ظُنُونُ بلاكي
تِلْكَ إِحْدَى الْحِكَمِ الَّتِي يُرَدِّدُهَا بلاكي، وَيَعْمَلُ بِهَا. وَذَلِكَ أَحَدُ أَسْبَابِ اعْتِبَارِ كُلِّ جِيرَانِهِ لَهُ أَنَّهُ أَحَدُ أَذْكَى الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَعِيشُ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَالْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ. فَهُوَ نَادِرًا مَا يَقَعُ فِي مَتَاعِبَ حَقِيقِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ أَوَّلًا مِنْ عَدَمِ وُجُودِ مَتَاعِبَ يَقَعُ فِيهَا. وَعِنْدَمَا يَكْتَشِفُ شَيْئًا لَا يَفْهَمُهُ، يَشُكُّ فِيهِ عَلَى الْفَوْرِ.
وَعِنْدَمَا شَاهَدَ رَجُلًا يَنْثُرُ الذُّرَةَ الصَّفْرَاءَ فِي الْمَاءِ مِنْ عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، ارْتَابَ فِي الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ. فَهُوَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَفْهَمَ السَّبَبَ الَّذِي قَدْ يَدْفَعُ رَجُلًا إِلَى إِلْقَاءِ ذُرَةٍ سَلِيمَةٍ بَيْنَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ وَالْأُرْزِ الْبَرِّيِّ فِي الْمَاءِ. وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَفْهَمَ، شَكَّ عَلَى الْفَوْرِ فِي أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ غَرَضٌ شِرِّيرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ. وَعِنْدَمَا غَادَرَ الرَّجُلُ فِي الْقَارِبِ، طَارَ بلاكي بِبُطْءٍ فَوْقَ السَّمَّارِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَلْقَى فِيهِ الرَّجُلُ الذُّرَةَ، وَعَلَى الْفَوْرِ اكْتَشَفَتْ عَيْنَاهُ الثَّاقِبَتَانِ شَيْئًا جَعَلَهُ يَهْتِفُ تَعَجُّبًا مِنْ فَوْرِهِ.
مَا الَّذِي اكْتَشَفَهُ بلاكي؟ بِضْعُ رِيشَاتٍ فَحَسْبُ. وَإِنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْ بلاكي الثَّاقِبَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِيَكْتَشِفَهَا. وَقَلِيلُونَ مَنْ كَانُوا سَيَسْتَوْقِفُهُمُ الْأَمْرُ إِنْ لَاحَظُوا الرِّيشَاتِ. وَلَكِنَّ بلاكي عَلِمَ عَلَى الْفَوْرِ أَنَّهَا رِيشَاتُ بَطٍّ. عَلِمَ أَنَّ بَطَّةً — أَوْ رُبَّمَا سِرْبًا مِنَ الْبَطِّ — كَانَتْ تَسْتَرِيحُ أَوْ تَأْكُلُ طَعَامَهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ وَسْطَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ، وَعِنْدَمَا رَحَلَتْ، خَلَّفَتْ وَرَاءَهَا رِيشَتَيْنِ نَاعِمَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
هَتَفَ بلاكي: «آهْ! كَانَ السَّيِّدُ وَالسَّيِّدَةُ كواك أَوْ بَعْضُ أَقَارِبِهِمَا هُنَا. هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَمَاكِنِ تَحْدِيدًا يُفَضِّلُهُ الْبَطُّ. وَكَذَلِكَ فَإِنَّ بَعْضَ الْبَطِّ يُحِبُّ الذُّرَةَ. وَإِذَا عَادَ إِلَى هُنَا وَوَجَدَ حَبَّاتِ الذُّرَةِ هَذِهِ، فَسَيَجْعَلُ مِنْهَا وَلِيمَةً، وَبَعْدَهَا سَيَعُودُ مُجَدَّدًا بِالتَّأْكِيدِ. إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي نَثَرَ الذُّرَةَ هُنَا لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ بُنْدُقِيَّةً رَهِيبَةً، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ صَيَّادًا. فَرُبَّمَا يَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى وَتَكُونُ فِي حَوْزَتِهِ حِينَهَا بُنْدُقِيَّةٌ رَهِيبَةٌ. إِنَّنِي لَأَرْتَابُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ، أَجَلْ أَرْتَابُ فِيهِ. أَظُنُّ أَنَّهُ وَضَعَ الذُّرَةَ هُنَا مِنْ أَجْلِ الْبَطِّ، وَلَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِدَافِعِ طِيبَةِ قَلْبِهِ. لَوْ كَانَ هَذَا الشَّخْصُ هُوَ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون، كُنْتُ سَأَعْلَمُ أَنَّ الْأُمُورَ عَلَى مَا يُرَامُ، وَأَنَّهُ كَانَ يُفَكِّرُ فِي الْبَطِّ الْجَائِعِ، الَّذِي لَا يَجِدُ إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْأَمَاكِنِ حَيْثُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي أَمَانٍ أَثْنَاءَ رِحْلَتِهِ الطَّوِيلَةِ مِنَ الشَّمَالِ الْبَعِيدِ إِلَى الْجَنُوبِ الْمُشْمِسِ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنِ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون. هَذَا الْأَمْرُ لَا يُرِيحُنِي. إِنَّهُ لَا يُرِيحُنِي الْبَتَّةَ. سَوْفَ أُوَاصِلُ مُرَاقَبَةَ هَذَا الْمَكَانِ وَأَرَى مَا سَيَحْدُثُ.»
وَطُولَ الطَّرِيقِ إِلَى مَكَانِهِ الْمُفَضَّلِ عَلَى شَجَرَةِ شَوْكَرَانٍ مُعَيَّنَةٍ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، ظَلَّ بلاكي يُفَكِّرُ فِي الذُّرَةِ وَالرَّجُلِ الَّذِي بَدَا كَرِيمًا، وَكُلَّمَا فَكَّرَ فِي الْأَمْرِ أَكْثَرَ، ازْدَادَتْ شُكُوكُهُ. فَهُوَ لَمْ يَرْتَحْ لِذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَبَيْنَمَا كَانَ بلاكي يَسْتَعِدُّ لِلنَّوْمِ، تَمْتَمَ قَائِلًا: «سَوْفَ أَنْصَحُ عَائِلَةَ كواك بِالِابْتِعَادِ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ. سَيَكُونُ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا أَفْعَلُهُ فِي الصَّبَاحِ. لَوْ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ ذَرَّةَ عَقْلٍ، فَسَوْفَ يَبْقَوْنَ عِنْدَ بِرْكَةِ الْقُنْدُسِ بادي. وَلَكِنَّهُمْ إِذَا ذَهَبُوا إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، فَسَيَجِدُونَ الذُّرَةَ بِالتَّأْكِيدِ، وَإِذَا وَجَدُوهَا مَرَّةً، فَسَوْفَ يُوَاصِلُونَ الذَّهَابَ إِلَى هُنَاكَ مِنْ أَجْلِ الْمَزِيدِ. رُبَّمَا كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، وَلَكِنِّي غَيْرُ مُرْتَاحٍ لِمَا يَبْدُو عَلَيْهِ.»
وَنَامَ بلاكي وَالشُّكُوكُ لَمْ تَزَلْ تَمْلَأُ قَلْبَهُ.