المنسوجات
(١) في فجر الإسلام
ولما انتشر الإسلام في إيران، وانقضى دور الزهد والتقشف الذي ساد العالم الإسلامي في نشأته، واختلط العرب بغيرهم من الأمم العريقة في المدنية، تقدمت الصناعات والفنون، ولقيت صناعة النسج تشجيعًا خاصًّا في الأقاليم الإسلامية المختلفة لِمَا سَنَّه الخلفاء والأمراء في مكافأة رجالات الدولة بالْخِلَع الثمينة من نفيس المنسوجات الحريرية.
ومما يَشْهد بازدهار صناعة النسج بإيران في فجر الإسلام أن بعض المدن الإيرانية كانت تدفع الجزية عددًا من منسوجاتها النفيسة، وترسله إلى بلاط الخليفة.
وقد ذكر المسعودي وياقوت أن شابور ذا الأكتاف (شابور الثاني ٣١٠–٣٧٩م)، كان قد غزا بلاد الجزيرة وآمد (ديار بكر)، وغير ذلك من المدن التي كانت تابعة للروم في ذلك الوقت، ونقل كثيرين من أهلها النساجين إلى إقليم خوزستان في إيران؛ فتناسلوا وازدهرت صناعة النسج في هذا الإقليم منذ ذلك التاريخ.
ومما يؤسف له أن كتابات المؤرخين في هذا الشأن ليست لها كل الفائدة المنتظرة؛ لأننا لا نستطيع بفضلها أن نصل إلى تحديد أنواع المنسوجات التي كانت تُصنع بإيران في فجر الإسلام، ولا المراكز المختلفة التي كانت تُنسج فيها.
على أن القوم بدءوا يهجرون هذه الزخارف منذ القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، ولم يكن هذا عسيرًا عليهم؛ فقد كانوا — حتى قبل ذلك الحين — يعرفون في منسوجاتهم بعض الزخارف الأخرى ولا سيما الزهور والنبات.
وقد مر بنا أن الصور في المخطوطات السلجوقية أو المنسوبة إلى مدرسة العراق تمتاز بالملابس المزركشة التي يلبسها الأشخاص. والحق أن زخارف تلك الملابس مثال طيب للجمع بين الأساليب الزخرفية الساسانية والأساليب التي جدَّت في القرون الأولى بعد الهجرة.
على أن الأقمشة الإيرانية التي ترجع إلى القرون الأربعة الأولى بعد الفتح العربي ليس لها شأن عظيم من الناحية الفنية، على الرغم من دقة صناعتها وجمال ألوانها، وعلى الرغم من الإقبال الذي كانت تَلْقاه الرايات والأعلام الجميلة ذات الكتابات الكوفية، مما كانت تنتجه حينئذ مصانع النسج في إيران.
(٢) في عصر السلاجقة
والحق أن عصر السلاجقة هو الذي بدأت فيه النهضة الشاملة والتقدم الواضح في صناعة النسج؛ وذلك بتأثير تيارين مختلفين: الأول ما أفاده الإيرانيون على يد السلاجقة من الأساليب الصينية التي تتجلى في دقة رسم النبات والطير والحيوان، والثاني ما ازدهر في بلاد الجزيرة من أساليب إسلامية في استخدام الفروع النباتية والأشرطة عوضًا عن الموضوعات الزخرفية الساسانية.
والأقمشة السلجوقية معروفة لنا بفضل مجموعة من النسيج الحريري، عثر عليها المنقبون في أطلال مدينة الري، وتعتبر مثالًا صادقًا للمنسوجات السلجوقية، وتمتاز بأن مظهرها العام يختلف كل الاختلاف عن مظهر المنسوجات الإيرانية في العصور السابقة، ولو أنها محتفظة ببعض العناصر الزخرفية القديمة، مع دقة في الرسم، وإتقان في النسج، ورقة وخفة في الوزن؛ فنرى على بعضها زخارف من أشكال هندسية متعددة الأضلاع، أو زخارف كتابية بالخط الكوفي أو أشرطة من الرسوم الحيوانية، أو دوائر فيها طيور وحيوانات بينها شجرة الحياة، ولكنها دوائر أصغر حجمًا تُكسب التحفة طابعًا فنيًّا، وتبعدها عن القوَّة والبداوة التي تبدو على بعض الرسوم الساسانية.
ولا ريب في أن مدينة الري كانت في العصور الوسطى مركزًا عظيم الشأن في صناعة النسج، كما كانت في صناعة الخزف؛ فقد ذكر المؤرخون والجغرافيون ذيوع صيتها في هذا الميدان، فضلًا عن أن أعمال التنقيب عن الآثار في أطلالها لم تسفر عن المنسوجات التي أشرنا إليها فحسب، بل عثر القوم على أنوال تُرَجِّح أن تلك الأقمشة كانت تُصنع في مدينة الري نفسها.
وتُنْسَبُ إلى الري قطع تمتاز بجمالها الفني وإبداع ما فيها من الرسوم الحيوانية والآدمية، فضلًا عن السطور المكتوبة بالخط الكوفي. وتشبه زخارف هذه الأقمشة ما نعرفه من الرسوم في الخزف المنسوب إلى مدينة الري، ولا سيما رسوم الحيوانات ذات الأجسام الممتدة تتقدم في شبه نشاط وخفة. ومن الزخارف التي تكثر في منسوجات الري دون غيرها رسم الطاووس.
وقد اشْتَهَرَتْ تلك المدينة بصناعة نسيج من الحرير ذي لُحْمَتَيْنِ اسمه «المنير»، ولكننا لا نظن أن نسجه كان وَقْفًا عليها دون غيرها من البلاد الإيرانية.
(٣) في عصر المغول
في القرنين السابع والثامن بعد الهجرة (الثالث عشر والرابع عشر بعد الميلاد) زاد تأثر المصانع الإيرانية بالأساليب الصينية في زخرفة المنسوجات؛ بسبب ازدياد الوارد من الأقمشة الصينية واتساع تجارة إيران مع الشرق، ثم بسبب غزوات المغول وقدوم كثيرين من النساجين الصينيين إلى إيران.
على أن عناية المغول بصناعة النسج تظهر من جمال المنسوجات المرسومة في الصور المنسوبة إلى عصرهم، والتي يلبسها الأشخاص المرسومون في الصورة، أو تُصنع منها المظلات والستائر وأغطية الأرائك، وغير ذلك من الأشياء الثانوية فيها.
وقد نرى في رسوم تلك المنسوجات في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) موضوعات زخرفية نباتية محوَّرة عن الطبيعة تحويرًا لا يُفقدها كل اتصال بها. وتمتاز تلك الموضوعات بأن رسوم أوراق الشجر فيها مدببة، فضلًا عن أنها لا تنمو في الساق فحسب، بل قد تنبت من الجذر أيضًا، وأحيانًا من الأرض نفسها؛ فتغطي النسيج كله وتجعله كالحديقة الغَنَّاء، وتزيد الشبه بينه وبين أرضية الصور في المخطوطات التي ترجع إلى نهاية العصر المغولي وإلى المدارس التيمورية المختلفة، ولا سيما مدرسة هراة.
وقد لاحظ الأخصائيون في صناعة النسج أن عصر المغول لم يأتِ بجديد في هذا الميدان، بل إن بعض الأنواع الدقيقة لم يتقنها النساجون في ذلك العصر، فضلًا عن أن الألوان قَلَّ بهاؤها وتنوعها، ولكن الأرجح أن هذا لا يرجع إلى عيب في الصناعة وإنما إلى مراعاة الذوق السائد في تلك الأيام. ولا ريب في أن الألوان الهادئة التي امتازت بها المنسوجات المغولية ترجع إلى تأثير الأساليب الفنية الصينية.
ومهما يكن من الأمر فإننا نرى في المنسوجات المغولية بدء الرشاقة والدقة والعظمة والترَف في الزخرفة وفي الصناعة؛ مما مهَّد لما بلغته المنسوجات في العصر الصفوي. أما الروعة والشدة والحرية في الزخرفة، وما إلى ذلك مما نعرفه في المنسوجات الساسانية والمنسوجات الإيرانية في صدر الإسلام، فلم يبقَ منها شيء كثير.
(٤) في عصر التيموريين
كانت الأقاليم الشرقية في إيران أكثر أجزاء الدولة ازدهارًا في عصر بني تيمور، وزاد ما كان لخُراسان من شأن عظيم في صناعة النسج، وأصبحت سمرقند وهراة في عصر تيمور وخلفائه مركزًا عظيمًا لنسج الأقمشة النفيسة، التي كان الأمراء وكبار رجال الدولة يلبسونها ويتخذون منها أفخر الستائر والفرش والوسادات. وقد استقدم تيمور من الصين ومن الشام نساجين كان لهم نصيب وافر في الذي بلغته صناعة النسج على يد التيموريين من ازدهار وإتقان، وفيما يظهر فيها من أساليب زخرفية صينية وسورية.
وقد ازدهرت صناعة النسج في العصر التيموري بمدينة يزد وأصفهان وقاشان وتبريز، وكانت الأقمشة تُصَدَّر من هذه المدن إلى شتى أنحاء العالم الإسلامي.
وزاد وجود زهرة اللوتس في زخارف المنسوجات أثناء القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، كما زادت الدقة في رسم الموضوعات الزخرفية عمومًا، ولا سيما البط الذي اسْتُخْدِمَ كثيرًا في زخارف ذلك العصر.
وصفوة القول أن الأقمشة في عصر بني تيمور خطت خطوة عظيمة في سبيل الوصول إلى إتقان الرسوم الزخرفية والوصول بها إلى دقة ورشاقة، وقرب إلى الطبيعة وما إلى ذلك؛ مما أبعدها عن الشدَّة والجفاء والروعة التي عرفناها في المنسوجات الساسانية والمنسوجات المنسوبة إلى فجر الإسلام.
(٥) في العصر الصفوي
إذا صح ما ذكره الرحالة الذين زاروا إيران في العصر الصفوي، فقد كان هذا العصر أعظم العصور الذهبية في صناعة النسج الإيرانية؛ إذ كان الملك والأمراء ورجال البلاط وعلية القوم كلهم يَرْفُلون في الملابس المصنوعة من الدِّيباج وغيره من الأقمشة الثمينة المحلَّاة بخيوط الذهب والفضة، ويركبون الخيل ذات السُّروج الغالية النفيسة، ويستعملون في قصورهم ورحلاتهم فرشًا وستائر وأدوات مصنوعة من أجمل ضروب النسيج على الإطلاق. والحق أنهم كانوا يُسرفون في استخدام الأقمشة البديعة إسرافًا لا حَدَّ له، وكانوا يصنعون منها كَمِّيَّات وافرة جدًّا يحمل التجار بعضَها إلى أسواق الروسيا وأوروبا؛ حيث كانت تَلْقَى إقبالًا عظيمًا.
وأتقن النساجون الإيرانيون في العصر الصفوي شتى ضروب النسج من دِيباج وكتان وأطلس وقطيفة وكتان. كما توصل الفنانون في الصباغة إلى إخراج أدق الألوان وأكثرها تنوعًا، وفي الثروة الزخرفية إلى درجة لم يعرفوها من قبل؛ فاتخذوا الزهور والفروع النباتية والمراوح النخيلية ومناظر الحدائق الغَنَّاء والطيور والغزلان ورسوم السحب الصينية، وطُبِعَت الرسوم الزخرفية في ذلك العصر بطابع رشيق جذاب ينم عن الأناقة والنضوج الفني.
وعلى كل حال فإن نسج الحرير بلغ عصره الذهبي في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) برعاية ملوك الأسرة الصَّفَوِيَّة، وأنتجت المصانع الإيرانية في ذلك العصر أجمل أنواع الديباج والمخمل المنسوجة بخيوط حريرية مختلفة الألوان ومحلاة في بعض الأحيان بخيوط فِضية.
أما زخارفها فمن قصص الشاهنامه أو منظومات الشعراء الإيرانيين المعروفين، أو مناظر تمثل الأمراء والنبلاء في الصيد، فضلًا عن مناظر الحفلات في الحدائق والهواء الطلق. ومن الزهور التي استُخدمت كثيرًا في زخرفة المنسوجات الإيرانية في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الهجرة (السادس عشر والسابع عشر بعد الميلاد) السوسن والزنبق والخزام والورد. أما الحيوانات والطيور فقد استخدم النساجون منها رسوم الوحوش الضارية والأرنب والغزال والببغاء، كما استخدموا رسم شجر مخروطي الشكل. وكانت كل هذه الموضوعات المختلفة ورسوم المناظر الطبيعية مضافة إلى رسم شتى المناظر من قصة خسرو وشيرين أو ليلى والمجنون. كان كل ذلك يُرَتَّب في صفوف أفقية، ويُكسب المنسوجات الصَّفَوِيَّة بهجة ونضارة تَزِيدان من قيمتها الفنية.
وطبيعي أن ملابس القوم في هذه الرسوم ولا سيما لباس الرأس تساعد على معرفة التاريخ الذي ترجع إليه، وتجعلها شديدة الشبه بالصور المنسوبة إلى المصوِّر المشهور سلطان محمد.
وكانت أعظم مراكز النسج في هذا العصر تبريز وهراة ويزد وأصفهان وقاشان ورشت ومشهد وقم وساوه وسلطانية وأردستان وشروان، وامتازت منتجاتها بنعومة السطح وبدقة النسج وباتزان الألوان وجمالها.
أما رشت فقد صُنعت فيها أقدم قطعة نعرفها من الحرير الصفوي، عليها تاريخ صناعتها. وهي غطاء قبر في الضريح بمدينة مشهد، وعليها أنها من عمل مير نظام في رشت سنة ٩٥٢ﻫ/١٥٤٥م، وزخارفها من أشرطة فيها رسوم فروع نباتية ووريدات وكتابات.
وقد لوحظ أن هذه الرسوم الآدمية والنباتية الأنيقة لا توجد على منسوجات فاخرة من الحرير ذي الخيوط الفضية فحَسْب، بل نرى رسومًا من فصيلتها على أقمشة تَقِلُّ في جودة النوع والصناعة؛ ويفسرون ذلك بأن مدينة تبريز أصبحت هدفًا لغارات الترك منذ سنة ٩٩٣ﻫ/١٥٨٥م؛ فَنَقَلَ الشاه مقر حكمه إلى قزوين، ولكن هذه المدينة الأخيرة لم يُقَدَّرْ لها أن تصبحَ مركزًا فنيًّا زاهرًا كما كانت تبريز من قبلها.
ولا ريب في أن تعاون المصورين والنساجين في يزد وقاشان أسفر عن صنع قطع تُعَدُّ آيةً في فن النسج والزخرفة. والظاهر أن مصانع النسج في يزد كانت تحت رعاية الحكومة وإشرافها.
وفي دار الآثار العربية بالقاهرة نماذج طيبة من هذه المنسوجات ذات الصور الآدمية.
وقد وصلت إلينا أسماء بعض النساجين الإيرانيين في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) وهم غياث وعبد الله وحسين ويحيى ومعز الدين بن غياث وإيان محمد؛ وذلك على بعض القطع المنسوبة إليهم، والمحفوظة الآن في المتاحف والمجموعات الأثرية بأوروبا وأمريكا.
ولكن عبد الله لم تكن له مهارة غياث الدين أو شهرته، والقطع الأربع التي عليها اسمه لا تشهد بأنه كان فنانًا من الطراز الأول، فضلًا عن أنه لم يكن مبدِعًا، وإنما سار على الأساليب الفنية التي اتبعها النساجون في تبريز من قبله.
ويجدر بنا ألا ننسى ما كانت عليه زخارف المنسوجات التي نحن بصددها من اختلاف وتنوع في حجم الزخارف وفي المظهر العام وفي الألوان المستخدمة. وقد كان الإنشاء الزخرفي فيها بديعًا ومحكمًا بحيث تتدرج رسومها المختلفة، ويستطيع المشاهد أن يرى بدائع أقسامها المختلفة بحسب قرب التحفة أو بعدها عنه، فإنه يعجب بالزخارف الدقيقة إذا كانت التحفة قريبة منه، ويعجب بالمناطق التي تضم هذه الزخارف إذا بعد عن التحفة قليلًا، ويؤخذ بجمال المظهر العام إذا زاد بعده عن التحفة فغابت عنه التفاصيل. وخير مثال على هذا قطعة دِيباج مشهورة كُشِفَتْ سنة ١٩٢٩، وتمتاز بألوانها البديعة ورسمها الدقيق وسطحها المقسم إلى عدد من المناطق، بعضها مكونة من نجوم مثمَّنة وذات فصوص، وبعضها مثمنة لا فصوص لها، وفي النجمة المتوسطة أمير على عرش، بينما تحتوي النجوم الأخرى على رسوم ملائكة تعزف على آلات موسيقية أو تحمل التحف والهدايا. أما المناطق الصغيرة ففيها رسوم حيوانات عديدة حقيقية وخرافية. وثمة مناطق أصغر حجمًا وفيها رسوم زُهاء تسعين نوعًا من الطيور المختلفة المرسومة بأسلوب طبيعي دقيق وفي أوضاع متنوعة.
ولم تكن المنسوجات الإيرانية في العصر الصفوي ذات زخارف آدمية فحسب، بل كان بعضها مزينًا برسوم نباتية بحتة، كما يظهر من رسوم الملابس في كثير من صور المخطوطات التي ترجع إلى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي).
على أن أبدع ما أنتجه النساجون الإيرانيون هو المخمل (القطيفة) ذو الرسوم القوية والألوان البديعة الفنية. وقد اشْتَهَرَتْ بإنتاجه مدينة قاشان في نهاية القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر بعد الهجرة (نهاية السادس عشر وبداية السابع عشر الميلادي)، وامتاز بإبداع ألوانه، وبرسومه التي تشبه إلى حد كبير رسوم الصور في المخطوطات.
ولما تولى الشاه عباس الأكبر (٩٨٥–١٠٣٨ﻫ؛ أي ١٥٨٧–١٦٢٨م)، وكان كما نعرف من أكبر رعاة الفن والفنانين في إيران، شمل برعايته إنتاج الديباج والمخمل الثمين، وأنشأ المصانع لنسجهما في شتى البلاد ولا سيما في أصفهان. وامتازت المنتجات المنسوجة في عصر الشاه عباس باستخدام الألوان الهادئة ورسم الأشخاص رسمًا أقرب إلى الطبيعة.
وزادت ثروة إيران في عصر الشاه عباس وعظم الإقبال على المنسوجات الفاخرة؛ فزادت المنتجات زيادة أثَّرت بعض الشيء على جودة النوع وجمال الرسم، اللهم إلا فيما كان يُصنع للبلاط ورجالات الدولة. وكان أهم أنواع الزخارف في نهاية القرن العاشر الهجري (السادس العشر الميلادي) وبداية القرن الحادي عشر رسوم أشخاص ذوي قدود هيفاء وأوضاع فيها كثير من التكلف، وفتيات أو فتيان يكاد المرء يحسبهن نساء، وما إلى ذلك من الصور التي عرفناها في أسلوب المُصَوِّر رضا عباسي. والواقع أن تأثير هذا المصوِّر وذيوع صور فتيانه وفتياته لم يكن في الصور المستقلة والمخطوطات والمنسوجات فحسب، بل كان في صور الجدران وفي لوحات القاشاني.
على أن أقمشة هذا العصر لا تبلغ في جودتها أقمشة العصور السابقة، فضلًا عن أن الفنانين لم يَأْتُوا بجديد في زخارفها وإنما نسجوا على منوال ما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، ولكنهم عادوا إلى الولَع برسوم الزهور والنبات؛ فاتخذوها لزخرفة عدد كبير من منسوجات القرنين الحادي عشر والثاني عشر بعد الهجرة (السابع عشر والثامن عشر بعد الميلاد) وأصابوا فيها توفيقًا كبيرًا. وشجعهم في هذا السبيل تجار البضائع الصينية الذين كانوا ينزلون مدينة أردبيل، والخزفيون الصينيون الذين كانوا ينزلون شتى المدن الإيرانية.
ومما اشْتَهَرَتْ بإنتاجه مدينة يزد نوع من المخمل القرمزي الغامق، كان يُتَّخَذ في البيوت محاريب أو سجاجيد للصلاة، وكان قوام زخارفه عددًا قليلًا من الزهور الكبيرة ذات السيقان الطويلة وذات اللون الأصفر الذهبي، ومعها بعض وريقات خضراء.
أما أصفهان عاصمة الدولة في عصر الشاه عباس فقد كان فيها ألوف النساجين، لا ينقطعون عن العمل لإنتاج الكميات الهائلة من الخِلَع الثمينة التي كانت لازمة للبلاط، أو للهدايا التي يقدمها الشاه. كما أفادت باعتبارها عاصمة البلاد من وجود أعلام المصوِّرين والرسامين الذين كانوا خير عَوْن ومثال للفنانين في صناعة النسج. ولا رَيْب في أن أصفهان أنتجت شتى أنواع المنسوجات النفيسة، ولكن الظاهر أن النساجين فيها أتقنوا بنوع خاص صناعة الأقمشة ذات الزخارف النباتية الجميلة.
وكذلك مدينة قاشان لم يَعُدْ إنتاجها الفني موجهًا إلى الخزف فحَسْبُ، بل أصبحت مركزًا عظيمًا للنسج منذ القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ولكن المخمل الذي كان يُنسج في أنوالها إبَّان القرن الحادي عشر الهجري بلغ كَمِّيَّة هائلة أثرتْ في جودة الصناعة إلى حد ما.
والواقع أن صناعة النسج ازدهرت في عصر الأسرة الصَّفَوِيَّة ازدهارًا عجيبًا، واستطاع النساجون أن يُنتجوا من الحرير ضروبًا شتى تختلف في نوعها وفي وزنها وفي سُمكها، وقد تدخل في نسجها الخيوط الذهبية فتُكسبها بريقًا وأُبَّهَة عجيبَيْنِ.
(٦) في القرن الثاني عشر الهجري
كان الإنتاج عظيمًا في بداية القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي)، ولكن الأزمة الاقتصادية طغت على البلاد بعد الفتح الأفغاني وقَنِعَ القوم بالرخيص من الأقمشة، ولا سيما المنسوجات المطبوعة المعروفة باسم «قلم كار»، وكانت تصنع بمدينة قاشان في القرن الحادي عشر الهجري، وازدهرت صناعتها بعد ذلك في الهند وفي مدينة أصفهان، وأصبحت في القرن الماضي من أهم صادرات الشرق إلى أوروبا ولا سيما من أصفهان وهمذان ويزد.
ومهما يكن من الأمر فقد انحط نوع النسيج، كما قلت جودة المواد والصبغات المستخدمة فيه. والراجح أن أكبر مراكز النسج في هذا العصر كانت في يزد وقاشان وأصفهان وإبيانه وشرقي إيران.
وكانت يزد تنتج الحرير الأخضر ذا الزخارف المكوَّنة من الزهور والأشجار، وأصاب النساجون في قاشان بعض التوفيق في صناعة الأقمشة ذات الزخارف الآدمية، وظل زملاؤهم في أصفهان يقبلون على رسوم الزهور في منسوجاتهم.
•••
ولا يفوتنا أن التطريز معروف في إيران منذ العصور القديمة، وقد أشار الرحالة الإيراني ناصر خسرو إلى شارع في أصفهان اسمه شارع الطَّرَّازين نسبة إلى التجار الذين كانوا يسكنونه، كما أن الرحالة البندقي ماركو بولو ذكر مهارة السيدات بمدينة كرمان في تطريز المنسوجات الحريرية برسوم الطيور والحيوان والأشجار والزهور. وقد شهد بعض الرحالة الأوروبيين بين القرنين التاسع والحادي عشر بعد الهجرة (الخامس عشر والسابع عشر بعد الميلاد) ما يؤيد قول ناصر خسرو وماركو بولو عن إبداع المنسوجات الإيرانية المطرزة، وفضلًا عن ذلك فإن بعض نماذج الأقمشة المطرزة لا تزال باقية حتى اليوم، وأكثرها يرجع إلى القرنين الماضيين، وأهم أنواعها سراويل النساء، وكانت تُصْنَع من القطن وتُطَرَّز فيها بالحرير رسوم الزهور، وما إلى ذلك من الزخارف النباتية.