التجليد
أكبر الظن أن جلود المخطوطات في إيران كانت تُصنع حتى القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) على الطريقة المصرية الإسلامية، والمعروف أن صناعة التجليد ازدهرت عند الأقباط في مصر قبل الفتح الإسلامي، ثم تطورت على يد المسلمين تطورًّا بسيطًا في القرون الأولى بعد الهجرة حتى اتخذت شكلًا إسلاميًّا ظاهرًا منذ القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي).
وتمتاز جلود الكتب الإسلامية عامة بأن كعوبها مستوية وغير بارزة، كما تمتاز بأنها تساوي ورق الكتاب في الحجم، وبأن جانبها الأيسر ذو امتداد يُعرف باسم «اللسان». ولم يستخدم المسلمون في تجليد الكتب إلا الخشب والجلد ثم الورق المضغوط والمدهون باللاكيه؛ وذلك لأن تجنب الترف والبذخ صرفهم عن استخدام الذهب والمعادن النفيسة في التجليد كما فعل أهل بيزنطة.
وكذلك امتد نفوذ الأساليب القبطية الإسلامية في التجليد إلى إيران؛ فكانت الجلود الأولى من الخشب المغطى بالجلد والمزين بالرسوم الهندسية، ثم اسْتُخْدِمَ الورق عوضًا عن الخشب واستخدمت الزخارف المكونة من الرسوم والخطوط المتشابكة.
بل إن ذلك النفوذ امتد أيضًا إلى بلاد منغوليا في أواسط آسيا؛ حيث عُثر في أطلال مدينة كانت عامرة في العصور الوسطى على جلد كتاب يُنسب إلى القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي) وعليه زخارف من إطار ذي فروع نباتية عربية، وفي وسطه جامة أو صرة من جدايل، وفي كل من الأركان الأربعة ربع جامة.
ومهما يكن من الأمر فقد استخدم الإيرانيون في التجليد طريقة الدق؛ أي الضغط، كما استخدموا أيضًا التخريم والدهان والتلبيس بالقماش. وكانوا أحيانًا يقطعون الجلد بالرسم المخصوص الذي يريدونه، ثم يلصقونه على القماش الملون، ويذَهِّبون الخطوط والرسوم بعد ذلك. واستخدموا في بعض الأحيان طريقة قوامها طبقتان من الجلد تلصق إحداهما فوق الأخرى بعد أن تخرق الموضوعات الزخرفية المطلوبة في الطبقة العليا.
ولم تكن صناعة التجليد وقفًا على هراة؛ فقد حازت فيها قَصَبَ السَّبْق، ولكن كانت هناك مراكز أخرى في سمرقند ومَرْو ومشهد وبَلْخ ونيسابور وشيراز وتبريز.
وفي الحق أن صُنَّاع جلود الكتب في إيران أصابوا في القرن التاسع الهجري أبعد حدود التوفيق في الخروج على الأساليب الهندسية القديمة في الزخرفة؛ وابتدعوا تركيب الزخارف من المناظر الطبيعية ذات الحيوانات والطيور الحقيقية والخرافية، ووصلوا إلى الإتقان في دقة الرسم وأسلوب الصناعة وسلامة النِّسَب.
وقد استطاع الفنانون الوصول إلى إتقان الزخارف المذكورة بعد أن تَخَلَّوْا عن طريقة الضغط أو الدق بالآلة البسيطة التي كانت تُنتج الرسوم الهندسية ورسوم الفروع النباتية؛ فاستخدموا القوالب المعدِنية المستقلة التي كانوا يضغطون فيها الجلد بقوة فتظهر فيه النتوءات الشديدة البروز على شكل العناصر الزخرفية النباتية والحيوانية، بل والصور الآدمية أيضًا.
وفي القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) كان المصورون عونًا كبيرًا لصناع الجلود في رسم الحيوانات والأشجار والنباتات والأشخاص، في دقة ورشاقة يبدو تأثير الشرق الأقصى في أساليبها الفنية؛ فكانت الجلود تبدو في بروزها كأنها من المسكوكات، كما أنتج الفنانون في القرن العاشر الهجري بعض الجلود الفاخرة المخرمة من الورق والجلد المقطوع بدقة كأنها الخيوط، وكانت هذه الجلود ذات طبقات متعددة تختلف كل واحدة في لونها عن الأخرى، وتوضع بعضها فوق بعض. وكانوا يُعْنَوْنَ بباطن الجلود وألسنتها عنايتهم بالجزء الخارجي منها، ولكنهم فقدوا في هذا القرن بعض ما كان لهم في القرن السابق من المهارة وحسن الذوق في هذا الميدان.
وكانت معظم جلود الكتب في هذا العصر من جلد الماعز، وتشبه في زخارفها السجاجيد في كثير من الأحيان؛ فكثيرًا ما نرى في وسطها جامة أو صرة بيضاوية، وفي الأركان الأربعة أجزاء من جامات، وفي الجامة وأرباع الجامات رسوم نباتية أو حيوانية أو رسوم سحب صينية.
واستخدم المجلدون الإيرانيون في مدرسة هراة طريقة الزخرفة برسوم اللاكيه، وذلك منذ منتصف القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). وأقدم ما نعرفه من هذه الجلود يرجع إلى سنة ٩٣١ﻫ/١٥٢٥م. وامتاز بعضها بجمال الألوان التي غلب عليها الأسود والذهبي، ولكن صناعتها لم تلبث أن تأخرت في القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، ثم تأثرت بالأساليب الفنية الأوروبية في عصر فتح علي شاه (١٢١٢–١٢٥٠ﻫ أي ١٧٩٧–١٨٣٤م). على أن تلك الجلود كانت ميدانًا لفن التصوير، ولم يكن للمجلدين فيها شأن عظيم.
•••
ويجب علينا ألا ننسى ما كان لمدرسة هراة من تأثير على المراكز الفنية الأخرى في إيران؛ فقد مر بنا أن انتقال الفنانين من بلد إلى بلد في العالم الإسلامي كان أمرًا شائعًا، فضلًا عن أن المجمع الذي أنشئ لفنون الكتاب في هراة انْحَلَّ عندما وقعت هذه المدينة في يد الشيبانيين سنة ٩١٣ﻫ/١٥٠٧م؛ فتفرق الفنانون في المراكز الفنية الجديدة في إيران وفي بلاط الهنود المغول والأتراك العثمانيين.
كما أن علينا أن نذكر دائمًا أن الجلود الثمينة التي يمكننا اعتبارها آيات في الفن ودقة الصناعة لم يكن المقصود بها أن تكون غِلافًا لحفظ الكتاب فحسب، ولكنها كانت جزءًا ثمينًا منه؛ فكان الكتاب يوضع بجلده في حافظة من الديباج أو القطيفة.
وقد كان للأساليب الإسلامية الإيرانية في التجليد تأثير على هذه الصناعة في مدينة البندقية. والمعروف أن الأوروبيين في العصور الوسطى كانوا يزخرفون جلود الكتب بطبع الرسوم عليها بواسطة المكابس المعدِنية، وكانت الزخارف التي تنتجها هذه الطريقة بارزة فقط، ثم أدخل الفنانون المسلمون الذين استقروا في البندقية الطريقة الشرقية في تزيين الرسوم المطبوعة بملء أجزائها الغائرة بصبغات ذهبية.
وقد اشتغل كثير من المجلدين الإيرانيين في تركية؛ فأنتجوا في القرنين التاسع والعاشر بعد الهجرة جلودًا ثمينة لا تكاد تختلف عما كان ينتجه زملاؤهم في إيران، ولا شك في أن هذه الجلود الإيرانية والتركية في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) كانت أبدع من جلود الكتب المصنوعة في أي بلد أوروبي في ذلك العصر.
•••
على أن فنون الكتاب في إيران بدأت في الاضمحلال منذ نهاية القرن العاشر الهجري (السادس عشر)، وبدأ الفنانون يحرصون على الإنتاج السريع الذي لا يمكن أن يُسفر عن النتائج الطيبة التي عرفناها في المخطوطات الجميلة في القرن التاسع (الخامس عشر الميلادي). ولا رَيْب في أن النهضة الحديثة في إيران ستفلح في أن تعيد لتلك الفنون مجدها الأول.