بلاكي يَتَأَكَّدُ أَخِيرًا
فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ مِنْ فَتْرَةِ مَا بَعْدَ الظَّهِيرَةِ، كَانَ بلاكي فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. وَكَالْمُعْتَادِ، مَرَّ فَوْقَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ لِيَرَى مَا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَنْثُرُ حَبَّاتِ الذُّرَةِ مِنْ أَجْلِ الْبَطِّ؛ فَلَمْ يَجِدْهُ هُنَاكَ وَلَمْ يَرَ أَحَدًا عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ.
فَكَّرَ بلاكي قَائِلًا: «إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْيَوْمَ، أَوْ إِنَّهُ جَاءَ مُبَكِّرًا وَغَادَرَ.» ثُمَّ لَمَحَتْ عَيْنَاهُ الثَّاقِبَتَانِ شَيْئًا جَعَلَهُ يَمِيلُ جَانِبًا وَيَتَوَجَّهُ إِلَى شَجَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَاشَرَةً، وَمِنْ فَوْقِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَرَى كُلَّ مَا يَحْدُثُ لِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ. فَمَا الَّذِي رَآهُ بلاكي؟ كَانَ مَا رَآهُ قَارِبًا آتِيًا مِنْ أَعْلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ.
جَلَسَ بلاكي ثَابِتًا يُرَاقِبُ مَا يَحْدُثُ. وَسُرْعَانَ مَا دَخَلَ الْقَارِبُ بَيْنَ نَبَاتَاتِ السَّمَّارِ، وَبَعْدَ لَحْظَةٍ نَزَلَ مِنْهُ رَجُلٌ عَلَى الشَّاطِئِ. كَانَ هُوَ نَفْسَ الرَّجُلِ الَّذِي رَآهُ بلاكي يَنْثُرُ الذُّرَةَ بَيْنَ الزَّرْعِ يَوْمِيًّا طِيلَةَ أُسْبُوعٍ. لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ شَكٌّ فِي ذَلِكَ، كَانَ هُوَ ذَاكَ الرَّجُلَ نَفْسَهُ.
صَاحَ بلاكي: «يَاهْ!» وَكَادَ يَفْقِدُ تَوَازُنَهُ مِنْ فَرْطِ الْإِثَارَةِ. «يَاااهْ! كَمَا تَوَقَّعْتُ تَمَامًا!» كَانَتْ عَيْنَا بلاكي الثَّاقِبَتَانِ قَدْ لَمَحَتَا الرَّجُلَ يَحْمِلُ شَيْئًا، وَهَذَا الشَّيْءُ كَانَ بُنْدُقِيَّةً، بُنْدُقِيَّةً رَهِيبَةً. وَبلاكي يُمَيِّزُ الْبَنَادِقَ الرَّهِيبَةَ مَتَى وَقَعَ عَلَيْهَا بَصَرُهُ.
مَشَى الصَّيَّادُ — فَبِالطَّبْعِ كَانَ صَيَّادًا — عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الشُّجَيْرَاتِ الَّتِي لَاحَظَهَا بلاكي بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَاءِ، وَالَّتِي كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهَا لَمْ تَنْبُتْ فِي هَذَا الْمَكَانِ. تَفَقَّدَ الصَّيَّادُ النَّهْرَ الْكَبِيرَ بِعَيْنَيْهِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي نَثَرَ فِيهِ الذُّرَةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ، فَلَمْ يَرَ بِهِ حَبَّةَ ذُرَةٍ. وَبَدَا أَنَّ هَذَا أَسْعَدَهُ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الشُّجَيْرَاتِ وَجَلَسَ عَلَى قِطْعَةِ خَشَبٍ خَلْفَهَا، وَاضِعًا بُنْدُقِيَّتَهُ الرَّهِيبَةَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
غَمْغَمَ بلاكي: «كُنْتُ مُتَأَكِّدًا. سَوْفَ يَنْتَظِرُ هُنَاكَ حَتَّى قُدُومِ الْبَطِّ، وَبَعْدَهَا سَيَحْدُثُ شَيْءٌ مُرَوِّعٌ. يَا لَهُمْ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ بَغِيضَةٍ هَؤُلَاءِ الصَّيَّادِينَ! إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا عَنِ الْإِنْصَافِ. أَجَلْ، إِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا هُوَ الْإِنْصَافُ. لَقَدْ وَضَعَ الطَّعَامَ فِي هَذَا الْمَكَانِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ؛ حَيْثُ سَيَكُونُ مِنَ الْمُحَتَّمِ أَنْ يَجِدَهُ داسكي وَأَقَارِبُهُ، وَانْتَظَرَ حَتَّى اطْمَأَنُّوا تَمَامًا إِلَى عَدَمِ وُجُودِ خَطَرٍ؛ حَتَّى لَا يَشْعُرُوا بِأَيِّ ارْتِيَابٍ. إِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ مُطْمَئِنِّينَ تَمَامًا إِلَى أَنَّ الْوَضْعَ آمِنٌ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَنْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ. حِينَهَا سَوْفَ يُطْلِقُ بُنْدُقِيَّتَهُ الرَّهِيبَةَ وَيَقْتُلُهُمْ دُونَ مَنْحِهِمْ أَيَّ فُرْصَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ.»
«إِنَّ الثَّعْلَبَ ريدي صَيَّادٌ مَاكِرٌ وَمَاهِرٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ شَيْئًا كَهَذَا، وَلَا الْقَيُّوطُ الْعَجُوزُ وَلَا أَيُّ كَائِنٍ آخَرَ مِنْ ذَوِي الْفَرْوِ أَوِ الرِّيشِ. رُبَّمَا يَخْتَبِئُونَ وَيُحَاوِلُونَ مُبَاغَتَةَ أَحَدِهِمْ. لَا بَأْسَ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُفْتَرَضُ بِكُلٍّ مِنَّا أَنْ يَحْذَرَ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ. يَا إِلَهِي! مَاذَا عَسَايَ أَنْ أَفْعَلَ؟ لَقَدْ حَانَ وَقْتُ عَوْدَتِي إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ؛ فَسَوْفَ تَأْتِي الظِّلَالُ السَّوْدَاءُ عَمَّا قَرِيبٍ مِنْ وَرَاءِ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ، وَيَجِبُ أَنْ أَكُونَ فِي أَمَانِ شَجَرَةِ الشَّوْكَرَانِ آنَذَاكَ. سَوْفَ أَمُوتُ مِنَ الْخَوْفِ إِذَا بَقِيتُ فِي الْخَارِجِ بَعْدَ حُلُولِ الظَّلَامِ. لَكِنْ يَنْبَغِي تَحْذِيرُ تِلْكَ الْبَطَّاتِ. يَا إِلَهِي! مَاذَا أَفْعَلُ؟!»
تَطَلَّعَ بلاكي فِي اتِّجَاهِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ ثُمَّ فِي اتِّجَاهِ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ الَّتِي سَيَأْوِي خَلْفَهَا قُرْصُ الشَّمْسِ الْأَحْمَرُ الْمُسْتَدِيرُ الْمَرِحُ إِلَى فِرَاشِهِ قَرِيبًا. وَارْتَجَفَ عِنْدَمَا فَكَّرَ فِي الظِّلَالِ السَّوْدَاءِ الَّتِي سَتَأْتِي عَمَّا قَرِيبٍ مِنْ عِنْدِ التِّلَالِ الْأُرْجُوَانِيَّةِ عَابِرَةً النَّهْرَ الْكَبِيرَ وَتَغْزُو الْمُرُوجَ الْخَضْرَاءَ. وَرُبَّمَا يَأْتِي مَعَهَا السَّيِّدُ هوتي، الَّذِي لَنْ يُمَانِعَ مُطْلَقًا فِي تَنَاوُلِ غُرَابٍ عَلَى الْعَشَاءِ. وَتَمَنَّى لَوْ كَانَ عَلَى شَجَرَةِ الشَّوْكَرَانِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ.
ثُمَّ نَظَرَ بلاكي إِلَى الصَّيَّادِ الَّذِي يَحْمِلُ بُنْدُقِيَّتَهُ الرَّهِيبَةَ وَفَكَّرَ فِيمَا قَدْ يَحْدُثُ — مَا الَّذِي مِنَ الْمُحَتَّمِ أَنْ يَحْدُثَ — مَا لَمْ يُحَذِّرِ الْبَطَّ. وَتَمْتَمَ قَائِلًا: «سَوْفَ أَنْتَظِرُ بُرْهَةً.» وَحَاوَلَ أَنْ يَتَشَجَّعَ، وَلَكِنَّهُ ارْتَعَدَ خَوْفًا بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ.