الْغُرَابُ بلاكي يُحَقِّقُ اكْتِشَافًا
دَائِمًا مَا يَرَى الْغُرَابُ بلاكي أَشْيَاءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرَاهَا، وَنَتِيجَةً لِذَلِكَ يَقَعُ فِي مُشْكِلَاتٍ لَا تَنْتَهِي كَانَ يُمْكِنُهُ تَجَنُّبُهَا. وَهُوَ فِي هَذَا يُشْبِهُ ابْنَ عَمِّهِ طَائِرَ السِّنْدِيَانِ سامي؛ فَكِلَاهُمَا يَرَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا تَعْنِيهِ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَلَّا يَرَاهَا.
وَجَدَ الْغُرَابُ بلاكي الْحَيَاةَ صَعْبَةً؛ إِذْ غَطَّى الْجَلِيدُ الْمُرُوجَ الْخَضْرَاءَ وَالْغَابَةَ الْخَضْرَاءَ، وَكَسَتِ الثُّلُوجُ النَّهْرَ الْكَبِيرَ وَالْبِرْكَةَ الْبَاسِمَةَ. فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْمِلَ نَظَرَهُ الْحَادَّ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ مِنْ قُوَّةٍ لِيَجِدَ مَا يَسُدُّ جُوعَهُ، وَكَانَ مُسْتَعِدًّا لِأَكْلِ أَيِّ شَيْءٍ يَجِدُهُ فِي طَرِيقِهِ. وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقْطَعُ مَسَافَاتٍ طَوِيلَةً بَحْثًا عَنِ الطَّعَامِ، وَلَكِنَّهُ دَائِمًا مَا يَعُودُ لَيْلًا إِلَى نَفْسِ الْمَكَانِ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ لِيَبِيتَ لَيْلَتَهُ بِصُحْبَةِ أَفْرَادِ عَائِلَتِهِ الْآخَرِينَ.
فَبلاكي يَعْشَقُ الصُّحْبَةَ، وَخَاصَّةً فِي اللَّيْلِ. وَعِنْدَمَا يَبْدَأُ قُرْصُ الشَّمْسِ الْأَحْمَرُ الْمُسْتَدِيرُ الْمَرِحُ فِي التَّفْكِيرِ فِي سَرِيرِهِ خَلْفَ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ، فَسَتَجِدُ بلاكي يَتَّجِهُ نَحْوَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا مِنَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ؛ حَيْثُ يَعْرِفُ أَنَّهُ سَيَجِدُ جِيرَانًا مِنْ جِنْسِهِ. وَيَقُولُ الْأَرْنَبُ بيتر إِنَّ بلاكي لَا يَجْرُؤُ عَلَى النَّوْمِ بِمُفْرَدِهِ؛ لِأَنَّ ضَمِيرَهُ يُؤَرِّقُهُ، وَلَكِنَّ السِّنْجَابَ جاك السَّعِيدَ يَقُولُ إِنَّ بلاكي عَدِيمُ الضَّمِيرِ. يُمْكِنُكَ أَنْ تُصَدِّقَ مَا تَشَاءُ، وَإِنْ كُنْتُ أَشُكُّ فِي أَنَّ أَيًّا مِنْهُمَا يَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ.
كَمَا قُلْتُ سَابِقًا، بلاكي كَثِيرُ التَّرْحَالِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْعَامِ، وَأَحْيَانًا يَأْخُذُهُ بَحْثُهُ عَنِ الطَّعَامِ إِلَى أَمَاكِنَ نَائِيَةٍ. فِي أَحَدِ أَيَّامِ أَوَاخِرِ الشِّتَاءِ، طَرَأَتْ عَلَى ذِهْنِهِ فِكْرَةُ أَنْ يُلْقِيَ نَظْرَةً عَلَى رُكْنٍ مُعَيَّنٍ مَهْجُورٍ مِنَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ حَيْثُ كَانَ الصَّقْرُ أحمر الذيل يَعِيشُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ. كَانَ بلاكي يَعْلَمُ أَنَّ أحمر الذيل لَمْ يَعُدْ يَعِيشُ هُنَاكَ؛ فَقَدْ ذَهَبَ إِلَى الْجَنُوبِ فِي الْخَرِيفِ وَلَنْ يَعُودَ حَتَّى يَتَأَكَّدَ مِنْ وُصُولِ السَّيِّدِ ربيع إِلَى الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ وَالْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ.
وَكَعَادَةِ ذَلِكَ الْوَغْدِ الْأَسْوَدِ، حَلَّقَ بلاكي فَوْقَ قِمَمِ الْأَشْجَارِ، وَلَمَحَتْ عَيْنَاهُ الثَّاقِبَتَانِ شَيْئًا مُثِيرًا فِي الْأَسْفَلِ؛ فَقَدْ رَأَى أَمَامَهُ الْعُشَّ الْقَدِيمَ لِلصَّقْرِ أحمر الذيل. كَانَ يَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ عَنْ هَذَا الْعُشِّ؛ فَقَدْ زَارَهُ مِنْ قَبْلُ فِي غِيَابِ أحمر الذيل. مَعَ ذَلِكَ، ظَنَّ أَنَّ الْأَمْرَ رُبَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ زِيَارَةً أُخْرَى؛ فَلَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَعْرِفَ أَبَدًا مَا يُمْكِنُ أَنْ تَجِدَهُ فِي الْمَنَازِلِ الْقَدِيمَةِ. وَبِالطَّبْعِ كَانَ بلاكي يَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ أحمر الذيل يَبْعُدُ عَنْهُ أَمْيَالًا — بَلْ مِئَاتِ الْأَمْيَالِ — وَلِذَا لَيْسَ ثَمَّةَ مَا يَخْشَاهُ مِنْهُ. وَلَكِنَّ بلاكي كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ مُنْذُ زَمَنٍ أَنَّ أَفْضَلَ شَيْءٍ هُوَ التَّأَكُّدُ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ خَطَرٍ؛ لِذَا، عِوَضًا عَنْ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْعُشِّ الْقَدِيمِ مُبَاشَرَةً، حَلَّقَ فَوْقَ الشَّجَرَةِ لِكَيْ يَسْتَطِيعَ أَنْ يَرَى مَا فِيهَا مِنْ عَلٍ.
فَوْرًا رَأَى بلاكي شَيْئًا جَعَلَهُ يَشْهَقُ وَيَطْرِفُ بِعَيْنَيْهِ. كَانَ الشَّيْءُ كَبِيرًا إِلَى حَدٍّ مَا وَأَبْيَضَ اللَّوْنِ، وَكَانَ يُشْبِهُ … كَانَ يُشْبِهُ الْبَيْضَةَ كَثِيرًا! هَلْ تَتَعَجَّبُ مِنْ شَهِيقِ بلاكي وَطَرْفِهِ بِعَيْنَيْهِ؟ كَانَ الثَّلْجُ يُغَطِّي الْأَرْضَ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مَا يُشِيرُ إِلَى نِيَّةِ الرِّيَاحِ الشَّمَالِيَّةِ الْبَارِدَةِ وَالصَّقِيعِ الْعَوْدَةَ إِلَى الشَّمَالِ الْبَعِيدِ. طَائِرٌ يَبِيضُ بَيْضَةً فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْعَامِ! طَارَ بلاكي إِلَى شَجَرَةِ صَنَوْبَرٍ عَالِيَةٍ لِلتَّفْكِيرِ فِي الْأَمْرِ.
فَكَّرَ قَائِلًا: «لَا بُدَّ أَنَّهَا كَانَتْ مُجَرَّدَ كُتْلَةٍ صَغِيرَةٍ مِنَ الثَّلْجِ. لَكِنَّهَا بَدَتْ بَيْضَةً وَلَا شَكَّ. أُوهْ! كَمْ سَيَطِيبُ لِي تَذَوُّقُ بَيْضَةٍ الْآنَ!» وَكَمَا تَعْلَمُونَ، بلاكي ضَعِيفٌ أَمَامَ الْبَيْضِ. وَكُلَّمَا فَكَّرَ فِيهِ أَكْثَرَ، ازْدَادَ جُوعُهُ. فَكَّرَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي التَّوَجُّهِ إِلَى هُنَاكَ مُبَاشَرَةً وَالتَّأَكُّدِ مِمَّا رَآهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجْرُؤْ. فَإِذَا مَا كَانَتْ بَيْضَةً، فَلَا بُدَّ أَنَّهَا تَخُصُّ أَحَدَهُمْ، وَرُبَّمَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يَعْرِفَ مَنْ صَاحِبُهَا. وَفَجْأَةً، انْتَفَضَ بلاكي قَائِلًا: «لَا رَيْبَ أَنَّنِي أَحْلُمُ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ بَيْضَةٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْعَامِ، أَوْ فِي هَذَا الْعُشِّ الْمُهْتَرِئِ الْقَدِيمِ! سَوْفَ أَطِيرُ مِنْ هُنَا وَأَنْسَى أَمْرَهَا.»
طَارَ بلاكي وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْسَى الْأَمْرَ، بَلْ ظَلَّ يُفَكِّرُ فِيهِ طَوَالَ الْيَوْمِ، وَعِنْدَمَا ذَهَبَ إِلَى النَّوْمِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ قَرَّرَ أَنْ يُلْقِيَ نَظْرَةً أُخْرَى عَلَى ذَلِكَ الْعُشِّ الْقَدِيمِ.