بلاكي يَصِلُ إِلَى مَزِيدٍ مِنْ الِاكْتِشَافَاتِ
يَتَمَثَّلُ أَحَدُ أَسْرَارِ نَجَاحِ بلاكي فِي أَنَّهُ لَا تَفُوتُهُ أَبَدًا مُلَاحَظَةُ الْأَشْيَاءِ الصَّغِيرَةِ؛ فَقَدْ تَعَلَّمَ مُنْذُ زَمَنٍ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي تَبْدُو غَيْرَ مُؤْذِيَةٍ فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَغَيْرَ جَدِيرَةٍ بِالْمُلَاحَظَةِ، رُبَّمَا تُثْبِتُ مُجْتَمِعَةً أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ أَهَمِّيَّةً فِي الْحَيَاةِ. لِذَا، فَبِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَدَى عَدَمِ الْأَهَمِّيَّةِ الَّتِي قَدْ يَبْدُو عَلَيْهَا الشَّيْءُ، يَتَفَقَّدُهُ بلاكي بِعِنَايَةٍ بَعَيْنَيْهِ الثَّاقِبَتَيْنِ هَاتَيْنِ وَيَتَذَكَّرُهُ.
كَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ فَعَلَهُ بلاكي — بِمُجَرَّدِ أَنِ اسْتَيْقَظَ فِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي لِاكْتِشَافِهِ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ يَنْثُرُ حَبَّاتِ الذُّرَةِ بَيْنَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ — هُوَ أَنْ طَارَ إِلَى بِرْكَةِ الْقُنْدُسِ بادي، وَحَذَّرَ السَّيِّدَ وَالسَّيِّدَةَ كواك مَرَّةً أُخْرَى مِنَ الدُّنُوِّ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ إِذَا أَرَادَا أَنْ يَظَلَّا فِي أَمَانٍ هُمَا وَأَطْفَالُهُمَا السِّتَّةُ. بَعْدَهَا تَنَاوَلَ إِفْطَارَهُ، تَنَاوَلَهُ فِي عُجَالَةٍ وَطَارَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ مُبَاشَرَةً؛ حَيْثُ شَاهَدَ الرَّجُلَ يَنْثُرُ الذُّرَةَ.
لَمْ يَتَفَاجَأْ بلاكي كَثِيرًا بِرُؤْيَةِ ذَكَرِ الْبَطِّ الْأَسْوَدِ داسكي — ابْنِ عَمِّ السَّيِّدِ وَالسَّيِّدَةِ كواك مِنْ عَائِلَةِ الْبَطِّ الْبَرِّيِّ — مَعَ عَدَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ وَسْطَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ وَالْأُرْزِ الْبَرِّيِّ فِي نَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي نُثِرَتْ فِيهِ الذُّرَةُ. بَدَوْا جَمِيعًا مَسْرُورِينَ وَمُبْتَهِجِينَ إِلَى أَقْصَى حَدٍّ. وَقَدْ خَمَّنَ بلاكي السَّبَبَ؛ إِذْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرَى وَلَوْ حَبَّةً وَاحِدَةً مِنَ الذُّرَةِ الصَّفْرَاءِ. كَانَ يَعْلَمُ طِبَاعَ داسكي وَأَقَارِبِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ جَاءُوا اللَّيْلَةَ الْمَاضِيَةَ وَقْتَ الْغَسَقِ وَفَوْرًا وَجَدُوا حَبَّاتِ الذُّرَةِ الْمَنْثُورَةَ. وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَظَلُّونَ مُخْتَبِئِينَ هُنَاكَ حَتَّى يَجِدُوا مَا يُخِيفُهُمْ، وَحِينَهَا سَيَقْضُونَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ فِي بِرْكَةٍ صَغِيرَةٍ؛ حَيْثُ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يُزْعِجَهُمْ أَحَدٌ أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ لَنْ يَقْتَرِبَ مِنْهُمْ خَطَرٌ دُونَ أَنْ يَرَوْهُ قَبْلَ وُصُولِهِ بِوَقْتٍ طَوِيلٍ. وَهُنَاكَ سَوْفَ يَظَلُّونَ طَوَالَ الْيَوْمِ، وَعِنْدَمَا تَزْحَفُ الظِّلَالُ السَّوْدَاءُ مِنْ نَاحِيَةِ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ، يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ لِلْحُصُولِ عَلَى الطَّعَامِ؛ فَهَذَا هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُفَضِّلُونَ الْبَحْثَ عَنِ الطَّعَامِ فِيهِ.
نَظَرَ داسكي لِأَعْلَى عِنْدَمَا حَلَّقَ بلاكي مِنْ فَوْقِهِ، وَلَكِنَّ بلاكي لَمْ يَقُلْ شَيْئًا، وَلَمْ يَقُلْ داسكي شَيْئًا. وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ بلاكي قَدِ اسْتَخْدَمَ لِسَانَهُ، فَقَدِ اسْتَخْدَمَ عَيْنَيْهِ. وَرَأَى عَلَى حَافَةِ الشَّاطِئِ مَا يُشْبِهُ مَجْمُوعَةً كَبِيرَةً مِنَ الشُّجَيْرَاتِ الصَّغِيرَةِ الْمُتَلَاصِقَةِ عِنْدَ حَافَةِ الْمَاءِ. وَكَانَ مُخْتَلِطًا مَعَهَا مَجْمُوعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ الْبُنِّيَّةِ. بَدَتْ غَيْرَ مُؤْذِيَةٍ وَبَرِيئَةً لِلْغَايَةِ، وَلَكِنَّ بلاكي كَانَ يَعْرِفُ كُلَّ بُوصَةٍ مِنْ شَاطِئِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الشُّجَيْرَاتِ لَمْ تَكُنْ فِي هَذَا الْمَكَانِ خَلَالَ الصَّيْفِ، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَمْ تَنْمُ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
فَطَارَ فَوْقَهَا مُبَاشَرَةً، وَوَجَدَ وَرَاءَهَا بَعْضَ قِطَعِ الْخَشَبِ. لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْأَخْشَابُ مَوْجُودَةً هُنَاكَ عِنْدَمَا مَرَّ بِذَلِكَ الْمَكَانِ مُنْذُ بِضْعَةِ أَيَّامٍ. كَانَ مُتَأَكِّدًا مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ بلاكي بِصَوْتٍ خَفِيضٍ: «آهْ! تَبْدُو لِي هَذِهِ الشُّجَيْرَاتُ مُنَاسِبَةً — مُنَاسِبَةً تَمَامًا — لِجُلُوسِ صَيَّادٍ عَلَيْهَا. فِإِذَا جَلَسَ الصَّيَّادُ هُنَاكَ خَلْفَ هَذِهِ الشُّجَيْرَاتِ، فَسَيَتَوَارَى عَنْ أَنْظَارِ أَيِّ بَطَّةٍ قَدْ تَأْتِي لِلْبَحْثِ عَنِ الذُّرَةِ الصَّفْرَاءِ اللَّذِيذَةِ الْمَنْثُورَةِ بَيْنَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ. هَذَا الْأَمْرُ لَا يَبْدُو مُرِيحًا، أَجَلْ، لَا يَبْدُو مُرِيحًا. أَظُنُّ أَنَّنِي سَأُرَاقِبُ هَذَا الْمَكَانَ.»
عَادَ بلاكي عِدَّةَ مَرَّاتٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ. وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَجَدَ أَنَّ داسكي وَأَقَارِبَهُ قَدْ غَادَرُوا الْمَكَانَ. وَعِنْدَمَا عَادَ عَصْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، رَأَى الرَّجُلَ نَفْسَهُ الَّذِي رَآهُ عَصْرَ الْيَوْمِ السَّابِقِ، وَكَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ نَفْسَهُ؛ إِذْ كَانَ يَنْثُرُ الذُّرَةَ الصَّفْرَاءَ بَيْنَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ. وَكَمَا حَدَثَ فِي الْمَرَّةِ السَّابِقَةِ، غَادَرَ الْمَكَانَ فِي قَارِبٍ.
تَمْتَمَ بلاكي بَيْنَمَا يَهُزُّ رَأْسَهُ: «هَذَا الْأَمْرُ لَا يُرِيحُنِي، أَجَلْ لَا يُرِيحُنِي.»