورة المائدة (آية: ٩٢): يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، ولكن الواقع أن المقصود بكلمة «أنصاب» في رأي المفسرين هي الأحجار الكبيرة أو الأصنام التي كان العرب يعبدونها، ويقدمون لها القربان، فليس في هذه الآية إذن أي تحريم للتصوير أو عمل التماثيل.
على أننا لا نميل إلى أن نصدق أن التصوير كان غير مكروه في عهد النبي وعصر الخلفاء الراشدين، بل أكبر الظن أن النبي والخلفاء الراشدين من بعده، ثم المتمسكين بالدين من بني أمية نَهَوْا عنه؛ ليحموا المسلمين من الأصنام والتماثيل والصور التي قد تقود البسطاء إلى نسيان الخالق، أو اتخاذها وساطة له أو عبادتها لِذاتها، فضلًا عن أن رجال الدين كانوا يعتبرون عمل الصور أو التماثيل محاولة فاشلة في تقليد الخالق عز وجل.
ومهما يكن من الأمر فإن الأحاديث المنسوبة إلى النبي في تحريم التصوير كان لها أثر لا سبيل إلى نكرانه، سواء أكانت صحيحة أم غير صحيحة.
ولكن تحريم التصوير في الإسلام لم يقضِ على هذا الفن قضاءً تامًّا. ونظرة إلى تاريخ الفنون الإسلامية تقنعنا بأن القوم كانوا في كثير من الأحيان لا يكترثون بهذا التحريم، وأن هذا التهاون كان يحدث في شتى أقاليم الإمبراطورية الإسلامية؛ فازدهر فن التصوير في بعضها، ولا سيما في الأقاليم التي كانت لها تقاليد فنية عظيمة في النحت والتصوير، كإيران، وفي البلاد التي تأثرت بإيران في هذا الصدد وخضعت في بعض حقبات التاريخ لنفوذها الثقافي، كالهند وتركية، ومصر في عصر الدولة الفاطمية.
وقد قيل إن العرب وَرِثوا عن اليهود كراهية التصوير، وإن أقل الشعوب الإسلامية اكتراثًا بتحريم التصوير في الإسلام إنما هي الشعوب غير السامية الأصل؛ فالأيوبيون مثلًا كانوا من أبطال المذهب السني، ولم يمنعهم ذلك من الإقبال على اقتناء التحف المعدِنية النفيسة ذات الموضوعات الزخرفية الآدمية، ولعل السر في ذلك أنهم لم يكونوا عربًا ساميين بل كانوا كردًا.
ولا ريب في أن الإسلام، كشريعة موسى، لم يتخذ الفن عنصرًا من عناصر الحياة الدينية ولم يشمله برعايته؛ فإن تحريم الصور الآدمية إن لم يكن لوحظ واتُّبِعَ في كل العصور والأقطار الإسلامية، فقد حال دون استخدام التصوير في المصاحف وفي العمائر الدينية كالمساجد والأضرحة — اللهم إلا في حالات نادرة جدًّا — فأصبحت المساجد والكتب خالية من صور يُستعان بها على شرح العقيدة وتقريبها إلى المؤمنين، أو على توضيح تاريخ العقائد الدينية وسيرة أبطال الملة، كما في المسيحية والبوذية والمانوية.
•••
على أننا نعرف أمثلة كثيرة في البلاد السنية والشيعية على السواء، يمكننا أن نرى فيها عدم الاكتراث بتحريم التصوير، ولكن الذي يعنينا في هذا المقام هو أن إيران كانت في طليعة الأمم الإسلامية التي لم يؤثر فيها هذا التحريم تأثيرًا يستحق الذكر.
أجل، إن رجال الدين في إيران كانوا يكرهون التصوير والمصورين، وربما كان تحريم التصوير في الإسلام من الأسباب التي نستطيع أن ننسب إليها قسطًا من جمود هذا الفن في إيران، ووقوفه عن التطور في حرية واستقلال، ولكننا نستطيع أن نقول — على وجه عام — إن تأثير التحريم لم يكن ظاهرًا في إيران ظهوره في سائر الأقاليم الإسلامية.
وصفوة القول أن الإيرانيين لم يقبلوا عن طِيب خاطر تعاليم رجال الدين في النهي عن تصوير الكائنات الحية، وأنهم كانوا أكثر الشعوب الإسلامية مخالفة لتلك التعاليم.
- أولًا: أنهم شعب ميال للفن بفطرته وله إحساس بالجمال أعمق وأقوى من أن يستطيع إطفاء جذوته أي عامل خارجي.
- ثانيًا: أن أكثر المسلمين من ذوي المحيط العقلي الواسع والأفكار الحرة والتسامح الديني يذهبون إلى أن تحريم التصوير في فجر الإسلام، كان يُقْصَد به محاربة عبادة الأوثان التي كان المسلمون لا يزالون حديثي العهد بها.
- ثالثًا: أن رجال الدين كانوا يفسرون تحريم التصوير بأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى؛ ومن ثم نشأ قول بعضهم إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورة التي ليس لها ظل. والظاهر أن هذه الرهبة من تقليد الخالق لا يفهمها الإيرانيون تمامًا؛ فهم يبجِّلون الله عز وجل ويعظمونه في كل شيء، ولا يخشَوْنَ تقليده؛ ولا غَرْوَ فإن الزرادشتية — وهي دينهم الوطني قبل الإسلام — كانت تُشعرهم باشتراكهم مع «أهورا مزدا» إله النور والخير في محاربة «أَهْرِمَنْ» إله الظلمة والشر.٦
- رابعًا: أن الإيرانيين قوم من الجنس الآري، ولم يكونوا كالساميين يحسون شعورًا نفسانيًّا يبعدهم عن التصوير، أو ينسبون إلى الصور قوًى سحرية وشرورًا جَمَّة.٧
- خامسًا: أنهم ورثوا أساليب فنية في النقش والتصوير عن أسلافهم من الكيانيين والساسانيين، وأن ماني — مؤسس المذهب الذي يُنسب إليه — ظهر بينهم، وكان مصورًا ماهرًا اتخذ التصوير أداة لنشر تعاليمه، واستخدمه في توضيح كتبه، وكان الإيرانيون يُعجبون بمهارته في التصوير، على الرغم من أن أكثرهم كان ينكر تعاليمه ومعتقداته.
- سادسًا: أنهم كانوا مغرمين بالشعر إلى حد كبير، ولا سيما ما كان يمت بصلة كبيرة إلى تاريخهم المجيد وشعورهم الوطني وطبيعة بلادهم. وكان توضيح المخطوطات الشعرية بالصور يحقق الغرض منها ويلائم مزاجهم الفني.٨
بقي علينا أن نعرف السبب الذي يُمْكِنُنَا أن ننسب إليه جمود التصوير الإيراني وبُعده عن الطبيعة، بعد أن رأينا أنهما لا يرجعان فقط إلى تعاليم الدين الإسلامي في تحريم التصوير، تلك التعاليم التي لم يكن لها في إيران تأثير قوي.
ولكن علينا ألا ننسى أن المصورين الإيرانيين لم يتخذوا التصوير وسيلة لشرح عقائد الدين الإسلامي، ولم يظنوا كالمصورين المسيحيين أنهم دعامة من دعائم الدين، وأن آثارهم الفنية تشرح العقائد وتبعث في قلوب المؤمنين روح التدين والتقوى والتضحية. ولا عجب فقد كان المصورون المسلمون منبوذين من رجال الدين، بينما كانت الكنيسة المسيحية تُظِل الفنانين بحمايتها ورعايتها حتى غلب على لوحاتهم الفنية طابع ديني لم يستطيعوا التحرر منه إلا منذ القرن الثامن عشر الميلادي.
على أننا لا نستطيع أن ننكر أن التصوير الإيراني كان محدود المجال، وأنه لم ينتشر انتشار التصوير في المدارس الغربية، ولم يكن للجمهور نصيب وافر فيه، بل كان يقوم على أكتاف الملوك والأمراء.
وفضلًا عن ذلك فإننا نلاحظ أن المسيحية كانت منذ البداية تفضل التصوير على النحت، فكأنها كانت لا تثق كل الثقة بفن النحت، الذي خلدت آثاره آلهة العصور الوثنية في تماثيل غاية في الجمال والإبداع، واعتبرت الكنيسة التصوير فنًّا أكثر قدسية؛ فَفَقَدَ النحت قسطًا كبيرًا من جلال شأنه.
(٢) نشأة التصوير الإسلامي في إيران
ولعل الأفضل أن ننسب قيام فن التصوير في المخطوطات عند الإيرانيين إلى تلك المصادر مجتمعة، مضافًا إليها بعض الأساليب التي نقلتها إيران عن الصين والهند. أما الصور الحائطية فقد أصبح استعمالها في العصر الإسلامي يكاد يكون مقصورًا على جدران الحمامات والقاعات الخاصة.
ومهما يكن من الأمر فقد ازدهرت صناعة التصوير في إيران، وكان ميدانها في البداية توضيح كتب التاريخ ودواوين الشعر والقصص بالصور الصغيرة ذات الألوان الزاهية الجميلة. وعلى الرغم من أن هذه الصور لا تختلف الواحدة منها عن الأخرى اختلافًا ملحوظًا؛ فإن الأخصائيين في الفنون الإسلامية وذوي الثقافة الفنية يستطيعون تمييز بعضها من بعض ويقسمونها إلى طرز أو مدارس لكل منها مميزاتها. وقد امتازت العصور الثلاثة الكبرى في تاريخ إيران بثلاث مدارس كبرى في التصوير؛ فقامت المدرسة المغولية أو التترية في القرنين السابع والثامن بعد الهجرة (الثالث عشر والرابع عشر بعد الميلاد)، وقامت المدارس التيمورية — ولا سيما مدرسة هراة — في القرنين الثامن والتاسع (الرابع عشر والخامس عشر بعد الميلاد)، وقامت المدرسة الصَّفَوِيَّة في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد). وأما بعد ذلك فقد كان الفنانون يقلدون الصور القديمة تقليدًا ينم في معظم الأحيان عن بعض العجز والتأخر. كما تأثر كثيرون منهم ببعض الأساليب الفنية الغربية في التصوير، ولا سيما بعد أن أرسل الشاه عباس الثاني ١٥٠٢–١٠٧٧ﻫ/١٦٤٢–١٦٦٧م بعض البعثات العلمية لتلقي الفن في إيطاليا وبعض البلدان الأوروبية الأخرى.
(٣) مدرسة العراق أو المدرسة السلجوقية
وقد عرفنا في التصوير الإسلامي مدرسة أخرى تُنسب إلى العراق أو بغداد في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، ولكنها كانت عربية أكثر منها إيرانية؛ فالأشخاص فيها عليهم مسحة سامِيَّة ظاهرة، والأسلوب الفني مأخوذ — إلى حد كبير — عن الصور في مخطوطات المسيحيين من أتباع الكنيسة الشرقية.
ولا شك في أن إيران كانت فيها مدرسة فنية معاصرة لمدرسة بغداد، وتشبهها أيضًا في رسم الأشخاص بالألوان الزاهية والملابس المزركشة والسِّحْنة الهادئة رسمًا تبدو فيه البساطة مع قوة التعبير. وكانت الصور في هذا العصر تُرسم على الصفحة نفسها في معظم الأحيان، بينما أصبح الشائع في العصور التالية أن ترسم الصورة على حِدَةٍ، ثم تُلصق في الفراغ المُعَدِّ لها بين صفحات الكتاب.
وربما كان الأفضل أن نطلق اسم «المدرسة السلجوقية» على هذه الصور التي ننسبها إلى العراق أو بغداد؛ فالواقع أن مركز إنتاجها لم يكن في بغداد أو العراق فحسب، ولكنه كان — على كل حال — في أملاك السلاجقة المترامية الأطراف، وكان المصورون — سواء أكانوا عربًا أم إيرانيين — يشتغلون للطبقة الحاكمة والأمراء السلاجقة.
ولعل أكبر دليل على العلاقة الوثيقة بين هذه الصور السلجوقية وإيران أن رسومها تشبه الرسوم الموجودة على الخزف الإيراني المعروف باسم «مينائي» والذي كانت مدينة الري أعظم مراكز صناعته.
(٤) المدرسة الإيرانية المغولية
أما أُولى مدارس التصوير الإيرانية الحقة فهي المدرسة الإيرانية المغولية، وقد كانت أعظم المراكز الفنية التي ازدهرت فيها هذه المدرسة تبريز وسلطانية وبغداد؛ فتبريز — في إقليم آذربيجان جنوب غربي بحر قزوين — كانت مقر الأمراء المغول في الصيف، بينما كانت بغداد مقرهم في الشتاء بعد أن استولَوْا عليها سنة ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م، أما سلطانية فمدينة في العراق العجمي، سَكَنها كثيرون من أمراء المغول. وكانت هناك مراكز فنية أخرى كبُخارَى وسمرقند، ولكن مجد هاتين المدينتين في التصوير إنما يرجع إلى عصر تيمور وخلفائه.
وطبيعي أن نذكر حين ندرس أية ظاهرة من الظواهر الفنية في عصر المغول أن العلاقة كانت وثيقة في عصرهم بين إيران والشرق الأقصى؛ فإن الأسرتين اللتين كانتا تحكمان في الصين وفي إيران طوال القرنين السابع والثامن بعد الهجرة (الثالث عشر والرابع عشر بعد الميلاد)، هما أسرتان مغوليتان تجمعهما روابط الجنس والقرابة. وفضلًا عن ذلك فإن المغول عندما استوطنوا إيران استصحبوا معهم فنانين وصناعًا وتراجمة من الصينيين؛ ولذا فإننا نشاهد أن أساليب الشرق الأقصى واضحة في الفنون الإيرانية منذ عصر المغول، ونرى على الخصوص أن الإيرانيين حين عرفوا منتجات الصين في الرسم والتصوير، استحسنوا الانصراف عن أساليب المدرسة السلجوقية، وساروا في طريق خاص، تطور تطورًا طبيعيًّا حتى وصل إلى شكله النهائي في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) وبلغ أوج عظمته على يد الأسرة الصَّفَوِيَّة في القرن العاشر (السادس عشر الميلادي).
امتازت المدرسة المغولية إذن بظهور الأساليب الفنية الصينية التي تتجلى في سِحْنة الأشخاص، وفي صدق تمثيل الطبيعة، ورسم النبات بدقة تبعد عن الاصطلاحات التي عرفناها في المدرسة العراقية السلجوقية، وفي مراعاة النِّسَب ودقة رسم الأعضاء في صور الحيوان. وفضلًا عن ذلك فقد استعار الفنانون الإيرانيون من فنون الاشرق الأقصى بعض الموضوعات الزخرفية، ولا سيما رسوم السحب (تشي) ورسوم بعض الحيوانات الخرافية التي امتاز الفن الصيني بها.
وكان عصر المغول قصيرًا ومملوءًا بالحروب، فلم تكن صوره كثيرة أو لم يصل إلينا منها إلا شيء يسير، ولم تكن من صفاتها الرقة أو الأناقة التي نراها في صور العصر التيموري أو العصر الصفوي، وإنما كان أكثرها مناظر قتال تناسب الفاتحين، وتوضح كتب التاريخ والقصص الحربي، أو مناظر تمثل أمراء المغول بين أفراد أسراتهم وحاشيتهم.
ومما يلفت النظر في صور المدرسة المغولية تنوع غطاء الرأس؛ فللمحاربين أكثر من نوع واحد من الخوذات، وللسيدات قَلَنْسُوَات مختلفة، بعضها يزينه ريش طويل، وللرجال ضروب شتى من القلنسوات والعمائم.
•••
ومن أشهر المخطوطات التي تُنسب إلى هذه المدرسة نسخة من «جامع التواريخ» للوزير رشيد الدين، مؤرخة بين عامي ٧٠٧ و٧١٤ بعد الهجرة (١٣٠٧–١٣١٤م)، ولكنها مفرَّقة الآن، فجزء منها محفوظ في مكتبة جامعة أدنبره والآخر في الجمعية الآسيوية الملكية بلندن، وفي صورها موضوعات كثيرة من السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي والإنجيل وتاريخ الهند والديانة البوذية، ويمكننا أن نرى في بعضها بقاء الأساليب الفنية الموروثة من المدرسة السلجوقية، ولا سيما في سِحَن الأشخاص ورسم الخيول، كما نرى في صور أخرى بدء تأثير الشرق الأقصى في رسم الزهور والأشجار.
ولما سقطت الأسرة الإيلخانية سنة ٧٣٦ﻫ/١٣٣٦م، استولى بنو جلائر على جزء كبير من أملاكها ولا سيما العراق وغربي إيران؛ فقامت في عاصمتهم، بغداد، حركةٌ فنية مباركة، ولم تلبث أن امتدت إلى تبريز حين خضعت لهم منذ سنة ٧٦٠ﻫ/١٣٥٩م. وكان السلطان غياث الدين أحمد بهادر الجلائري (٧٨٤–٨١٣ﻫ؛ أي ١٣٨٢–١٤١٠م) من أكبر هواة المخطوطات الثمينة؛ فشمل برعايته فنون الكتاب.
وفي المكتبة الأهلية بباريس نسخة إيرانية من كتاب عجائب المخلوقات للقزويني، كُتبت لمكتبة هذا السلطان سنة ٧٩٠ﻫ/١٣٨٨م بخط «نستعليق»، الذي ظهر في مدينة تبريز قبل تاريخ هذا المخطوط بوقت قصير، فلعل هذه النسخة من «عجائب المخلوقات» قد صُنعت في تلك المدينة.
وصفوة القول أن المدرسة التي ازدهرت في العراق وغربي إيران على يد بني جلائر، هي حلقة الاتصال بين المدرسة الإيرانية المغولية والمدارس التيمورية.
(٥) مدارس العصر التيموري
أما المدارس التيمورية ومدرسة هراة، فقد ازدهرت في القرنين الثامن والتاسع بعد الهجرة (نهاية القرن الرابع عشر وفي القرن الخامس عشر بعد الميلاد)، وكان من أعظم مراكز التصوير شأنًا في عصر تيمور مدينة سمرقند التي اتخذها هذا العاهل مقرًّا لحُكمه منذ سنة ٧٧١ﻫ/١٣٧٠م، وجمع فيها أشهر الفنانين وأرباب الصناعات الدقيقة، ولكن تبريز وبغداد وشيراز ظلت أيضًا من مراكز هذا الفن، وازدهرت فيها مدارس فنية عظيمة.
وفي عهد شاه رخ أصبحت هراة مَحَطَّ رجال الفنانين وميدان نشاطهم. وقد كان تيمور محبًّا للفن والأدب على الرغم من شذوذه وفظاظته، بينما كان ابنه شاه رخ من أشد ملوك الفرس عطفًا على الفن ورجاله؛ ولذا اجتاز الفن في عصره مراحل الاقتباس والاختيار من الفنون الأجنبية والتأثر بها، ووصل إلى عنفوان شبابه، وأصبح ما نقله عن غيره من الفنون جزءًا لا يتجزأ منه.
والصور التي رُسمت في نهاية القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) تحمل أهم الزخارف والأساليب الفنية التي صارت في القرن التالي من أخص مميزات التصوير الإيراني في مدرسة هراة. وأهم هذه الأساليب الفنية مناظر الزهور والحدائق وآثار فصل الربيع، ثم الألوان الساطعة التي لا يكسر من حِدَّتِها أي تدرج، والمناظر الطبيعية ذات الجبال والتلال المرسومة على شكل الإسفنج. وفضلًا عن ذلك فقد استطاع الفنانون الوصول إلى إيجاد نِسَب معقولة بين الأشخاص في الصورة وما يحيط بهم من عمائر ومناظر.
وجدير بنا أن نشير هنا إلى أن الفرق بين منتجات المدرستين التيموريتين الرئيسيتين، مدرسة هراة ومدرسة شيراز، لا يزال غير واضح، ولكننا نستطيع أن نقول — على وجه عام — إن مدرسة شيراز أكثر اتصالًا بالعصر السابق من مدرسة هراة، وإن التطور في هذه المدرسة الأخيرة أعظم وأَبْيَن.
ومن أشهر المخطوطات التي تُنسب إلى مدرسة شيراز شاهنامه في إستانبول مؤرخة من سنة ٧٧٢ﻫ/١٣٧٠م، وأخرى في دار الكتب المصرية كُتبت سنة ٧٦٩ﻫ/١٣٩٣م. ونرى في صور هذين المخطوطين بعض التنويع في رسم المناظر الطبيعية، ولكن الألوان فاتحة وبرَّاقة وغير منسجمة.
ولكن الحق أن التمييز بين المدارس المختلفة في العصر التيموري أمر عسير؛ بسبب تنقل الفنانين بين المراكز الفنية المختلفة، ولأننا لا نعرف المركز الذي يُنسب إليه عدد كافٍ من المخطوطات ليمكننا بالموازنة والقياس أن نحدد المميزات الفنية لكل مدرسة.
ومهما يكن من الأمر فإن العصر الذهبي للتصوير الإيراني إنما يبدأ في عهد خلفاء تيمور: ابنه شاه رخ، وحَفَدَته بايسنقر وإبراهيم سلطان وإسكندر بن عمر شيخ؛ إذ أصبحت للصور الإيرانية في عصرهم ذاتية قوية تمثل روح الفن الإيراني بعد أن هضم كل ما استعاره من أساليب الفنون في الشرق الأقصى.
ومما ساعد في كثرة الانتاج وإتقان الصور في عصر خلفاء تيمور أن إيران كانت مقسمة إلى مقاطعات مختلفة، يحكمها أمراء لهم نصيب وافر من الاستقلال ولهم حاشية وبلاط، كما للعاهل الأكبر الذي كان يشرف على إدارة الإمبراطورية كلها؛ ولذا فقد نشأت مراكز فنية عديدة كانت تتنافس في سبيل النهضة بالفنون ولا سيما التصوير.
وقد أسس شاه رخ في مدينة هراة مكتبة ومجمعًا لفنون الكتاب، ثم جاء ابنه بايسنقر فأنشأ مكتبة أخرى ومجمعًا للفنون، استقدم إليه أعلام الخطاطين والمذهبين والمصورين والمجلدين؛ فانتقلت صناعتا التصوير والتذهيب من تبريز وسمرقند وشيراز إلى هراة.
أما العلاقات بين إيران والشرق الأقصى في عصر تيمور وخلفائه فإنها لم تضعف؛ لأن سقوط أسرة المغول في إيران سنة ٧٣٦ﻫ/١٣٣٦م تبعه سقوط أسرة يوان المغولية في الصين، وقيام أسرة منج التي حكمت من سنة ٧٧٠ﻫ/١٣٦٨ إلى سنة ١٠٥٤ﻫ/١٦٤٤م، فكان طبيعيًّا أن ينشأ الود المتبادل بين الأسرتين الجديدتين بعد نجاحهما في تقويض نفوذ المغول. وتُبودلت البعثات بين الصين وإيران في عصر شاه رخ وبايسنقر. وأكبر الظن أن هذه البعثات كانت تعود من الصين بكثير من المنتجات الفنية، كما كانت تحمل إليها بدائع التحف المصنوعة في إيران. والواقع أن الآثار الفنية من مدرسة هراة تشهد بتأثير الفنون الصينية، ولا سيما في جلود الكتب التي كانت الحيوانات الخرافية الصينية من أهم عناصر الزخرفة فيها.
وعلى كل حال فإن أكثر الصور الإيرانية في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر) تُنسب إلى مدينة هراة التي كانت أهم ميدان لفن التصوير في ذلك العصر.
وتمتاز مدرسة هراة بطموح الفنانين فيها إلى التطور والتجديد، وبظهور بعض المصورين من ذوي الذاتية الفنية والعبقرية الخاصة، وبالميل إلى دقة تصوير التفاصيل في الرسم، وبِغِنَى الألوان وانسجامها واتزانها وكثرة استعمال اللون الذهبي، وبتغطية الأرضية بالحشائش والزهور والشجيرات.
وقد بدأت مدرسة هراة منذ منتصف القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) في أن تتميز عن سائر المدارس التيمورية وتفقد صلتها بها؛ فأصبحت لها ذاتية قوية في تأليف الصور ورسمها وتلوينها. وطبيعي أن بعض الفنانين لم يستطع أن ينفصل تمامًا عن التقاليد الفنية الموروثة، بينما سار آخرون في ميدان التطور شوطًا بعيدًا.
وفي المكتبة الأهلية بباريس مخطوط من ديوان السلطان حسين ميرزا مؤرخ من سنة ٨٩٠ﻫ/١٤٨٥م. ويدل ما في صوره من المناظر الطبيعية، ورسوم العمائر، والسِّحنات المغولية، وانسجام الألوان على سمو الأساليب الفنية التي وُفِّقَ إليها الفنانون من مدرسة هراة.
وصفوة القول أن التصوير الإيراني في عصر تيمور وخلفائه خطا الخطوة الأخيرة في سبيل الكمال الذي بلغه على يد بهزاد وتلاميذه الذين حملوا لواء هذا الفن في صدر الدولة الصَّفَوِيَّة، وذلك على الرغم من أن العاهلية التيمورية دب فيها الانحلال بعد وفاة شاه رخ وبدء النزاع بين خلفائه، حتى استولت قبائل التركمان على غربي إيران، وقامت دولة الأوزبك في بلاد ما وراء النهر، بل استطاعت أن تقضيَ على نفوذ خلفاء تيمور في شرقي إيران، ولكن هراة ظلت عاصمة التيموريين الذين تقلص نفوذهم بغير أن يؤثرَ ذلك في ازدهار صناعة التصوير؛ فكان حكم السلطان حسين ميرزا بيقرا بين عامي ٨٧٣ و٩١١ بعد الهجرة/١٤٦٨–١٥٠٦م من العصور الذهبية لتلك المدينة في الأدب والفن؛ فعمت شهرة بلاطه أنحاء القارَّة الآسيوية، واتصل به كثير من الشعراء والأدباء والموسيقيين، وكان هو ووزيره مير علي شير من أكبر رعاة التصوير في التاريخ الإيراني، حتى ظهر في خدمتهم بهزاد صاحب الآثار الفنية البديعة في التصوير الإسلامي.
(٦) بهزاد
ولد بهزاد في مدينة هراة سنة ٨٥٤ﻫ/١٤٥٠م، وذاع صيته فيها، ونعم برعاية السلطان حسين بيقرا ووزيره مير علي شير، وظل يعمل في هراة حتى سقطت في يد الشاه إسماعيل الصفوي سنة ٩١٦ﻫ/١٥١٠م؛ فانتقل معه إلى تبريز؛ حيث زاد نَجْمه تألقًا، ونال من الشرف والفخار في خدمة الشاه إسماعيل، ثم ابنه طهماسب ما لم ينلْه مصور آخَر في التاريخ الإسلامي.
وذاع صِيت بهزاد في إيران وفي غيرها من البلاد التي كانت لها بالإيرانيين صلات فنية، وفاق في الشهرة من سبقه من المصورين ومن عاصره أو خلفه منهم؛ فأثنى عليه المؤرخون الثناء الْجَمَّ، وقرنوه بماني الذي يُضرب به المثل عند الإيرانيين في إتقان التصوير، وقالوا: إن مهارته محت ذكرى سائر المصورين، وإن شعره من فرشاته قد أكسبت الجماد حياة … إلخ، كما أُعْجِبَ به الملوك والأمراء فتسابقوا إلى جمع آثاره الفنية وكتب عنه «بابر» القيصر الهندي المغولي أنه أعظم المصورين قاطبةً.
على أن هذه الشهرة الواسعة التي أصابها بهزاد جعلت من الصعب أن نعرف على وجه التحقيق كل آثاره الفنية؛ لأن المصورين أقبلوا على تقليده بل كانوا يكتبون اسمه على الصور التي يرسمونها إعلاءً لشأنها، كما أن تجار العاديات وبعض الهواة كانوا ينسبون إليه صورًا ليست من عمله رغبة منهم في الكسب الوافر. والحق أن هذا جعل دراسة أسلوبه الفني أمرًا عسيرًا؛ فإننا لا نستطيع أن نطمئن إلى حكمٍ نُصدره بعد بحث الصور القليلة التي يَثبت قطعيًّا نِسْبتها إليه.
وكان بهزاد من أوائل المصورين المسلمين الذين عُنوا بوضع إمضائهم على آثارهم الفنية، وقد استطاع بفضل عُلو مكانته أن ينتصرَ على الخطاطين انتصارًا مبينًا؛ فقد ذكرنا أنهم كانوا أعلى منزلة من المصورين، وكانوا يتحكمون في حجم الصور، وفي انتقاء الموضوعات، وفي تحديد الفراغ الذي يتركونه في صفحات المخطوطات ليرسم فيه المصورون، ولكن بهزاد قضى على ذلك كله واختار الموضوعات التي أرادها، ورسمها بالحجم الذي كان يبتغيه في صفحة أو صفحتين متجاورتين.
وامتاز بهزاد ببراعته العظيمة في مزج الألوان وتفهم أسرارها، وفي التعبير في صوره عن الحالات النفسية المختلفة، وفي رسم العمائر والمناظر الطبيعية، وأنك لتحس أمام آثاره الفنية أن بين يديك صورًا أرستقراطية، بهدوئها، وحسن ذوقها، وإبداع التركيب فيها، ودقة الزخرفة وانسجامها؛ مما يشهد بأن بهزاد كان المصور الكامل الذي انتهى على يديه تطور التصوير الإيراني في عهد المدرستين الإيرانية المغولية ثم التيمورية.
وقد عاش بهزاد طويلًا، وتنسب إليه صور عديدة من القرنين التاسع والعاشر بعد الهجرة (الخامس عشر والسادس عشر بعد الميلاد) وكثير من هذه الصور تمثل دراويش من العراق وإيران. ومما كتبه أحد المؤلفين الهنود عن بهزاد أنه لم يحرز هذه الشهرة الواسعة؛ لأنه سار بأساليب التصوير الإيراني إلى الكمال الطبيعي الذي كان مقدرًا له أن يصل إليه في تطوره فحسب، بل لأنه سار به أبعد من ذلك؛ فأدخل فيه عنصرًا من الحب الإلهي؛ لتأثره بمذهب الصوفية الذي بلغ أَوْج عظمته في إيران قبيل أن يولد بهزاد وحين كان صبيًّا.
وقد كتب هذا المخطوط «سلطان علي الكاتب» أعظم الخطاطين في عصره، كتبه سنة ٨٩٣ﻫ/١٤٨٨م للسلطان حسين ميرزا الذي نشأ بهزاد في بلاطه بمدينة هراة؛ فلا عجب أنْ تولى بهزاد بنفسه تحلية هذا المخطوط بصور تتجلى فيها براعته في مزج الألوان، وتوفيقه في توزيع الأشخاص ودقته في رسم الزخارف النباتية والهندسية الدقيقة. وقد كُتب على ثلاث صور منها بخط دقيق وفي مكان يصعب الاهتداء إليه «عمل العبد بهزاد». أما الإمضاء الرابع ففي صورة تمثل فقهاء يتجادلون في مسجد، وفيها عِقْد جميل تجري في إطاره عبارات إيرانية في ١٣ مِنْطقة، وتنتهي في المنطقة الأخيرة بالنص الآتي: «عمل العبد بهزاد سنة أربع وتسعين وثمانمِائة»؛ مما يدل على أن رسم الصورة كان بعد إتمام المخطوط بسنة كاملة. وليس هذا بمستغرب في التصوير الإيراني؛ فقد كان الخطاطون يُتِمُّونَ عملهم ويتركون الصفحات التي يُراد أن يزينَها المصورون بالرسم. وحدث كثيرًا أن المخطوطات لم تُزَيَّنْ بالصور إلا بعد إتمام كتابتها بزمن غير قصير.
وفي المتحف البريطاني مخطوط من منظومات الشاعر نظامي تاريخه سنة ٨٤٦ﻫ/١٤٤٢م، وفيه عدة صور صغيرة، على ثلاث منها: «صورة العبد بهزاد» مكتوبة في مكان غير ظاهر. ويكاد النقاد يُجمعون على صحة نسبة هذه الصور الثلاث إلى بهزاد، ولكن معرفة تاريخها أمر غير سهل. وقد لوحظ أن على إحدى الصور الأخرى في هذا المخطوط تاريخ سنة ٨٩٨ﻫ/١٤٩٣م مما يرجح أن تكون الصور المنسوبة إلى بهزاد من رسمه في نهاية القرن التاسع الهجري أيضًا.
(٧) قاسم علي
ومن الفنانين الذين نبغوا في هراة في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) قاسم علي الذي كان مؤرخو الفن يخلطون أحيانًا آثاره الفنية بآثار زميله بهزاد.
(٨) مدرسة بُخارَى
وقد ازدهرت في إقليم بُخارَى مدرسة فنية في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) يمكننا أن نعتبرها ذيلًا لمدرسة بهزاد.
والواقع أن الأحداث السياسية التي وقعت في خراسان وبلاد ما وراء النهر في بداية القرن العاشر هي التي أدت إلى قيام هذه المدرسة؛ فإن مدينة هراة سقطت في يد شيباني خان زعيم الأوزبك سنة ٩١٣ﻫ/١٥٠٧م، ولكن الشاه إسماعيل الصفوي انتزعها من يد الشيبانيين بعد ثلاث سنوات، وتقلص حكمهم إلى بلاد ما وراء النهر وصاروا يحكمون من سمرقند وبُخارَى. وهاجر إلى هاتين المدينتين كثير من المصورين في هراة، ولا سيما أن قيام دولة الصَّفَوِيَّة في هذا الإقليم كان معناه فرض المذهب الشيعي عليه بعد أن كان يتبع المذهب السني في عصر تيمور وخلفائه وفي عصر الشيبانيين. ثم استولى الأوزبك مرة ثانية على هراة ونهبوها سنة ٩٤١ﻫ/١٥٣٥م؛ فهاجر منها إلى بُخارَى جمهرة الباقين فيها من رجال الفن، وقامت على أكتاف هؤلاء الفنانين في مهجرهم مدرسة بُخارَى التي كان أشهر رجالها المصور محمود مذهب.
وقد كان محمود مذهب يعمل في بلاط السلطان حسين بيقرا، ويَظهر في آثاره الفنية الأولى أنه متأثر بأساليب بهزاد إلى حد كبير، ولا سيما في تأليف الصور وتغطية أرضيتها بالعمائر وفي رسم الأشخاص وتوزيعهم في الصورة، والظاهر أن هذا الفنان هاجر إلى بُخارَى وترك هراة بعد أن بارحَها بهزاد إلى تبريز بفترة قصيرة.
ومما نلاحظه في الصور المنسوبة إلى هذه المدرسة أن الرجال المرسومين فيها يلبسون غطاء رأس مكون من قَلَنْسُوَة مرتفعة ومضلَّعة وتحيط العِمامة بجزئها الأسفل. كما امتازت هذه المدرسة بالميل إلى الصور المستقلة التي تجمع في «مُرَقَّعات» خاصة، وبنقش هوامش المخطوطات بشتى الزخارف، باللونين الذهبيِّ والْفِضِّيِّ على أرضية مختلفة الألوان.
(٩) المدرسة الصَّفَوِيَّة الأولى
أما المدرسة الصَّفَوِيَّة فقد قامت على أكتاف بهزاد وتلاميذه وأعوانه، وكان أعظم من شملها برعايته هو الشاه طهماسب، الذي ظل يحكم إيران بين عامي ٩٣٠ و٩٨٤ بعد الهجرة (١٥٢٤–١٥٧٦م) بعد أن قضى أبوه الشاه إسماعيل حكمه في حروب وطد بها دعائم الحكم للأسرة الصَّفَوِيَّة، ولم تترك له الفراغ الكافي لتعهد المجمع الذي أنشأه لفنون الكتاب وعقد إدارته لبهزاد.
وارتفعت مكانة الفنانين في عصر الدولة الصَّفَوِيَّة، واتخذ السلطان من بين المصورين أصدقاءه ونُدَماءه؛ بل كان الشاه طهماسب نفسه يطمع في أن يصبح مصورًا ماهرًا، تعلم الفن عن المصور المشهور سلطان محمد، وكان كذلك صديقًا لبهزاد وتلميذه أقا ميرك.
ولا غرابة في أن يرتفع شأن رجال الفن في حكم الدولة الصَّفَوِيَّة؛ فإنها أول دولة إيرانية وطنية منذ العصر الساساني؛ فطبيعي أنها فكَّرت في أن تُعيد إلى إيران مجدها الفني القديم، وبدأت برجال الفن؛ فكان نصيبهم وافرًا من تشجيعها وإكرامها؛ ومن ثم فإن بين مخطوطات العصر الصفوي عددًا كبيرًا محلى بالصور التي يمثل أكثرها أُبَّهَة هذا العصر وحياة البلاط والأمراء فيه، وما يتبع ذلك من حدائق غَنَّاء وعمائر ضخمة جميلة وملابس فاخرة ومجالس طرَب وشراب. كل ذلك في رسم دقيق وألوان زاهية في هدوء ومتنوعة في انسجام، يتوج ذلك مهارة في تأليف الصورة، وتوزيع الأشخاص فيها، ومراعاة النِّسَب بين أجزائها المختلفة.
•••
ومهما يكن من الأمر — فإن بهزاد — حين عُيِّنَ سنة ٩٢٨ﻫ/١٥٢٢م مديرًا لمعهد فنون الكتاب في تبريز، كان قد بلغ ذروة مجده، ولم يتطور أسلوبه الفني بعد ذلك؛ فالفرق بسيط بين آثاره الفنية في هراة وآثاره الفنية في تبريز. أما تلاميذه الذين قدموا معه من هراة، فقد تأثروا بالبيئة الصَّفَوِيَّة الجديدة في تبريز، وأصبحوا دعامة المدرسة الصَّفَوِيَّة التي قامت فيها؛ وهي المدرسة الصَّفَوِيَّة الأولى.
وتمتاز الصور في هذه المدرسة بلباس الرأس المكون من عِمامة ترتفع باستدارة، وتبرز من أعلاها عصًا صغيرة حمراء، ولكن هذه الميزة ليست عامة؛ لأن وجود تلك العِمامة في صورة من الصور يدل على أنها ترجع إلى عصر الأسرة الصَّفَوِيَّة الأولى؛ أي قبل وفاة الشاه طهماسب، بينما وجود غيرها أو عدم وجودها لا يفيد مطلقًا أن الصورة لا يمكن نسبتها إلى هذا العصر. ويِلُوح لنا أن هذه العِمامة كانت في أول الأمر شِعار أفراد الأسرة الصَّفَوِيَّة وأتباعهم، وكان المصورون يرسمون العصا الصغيرة باللون الأحمر، ثم ضعف شأن هذه العِمامة وبدأ القوم يغيرون لون العصا، ثم أصبح وجودها نادرًا في الصور الصَّفَوِيَّة التي صُنعت بعد وفاة الشاه طهماسب سنة ٩٨٤ﻫ/١٥٧٦م.
وقد كان لقيام الدولة الصَّفَوِيَّة أثر كبير في توحيد الأساليب الفنية، بعد أن حققت هذه الدولة الوحدة السياسية في البلاد الإيرانية؛ فلا غَرْوَ أن أصبحت منتجات مصوري البلاط في تبريز وقزوين أنموذجًا ينسج على منواله النابهون من المصورين في سائر العاهلية الصَّفَوِيَّة.
ومن أعلام المصورين في هذه المدرسة شيخ زاده وخواجة عبد العزيز وأقا ميرك وسلطان محمد ومظفر علي ومير سيد علي ومحمدي وسيد مير نقاش وشاه محمد ودوست محمد.
ومن أعلام المصورين في العصر الصفوي سلطان محمد، وقد قيل: إنه كان أستاذًا للشاه طهماسب في فن التصوير، ولعله خلف بهزاد في إدارة مجمع الفنون الملكي، وأكبر الظن أن نشاط هذا المجمع لم يَعُدْ مقصورًا على فنون الكتاب، بل امتد أيضًا إلى صناعة الخزف ونسج الحرير والسَّجَّاد.
وفي مجموعة البارون موريس دي روتشيلد مخطوط من شاهنامه تاريخه سنة ٩٤٤ﻫ/١٥٣٧م، وفيه ٢٥٦ صورة كبيرة يظهر في رسمها أسلوب أعلام المصورين في المدرسة الصَّفَوِيَّة، ولا سيما سلطان محمد. وأكبر الظن أنها من عمل تلاميذهم، ولكنها عظيمة الشأن؛ لأنها كثيرة العدد، وتجمع المميزات الفنية في المدرسة الصَّفَوِيَّة مع شتى الموضوعات التي عرض لها المصورون من قصص الشاهنامه.
وممن أنجبتهم هذه المدرسة مصورون أُتِيَح لهم أن يرحلوا إلى تركيا، وعلى رأسهم كمال التبريزي الذي كان تلميذًا لميرزا علي، وشاه قولي الذي كانت له حظوة كبيرة في بلاط السلطان سليمان القانوني، وولي جان الذي عُرف بميله إلى تصوير الدراويش والشبان والشابات بالملابس التركية.
وتألق نجم فنان كبير في نهاية المدرسة الصَّفَوِيَّة الأولى، وهو المصور محمدي الذي درس التصوير على والده سلطان محمد، وامتاز بالتفوق في رسم المناظر الريفية، والعناية بتسجيل الحياة اليومية. وكانت حياته الفنية طويلة؛ فإننا نرى إمضاءه على صورة أمير صفوي مؤرخة في تبريز سنة ٩٣٤ﻫ/١٥٢٨م، ومحفوظة الآن في مرقَّعة (ألبوم) بهرام ميرزا في إستانبول، كما نرى صورة أخرى في المرقَّعة نفسها عليها إمضاؤه في هراة سنة ٩٢٢ﻫ/١٥٨٤م.
وثمة رسوم أخرى محفوظة أيضًا في متحف الفنون الجميلة بمدينة بوستن، وفي مكتبة المجمع بمدينة لينينجراد، وفي المتحف الأهلي بطهران، ويمكن نسبتها إلى هذا المصور.
ولا يفوتنا أن نذكر أن معظم رسوم محمدي لم تكن ملونة كلها، بل كان فيها قليل من اللون الأحمر أو الأخضر في الصخور والحيوانات.
(١٠) المدرسة الصَّفَوِيَّة الثانية
وكانت هناك مدرسة صفوية ثانية في عصر الشاه عباس وخلفائه، وهي مدرسة رضا عباسي، وكان مقرها أصفهان. وقد ظل الشاه عباس الأكبر يحكم إيران زُهاء اثنين وأربعين عامًا (٩٨٥–١٠٣٨ﻫ؛ أي ١٥٨٧–١٦٢٩م). وكان حاكمًا عظيمًا؛ فبقي اسمه في تاريخ إيران رمزًا للمجد والعظمة؛ ولكن الحقيقة أن لعصره شهرة في الفنون لا يستحقها كلها؛ فقد كان عصر تأخر بطيء سقط بفن التصوير إلى الهاوية.
ومما شاع في ذلك العصر أيضًا رسم الصور بدون ألوان أو بألوان بسيطة جدًّا. والظاهر أن الأمراء ورجال البلاط انصرفوا عن المخطوطات المصورة بعض الانصراف؛ فلم يجد المصورون مَنْ يعوضهم عن العمل فيها؛ ولذا فقد ندرت المخطوطات المصورة الثمينة في هذه المدرسة، بينما زاد عدد الصور غير المتقَنة التي كانت تُصنع لعامَّة الهواة — أي للسوق — والتي لم يكن إخراجها يتطلب نفقة باهظة.
على أن بعض الصور غير الملونة كان آية في الدقة وإتقان الخطوط، وكانت تُرسم في ثقة وبراعة، رسمًا لم يكن يخلو أحيانًا من قوة التعبير أو روح التهكم والسخرية.
والواقع أن الشاه عباس كان يُعْنَى بتشديد العمائر وتزيين جدرانها بالصور الكبيرة من الطراز الإيراني أو بصور أوروبية مما كان يحمله التجار والمبشرون إلى إيران. أما في تصوير المخطوطات فقد جمد المصورون ووقفوا عند تقليد الصور المرسومة في المخطوطات القديمة تقليدًا لم يصيبوا فيه حظًّا كبيرًا من التوفيق.
ومهما يكن من الأمر فإن أسلوبه في الرسم إيراني يذكر بالمدرسة الصَّفَوِيَّة الأولى، ولكن ألوانه عليها مسحة هندية ظاهرة.
أما رضا عباسي فإن إمضاءه على كثير من الرسوم المؤرخة تحملنا على الاعتقاد بأن مدة إنتاجه الخصب كانت بين سنتي ١٠٢٨ و١٠٤٩ بعد الهجرة (١٦١٨ و١٦٣٩م).
وقد كان رضا عباسي قليل الإنتاج في شبابه، يقبل على الرسوم التخطيطية والتوضيحية ولا يُعْنَى بالصور في المخطوطات، ثم دخل في خدمة البلاط في بداية القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) فأضاف إلى اسمه «رضا» نسبة إلى الشاه؛ فأصبح «رضا عباسي»، وزاد إنتاجه وحسنت سيرته، وأصبح له تأثير عظيم في الحياة الفنية بأصفهان، ودرس عليه تلاميذ كثيرون تألفت منهم المدرسة الصَّفَوِيَّة الثانية.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل زاد تأثر المصورين الإيرانيين عامة بأساليب الفنون الغربية، وتخلَّوْا عن كثير من الأساليب الإيرانية في التصوير؛ فكان هذا فاتحة اضمحلال التصوير الإيراني؛ كما تدل على ذلك الصور الزيتية الكبيرة التي ذاع رسمها في عصر فتح علي شاه بين عامي ١٢١١ و١٢٥٠ بعد الهجرة وفي القرن الماضي؛ فإن صناعتها أوروبية أكثر منها إيرانية.
(١١) مميزات الصور الإيرانية
بقي علينا بعد ما سردناه من تاريخ مدارس التصوير في إيران أن نستنبط من الصور الإيرانية عامة بعض الملاحظات التي تلفت نظر الأخصائيين من مؤرخي الفنون الجميلة وغيرهم من رجال الفن.
ولعل أبين ما نلاحظه في الصور الإيرانية أن قوانين المنظور غير محترمة، وأن الصورة مكونة في مستوًى واحد، وأن الفنان لا يُعْنَى برسم أجزاء الجسم رسمًا يحترم فيه الطبيعة وعلم التشريح، ولا يكترث بتوزيع الضوء وبيان الظل، وإنما يُفرط في توزيع الألوان التي تكسب الصورة حياة أخرى وبريقًا بديعًا وألوانًا سحرية عجيبة.
ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نعتبر هذه الصفات عيوبًا؛ فالواقع أنها جزء لا يتجزأ من الصور الإيرانية، وهي التي تميزها عن غيرها، وتجعل لها سحرها الخاص؛ ولذا فإننا — إذا أردنا أن نفهم الصور الإيرانية وأن نتذوقَها — وجب علينا أن نعرف هذه الأصول والصفات، وأن نبتعد عن موازنة الصور الإيرانية بالصور الغربية. ولسنا نجهل أن ما عُنيت به الفنون الكلاسيكية من الدقة في تصوير الطبيعة وأجزاء الجسم الإنساني ليس كل شيء في الفن، وإلا لأصبح التصوير الشمسي «الفتوغرافيا» أرقى الفنون وأدقها، وغَدَت جُلُّ نزعات الفنون الحديثة انحطاطًا لا شك فيه.
بل إننا نستطيع أن نقرر في هدوء واطمئنان أن هذا العالم المجرَّد الذي تخلقه الصور الإيرانية ليس خرقًا لحرمة الطبيعة كما يبدو لأول وهله، بل هو طبيعة ثانية، فيها ما فيها من ظرف وخيال ونضارة.
أجل إن إهمال قوانين المنظور وجهل الأساليب الغربية في توزيع الضوء والظل يجعلان الصور لا تبدو مجسمة كما نعرف في الفنون الكلاسيكية، والفنان الإيراني لا يُعنى بتأثير الضوء ولكنه مأخوذ بعظمته؛ فنرى الضوء يسطع على كل شيء في الصورة الإيرانية بدون اختلاف أو تدرج أو توزيع، كما أن جل المناظر في الصور الإيرانية هادئة بل جامدة ولا حركة فيها؛ مما يُكسبها شيئًا من البساطة والسذاجة لا يتعارض مع ما نحسُّه فيها من الأرستقراطية والامتياز، ولكن علينا ألا ننسى أن تلك الصور زخرفية قبل كل شيء، وتوضيحية على الرغم من أننا قد نجد بها في بعض الأحيان شيئًا من روح المزاح والتهكم.
أما الألوان في الصور الإيرانية فلا تتدرج ولا تختلط ولا تتجمع حول مركز مشترك، ولكن فيها من التباين والتنافر والشذوذ ما لا يحتمله التصوير في الفنون الأخرى. والواقع أن الصور الإيرانية لم تبلغ غايتها في دقة الألوان ونضارتها إلا على يد المدرسة التيمورية والمدرسة الصَّفَوِيَّة في القرنين التاسع والعاشر بعد الهجرة (الخامس عشر والسادس عشر بعد الميلاد). وقد وُفق المصورون حينئذ إلى التخفيف من الشذوذ والتنافر بتصغير المساحات الملونة وتكرارها؛ مما يجعلنا نجد الألوان غير المتقاربة تتجاور في هدوء وبهاء، ولا يخفف من حِدَّتِها إلا وضعها في أشكال هندسية صغيرة أو وحدات موزعة في أسطح كبيرة ذات ألوان أخرى.
وحسبك أن تُمْعِنَ النظر في إحدى الصور الإيرانية الجميلة من مدرسة هراة أو المدرسة الصَّفَوِيَّة؛ لتعجب بلون الزهور البيضاء والصحاري السمراء والسماء الذهبية والملابس المختلفة الألوان مما يؤلف مجموعة من الألحان الموسيقية العذبة.
ولا يفوتنا أن نلاحظ أن الصور الإيرانية قبل مدرسة هراة كانت غير شخصية، وأن الفنانين لم يكتبوا إمضاءاتهم عليها إلا نادرًا جدًّا، وأن أول الفنانين الذين ظهرت شخصيتهم ظهورًا بَيِّنًا هو المصور بهزاد، الذي رفع مكانة المصورين، وجعلهم يفخرون بآثارهم الفنية.
وصفوة القول أن الصور الإيرانية لها تقاليد فنية اصطلاحية تشبه في بعض الوجوه الصور الهندية والصينية واليابانية، ولكن لها فضلًا عن ذلك ذاتية قوية وسحرًا خاصًّا؛ فرسم الصخور كأنها الْمَرْجان، والتعبير باللون الذهبي عن الصحاري تحفُّ بها خضرة الأشجار وألوان الزهور والعمائر، كل هذا عنصر هام في الصور الإيرانية يُكسبها ما لها من طابع خاص.
وقد يُعاب على المصور الإيراني ما سنعرض له في نهاية هذا الكتاب حين نذكر أن الفنانين المسلمين عامة يتبعون تقاليد فنية موروثة، ولا يَحِيدون عنها إلا بقدر ما يختلف أحدهم عن الآخر في إتقانها؛ فالمصور الإيراني فنان يعمل — في معظم الأحيان — بيده أكثر مما يعمل بعقله، وأكثر الفنانين المسلمين لا يختلفون عنه في هذا الشأن؛ ولذلك قيل عنهم في بعض الأحيان إنهم صُنَّاع فحَسْب.
ومعظم الصور الإيرانية توضيحية، ولكنها لا تختلف في ذلك عن كثير من الصور الغربية في العصور السابقة؛ فتلك توضح قصص الشاهنامه وكليلة ودمنة ودواوين الشعر والقصص المنظومة، وهذه توضح قصص الميثولوجيا (علم الأساطير القديمة) أو الكتاب المقدس. ولكن المصور الإيراني لم يستطع في أغلب الأحيان أن يصل إلى التعبير عن الحالة النفسية بوساطة وجوه الأشخاص في الصورة كما نعرف في الفنون الغربية.
ولما أتم الفردوسي نظم الشاهنامه سنة ٤٠١ﻫ/١٠١٠م أقبل الفنانون على توضيحها بالصور إقبالهم على تزيين دواوين الشعر، ولا سيما منظومات الشاعرين نظامي وسعدي.