كانت صناعة الخزف من أهم الميادين التي حاز فيها الإيرانيون المكانة الأولى بين الأمم
الإسلامية، وقد ساعدتهم على ذلك العجينة التي امتازت بها بلادهم، والتي تصلح بنوع خاص
لصُنع
الأواني الخزفية؛ فيسهل تشكيلها وحفر الزخارف فيها أو طبعها، كما تمتاز برقتها وقلة
وزنها.
وليس من شك في أن هذه الصناعة بلغت على يد السلاجقة والمغول بين القرنين السادس والثامن
بعد الهجرة (الثاني عشر والرابع عشر بعد الميلاد) غاية الإتقان في الهيئة والزخرفة، اللتين
تدلان على أوفر قسط من الخيال السعيد والذوق السليم. وإن صح لدى بعض الخبراء أن الأواني
الإغريقية في عصرها الذهبي كانت في الهيئة والأناقة آيةً دونَها كل الأواني الأخرى، وإن
صح
لدى آخرين أن الخزف الذي صُنع في الشرق الأقصى، ليس له نظير في الظرف والرونق — فإن فريقًا
ثالثًا من الخبراء والهواة يَرَوْنَ في تلك الأواني الإغريقية والصينية جمودًا، ودقة
آلية
في الشكل، وثقلًا لا يَرَوْنَهُ في الخزف الإيراني، فيحكمون له بالتفوق والسمو على سائر
أنواع الخزف.
على أن أعظم ما وُفق إليه الخزفيون الإيرانيون في الإسلام هو إتقان أنواع الطلاء
المختلفة، ثم إبداع الألوان الفاخرة وتنويعها، وامتازت بعض المراكز الفنية وبعض البلاد
بإيثار بعض الألوان على غيرها.
واستخدم هؤلاء الخزفيون شتى الوسائل في زخرفة منتجاتهم؛ فكانوا يضغطون باليد على العجينة
اللينة لتهيئة حافَتِها، أو تكوين بعض العناصر الزخرفية فيها، وكانوا يحفرون الرسوم بطرق
مختلفة وفي عمق متنوع، ويشكلون الزخارف البارزة تشكيلًا دقيقًا وجميلًا، كما كانوا في
بعض
الأحيان يخرمون جدران الأواني ويغطون الخروم بالطلاء فتبدو شفافة. وذلك كله فضلًا عن
تزيين
التحف بالرسوم ذات اللون الواحد أو المتعددة الألوان، فوق الطلاء أو تحته، وكان التذهيب
والبريق المعدِني يُكسبان التحف نضارة عجيبة.
(١) دراسة الخزف الإيراني
لا تزال دراسة الخزف الإسلامي في إيران أمرًا عسيرًا، حقًّا إن لدينا بعض القطع المؤرخة
٥ أو التي عليها إمضاء صانعيها،
٦ وإننا نعرف مخطوطًا في إستانبول يبحث جزء منه في صناعة الخزف، وقد ألفه
عالم من قاشان سنة ٧٠٠ﻫ/١٣٠١م،
٧ فضلًا عن أننا نستطيع أن نستنبط بعض البيانات من عجينة التحف ونوع طلائها
وشكل قاعدتها ودقة صناعتها، ولكن هذا كله غير كافٍ للوصول إلى نتائج حاسمة في تقسيم
التحف الخزفية الإيرانية ومعرفة تاريخ صناعتها والمراكز الفنية التي تُنسب
إليها.
والواقع أننا لا نزال في دراسة الخزف نعتمد على الحفائر اعتمادًا كبيرًا؛ فإننا نعرف
أن وجود قطع خزفية أصابها التلف في الفرن بسبب شدة الحرارة أو عدم كفايتها، أو بسبب
التصاق القطع بعضها ببعض، أو بسبب آخر، كل هذا يدل على أنها من صناعة المكان الذي يُعثر
عليها فيه؛ لأنه ليس معقولًا أن يَتَّجِرَ القوم بمثل هذه القطع أو يجلبونها من مكان
إلى آخر، ولكننا لا نستطيع — لسوء الحظ — أن نذهب إلى أن كل الحفائر التي قام بها
المنقِّبون عن الآثار في إيران كانت منظمة ويمكن الاطمئنان إلى نتائجها. وفضلًا عن ذلك
فإن كثيرًا من المراكز الفنية لم تَقُمْ فيها أي هيئة بحفائر علمية بعد.
ومهما يكن من الأمر فإن مؤرخي الفنون الإسلامية يسيرون في تقسيم الخزف الإيراني على
أساليب شتى؛ فبعضهم يقسمه بحسَب عصوره، ويقسمه فريق آخر بحسَب المراكز الصناعية التي
يُرجح نسبته إليها، كما يقسمه فريق ثالث بحسَب نوع صناعته وزخارفه. ولعل الأصلح اتباع
التقسيم الأول ومعرفة التحف الخزفية التي تُنسب إلى القرون الأولى بعد الهجرة، ثم تلك
التي ترجع إلى العصور الوسطى الإسلامية، وأخيرًا ما صُنِعَ منذ القرن التاسع الهجري
(الخامس عشر الميلادي). وقد نستطيع بعد ذلك أن نصلَ في كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة
إلى تحديد الإقليم الذي صُنعت فيه التحفة وإلى تقسيم التحف مرة أخرى، بحسَب أسلوبها
الصناعي. أما تحديد التاريخ فإننا نُوَفَّق إليه بوساطة دراسة الزخارف وتطورها، والحكم
على طراز الكتابة، فضلًا عن الاهتداء بالقطع المؤرَّخة التي نعرف منها حتى الآن زُهاء
مِائتين، يرجع أقدمها إلى سنة ٥٦٢ﻫ/١١٦٦م.
(١-١) الخزف الإيراني في فجر الإسلام
لسنا نعرف تمامًا كيف كانت صناعة الخزف وزخارفه في القرن الأول ونصف القرن الثاني
بعد الهجرة. ومن أقدم التحف التي وصلتنا في هذا الميدان ما عثرت عليه البعثة
الألمانية في حفائر المدائن
٨ (اكتيسيفون) من خزف غير مدهون وآخر ذي طلاء أخضر، فضلًا عن الخزف ذي
البريق المعدِني، كما عُثِرَ في إقليم خوزستان على
مجموعة خزفية من أزيار كبيرة،
بعضها ذو طلاء وبعضها لا طلاء له.
٩ أما الزخارف فمطبوعة، وساسانية الطراز، وقوامها في أكثر الأحيان شريط
من رسوم الحيوانات، ولكننا نعرف أن صناعة الخزف في نهاية القرن الثاني وفي القرن
الثالث بعد الهجرة بدأت في الازدهار، متأثرة بالأساليب الفنية التي أخذها الشرق
الأدنى عن الصين في تلك الصناعة.
١٠ ولا غَرْوَ فقد كانت بلاد الجزيرة تجلب الخزف الصيني منذ العصور
القديمة، وقد عثر المنقِّبون عن الآثار في المدائن (اكتيسيفون) وفي سامرَّا على
كَمِّيَّات وافرة من هذا الخزف.
(١-٢) خزف بلاد ما وراء النهر
كانت بلاد ما وراء النهر وبلاد التركستان إيرانية بَحْتَة إلى القرن الخامس
الهجري (الحادي عشر الميلادي)؛ بل كانت في عصر الدولة السامانية من أزهر الأقاليم
الإسلامية؛ فكان بلاط هذه الدولة في سمرقند مَحَطَّ رحال العلماء والأدباء وموطن
النهضة الإيرانية الأولى، وذاع صيت بُخارَى وسمرقند في العالم الإسلامي كله.
ومن خير الأدلة على مدنية تلك البلاد في القرون الأولى بعد الإسلام ما أنتجته من
تحف خزفية تمتاز ببساطتها واتزانها مع جمال ألوانها وإبداع زخارفها ذات المسحة
الفنية الممتازة. ولا عجب فإن صناعة الخزف فن قديم في هذا الإقليم. وأكبر الظن أن
مركزها كان في مدينة شاش (طشقند الحالية) التي كتب المقدسي عن جودة ما كانت تصدره
من خزف، ومدينة أفراسياب التي عثر فيها المنقِّبون عن الآثار على كَميات وافرة من
الخزف محفوظة الآن في متاحف سمرقند والهرميتاج وفكتوريا وألبرت وفي برلين. ومعظم
هذا الخزف ذو أرضية سوداء أو سمراء، وعليها زخارف يبدو فيها التأليف الحسن، ويظهر
فيها لون أحمر لا نكاد نراه في سائر أنواع الخزف الإيراني. وقوام هذه الزخارف رسوم
نباتية ومراوح نخيلية (بالمت) ورسوم طيور كالبط والبجع، ثم زخارف بالخط الكوفي
الجميل (انظر شكل
٧١) تمتاز كلها بدورانها حول مركز واحد؛ مما
يُكسبها شيئًا من الحركة والخفة.
(١-٣) الخزف الأبيض ذو النقوش الزرقاء والخضراء
وهذا ضَرْب من الخزف عُثِرَ على كَمية منه في أطلال سامرَّا؛ فَنُسِبَ في بداية
الأمر إلى هذه المدينة، ولكن وُجدت منه نماذج أخرى في أطلال مدن إيرانية، ولا سيما
الري وساوه وقم. والمرجح الآن أنه من صناعة إيران، وأنه انتشر منها إلى سائر أنحاء
الشرق الأدنى حتى لقد وُجِدَتْ بعض قطع منه في أطلال الفسطاط،
١١ وقد لوحظ في بعض الأحيان اختلاف العجينة المصنوع منها؛ مما يدل على أن
إنتاجه لم يكن مقصورًا على إقليم واحد، بل كان موزعًا على مراكز فنية
متعددة.
وأكبر الظن أن هذا الخزف كان منتشرًا بين القرنين الثالث والخامس بعد الهجرة
(التاسع والحادي عشر بعد الميلاد)، كما يدل وجوده في أطلال سامرَّا التي هُجرت سنة
٢٧٠ﻫ/٨٨٣م، وأسلوب الخط في الكتابات التي توجد على بعض قطع منه، والتي يمكن نسبتها
إلى نهاية القرن الرابع الهجري.
ومعظم منتجات هذا النوع من الخزف سلطانيات أو صحون غير عميقة وبها حافَة منبسطة
وقاعدة منخفضة جدًّا؛ مما يجعل وضع السلطانيات أو الصحون في بعضها وإعدادها للتجارة
والأسفار أمرًا ميسورًا. أما الزخارف فبعضها هندسي كالمثلثات والدوائر، والمثلثات
المتداخلة والمتصلة على هيئة «خاتم سليمان»، وبعضها نباتي كأوراق المراوح النخيلية
(البالمت) والوريدات، وبعض رسوم أخرى كالنخلة المرسومة في سلطانية جميلة محفوظة
الآن بالمتحف الأهلي في طهران (انظر شكل
٧١). وقد نرى على بعض
الأواني من هذا الخزف كتابات تسير في عرض الإناء من طرَف إلى آخر أو تُرْسَم في
قاعدته على هيئة مربع. كما نرى أن عددًا من الأواني ليس عليه من الزخارف إلا أربع
مناطق من «البقع» الخضراء والزرقاء، وعلى بعض القطع إمضاءات مثل: «عمل الأحمر»
و«عمل كثير بن عبد الله» و«عمل أبي خالد»، وكلها على قطع وجدت في أطلال سامرَّا.
١٢
(١-٤) الخزف ذو البريق المعدِني
ومما زاد الخزف الإيراني نضارة وجمالًا ما وصل إليه المسلمون في إكسابه بريقًا
معدِنيًّا، يختلف لونه بين الأحمر النُّحاسي والأصفر الضارب إلى الخضرة، ويُغنيهم
عن الأواني الذهبية والفضية التي كان رجال الدين في الإسلام يكرهونها لما تدل عليه
من ترَف وإسراف.
١٣ وقد عثر المنقبون على نماذج من الخزف ذي البريق المعدِني في إيران
والعراق ومصر وإفريقية والأندلس، واختلفوا في موطن صناعتها، فنسبها بعضهم إلى
إيران، ونسبها آخرون إلى مصر، ونسبها الألمان من رجال الآثار الإسلامية إلى العراق.
ويميل كثيرٌ من الأخصائيين في الوقت الحاضر إلى الأخذ بهذا الرأي الأخير.
١٤
والحق أن هذه الصناعة وُجِدَتْ في إيران والعراق ومصر في فجر الإسلام، وأننا لا
نملك من الأدلة ما يجعلنا ننسب ابتداعها إلى قُطْرٍ من هذه الأقطار الإسلامية، ولكن
وجودها في إيران منذ العصور الإسلامية الأولى ثابت بأدلة قوية، فقد عُثِرَ في أطلال
بعض المدن الإيرانية على قطع خزفية ذات بريق معدِني وعليها إمضاء صانعيها، وتدل
أسماؤهم التي تغلب عليها المسحة الإيرانية على أنهم من إيران نفسها؛ مما يحمل على
ترجيح كون هذه القطع الخزفية مصنوعة في إيران وليست واردة من الخارج. وفضلًا عن ذلك
فقد وُجِدَ في أطلال مدينة ساوه قطعتان تالفتان في الفرن، كما وجدت البعثة الفرنسية
في مدينة السوس قطعًا أخرى تالفة، وأطلال فرن خزفي وحوامل من التي توضع عليها
الأواني لإحراقها في الفرن، بل إن بعض هذه الحوامل عليه آثار المادة المُكَوِّنة
للبريق المعدِني. ويجدر بنا ألا نُغفل هنا ما كتبه المؤرخون والجغرافيون المسلمون
عن شهرة بعض البلاد الإيرانية في إنتاج الخزف اللامع المذهب.
وأصحاب النظرية القائلة بنسبة ابتداع البريق المعدِني إلى الإيرانيين يحتجُّون
بأن إيران كانت في القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة، قد قطعت شوطًا بعيدًا في
سبيل الحضارة الإسلامية، وكانت لها صناعة خزفية زاهرة، وبأن ما وُجد فيها من الخزف
ذي البريق المعدِني أكثر مما وُجد في العراق، فضلًا عن أنه وُجد في مراكز فنية
مختلفة ومتباعدة، بينما لم يوجد بالعراق إلا في سامرَّا. ثم إن أبدع أنواع الخزف ذي
البريق المعدِني عُثر عليها بإيران في مدينتي الري وساوه. والحق أن الأدلة التي
يسوقها القوم لنسبة الفضل في ابتداع البريق المعدِني حُجج معقولة إلى حد
كبير.
ومهما يكن من الأمر فإن البريق المعدِني الذي نعرفه في الخزف الإسلامي ذهبي اللون
في درجات مختلفة. وتنقسم النقوش ذات البريق المعدِني إلى أقسام ثلاثة: الأول نقوش
ذهبية اللون على أرضية بيضاء، والثاني نقوش حمراء أو قرمزية على أرضية تكون في أغلب
الأحيان بيضاء أيضًا، والثالث نقوش متعددة الألوان صفراء وسمراء وزيتونية على أرضية
بيضاء. ويتطلب إنتاج الأواني ذات البريق المعدِني إحراقها إحراقًا أوليًّا بعد تمام
عملية التجفيف، ثم طلاءها بالدهان أو المينا، وهي المادة الزجاجية التي تُطْلَى بها
الأواني الخزفية المحروقة إحراقًا أوليًّا، ثم تُرسم النقوش فوق الدهان بطبقة دقيقة
من الأملاح المعدِنية، وتُحرق بعد ذاك في فرن خاص إحراقًا نهائيًّا في درجة حرارة منخفضة.
١٥
ولا يجب أن ننسى أن الخزف ذا البريق المعدِني هو أقدم أنواع الخزف الإسلامي التي
نرى عليها نقوشًا آدمية، وبعض هذه النقوش يدل على براعة نسبية في الرسم وعناية
بالخطوط التي تُكسب الصورة مسحة خاصة وذاتية قوية. وحسبنا الصحن الموجود في مجموعة
الدكتور علي باشا إبراهيم في القاهرة
١٦ (انظر شكل
٧٣)، وبريقه
المعدِني ذهبي اللون على أرضية بيضاء منقطة
ويتوسطها رسم شخص يعزف على القيثار، وله قَلَنْسُوَة مدَبَّبة وشارب رفيع، وفي نفس
المجموعة صحن آخر عليه رسم سيدة.
ومن أبدع التحف الخزفية من هذا النوع كأس في مجموعة ألفونس كان
Alphonse Kann، عليها رسم رجل ذي قبعة مدببة
ومنتهية بزخرفة تشبه ذيل السمكة، وفي يده راية كبيرة وخلفه رسم طاووس.
١٧
ويدل رسم الصور الآدمية في التحف التي نعرفها من هذا الخزف ذي البريق المعدِني،
على أن الفنانين لم يصلوا بعدُ إلى حد الإتقان في هذا الميدان، على عكس ما أدركوه
في الرسوم الزخرفية عامة وفي بعض رسوم الحيوان والطيور، بل الحق أن معظم رسومهم
الآدمية ذات تعبير قوي ولكنها بسيطة وتشبه رسوم الأطفال. ومن أبدع النماذج ذات
الزخارف المستمدة من عالم الطير كأس في مجموعة برانجوين
Rrangewyn بمتحف فتزويليام
Fitzwilliam في مدينة كمبردج؛ فإن على هذه الكأس رسم طاووس جميل
يدل بإتقانه، وبمناسبته أرضية الكأس، وبروحه الزخرفية البديعة على توفيق الفنان
الذي رسمه توفيقًا لا حد له (انظر شكل
٧٢).
ويمكننا أن ننسب هذا الخزف ذا البريق المعدِني إلى القرنين الثالث والرابع بعد
الهجرة (التاسع والعاشر بعد الميلاد). على أننا لا نستطيع أن ننسب أي قطعة معينة
إلى فترة محدودة في هذين القرنين، اللهم إلا إذا راعينا إتقان الرسم وموافقته لسطح
الإناء وإبداع الألوان، وما إلى ذلك من دقة الصناعة والزخرفة، مما يُحمل على نسبة
التحفة إلى فترة متأخرة، كمل فيها تطور الصناعة واستقرت أصولها وقواعدها.
١٨
وثمة مجموعة من لوحات القاشاني ذي البريق المعدِني صُنعت بمدينة قاشان في بداية
القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وتشبه في رسومها الأواني الخزفية التي
تحدثنا عنها في السطور السابقة، حتى ليمكننا أن نتساءل عما إذا كانت صناعة القاشاني
ذي البريق المعدِني في قاشان ليست وليدة الصناعة التي ازدهرت في القرنين الثالث
والرابع بعد الهجرة.
(١-٥) تقليد الخزف الصيني
قلد الخزفيون المسلمون في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) بعض أنواع الخزف
الوارد من الشرق الأقصى، وعلى رأس هذه الأنواع طراز امتاز بدهانات متعددة الألوان
كانت تغطي سطح الإناء على النحو المعروف في ضرب مشهور من الخزف، كان يصنع في الصين
في عهد أسرة «تنج»
١٩ (٦١٨–٩٠٦م)، وقد أتقن المسلمون تقليد هذا الخزف حتى لقد يصعب في بعض
الأحيان أن نميز لأول وهلة القطعة الصينية الأصيلة من تقليدها المصنوع على يد
الخزفيين المسلمين. وقد عثر المنقِّبون عن الآثار على قطع من هذا النوع في الري
والسوس وإصطخر وساوه وفي بعض البلاد بإقليمي مازندران وتركستان.
والألوان المستعملة في هذا الخزف كثيرة وجميلة، ويسودها الأسمر والأصفر والأخضر،
وقد نرى بعض زخارف من دوائر ورسوم نباتية محفورة تحت الدهان، ولكنها لا تظهر بوضوح؛
لأن أول ما يلفت النظر في هذا الخزف هو ألوانه المختلطة البديعة. وأكبر الظن أنه
يرجع إلى القرنين الثاني والثالث، وفي بعض الأحيان إلى القرن الرابع بعد
الهجرة.
ومن أنواع الخزف الصيني الأخرى التي قلدها المسلمون الخزف الأبيض التام؛ فكانوا
يصنعون منه الصحون والسلطانيات ذات الحافَة المشطورة بأقواس متقابلة.
٢٠ وقد وُفِّقَ بعض الخزفيين في إتقان هذا التقليد.
وقُصارى القول أن الإيرانيين قلدوا بعض أنواع الخزف الصيني، ثم تطورت منتجاتهم في
هذا الميدان؛ فوصلوا إلى أصناف مختلفة لا محل لشرحها هنا.
(١-٦) الخزف ذو الزخارف المحفورة تحت الدهان
ومما صنعه الخزفيون الإيرانيون في القرنين الثالث والرابع بعد الهجرة (التاسع
والعاشر بعد الميلاد) نوع من الخزف يمتاز بزخارفه «المحزوزة» في عجينة الإناء
بأسلوب يُذَكِّر بالحفر في المعادن. وأكبر الظن أن صناعته لم تنتشر إلا بعد أن هجر
الخليفة العباسي مدينة سامرَّا ورجع إلى بغداد سنة ٢٧٠ﻫ/٨٨٣م؛ لأن المنقبين عن
الآثار لم يعثروا في أطلال سامرَّا على قِطَع من هذا الخزف.
ومعظم زخارف هذا النوع دوائر وأجزاء من دوائر متشابكة ومتصلة، وقد يكون فيها رسوم
حيوانات أو طيور، فضلًا عن الوريدات وأوراق الشجر. ولعل أشهر التحف الخزفية من هذا
الطراز سلطانية في القسم الإسلامي من متاحف الدولة ببرلين،
٢١ وسلطانية أخرى كانت سابقًا في مجموعة بوتييه
Pottier،
٢٢ وسلطانية ثالثة كانت سابقًا في مجموعة فينييه
Vignier، وتمتاز بزخرفتها التي تمثل قرص الشمس
في الوسط ويحيط به رسوم أربعة معابد نار، حُوِّر اللهيب فوقَها عن طبيعته فظهر على
هيئة جزء من ورقة شجر.
٢٣
وثمة قسم من هذا النوع يُرَجَّح أنه من صناعة مدينة آمل، ويمتاز بأن زخارفه مرتبة
في مناطق مكونة من دوائر ذات مركز واحد، وأبدع النماذج المعروفة من هذا القسم
سلطانية محفوظة في المتحف البريطاني تختلف فيها هذه المناطق مساحة وزخرفة.
٢٤
وفي معهد الفن بشيكاغو إناء على هيئة قمع فوق قاعدةٍ نصف كُروية، ويمتاز بأنه
مؤرخ وعليه إمضاء صانعه «يحيى»، ولكن التاريخ غير كامل؛ لأن رقم المئات غير موجود؛
فكل ما نستطيع قراءته هو ٨٣، ولكن المستنبط أن هذا النوع من الخزف صُنع بعد القرن
الثالث الهجري، وأنه لم يُوجد مع خزف آخر من القرن السادس؛ ولذا فإن الأرجح أن
التاريخ المقصود هو ٣٨٣ﻫ/٩٩٣م، وليس من المستحيل أن يكون ٤٨٣ﻫ/١٠٩٠م.
٢٥
وقد لاحظ بعض مؤرخي الفنون الإسلامية كثرة الموضوعات الزخرفية الساسانية على
الخزف ذي الزخارف المحفورة تحت الدهان، كما لاحظوا أن بينها رسم معبد النار، ورسم
النسر الذي يحمل إلى السماء البطل الذي ينشد الخلود،
٢٦ فأرادوا نسبتها إلى خزفيين من الزرادشتيين في إقليم مازندران، ولكننا
لا نظن أن استخدام مثل هذه الزخارف يستلزم أن يكون الصناع من عبَدة النار؛ فالحق أن
الصانع قد يسير في تزيين منتجاته على بعض أساليب زخرفية موروثة بدون أن يُعْنَى
بتفسيرها أو بحث أصولها.
(١-٧) الخزف في عصر السلاجقة وعصر المغول
وصل الخزفيون الإيرانيون إلى قمة مجدهم الصناعي بين القرنين الخامس والثامن بعد
الهجرة (الحادي عشر والرابع عشر بعد الميلاد)؛ فنضجت منتجاتهم، وأتقنوا كل الأساليب
الصناعية والزخرفية؛ فكانوا يستخدمون الزخارف المحفورة والبارزة والمخرمة والمجسمة،
ويرسمون النقوش فوقَ الدهان أو تحتَه، ويُحَلُّونها بالتذهيب أو بالبريق المعدِني.
وإذا استثنينا الصيني فقد عرفوا في ذلك العصر كل أنواع الخزف، وصنعوا منها شتى
الأشكال المختلفة في الحجم والمتنوعة في الألوان البراقة الجميلة، وحذقوا رسم الصور
الآدمية والحيوانية والنباتية، واستخدموا في رسمها مَهَرة المصورين والمذهبين، وفتح
لهم استخدام الخزف في الزخارف المعمارية بابًا جديدًا زادهم مثابرة ونشاطًا.
وتأثروا في بعض الأحيان بالأساليب الفنية الصينية، ولكنهم ظلوا مخلصين للروح
الإيرانية في الصناعة والزخرفة. وقد حاولوا تقليد الصيني الوارد من الشرق الأقصى،
غير أن الظاهر أنهم لم ينجحوا في ذلك.
والمعروف أن غزو المغول قضى على أكبر مراكز الصناعة الخزفية في إيران؛ فدُمرت
مدينة الري سنة ٦١٧ﻫ/١٢٢٠م ومدينة قاشان سنة ٦٢١ﻫ/١٢٢٤م، ولكن الراجح أن صناعة
الخزف نفسها لم تتأثر بذلك إلى حد كبير، اللهم إلا في كمية الإنتاج. وخير دليل على
ذلك أن بعض التحف الخزفية الجميلة عليها تواريخ تُثبت أنها صُنعت بعد الغزو المغولي
بزمن غير طويل.
(١-٨) خزف ذو زخارف محفورة
صنع الخزفيون الإيرانيون في نهاية القرن الرابع وفي القرنين الخامس والسادس
وبداية القرن السابع بعد الهجرة أنواعًا مختلفة من الخزف ذي الزخارف المحفورة، منها
نوع أبيض ورفيع وغاية في خفة الوزن ومحفور فيه زخارف دقيقة أو مُحلى برسوم بارزة
بروزًا خفيفًا، وتتكون من أوراق شجر محوَّرة عن الطبيعة أو من فروع نباتية (انظر
شكل
٧٦–
٧٧). وقد نرى بينها كتابات كوفية،
٢٧ وعمد الخزفيون في بعض الأحيان إلى زخرفة الإناء بخروم في بدنه تُسَد
بوساطة الدهان، وينفذ الضوء منها فيزيد سائر الزخرفة ظهورًا ويُكسب التحفة رِقَّة
عجيبةً. وأبدع القطع من هذا النوع محفوظة في المتحف البريطاني وفي متحف فكتوريا
وألبرت بلندن. وأكبر الظن أن معظمها من صناعة قاشان حوالي القرن الخامس الهجري
(الحادي عشر الميلادي)، ومن المحتمل أن بعض هذا الخزف كان يُصنع في مدينة الري وفي
أصفهان وقم.
ومن الخزف ذي الزخارف المحفورة نوع آخر أزرق أو أخضر، ويمتاز أيضًا برفعه وخفة
وزنه وزخارفه المحفورة حفرًا متقنًا، ولا سيما في رسوم الحيوان والطير. ومن أجمل
التحف المعروفة من هذا النوع صحن في مجموعة يومورفوبولوس Eumorfopoulos، ومعظمها يُنسب أيضًا إلى قاشان في القرن الخامس
الهجري.
على أن أبدع أنواع الخزف ذي الزخارف المحفورة ما امتاز بتعدد ألوانه وسيادة
العنصر التصويري فيه. أما الألوان التي شاع استعمالها في هذا الضرب من الخزف فهي
الأزرق بدرجاته المختلفة، والأخضر المائل إلى الزُّرقة، والأخضر الفاتح، والأحمر
الأرجواني، والأصفر الفاتح، فضلًا عن لون الباذنجان بين السواد والحمرة. ومعظم
التحف الباقية من هذا النوع صحون واسعة. على أن مجموعة باريش وطسون
Parish Watson فيها إناء من نوع الألبارلو
albarello،
٢٨ وفي مجموعة السر أرنست ديبنهام
Debenham كأس، وفي المتحف البريطاني وعاء غريب الشكل
٢٩ يُظَن أنه وعاء للحلوى، أما زخارف هذا النوع فطيور كالطاووس والغزال
والإوز والصقر، أو كائنات خرافية كأبي الهول والطائر الذي له وجه سيدة. وتظهر
الزخرفة على أرضية صفراء فاتحة أو بيضاء وتزينها رسوم فرع نباتية.
وأجمل التحف المعروفة من هذا النوع صحن من مجموعة يومورفوبولوس
Eumorfopoulos عليه رسم شخص في ملابس فضفاضة
يرقص بين موسيقيين فوق دكة يحملها كلبان أو ضبعان.
٣٠ وفي القسم الإسلامي من متاحف الدولة ببرلين صحن مشهور عليه رسم ديك في
وضع زخرفي، وعليه طابع العظمة والقوة (انظر شكل
٨٠)، وفي متحف
كليفلاند صحن آخر كان في مجموعة أيفريت
ماسي
Everit Macy وفيه رسم بازٍ أنقضَّ على ديك رومي (انظر شكل
٧٩). وفي مجموعة الدكتور علي باشا إبراهيم صحن جميل عليه رسم
طائر له وجه سيدة، كما أن المتحف المتروبوليتان بنيويورك فيه بعض صحون من هذا
النوع. وعلى كل حال فإن هذا الخزف يُنسب أيضًا إلى الري وقاشان في القرن الخامس
الهجري (الحادي عشر الميلادي).
وثَمَّةَ نوع رابع من الخزف ذي الزخارف المحفورة، نرى الرسوم فيه محفورة حفرًا
دقيقًا تحت الدهان، ويُستعمل فيه اللون الأصفر والأسمر والذهبي والأخضر ولون
الباذنجان، ولكنا نجد الألوان مفصولة بعضها عن بعض، كما يبدو ذلك في المثلثات
الصغيرة التي تزين حافَة الإناء وتكوِّن زخرفة كأسنان المِنْشار. ومعظم زخارف هذا
الخزف طيور تقوم على أرضية من الأغصان والفروع النباتية.
٣١ ومما يَلْفِت النظرَ أن سلطانيتين من هذا النوع عليهما اسم صانعهما
«أبو طالب»، وإحداهما في متحف اللوفر والأخرى في معهد الفن بمدينة شيكاغو.
(١-٩) خزف جبري
ومن أعظم أنواع الخزف الإيراني شأنًا في العصر الإسلامي نوع قائم بذاته، ويُعرف
باسم «جبري» وهو اسم عَبَدة الشمس في إيران. وقد نسبه تجار العادِيَات وغيرهم إلى
عَبَدة الشمس؛ لأنهم ظنوه من صناعتهم قبل أن ينتشر الدين الإسلامي في كل الأقاليم
الإيرانية. ولعل الذي دفع إلى هذا الزعم ما نراه في رسوم هذا الخزف من حيوان وطيور
لا يُنتظر أن يقدم المسلمون على استخدامها، فضلًا عن أن بعض الزخارف البارزة في هذا
الخزف تشبه الزخارف التي استُخدمت في الأواني الفِضية التي تُنسب إلى العصر
الساساني.
كان هذا الخزف يُنسب إذن إلى القرنين الأول والثاني بعد الهجرة (السابع والثامن
بعد الميلاد)، ولكن حدث أن كُشفت بعض قطع منه ووجُد عليها كتابات بحروف كوفية، تجعل
من الراجح نسبتها إلى القرنين الرابع والخامس بعد الهجرة (العاشر أو الحادي عشر)؛
فمن المحتمل أن يكون خزف «جبري» من منتجات إيران في الأربعة القرون الأولى بعد
الفتح الإسلامي.
وعلى كل حال فإن الزخارف في هذا الضرب من الخزف تكون في الغالب من كتابات كوفية،
ومن رسوم طيور أو حيوانات حقيقية أو خرافية، ولا سيما الأسد والثور والجمل وأبو
الهول والغريفون والباز والطاووس والنسر، ولكنها محفورة حفرًا عميقًا في الطبقة
البيضاء الرقيقة التي تكسو السطح بحيث يصل هذا الحفر إلى العجينة الحمراء المصنوع
منها الإناء. وتعلو العجينة والطبقة البيضاء التي تغطيها مادَّةٌ زجاجية شفافة ذات
لون أصفر أو أخضر أو أسمر قاتم.
ولعل أكثر ما يَلْفِت النظرَ في هذا النوع من الخزف مظهر الحياة والقوة التي تبدو
على رسومه الزخرفية. وفي مجموعة الدكتور علي باشا إبراهيم بالقاهرة نماذج طيبة
جدًّا تمثِّل أكثر الأصناف المعروفة منه، والتي يُطلق على كل منها اسم المدينة
الإيرانية التي يُظَن أنه عُثِرَ عليه فيها مضافًا إلى اسم «جبري» الذي يطلق على
تلك الأصناف مجتمعة.
وصفوة القول أن هذا الخزف شعبي إلى حد كبير، وصناعته تُذَكِّر بالأساليب الفنية
الساسانية، وتختلف عن الخزف الذي كان يُصنع للبلاط وكبار رجال الدولة. وطبيعي أن
الفن الشعبي يكون أكثر تمسكًا بالأساليب الفنية الموروثة من فنون البلاط.
وقد عُثر على معظم هذا الخزف في إقليمي كردستان ومازندران؛ فلفت النظرَ منذ
البداية بقوة رسومه وبإتقان توزيعها في قاع الإناء وجوانبه، وبإبداع لونه ولا سيما
الأخضر منه.
ومن أثمن التحف المعروفة من هذا الخزف سلطانية في مجموعة جنتر
F. h. Gunther عليها رسم نسر عظيم (انظر شكل
٨٢)، وسلطانية أخرى في مجموعة واربرج
Warburg عليها رسم دقيق وجميل النِّسَب لنسر فوق أرضية من وريقات نباتية،
٣٢ وسلطانية في معهد الفن بمدينة شيكاغو عليها زخرفة من كتابة بالخط
الكوفي فوق أرضية من الأغصان والفروع النباتية.
٣٣ والظاهر أن بعض هذه الكتابات كان يشمل إمضاء الصانع، كما نرى في قنينة
بمجموعة أوسكار رفائيل
Oscar Raphael عليها اسم
محمود بن إبراهيم بن عبد الوهاب، وفي سلطانية بمجموعة المستر بوب
Pope عليها اسم بدر مكررًا ثلاث مرات.
٣٤
وفي دار الآثار العربية بالقاهرة بعض الأواني النفيسة من خزف «جبري»، أعظمها
شأنًا كأس كانت في مجموعة بوتييه
Pottier وعليها
رسم جمل باللون الأصفر الفاتح فوق أرضية سمراء.
٣٥
(١-١٠) خزف مازندران
امتاز إقليم مازندران بإنتاج ضروب معينة من الخزف، أشهرها ثلاثة تُنسب إلى ثلاث
مدن؛ هي ساري وآمل وأشرف.
فالنوع المنسوب إلى ساري يُرجعونه إلى نهاية القرن الرابع وإلى القرن الخامس بعد
الهجرة، ومعظمه سلطانيات عليها زخارف تحت الدهان من رسوم متعددة الألوان تمثل
طيورًا خرافية على أرضية بيضاء. وبين الأمثلة المعروفة من هذا النوع سلطانية في
مجموعة لويزون
Lewisohn،
٣٦ وأخرى في مجموعة الدكتور علي باشا إبراهيم، والأخيرة عليها رسم تخطيطي
لطائر باللون الأسمر فوق أرضية صفراء فاتحة، وتحته ثلاثة خطوط مزدوجة ينتهي كل منها
بدائرة تحدُّها منطقة لونها بني غامق، وفي الدائرة منطقتان: سمراء وبيضاء ثم خضراء
وسوداء (انظر شكل
٨٨).
أما آمل فينسب إليها خزف أبيض عليه زخارف محفورة، وفيه خطوط ونقط باللون الأخضر
أو بلون الباذنجان. وإذا استثنينا إناءً مكسورًا وأصله على هيئة الألباريلو؛
٣٧ فإن المعروف من هذا الخزف صحون كبيرة وثقيلة الوزن، ذات عجينة ضاربة
إلى الحمرة، وعليها غشاء لونه أبيض أو أصفر فاتح. ومن الزخارف التي نراها عليه رسوم
الإوز والبط والسمك والسباع والغزلان والطواويس، وبعض هذه الزخارف مرتب بأسلوب
يُذَكِّر بالمنسوجات والتحف المعدِنية الساسانية.
وفي مجموعة الدكتور علي باشا إبراهيم سلطانية من هذا الخزف، قوام زخارفها مناطق
دائرية متحدة المركز، وفي وسطها رسم طائر. وقد كانت هذه التحفة النفيسة في مجموعة
بوتييه
Pottier.
٣٨
وينسب تجار الآثار الإيرانية إلى مدينة أشرف نوعًا غير جيد من الخزف، يمتُّ ببعض
الصلة إلى الخزف المصنوع في آمل، ولكنه أثقل منه وزنًا وسمكًا، ودهانه أصفر، عليه
رسوم بسيطة باللون الأخضر، يغلب أن تكون في حافَة الإناء، بينما نرى في وسطه جامات
محفورة تحت الدهان حفرًا عميقًا. وأكبر الظن أن هذا الخزف المصنوع في آمل وفي أشرف
يرجع إلى القرنين السابع والثامن بعد الهجرة (الثالث عشر والرابع عشر بعد
الميلاد).
(١-١١) خزف مدينة الري
كانت مدينة الري منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) من أعظم بلاد العالم
الإسلامي، فكتب عنها ابن حوقل أنها أجمل مدن الشرق بعد بغداد. وكتب ياقوت الحموي:
«فأما الري المشهورة فإني رأيتها وهي مدينة عجيبة الحسن مبنية بالآجُرِّ المُنَمَّق
المحكم الملَمع بالزرقة، مدهون كما تدهن الغضائر … وكانت مدينة عظيمة خرب أكثرها.
واتفق أنني اجتزت في خرابها في سنة ٦١٧ وأنا منهزم من التتر فرأيت حيطان خرابها
قائمًا، ومنابرها باقية، وتزاويق الحيطان في حالها؛ لقرب عهدها بالخراب، إلا أنها
خاوية على عروشها.»
٣٩ ثم نقل ياقوت ما كتبه الإصطخري في كتاب «الممالك والمسالك»؛ حيث قال:
«وهي مدينة إذا جاوزْتَ العراق إلى المشرق فليس مدينة أعمر ولا أكبر ولا أيسر أهلًا
منها إلى آخر الإسلام إلا نيسابور فإنها في العرضة أوسع، فأما اشتباك الأبنية
والعمارة واليسار فإن الري تفضلها.»
٤٠
وقد أَيَّدت الحفائرُ في أنقاض هذه المدينة ما كُتب عن فخامة بيوتها وازدهار
الصناعات الفنية فيها، ولا سيما الخزف والمنسوجات والتحف المعدِنية. وأكبر الظن أن
الري كان لها في ذلك العصر ما نراه الآن في بعض المدن الكبيرة من تركز المصانع في
الضواحي. ولعل وجود المصانع الكبيرة في الضواحي والقرى التابعة للري هو الذي أنقذها
إلى حدٍّ ما من الخراب الذي جرَّه غزو المغول على كثير من المدن الكبرى في الشرق
الأدنى.
والمعروف أن سلاطين السلاجقة كانوا من أعظم رعاة الفن في التاريخ الإيراني، وقد
كان طغرل الثاني — آخر الذين حكموا منهم في إيران — شديد العناية بالفن والفنانين؛
فبلغت في عصره (٥٧٣–٥٩٢ﻫ/١١٧٧–١١٩٤م) الصناعاتُ الفنية في مدينة الري أوج عظمتها.
وكان على رأس هذه الصناعات — بل أعظمها على الإطلاق — صناعة الخزف.
وقد عقد البيروني في كتابه «الجَماهِر في معرفة الجواهر» فصلًا في ذكر القِصَاع
الصينية، كتب فيه:
وكان لي بالري صديق من الباعة أصبهاني، أضافني في داره؛ فرأيت جميع ما
فيها من القِصَاع والإسكرجات والنوفلات والأطباق، والأكواز والمشارب، حتى
الأباريق والطسوس والمحارض والمنارات والمسارج وسائر الأدوات، كلها من خزف
صيني؛ فتعجبت من همته في ذلك في التجمل.
٤١
ولكن وفاة طغرل الثاني وغارة أمراء خوارزم شاه، وما ترتب على ذلك من الاضطراب،
جَرَّ على مدينة الري خسارة كبيرة، قبل أن يضربها المغول الضربة العظمى سنة
٦٢١ﻫ/١٢٢٤م. على أن موقعها في ملتقى الطرق الرئيسية في إيران أتاح لها أن تقوم
ثانية، وأن تستعيد قسطًا وافرًا من مكانتها الأولى في التجارة والصناعة.
٤٢
ومهما يكن من الأمر فإن مدينة الري كانت من أعظم مراكز الصناعة الخزفية في إيران،
إن لم تكن أعظمها على الإطلاق. ولا غَرْوَ أنْ نَسَبَ إليها مؤرخو الفنون أصنافًا
عديدة من الخزف.
فثمة تحف خزفية عثروا على نماذج قليلة منها في الري وفي بلاد الجزيرة، وهذه التحف
— في أكثر الأحيان — أطباق غير عميقة ولها حافَة منبسطة، أما طلاؤها فأبيض اللون
كالقشدة، وعليه طبقة من المينا. وأهم الزخارف التي استُخدمت في هذا النوع رسم
البراق، فضلًا عن الطيور والبط والإوز. ولعل أبدع القطع المعروفة من هذا الخزف طبق
في القسم الإسلامي من متاحف برلين، وعليه رسم نسر أو ديك كبير، ثم طبق آخر في
مجموعة يومور فوبولوس بلندن، وعليه رسم منظر رقص وموسيقى فوق مرسح يسنده حيوانان
ضاريان. أما أهم الألوان المستخدمة في هذه المجموعة المنسوبة إلى القرنين الخامس
والسادس بعد الهجرة (الحادي عشر والثاني عشر بعد الميلاد)، فهي الأزرق والأخضر
والأرجواني.
وقد كان لمدينة الري المكانة الأولى في استخدام الخزف ذي البريق المعدِني في شتى
أنواع المنتجات الخزفية؛ كالأواني والمحاريب والمقاعد والموائد والتماثيل الآدمية
والحيوانية. واختلفت الزخرفة بالبريق المعدِني في هذا العصر عما عرفناه عنها في
العصر السابق؛ فأصبحت الأرضية هي التي تُغَطَّى بالبريق المعدِني، بينما نرى رسوم
الأشخاص بيضاء محجوزة في تلك الأرضية. وقد كان الشائع في العصر السابق أن صور
الأشخاص هي التي تُغَطَّى بالبريق المعدِني دون سائر الأرضية.
وقد استعمل الخزفيون في الري عددًا وافرًا من الزخارف الهندسية والنباتية، ورسموا
معظم الحيوانات التي عرفوها في ذلك الوقت، ولا سيما الأرنب وكلب الصيد، كما اتخذوا
بعض الزخارف من مناظر الرقص والطرب والموسيقى والصيد ولعب الصوالجة (البولو)
والحفلات الرسمية، بل لقد رسم أحدهم صورة طبيب يَفْصِد سيدة أنيقة، وذلك في قاع
سلطانية محفوظة في القسم الإسلامي من متاحف برلين.
٤٣
وتمتاز التحف الخزفية البديعة ذوات البريق المعدِني من صناعة الري بوضوح رسمها
وصفائه وبإبداع تأليف زخارفها، كما يتجلى مثلًا في الصحن المحفوظ في مجموعة
برانجوين بمتحف فكتوريا وألبرت، وهو يرجع إلى القرن الخامس أو السادس بعد الهجرة
(الحادي عشر أو الثاني عشر بعد الميلاد)، وقوام زخرفته رسم فارس جليل المنظر فوق
حصان من الجياد الكريمة (انظر شكل
٧٨).
ويظهر توفيق الفنان في تصوير الحركة على إبريق في معرض فرير
Freer Gallery تتكون زخرفته من رسم ثعلب يطارد
أرنبًا (انظر شكل
٨٨). كما أن بعض الخزفيين كانوا يقلدون شكل
الأواني المعدِنية. ومن أمثلة ذلك إبريق في مجموعة بلزبري
A. Pillsbury يرجع إلى نهاية القرن السادس الهجري (انظر شكل
٨٤).
وقد اتخذت الفنون الإيرانية اتجاهًا جديدًا منذ نهاية القرن السادس الهجري
(الثاني عشر الميلادي)؛ فصارت الدقة والظرف والأناقة تغلب عليها شيئًا فشيئًا. ولا
غَرْو فقد ازدهرت فنون الكتاب، وظهر تأثير المذهِّبين والمصورين على سائر الفنون،
كما نرى جليًّا في سلطانية بمعهد الفن في شيكاغو
٤٤ مؤرخة من محرَّم سنة ٥٨٧ﻫ/١١٩١م،
٤٥ وتمتاز عدا ذلك بما ذاع في ذلك الوقت من الميل إلى الزخرفة باتخاذ
الخطوط أو الدوائر لتقسم سطح الآنية إلى مناطق تُكْسِب الرسم شيئًا من الأناقة
والاتزان.
وكثر في ذلك العصر اتخاذ الحروف الكوفية لتزيين حافَة الآنية. وكان الفنانون
يُعْنَوْنَ في بعض الأحيان برسم تلك الحروف فيمكن قراءتها، كما كانوا يرسمونها في
أحيان أخرى بطريقة تبعدها عن أصولها وتجعلها زخرفة شبه كتابية. واستعملوا كذلك الخط «المحقق»
٤٦ في الكتابة التي تدور حول حافَة الإناء.
وكان الخزفيون في مدينة الري يصنعون لوحات القاشاني ذي البريق المعدِني، ولكن
منتجاتهم في هذا الميدان لم تصل إلى حدٍّ كبير من الإتقان، كما كان بعضهم ينقش
بالبريق المعدِني البلاطات المصنوعة من الملاط، على النحو الذي نراه في قطعة محفوظة
في مجموعة كلكيان
Kelekian، رُسم عليها أربعة
أشخاص تحيط برءوسهم هالات من النور، ويركب أحدهم حِمارًا أو فرسًا،
٤٧ وقد يكون المقصود رسم السيد المسيح — عليه السلام — داخلًا بيت المقدس،
وربما كان الفنان الذي رسم هذا المنظر مسيحيًّا، ولكننا لا نوافق الدكتور توماس
أرنولد في قوله بأن كثيرين من الفنانين في مدينة الري كانوا من المسيحيين؛ لما نراه
من إقبالهم على استعمال الصور الآدمية في منتجاتهم؛
٤٨ فقد مرَّ بنا أن الفنانين المسلمين لم يتركوا تصوير المخلوقات الحية
تركًا تامًّا؛ فضلًا عن أننا نرى مثل هذه الصور في منتجات مدن إيرانية بعيدة كل
البعد عن المراكز الدينية المسيحية في الشرق الأدنى.
ولم تكن التحف الخزفية ذوات البريق المعدِني من صناعة الري ذات لون واحد، بل
استُعْمِلَتْ فيها ألوان أخرى إلى جانب البريق المعدِني، كما يظهر في محراب خزفي
صغير في دار الآثار العربية بالقاهرة، مؤرَّخ من سنة ٥٨٥ﻫ/١١٨٩م ونرى فيه اللون الفيروزجي.
٤٩
ولا ريب في أن الخزفيين بمدينة الري كانوا مغرمين بالتجديد والتنويع في منتجاتهم
الفنية، وأنهم أصابوا حظًّا وافرًا جدًّا من التوفيق في زخارف بعض هذه المنتجات
وإبداع ألوانها وجمال أشكالها، ولكنهم عمدوا منذ القرن السابع الهجري (الثالث عشر
الميلادي) إلى زيادة الكميات التي كانوا ينتجونها، وإلى العمل للسوق العادي وأصحاب
الذوق الفني المتوسط، كما أقبلوا في بعض الأحيان على تقليد الأنواع الجديدة التي
كانت تُصنع في بعض المراكز الفنية الإيرانية الأخرى؛ فكانت نتيجة ذلك أن انحطت
أنواع الخزف ذي البريق المعدِني في مدينتهم.
•••
ولكن ضربًا جديدًا من التحف الخزفية قُدِّر له أن يصبح فخرًا لمدينة الري في
تاريخ الفنون الإسلامية، ونقصد بذلك الخزف المصنوع من عجينة ملوَّنة ومغطاة بطلاء
قصديري مُعْتِم، تُرسم فوقَه الزخارف بالألوان المختلفة من أزرق وأسود وأخضر وأسمر
وأحمر. ويتجلى في هذه الزخارف التأثر العظيم بفن التصوير في المخطوطات من منتجات
المدرسة السلجوقية.
٥٠ وكان التذهيب في بعض الأحيان يَزِيدها حُسْنًا وبهاءً.
ومعظم التحف الخزفية المصنوعة من هذا النوع أكواب وأباريق وصحون غير عميقة
وسلطانيات مستديرة الجسم أو ذات أضلاع. ومن الأواني التي كثر استخدامها في ذلك
الوقت قنينة جسمها بيضي الشكل بين قاعدة صغيرة ورقبة دقيقة تنتهي بأسطوانة سميكة
قبل الفوهة (انظر شكل
٩٤).
أما زخارف هذه التحف فتكثر فيها رسوم أمراء وأميرات بين رجال الحاشية ونسائها، أو
رسوم صيد وقتال وطرب وفروسية. وقد أصاب الفنانون في هذه الزخارف حظًّا وافرًا من
التوفيق، كما يظهر مثلًا في قنينة محفوظة في مجموعة باريش وطسن
Parish Watson (انظر شكل
٩٤)، وفي إناء من مجموعة الدكتور علي باشا إبراهيم (انظر شكل
٩٥)، وكأس في متحف اللوفر بباريس،
٥١ وفي سلطانية من مجموعة دافيد
David
(انظر شكل
٩١)، وتمتاز الأخيرة بأن قوام زخرفتها فروع نباتية
يحف بها رسم طائرين ورسم حيوانين خرافيين، لكل منهما جَناحان ورأس سيدة.
وقد وصلت إلينا أسماء ثلاثة فنانين من الذين عملوا في إنتاج هذا الخزف، وهم: علي
بن يوسف، وقد جاء اسمه على سلطانية في معرض
فرير
Freer Gallery.
٥٢ والثاني أبو طاهر حسين، وقد جاء اسمه على سلطانية في دار الآثار العربية،
٥٣ وعمله أقل جودة من عمل زميله علي بن يوسف. أما الفنان الثالث فاسمه
حسين، وقد جاء هذا الاسم على سلطانية في مجموعة بارلو
J. A. Barlow.
٥٤
ومهما يكن من الأمر فإن هذا الخزف ذا الزخارف المنقوشة فوق الدهان — والذي يُعرف
باسم مينايي — قد صُنع بمدينة الري في النصف الثاني من القرن السادس وفي القرن
السابع الهجري (في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، وفي القرن الثالث عشر بعد
الميلاد)، وقد عُثر على أجمل القطع المعروفة منه في أطلال تلك المدينة، كما عُثر في
أطلالها أيضًا على التحفة الوحيدة المؤرخة من هذا الخزف، وهي السلطانية المحفوظة في
المتحف البريطاني، والتي ترجع إلى سنة ٦٤٠ﻫ/١٢٤٢م،
٥٥ وقد كانت سابقًا في مجموعة فرنون
ويذرد
Vernon Wethered.
(١-١٢) خزف مدينة قاشان
لا ريب في أن قاشان تستحق في تاريخ الخزف الإيراني مكانة تفوق ما ظنه مؤرخو
الفنون الإسلامية في السنين الأخيرة. والواقع أن ما نعرفه عن هذه المدينة أقل بكثير
مما نعرفه عن سائر المدن الإيرانية الكبيرة مثل تبريز وهراة والري، ولكن حسبنا —
لبيان ما كان لها من عظيم الشأن في تاريخ الفنون الإيرانية — أن كلمة «قاشاني»
تُستعمل للدلالة على بعض أنواع الخزف حتى اليوم، بعد أن كانت في العصور الوسطى
تُطْلَق على الخزف المصنوع في تلك المدينة، كما يظهر من قول ياقوت في معجم البلدان:
قاشان مدينة قُرْبَ أصبهان تُذكر مع قم، ومنها تُجْلَب الغضائر القاشاني،
والعامة تقول: القاشي.
وفضلًا عن ذلك فقد ازدهر فيها فن تحسين الخط وصناعة التحف المعدِنية، وقد عُثِرَ
في أطلال قاشان على كَمِّيَّات وافرة من شتى أنواع الخزف، كما عُثر فيها على بعض
الأفران وعلى نحو ثلاثين قطعة تالفة أثناء حرقها في الفرن؛ مما يدل على أنها
صُنِعَتْ في قاشان ولم تُصَدَّر إليها من مراكز صناعية أخرى. كما أن الجغرافيين
والرحالة في العصور الوسطى لاحظوا استعمال الخزف المصنوع بمدينة قاشان في كثير من
العمائر الجميلة في شتى أنحاء العالم الإسلامي.
وقد جاء كشف المخطوط الذي وُجد في إستانبول مؤيِّدًا لما نعلمه عن قاشان في صناعة
الخزف؛ فإن مؤلفه أبا القاسم عبد الله بن علي بن محمد بن أبي طاهر أخصائي في هذه
الصناعة، كتبه في قاشان سنة ٧٠٠ﻫ/١٣٠٠م، ووصف فيه بعض العمليات الفنية في عمل
الخزف، وتحدث عن مصادر بعض المواد المستعملة فيه؛ ولا غرو فقد كان من أسرة ذاعت
شهرةُ أفرادها في هذا الميدان، ولا تزال أسماء أخيه يوسف بن علي بن محمد وأبيه علي
بن محمد وجده محمد بن أبي طاهر بن أبي حسن باقية على بعض الآثار الفنية الخزفية المعروفة
٥٦ (انظر شكل
٣٥).
ومن الخزفيين الذين ذاعت شهرتهم في قاشان أبو زيد وعلي ابنا محمد أبي زيد، وقد
اشتغلا بصناعة الخزف ذي البريق المعدِني في بداية القرن السابع الهجري (الثالث عشر
الميلادي)، وجاء اسم أبي زيد على أحد المحاريب في حرم ضريح الإمام رضا بمدينة مشهد.
٥٧ وتاريخ هذا المحراب ٦١٢ﻫ/١٢١٥م، ومنهم كذلك الحسن بن عربشاه الذي جاء
جاء اسمه على محراب من القاشاني ذي البريق المعدِني والزخارف البارزة، أصله من جامع
الميدان في قاشان ومؤرَّخ من سنة ٦٢٣ﻫ/١٢٢٦م، ومحفوظة الآن في القسم الإسلامي من
متاحف الدولة في برلين (انظر شكل
٢٨)، وجاء اسم هذا الفنان
أيضًا على بعض لوحات من محراب محفوظ الآن في متحف فكتوريا وألبرت بلندن.
كما أننا نعرف خزفيين آخرين من قاشان مثل علي الحسيني كاتبي، الذي نجد إمضاءه على
محراب في متحف الهرميتاج، وحسين بن علي بن أحمد، وقد جاء اسمه على محراب في المتحف
المتروبوليتان بنيويورك،
٥٨ وعبد الله بن محمود بن عبد الله الذي نرى إمضاءه على لوحة من القاشاني
مؤرخة من سنة ٦١٢ﻫ/١٢١٥م، وموجودة في حرم ضريح الإمام رضا بمدينة مشهد.
٥٩
والحق أن تلك المحاريب التي تحدثنا عنها الآن تُعد من أبدع الآثار الفنية التي
أنتجها الخزفيون الإيرانيون في كل العصور. وإذا حكمنا بما نراه في هذه النماذج
المعروفة من دقة وإتقان وإبداع ألوان أدركنا أن صناعتها لم تكن مجهولة في القرن
السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وأنها ارتقت بعد ذلك حتى وصلت إلى الازدهار
الذي عرفناه.
•••
واستطاع الإيرانيون إتقان صناعة النجوم والتربيعات من الخزف ذي البريق المعدِني
لكسوة الجدران، ونمت هذه الصناعة نموًّا عظيمًا بين القرنين السادس والثاني عشر بعد
الهجرة (الثاني عشر والثامن عشر بعد الميلاد). وكانت تلك النجوم الخزفية آية في دقة
الصناعة وجمال اللون وإبداع الرسوم النباتية والحيوانية والآدمية التي تزينها. أما
سائر الألواح الخزفية التي كانت تُكسى بها الجدران، فكانت زخارفها بارزة وتزينها
الكتابة الكوفية والنسخية.
وقد اشْتَهَرَتْ قاشان على الخصوص بصناعة اللوحات ذات البريق المعدِني من مختلف
الأحجام والأشكال، فمنها النجمية والصليبية الشكل وذات الأضلاع المتعددة. وكانت في
البداية ملساء ذات زخارف منقوشة فحسب، ولكن بعضها أصبح منذ نهاية القرن السابع
الهجري (الثالث عشر الميلادي) ذا زخارف بارزة قليلًا. ومهما يكن من الأمر فإنا نجد
على هذه اللوحات زخارف مختلفة بين رسوم آدمية وحيوانية ونباتية
٦٠ (انظر شكل
١٠٦)، ويظهر فيها كلها التأثر بفن
تصوير المخطوطات.
وقد وصلتنا أسماء ثلاثة فنانين ممن اشتغلوا بصناعة تربيعات القاشاني ذي البريق
المعدِني: وهم أبو زيد أو أبو رفضة وفخر الدين وجمال الدين، وأعظمهم شأنًا هو أبو
زيد أو أبو رفضة، وقد عمل في بداية القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، كما
يظهر من القطع المؤرخة التي عليها اسمه والتي نرى إحداها في دار الآثار العربية بالقاهرة.
٦١ وثمة قطع أخرى تشبه هذه القطع الممضاة، حتى لترجح نسبتها إلى هذا
الفنان أيضًا، ومنها أقدم النجوم المعروفة على الإطلاق، وهي في دار الآثار العربية
أيضًا، وتاريخها سنة ٦٠٠ﻫ/١٢٠٣م، وعليها رسم أربع سيدات فوق أرضية من الزخارف النباتية.
٦٢
ولما زاد تأثر الفنون الإيرانية بالأساليب الفنية الصينية في القرن الثامن الهجري
(الرابع عشر الميلادي) استعمل صناع اللوحات الخزفية رسوم الحيوانات الخرافية
الصينية كالتنين والعنقاء، كما يتجلى في قطعتين جميلتين من مجموعة الدكتور علي باشا
إبراهيم، معروضتين الآن في دار الآثار العربية.
ولكن صناعة تلك التربيعات القاشانية بدأت في الاضمحلال منذ نهاية القرن الثامن
الهجري (الرابع عشر الميلادي)؛ فساء نوع البريق المعدِني والزخارف النباتية التي
كانت أرضية للرسم الرئيسي. ولعل ذلك ناشئ من الإقبال على صناعة الفسيفساء الخزفية
التي كانت أقل نفقة وأكثر ملاءمة لتغطية المساحات الواسعة.
وأكبر الظن أن نشاط الخزفيين في قاشان لم يكن وقفًا على المحاريب والتربيعات
القاشانية، بل لقد أنتجوا ضروبًا طيبة جدًّا من الأواني والتحف ذوات البريق
المعدِني، استعملوا فيها معظم الرسوم التي عرفناها في زخارف المحاريب والتربيعات،
حتى ليمكننا في بعض الأحيان أن ننسب بعض هذه التحف أو الأواني إلى الفنانين الذين
جاءت أسماؤهم على بعض المحاريب والتربيعات.
ولعل أبدع الأواني المصنوعة في قاشان سلطانية في مجموعة هافماير
Havemayer، مؤرخة من سنة ٦٠٧ﻫ/١٢١٠م، وفيها رسم
أمير جالس بين نساء من حاشيته.
٦٣ ولا ريب في أن صانع هذه التحفة فنان من الطراز الأول، كما يتجلى في
اتزان الزخرفة وفي تمييزه سِحْنة الأمير تمييزًا يكاد يجعل رسمه صورة شخصية.
وقد يكون هذا الفنان نفسه أو أحد تلاميذه صانع الصحن المشهور في مجموعة
يومورفو بولوس
Eumorfopoulos (انظر شكل
٨٧). وقوام الزخرفة في هذه التحفة رسم خسرو يفجأ شيرين تستحم؛
فنراها في مجرى ماء جلس أمامه خسرو مأخوذًا بمنظر الغانية في الماء، وفي حافَة
الإناء كتابة بالخط النسخي قد مَحَى الزمن بعضها، كما أُعِيَدت كتابة بعض كلمات
فيها، وقد قرأ الأستاذ فييت هذه الكتابة كما يأتي:
٦٤
[ا]لسعادة والسلامة والكرامة والنعمة … الأمير اسفهسلار الكبير العالم
العادل المؤيد المظفر المجاهد نصرة الإسلام والمسلمين … الملوك والسلاطين
سيد الأ[مراء] [اﺳﻔﻬ]ﺴﻼر الكبير العالم العادل المؤيد المظفر المنصور …
[ﺣ]ﺴﺎم أمير المؤمنين أعز الله أنصاره وضاعف اقتداره، صنعه السيد شمس الدين
الحسيني في شهر جمادى الآخر سنة سبع وستمائة ﻫ[ﺠﺮية].
وصفوة القول أن قاشان كانت مركزًا عظيمًا جدًّا من مراكز الصناعة الخزفية، وأن
شهرة مصانعها ذاعت في بلاد الشرق الإسلامي قاطبةً بين القرنين السادس والثامن بعد
الهجرة (الثاني عشر والرابع عشر بعد الميلاد)؛ بل إنها لم تفقد هذه المكانة في
القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، وحسبنا دليلًا على ذلك التربيعة
القاشانية المحفوظة في المتحف المتروبوليتان والمؤرخة من سنة ٨٦٠ﻫ/١٤٥٥م، والتي لم
تفقد ما نعرفه من منتجات قاشان من دقة الصنعة وجمال الزخرفة.
ويمتاز الخزف ذو البريق المعدِني من صناعة قاشان بأن معظم موضوعاته الزخرفية كانت
توضيحية، وبأن الفنان لا يخص صورة شخص بقسط أوفر من عنايته، بل يوزعها على كل أجزاء
الرسم، على عكس ما نعرفه في الخزف المصنوع بمدينة الري. كما عُني الفنان برسم
الفروع النباتية المتصلة (الأرابسك) رسمًا دقيقًا يغطي معظم الأرضية، وأكثروا من
رسم البركة ذات السمك. وبين موضوعاتهم الزخرفية النباتية رسم وريقات شجر فيها صفوف
منحنية من نقط متجاورة، ورسم وُريقات أخرى ذات خمسة فصوص ورسم شجرة السرو، التي نرى
عليها في معظم الأحيان صورة الطائر المعروف باسم «أبو قردان». أما الطيور التي
أقبلوا على رسمها في زخارفهم فأهمها أبو قردان هذا ثم البطة والقنبرة
والحمامة.
وقد عرف الخزفيون في قاشان صناعة التحف المصنوعة من عجينة ملونة، والمغطاة بدهانٍ
فوقَه الزخارف بالألوان المختلفة. وقد كان هذا الضرب من الخزف (مينايي) يُنسب إلى
مدينة الري دائمًا، حتى عُثر على بعض قطع جميلة منه في أرض قاشان، ثم كُشف مخطوط إستانبول.
٦٥ والحق أن قَصَبَ السَّبْقِ في إنتاجه كان لمدينة الري دائمًا، وأن
الخزفيين في قاشان لم يتقنوه تمامًا ولم يثابروا على إنتاجه مدة طويلة، ومع ذلك فقد
وصلتنا بعض تحف جميلة منه يُرجح أنها من صناعة قاشان. ومنها سلطانية في مجموعة ليهمان
Ph. Lehmann، عليها نقوش فوق الدهان وفيها
تذهيب، وقوام زخرفتها رسم شخصين بينهما شجرة وحولهما فرعان نباتيان ورسم طيور صغيرة
(انظر شكل
٩٢).
وفي دار الآثار العربية بالقاهرة تربيعتان من القاشاني المموه بالمينا، أرضيتهما
زرقاء فيروزية اللون وعليهما زخارف من فروع نباتية مزهرة ومُذَهَّبة وقليلة البروز،
وعلى إحداهما رسم فارسين يحث كل منهما مَطِيَّتَهُ على العَدْو إلى الجهة اليسرى،
بينما نرى على الأخرى رسم بهرام جور وحبيبته في الصيد، فوق جمل ذي لون أحمر مائل
إلى السمرة، وفي يد الملك قوس يشده، أما حبيبته الراكبة خلفه فتعزف على عود،
٦٦ وترجع هذه التحفة إلى القرن السابع الهجري (الثالث عشر
الميلادي).
ويجدر بنا في هذه المناسبة أن نشير إلى الخزف ذي الزخارف البارزة بروزًا قليلًا،
والمذهبة في معظم الأحيان، فإنه يشبه التربيعتين المذكورتين في الصناعة وفي
الزخرفة. وأكبر الظن أن معظم الأواني التي صُنعت على هذا الطراز مصدرها مدينة الري،
ومن المحتمل أن بعضها صنع في قاشان وفي ساوه.
وثمة ضروب أخرى من الخزف لم تكن وقفًا على قاشان، ولكن الأرجح أنها نشأت في هذه
المدينة أو كانت ذات صلة وثيقة بها. ومن هذه الأنواع خزف أزرق زرنيخي ذو زخارف فوق
الدهان منقوشة بالأبيض أو باللونين الذهبي أو الأحمر، ومعظم هذه الزخارف من الرسوم
النباتية والهندسية، ولا سيما النقط والدوائر والأرابسك. وقد تضاف إلى هذا رسوم سمك
يسبح، كما في سلطانية صغيرة كانت في مجموعة هاردنج
Harding بلندن.
٦٧
ومن أنواع الخزف الأخرى التي كثر إنتاجها بين القرنين الخامس والسابع بعد الهجرة
(الحادي عشر والثالث عشر بعد الميلاد) نوع أخضر فاتح مائل إلى الزرقة وعليه نقوش
سوداء. ولا شك في أنه كان يُصنع بمدينة قاشان، وإن كان من المحتمل أيضًا أن
الخزفيين في مدينة الري أنتجوا بعض أنواعه، وقد كان باطن بعض الأواني من هذا النوع
مقسومًا إلى مناطق تتجمع في القاع ويفصل كلًّا منها عن الأخرى شريط من الكتابة.
٦٨ على أن أبدع القطع المعروفة من هذا النوع إبريق في المتحف
المتروبوليتان بنيويورك، له سطح خارجي مخرَّم، وقوام الزخرفة في هذه التحفة رسوم
غزلان وكلاب صيد وحيوانات مجنَّحة لها وجوه آدمية،
٦٩ وهي مؤرخة من سنة ٦١٢ﻫ/١٢١٥م.
وفي مصر تحفة أخرى تشبهها في الصناعة، وهي إبريق في مجموعة الدكتور علي باشا
إبراهيم مؤرخ من سنة ٥٦٢ﻫ/١١٦٧م، وتنتهي رقبته على شكل رأس ديك (انظر شكل
٩٠). ولا ريب في أن صناعة مثل هذه التحفة تتطلب مهارة فنية
عظيمة؛ لثقب سطحها الخارجي في رسوم معقدة بدون كسره أو إتلافه، ولحرق القطعة في
الفرن بدون أن تلتوي أو تتجعد.
٧٠
وليس نادرًا أن نرى بين التحف الخزفية الإيرانية تماثيل حيوانات أو طيور أو أشخاص
جالسين. وفي مجموعة الدكتور علي باشا إبراهيم بضع تحف من هذا النوع، كما أن في دار
الآثار العربية طائرًا من الخزف ذي اللون الفيروزي المُحَلَّى بخطوط سوداء (انظر
شكل
١٠٠)، ويرجع إلى القرن السابع الهجري (الثالث عشر
الميلادي)، وفيها أيضًا جمل خزفي أزرق اللون.
٧١ وفي متحف جامعة برنستون
Princeton
تمثال خزفي صغير يمثل مغوليًّا جالسًا وفي يده زجاجة نبيذ ذات فُوَهتين (انظر شكل
٩٧).
(١-١٣) الخزف ذو اللون الواحد في مدينتي الري وقاشان
لعل أكثر أنواع الخزف انتشارًا في إيران في عصري المغول وبني تيمور هو الخزف
الأخضر والأزرق، وأكبر الظن أن مصانع الخزف كانت تنتج منه كميات هائلة أُتِيحَ
استعمالها لمختلف طبقات الشعب. وكان جُلُّ هذه المنتجات ذا شكل أنيق يشهد بحسن
الذوق الفني، فضلًا عن إتقان الصناعة، وتفهم أسرار تغطية التحف والأواني بالطلاء
وحرقها في الفرن. والحق أن الألوان المستخدمة كانت واسعة النطاق؛ فإننا نجد الأخضر
والأزرق بدرجاتهما المختلفة، كما نجد في بعض الأحيان الأصفر والأبيض والأرجواني،
أما زخارف هذا الخزف فكانت محزوزة أو مخرمة أو بارزة، وكان قوامها رسوم طيور
وحيوانات وفروع نباتية وأشرطة من الكتابات. وثمة أطباق من هذا الخزف في قاعها رسم
سمكات تسبح،
٧٢ ويُظَن أنها تقليد لنوع من الأطباق المصنوعة في الصين في عصر «سنج».
٧٣
وفي مجموعة الدكتور علي باشا إبراهيم صحنان جميلان من هذا النوع الإيراني ذي
السمكات. والواقع أن هذه المجموعة غنية ببعض القطع الجميلة جدًّا من الخزف الإيراني
ذي اللون الواحد (انظر شكل
٨٣ وشكل
٨٩).
ومن التحف الغريبة الشكل، والتي كانت تُصنع عادة من هذا الخزف ذي اللون الواحد،
قطع على هيئة بيت لا سقف له في معظم الأحيان، وفي صحنه بضعة أشخاص حول آنية أو شجرة
سرو، وقد تزين جدران البيت برسوم سباع بارزة أو برسوم عقود متتالية.
٧٤ على أننا لا نعرف تمامًا الغرض الذي استُخدمت له هذه التحف، وقد تكون
لعبة للأطفال على نحو ما نراه في حلوى المولد النبوي في العصر الحاضر، كما قد تكون
صورة لبعض الحفلات ذات العلاقة بأساطير الإيرانيين ودينهم القديم.
(١-١٤) الخزف المصنوع في مدينة ساوه
تقع ساوه على طريق القوافل من الغرب إلى الشرق، وهي جنوب غربي الري، وسط بينها
وبين همذان في الغرب وقاشان في الجنوب،
٧٥ وقد كُشِفَتْ فيها كَمِّيَّات عظيمة من الخزف ذي البريق المعدِني الذي
يرجع أقدمه إلى القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وعثر المنقبون على قطعتين
تالفتين في الفرن؛ مما يثبت أن هذا الخزف كان يُصنع في ساوه نفسها، وكُشِفَتْ بعد
ذلك مقادير وافرة من أنواع الخزف الأخرى، كما قيل إن آثار بعض أفران الخزف قد ظهرت
في أطلالها؛ مما ينبهنا إلى مكانة هذه المدينة بين المراكز الفنية في إيران.
على أن الأساليب الفنية في منتجات هذه المدينة لا تختلف كثيرًا عما عرفناه في
الري وقاشان، بل الواقع أن ساوه جمعت العناصر الزخرفية التي امتازت بها الأواني
الخزفية في الري وقاشان.
ومن منتجات ساوه سلطانية في مجموعة أوسكار
رفائيل
Oscar Raphael وهي مؤرخة من سنة ٥٨٣ﻫ/١١٨٧م، وعليها رسم سيدات في حديقة
وأمامَهن بركة يسبح فيها السمك (انظر شكل
٨٥).
ومنها كذلك إبريق في معرض فرير
Freer Gallery،
يرجع إلى نهاية القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وقوام زخرفته رسوم
سيدات وبط ووريقات عليها نقط؛ مما يثبت العلاقة الوثيقة بين منتجات قاشان وساوه
(انظر شكل
٨٦).
وينسبون إلى ساوه عددًا من التماثيل الخزفية التي تمثل بعض الحيوانات والطيور،
ومنها أسد رابض من الخزف ذي الدهان الأزرق الفيروزي (انظر شكل
١٠١)، وهو في مجموعة كيفوركيان
Kevorkian، ومنها جمل من الخزف ذي الدهان الأزرق الغامق، محفوظ
في دار الآثار العربية بالقاهرة (رقم السجل ١٤٣٥٨)، وكلاهما ليس تحفة خزفية فحسب،
بل يشهد بمهارة الفنانين في صناعة التماثيل أيضًا.
وصفوة القول أن ساوه كانت مركزًا عظيمًا لصناعة الخزف، ومن المحتمل أن الخزفيين
فيها كانوا ينسجون قصدًا على منوال زملائهم في الري وقاشان، كما يَحْتَمِل أيضًا أن
بعضهم نشأ في إحدى هاتين المدينتين ثم هاجر إلى ساوه كسبًا للرزق أو فرارًا من وجه
المغول.
(١-١٥) الخزف المصنوع في سلطاناباد
كان يحيط بمدينة سلطاناباد في القرنين السابع والثامن بعد الهجرة (الثالث عشر
والرابع عشر بعد الميلاد) عدد من القرى التي أصابت في صناعة الخزف شهرة واسعة. وقد
عثر المنقبون عن الآثار في أطلال تلك القرى على كَمِّيَّات وافرة من الخزف،
ينسبونها اختصارًا إلى سلطاناباد.
والمعروف أن هذا الخزف يُذَكِّر كثيرًا بما كان يُصْنَعُ في مدينة قاشان، بينما
لم يُعْثَر في أطلال إقليم سلطاناباد على كثير من الخزف الذي امتازت بصناعته مدينة
الري.
وقد لوحظ أن الدهان الذي يغطي الخزف المنسوب إلى سلطاناباد يصيبه الكَمَخ
٧٦ أكثر من المعروف في سائر أنواع الخزف الإيراني، كما لوحظ أيضًا أن بعض
أشكال السلطانيات لم نعرفه إلا في سلطاناباد، ولعله كان وقفًا عليها.
٧٧
ويمتاز الخزف الذي صُنع في سلطاناباد بقلة الألوان المستخدمة فيه، وبدقة رسوم
الحيوانات وبتوزيع الألوان بحيث يصعب التمييز بين ألوان الأرضية وألوان الزخارف.
ولعل العناية برسم الحيوان رسمًا يمثل الطبيعة تمثيلًا صادقًا، نقول: لعل هذه
العناية، راجعة إلى تأثير الشرق الأقصى. ومهما يكن من الأمر فإن الخزفيين في عصر
المماليك نسجوا على منوال زملائهم في سلطاناباد، وأنتجوا خزفًا جميلًا ومزينًا
برسوم طيور وحيوانات ملوَّنة تحت طبقة المينا.
٧٨
كما يمتاز خزف سلطاناباد بصفاء ألوانه واعتداله واتزانها، ولكن علينا أن نذكر أن
ما يُنسب من الخزف إلى هذه المدينة وإلى الري لا يمكن الجزم بأنه صُنِعَ فيهما؛ فقد
حازتا في العصور الوسطى شهرة واسعة، ولكن قاشان وساوه ونيسابور كانت — مثلهما —
مراكز عظيمة لصناعة الخزف. وحسبنا أن الحفائر التي قام بها المنقبون عن الآثار في
إيران أسفرت عن كشف فرن خزفي واحد في الري، بينما كُشِفَت في قاشان خمسة
أفران.
وقد دلت الحفائر في أنقاض بعض المدن الإيرانية على انتشار صناعة الخزف انتشارًا
واسعًا، وعلى أن كثيرًا من الأصناف لم تكن وقفًا على بلد بعينه، ولا سيما أن أنقاض
الأفران وآثار القطع التالفة أثناء حرقها في الفرن تنفي أن تكون النماذج التي عُثر
عليها في بعض المراكز واردة من مراكز أخرى.
وحسبنا على سبيل المثال أن مدينة سلطانية التي اتخذها السلطان الجايتو خدابنده
عاصمة لملكه، وشيد فيها العمائر الضخمة، ازدهرت فيها صناعة الخزف حينًا من الدهر،
وصُنعت فيها أنواع جيدة من الخزف الإيراني،
٧٩ ولكنها لا تختلف عما كان يُصنع في المدن الأخرى.
ومهما يكن من الأمر فقد أنتج الخزفيون في سلطاناباد خزفًا ذا بريق معدِني يصعب
تمييزه مما كان يُصنع في مدينة قاشان.
على أن أخَص ما امتاز بصناعته الخزفيون في سلطاناباد ضرب من الخزف منقوشة زخارفه
باللون الأسود أو الرَّمادي فوقَ قشرة بيضاء، وفوقَ الزخارف طلاء شفاف. وقد تكون
الزخارف بارزة بعض البروز عوضًا عن أن تكون منقوشة فحسب. ومعظم الرسوم التي نجدها
على هذا الخزف من زهور اللوتس ووريقات الشجر، وفي بعض الأحيان من الطيور التي تأثر
الفنانون في رسمها بالأساليب الصينية تأثرًا ظاهرًا، والتي قلدها الخزفيون في مصر
إبَّان عصر المماليك.
ومن أبدع التحف الخزفية المنسوبة إلى سلطاناباد إناء صغير في مجموعة يومورفوبولوس
Eumorfopoulos (انظر شكل
١٠٣)، وتمتاز هذه التحفة بأن استدارتها غير تامة وبأن جسمها ذو
فصوص، كما تمتاز بأناقتها ودقة صنعها وبإبداع الزخرفة التي تزين قاعها، وهي رسم
شخصين يتحدثان أو يفحصان شيئًا في اهتمام ظاهر، وترجع هذه التحفة للقرن الثامن
الهجري (الرابع عشر الميلادي).
(١-١٦) الخزف في العصر الصفوي
كان هذا العصر كله نهضة وازدهار في صناعة الخزف الإيراني، وامتازت الأواني فيه
بإبداع شكلها وتنوعها، وبالعناية والدقة في رسم زخارفها، وبالذوق السليم والظرف في
اختيار ألوانها وأنواعها. وأصاب الفنانون توفيقًا عظيمًا في استخدام اللون الأصفر،
ولا سيما في مصانع الخزف بمدينة أصفهان، كما أنهم عرفوا كيف يستخدمون اللون الواحد
في صفاء وإتقان يُذَكِّران بما وصل إليه الخزفيون الصينيون في هذا الميدان.
وأكبر الظن أن أعلام المصورين كانوا يُعْنَوْنَ بإعداد الصور لزخرفة الأواني
الخزفية، كما يتجلى في بعض تحف عليها رسوم تنم عن ريشة المصور محمدي،
٨٠ وفي بعض قطع أخرى تشهد رسومها بأنها من عمل رضا عباسي أو أحد الفنانين
النابهين الذين تأثروا بأسلوبه الفني.
ومن أعظم مراكز الخزف في إيران إبَّان العصر الصفوي أصفهان وقاشان ويزد ومشهد
وشيراز وكرمان وزرند.
وامتاز العصر الصفوي بنوع من الخزف ذي البريق المعدِني كان يُصنع في قاشان
وأصفهان وتبريز، وأكثر منتجاته أباريق على شكل الْكُمَّثْرَى أو سلطانيات غير
عميقة، ومعظم الزخارف المستخدمة فيه من النبات والزهور، فلا ترى عليه الصور الآدمية
والحيوانية إلا نادرًا. وأرضية هذا الخزف عاجية اللون أو زرقاء فاتحة، أما
الموضوعات الزخرفية فذات بريق معدِني يختلف بين اللون الأحمر والأصفر والذهبي،
ويمتاز بشدة لمعانه؛ إذ تنعكس من التحفة ألوان تكاد تُبهر الأبصار.
وقد ازدهرت صناعة هذا الخزف ذي البريق المعدِني في نهاية القرن العاشر وفي القرن
الحادي عشر بعد الهجرة (في بداية السادس عشر وفي السابع عشر بعد الميلاد).
والمشاهَد في معظم الأواني الخزفية ذات البريق المعدِني من العصر الصفوي أن
أرضيتها ذات لون واحد، يغلب أن يكون الأبيض أو الأزرق النافض (أي الشاحب أو الباهت)
أو الأصفر الليموني أو الأخضر الفاتح، ثم تُنقش الزخارف بالبريق المعدِني فوق
الأرضية المذكورة، وتكثر في زخارف هذه التحف رسوم الزهور والأشجار والأعشاب.
وقد وصلت إلينا سلطانية عليها اسم صانعها: «حاتم»، وهي محفوظة الآن في المتحف البريطاني.
٨١ وأكبر الظن أن معظم التحف المعروفة من هذا الخزف ترجع إلى القرن الحادي
عشر الهجري (السابع عشر الميلادي).
على أن أخص ما امتاز بإنتاجه الخزفيون في العصر الصفوي هو نوع من خزف أبيض كانوا
يقلدون به الخزف المصنوع في الشرق الأقصى، وكانت زخارفه زرقاء منقوشة تحت
الدهان.
وفضلًا عن ذلك كله فقد قلد الإيرانيون أهل الشرق الأقصى في عمل الصيني وفي
استخدام الألوان الهادئة والزخارف الصينية، وكان مما أنتجوه في هذا الميدان
سلطانيات وأطباق كبيرة الحجم، فيها اللونان الأزرق والأبيض، وتبدو لأول وهلة صينية الصناعة.
٨٢
والمعروف أن الشاه عباس أحضر كثيرين من الخزفيين الصينيين مع أسراتهم إلى إيران
لينشروا فيها صناعة الصيني، حتى يمكن أن تُصَدِّرَهُ إيران إلى البلاد الغربية،
وتنال منه الأرباح الطائلة التي كانت تتدفق إلى الشرق الأقصى. والظاهر أن هؤلاء
الفنانين استقروا في أصفهان، ولكنهم لم يلبثوا أن تأثروا بالمحيط الفني؛ فدبت إلى
منتجاتهم بعض الموضوعات الزخرفية الإيرانية.
وقد روى بعض الرحالة أن تاجرين صينيين كان لهما حانوت لبيع «الصيني» بمدينة
أردبيل في بداية القرن السادس عشر الميلادي (العاشر الهجري)،
٨٣ وقد جمع ملوك إيران منذ الشاه عباس مجموعة كبيرة جدًّا من الخزف الصيني
حفظوها في مسجد أردبيل. ومهما يكن من الأمر فقد أصاب الخزفيون الإيرانيون منذ النصف
الأول من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) توفيقًا عظيمًا في صناعة هذا
الخزف الأبيض والأزرق، كما يظهر من ثلاث تحف مؤرخة إحداها إبريق نبيذ كبير في متحف
فكتوريا وألبرت،
٨٤ ومؤرخ من سنة ٩٣٠ﻫ/١٥٢٣م. والثانية قرص في القسم الإسلامي من متاحف برلين،
٨٥ ومؤرخ من سنة ٩٧١ﻫ/١٥٦٣م، وعليه اسم صانعه عبد الواحد. والثالثة تربيعة
في متحف فكتوريا وألبرت ومؤرخة من سنة ١٠٠١ﻫ/١٥٩٢م، وعليها إمضاء محمد رضا
الإمامي.
ومن القطع الجميلة من هذا النوع قنينة في القسم الإسلامي من متاحف الدولة في
برلين، عليها رسم أسد خيالي ينبعث اللهب من كتفيه (انظر شكل
١٠٤)، وقد جاء هذا الرسم على بعض السجاجيد المصنوعة في القرن العاشر الهجري (السادس
عشر الميلادي). ومن تلك التحف كذلك بطة في مجموعة المسز دنجوال
Mrs. Kenneth Dingwall (انظر شكل
١٠٤).
•••
وثمة نوع آخر من الخزف الصفوي ينسب إلى قرية كوبجي داغستان (انظر شكل
١٠٥)، وهو صنفان: الأول أسود وأخضر أو أزرق، والثاني متعدد
الألوان وذو زخارف آدمية. أما الصنف الأول: فَيُظَن أنه كان يُصنع بمدينة تبريز في
نهاية القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، كما تدل على ذلك بعض القطع
المؤرخة، بينما يرجع الثاني إلى القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر
الميلادي).
والمعروف أن أهل كوبجي كانوا يشتغلون بصناعة الأسلحة والتحف المعدِنية، وأنهم لم
يُعْنَوْا بصناعة الخزف؛ ولذا فإن الأرجح أن هذا الخزف الذي عُثر عليه في إقليمهم
كان يَرِدُ من إيران نفسها، وأنهم كانوا يحصلون عليه ثمنًا للأسلحة والتحف
المعدِنية التي كانوا يصدِّرونها إلى إيران، وأنهم كانوا يُقَدِّرونه حقَّ قَدْرِه
ويُحِلونه في بيوتهم محل الشرف؛ فيعلقونه على الجدران ويزينون به الغرف.
ولعل أبدع أنواع هذا الخزف الأطباق الرقيقة التي نرى زخارفها سوداء حالكة، وفوقها
طلاء أخضر فيروزي يكسو الإناء كله، ثم الأطباق والتربيعات التي تُنقش زخارفها
باللون الأحمر الباهت أو الأصفر أو الأزرق أو الأخضر فوق قشرة بيضاء، ولكننا نستطيع
أن نقول — بوجه عام — إن خزف كوبجي لم يكن في العادة ممتازًا في ألوانه أو في
دهانه، كما أن رسومه لم تكن متقنة إلا في النادر.
•••
وقد قلد الخزفيون الإيرانيون في العصر الصفوي السيلادون الصيني،
٨٦ ولا سيما في مدينة أصفهان، وأصابوا في هذا الميدان نجاحًا كبيرًا في
القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي). وصفوة القول أن تأثر الخزفيين
الإيرانيين بأساليب زملائهم في الشرق الأقصى كان عظيمًا جدًّا في العصر الصفوي، حتى
صارت إيران تنافس الصين نفسها في تصدير الخزف إلى أوروبا.