بلاكي يَجِدُ أَدِلَّةً أُخْرَى
بَعْدَمَا اكْتَشَفَ بلاكي أَنَّ الطَّبِيعَةَ الْأُمَّ الْعَجُوزَ غَلَّفَتْ كُلَّ أَكْوَازِ الذُّرَةِ بِقِشْرٍ زَائِدِ السُّمْكِ، لَمْ يَعُدْ لَدَيْهِ أَيُّ شَكٍّ فِي أَنَّ الْخُلْدَ جوني وَفَأْرَ الْمِسْكِ جيري وَالْقُنْدُسَ بادي وَعَائِلَةَ كواك كَانُوا مُحِقِّينَ تَمَامًا فِي شُعُورِهِمْ بِأَنَّ الشِّتَاءَ الْقَادِمَ سَيَكُونُ طَوِيلًا وَقَاسِيًا وَقَارِسَ الْبُرُودَةِ. وَلَكِنَّ بلاكي تَعَلَّمَ مُنْذُ زَمَنٍ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَوِ الْأَمَانِ الْكَامِلِ أَنْ تَعْتَمِدَ كُلِّيًّا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.
بَيْنَمَا وَقَفَ بلاكي عَلَى عَمُودِ سِيَاجٍ فِي الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ مُفَكِّرًا فِي اكْتِشَافِ قِشْرَةِ الذُّرَةِ السَّمِيكَةِ، قَالَ فِي نَفْسِهِ: «إِنَّ الطَّبِيعَةَ الْأُمَّ الْعَجُوزَ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا غَيْرَ كَامِلٍ؛ لِذَا لَنْ تَهْتَمَّ بِحِمَايَةِ الذُّرَةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ دُونَ أَنْ تَحْمِيَ الْأَشْيَاءَ الْأُخْرَى. لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ أَدِلَّةٍ أُخْرَى، إِذَا كُنْتُ ذَكِيًّا بِمَا يَكْفِي لِاكْتِشَافِهَا.»
رَفَعَ بلاكي أَحَدَ جَنَاحَيْهِ الْأَسْوَدَيْنِ وَبَدَأَ بِتَرْتِيبِ الرِّيشِ فِيهِ. وَفَجْأَةً قَفَزَ قَفْزَةً صَغِيرَةً مُضْحِكَةً.
وَإِذْ بَسَطَ جَنَاحَيْهِ لِيَسْتَعِيدَ تَوَازُنَهُ، صَاحَ قَائِلًا: «هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ! أَجَلْ، غَيْرُ مَسْبُوقٍ!»
سَمِعَ صَوْتًا حَادًّا رَفِيعًا يَقُولُ: «أَحَقًّا؟ إِذَا قُلْتَ إِنَّهُ أَمْرٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ، فَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْأَرْجَحِ، وَإِنْ كُنْتُ سَآخُذُ رَأْيَ شَخْصٍ آخَرَ قَبْلَ أَنْ أُصَدِّقَ مَا تَقُولُ. مَا هُوَ الْأَمْرُ غَيْرُ الْمَسْبُوقِ؟»
نَظَرَ بلاكي إِلَى أَسْفَلَ، فَوَجَدَ عَيْنَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ لَامِعَتَيْنِ تَتَطَلَّعَانِ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ الْعُشْبِ الْبُنِّيِّ.
صَاحَ بلاكي: «مَرْحَبًا يَا فَأْرَ الْمُرُوجِ داني! لَمْ أَرَكَ مُنْذُ زَمَنٍ. بَحَثْتُ عَنْكَ مَرَّاتٍ عِدَّةً فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ.»
صَاحَ داني: «لَا أَشُكُّ فِي ذَلِكَ. لَا أَشُكُّ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا. لَنْ تَرَانِي أَبَدًا عِنْدَمَا تَبْحَثُ عَنِّي. أَوْ إِنَّكَ لَنْ تَرَانِي لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِيَدِي، وَلَنْ تَرَانِي إِذَا رَأَيْتُكَ أَنَا أَوَّلًا.»
ضَحِكَ بلاكي؛ فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ مَا يَقْصِدُهُ داني. فَعِنْدَمَا يَذْهَبُ بلاكي لِلْبَحْثِ عَنْ فَأْرِ الْمُرُوجِ داني، عَادَةً مَا يَكُونُ آمِلًا فِي تَنَاوُلِهِ عَلَى الْعَشَاءِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ داني يَعْلَمُ ذَلِكَ. فَقَالَ بلاكي: «لَقَدْ تَنَاوَلْتُ إِفْطَارِي، وَلَمْ يَحِنْ مَوْعِدُ الْعَشَاءِ بَعْدُ.»
سَأَلَ داني فِي إِصْرَارٍ بِصَوْتِهِ الرَّفِيعِ: «مَا هُوَ الْأَمْرُ غَيْرُ الْمَسْبُوقِ؟»
أَجَابَهُ بلاكي مُفَسِّرًا: «كَانَ هَذَا تَعَجُّبًا؛ فَقَدِ اكْتَشَفْتُ اكْتِشَافًا أَدْهَشَنِي لِذَا صَدَرَتْ عَنِّي تِلْكَ الْعِبَارَةُ عَلَى الْفَوْرِ.»
فَسَأَلَ داني: «مَاذَا كَانَ هَذَا الِاكْتِشَافُ؟»
رَدَّ بلاكي قَائِلًا: «كَانَ الِاكْتِشَافُ هُوَ أَنَّ رِيشِي يَنْمُو بِكَثَافَةٍ أَكْبَرَ بِخِلَافِ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى. وَلَمْ أُلَاحِظْ ذَلِكَ حَتَّى بَدَأْتُ أُرَتِّبُهُ مُنْذُ بِضْعِ لَحَظَاتٍ.» وَدَفَنَ مِنْقَارَهُ فِي رِيشِ صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ بِصَوْتٍ مَكْتُومٍ: «أَجَلْ، إِنَّهُ يَنْبُتُ بِكَثَافَةٍ أَكْبَرَ بِخِلَافِ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى. إِنَّهُ يَنْبُتُ بِكَثْرَةٍ عِنْدَ الْجُذُورِ. سَوْفَ يَكُونُ ذَلِكَ أَدْفَأَ مِعْطَفٍ رِيشِيٍّ حَصَلْتُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِي.»
رَدَّ داني قَائِلًا: «لَا تَحْسَبْ أَنَّكَ وَحْدَكَ فِي ذَلِكَ. لَمْ يَسْبِقْ أَنْ كَانَ فِرَائِي أَكْثَرَ كَثَافَةً فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنَ الْعَامِ مِمَّا هُوَ الْآنَ، وَيَسْرِي ذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَى فَأْرَةِ الْمُرُوجِ ناني وَأَطْفَالِنَا جَمِيعًا. أَعْتَقِدُ أَنَّكَ تَعْلَمُ مَا يَعْنِيهِ ذَلِكَ.»
سَأَلَ بلاكي: «مَا الَّذِي يَعْنِيهِ ذَلِكَ؟» كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ أَدْنَى فِكْرَةٍ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ كَانَ قَدْ خَمَّنَ مَعْنَاهُ فِي لَحْظَةِ اكْتِشَافِهِ الرِّيشَاتِ الزَّائِدَةَ.
رَدَّ داني كَمَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُ كُلَّ شَيْءٍ عَنِ الْمَوْضُوعِ: «هَذَا يَعْنِي أَنَّهُ سَيَكُونُ شِتَاءً طَوِيلًا قَاسِيًا قَارِسَ الْبُرُودَةِ، وَأَنَّ الطَّبِيعَةَ الْأُمَّ الْعَجُوزَ تُعِدُّنَا لَهُ. سَتَجِدُ أَنَّ كُلَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تُهَاجِرُ إِلَى الْجَنُوبِ وَلَا تَنَامُ طَوَالَ الشِّتَاءِ قَدْ حَصَلَتْ عَلَى غِطَاءٍ أَغْلَظَ مِنَ الْمُعْتَادِ لِجَسَدِهَا. آهْ! إِنَّهُ الصَّقْرُ الْعَجُوزُ مُرَيَّشُ الرِّجْلَيْنِ! لَقَدْ جَاءَ مُبَكِّرًا لِلْغَايَةِ هَذَا الْعَامَ. أَعْتَقِدُ أَنِّي سَأَعُودُ لِأُحَذِّرَ ناني.»
وَدُونَ أَيَّةِ كَلِمَةٍ أُخْرَى اخْتَفَى داني وَسْطَ الْعُشْبِ الْبُنِّيِّ. ضَحِكَ بلاكي مَرَّةً أُخْرَى، وَقَالَ لِنَفْسِهِ: «الْمَزِيدُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. الْمَزِيدُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. لَيْسَ ثَمَّةَ شَكٌّ فِي أَنَّهُ سَيَكُونُ شِتَاءً عَصِيبًا. تُرَى هَلْ سَيُمْكِنُنِي تَحَمُّلُهُ؟ أَمْ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ أَنْتَقِلَ إِلَى الْجَنُوبِ قَلِيلًا، حَيْثُ سَيَكُونُ الْجَوُّ أَدْفَأَ بَعْضَ الشَّيْءِ.»