بلاكي يَعُودُ إِلَى الْمَنْزِلِ سَعِيدًا
جَلَسَ بلاكي عَلَى قِمَّةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ مُحْتَارًا بِشَأْنِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ. أَرَادَ أَنْ يَعُودَ لِبَيْتِهِ عَلَى شَجَرَةِ الشَّوْكَرَانِ الْكَبِيرَةِ كَثِيفَةِ الْأَغْصَانِ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ قَبْلَ الْغَسَقِ؛ إِذْ إِنَّهُ يَخَافُ الظَّلَامَ؛ أَيْ إِنَّهُ يَخَافُ الْبَقَاءَ خَارِجَ الْمَنْزِلِ بَعْدَ حُلُولِ الظَّلَامِ.
قَالَ صَوْتٌ دَاخِلَهُ: «عُدْ إِلَى الْمَنْزِلِ؛ فَالْوَقْتُ الْآنَ يَتَّسِعُ بِالْكَادِ لِلْعَوْدَةِ قَبْلَ وُصُولِ الظِّلَالِ السَّوْدَاءِ. لَا تُضِعْ مَزِيدًا مِنَ الْوَقْتِ هُنَا. إِنَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ لِتِلْكَ الْبَطَّاتِ الْحَمْقَاوَاتِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِكَ، وَلَا يُوجَدُ مَا يُمْكِنُكَ فِعْلُهُ بِأَيِّ حَالٍ. هَيَّا عُدْ إِلَى الْمَنْزِلِ.»
قَالَ صَوْتٌ خَفِيضٌ آخَرُ دَاخِلَهُ: «انْتَظِرْ بِضْعَ دَقَائِقَ. لَا تَكُنْ جَبَانًا. يَنْبَغِي أَنْ تُخْبِرَ داسكي وَسِرْبَهُ أَنَّهُ ثَمَّةَ صَيَّادٌ يَحْمِلُ بُنْدُقِيَّةً رَهِيبَةً فِي انْتِظَارِهِمْ. هَلْ صَحِيحٌ أَنَّ مَا يَحْدُثُ لِلْبَطِّ لَيْسَ مِنْ شَأْنِكَ؟! أَعِدِ التَّفْكِيرَ يَا بلاكي؛ أَعِدِ التَّفْكِيرَ. مِنْ وَاجِبِ كُلِّ مَنْ يَرَى خَطَرًا مُشْتَرَكًا أَنْ يُنْذِرَ جِيرَانَهُ. إِذَا حَدَثَ شَيْءٌ مُرَوِّعٌ لِداسكي لِأَنَّكَ كُنْتَ خَائِفًا مِنَ الظَّلَامِ؛ فَلَنْ يَهْنَأَ لَكَ بَالٌ أَبَدًا. ابْقَ قَلِيلًا وَوَاصِلِ الْمُرَاقَبَةَ.»
لَمْ يَمْضِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِ دَقَائِقَ إِلَّا وَرَأَى بلاكي شَيْئًا أَشْعَرَهُ بِالسَّعَادَةِ لِأَنَّهُ وَاصَلَ الْمُرَاقَبَةَ. كَانَ خَطًّا أَسْوَدَ يَتَحَرَّكُ بِالْقُرْبِ مِنْ صَفْحَةِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، وَكَانَ قَادِمًا نَحْوَهُ. كَانَ يَعْرِفُ مَا هَذَا الْخَطُّ الْأَسْوَدُ، فَنَظَرَ إِلَى الصَّيَّادِ الْمُخْتَبِئِ خَلْفَ الشُّجَيْرَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْ حَافَةِ الْمَاءِ. كَانَ الصَّيَّادُ جَاثِمًا عَلَى الْأَرْضِ مُمْسِكًا بِبُنْدُقِيَّتِهِ الرَّهِيبَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَخْتَلِسُ النَّظَرَ مِنْ وَرَاءِ الشُّجَيْرَاتِ مُرَاقِبًا الْخَطَّ الْأَسْوَدَ. كَانَ يَعْرِفُ هُوَ الْآخَرُ مَا هُوَ ذَلِكَ الْخَطُّ الْأَسْوَدُ؛ إِنَّهُ سِرْبُ الْبَطِّ الطَّائِرِ.
ارْتَعَشَ بلاكي مَرَّةً أُخْرَى مِنْ قِمَّةِ رَأْسِهِ وَحَتَّى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْمَرَّةَ لَمْ تَكُنِ الرَّعْشَةُ بِسَبَبِ خَوْفِهِ مِنَ الْبَقَاءِ خَارِجَ الْمَنْزِلِ فِي اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا مِنْ فَرْطِ الْإِثَارَةِ؛ فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْبَطَّاتِ أَصْبَحَتْ تَتُوقُ لِمَزِيدٍ مِنَ الذُّرَةِ؛ تِلْكَ الذُّرَةِ الصَّفْرَاءِ اللَّذِيذَةِ الَّتِي كَانَتْ تَجِدُهَا كُلَّ لَيْلَةٍ لِمُدَّةِ أُسْبُوعٍ مَنْثُورَةً بَيْنَ النَّبَاتَاتِ أَمَامَ الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَبِئُ فِيهِ الصَّيَّادُ مُبَاشَرَةً، حَتَّى إِنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعِ انْتِظَارَ قُدُومِ الظِّلَالِ السَّوْدَاءِ. كَانَتْ مُطْمَئِنَّةً تَمَامًا إِلَى عَدَمِ وُجُودِ خَطَرٍ، حَتَّى إِنَّهَا أَتَتْ لِتَأْكُلَ دُونَ انْتِظَارِ الظِّلَالِ السَّوْدَاءِ، كَمَا تَفْعَلُ فِي الْمُعْتَادِ. وَقَدْ كَانَ بلاكي مَسْرُورًا؛ إِذْ رُبَّمَا صَارَ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يُحَذِّرَهَا.
نَحْوَ مُنْتَصَفِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ، كَانَ سِرْبُ الْبَطِّ يَطِيرُ فَوْقَ الْمِيَاهِ مُبَاشَرَةً، بِقِيَادَةِ داسكي. وَيَا لَسُرْعَةِ طَيَرَانِ تِلْكَ الطُّيُورِ الْكَبِيرَةِ التِّسْعَةِ! كَانَ بلاكي يَحْسُدُهَا عَلَى سُرْعَةِ أَجْنِحَتِهَا؛ فَقَدْ طَارَتْ مُتَجَاوِزَةً الصَّيَّادَ الْمُخْتَبِئَ بَيْنَ الشُّجَيْرَاتِ وَقَطَعَتْ مَسَافَةً كَبِيرَةً فَوْقَ النَّهْرِ الْكَبِيرِ. وَلِوَهْلَةٍ ظَنَّ بلاكي أَنَّهَا سَتُوَاصِلُ طَرِيقَهَا إِلَى أَعْلَى النَّهْرِ وَلَنْ تَذْهَبَ لِتَنَاوُلِ الطَّعَامِ. ثُمَّ إِنَّهَا مَالَتْ نَحْوَ الضِّفَّةِ الْأُخْرَى، وَدَارَتْ فِي حَلْقَةٍ وَتَوَجَّهَتْ مُبَاشَرَةً نَحْوَ الصَّيَّادِ الْمُخْتَبِئِ. نَظَرَ بلاكي إِلَيْهِ وَرَآهُ اسْتَعَدَّ لِإِطْلَاقِ النَّارِ.
فَدُونَ تَفْكِيرٍ يُذْكَرُ، بَسَطَ بلاكي جَنَاحَيْهِ وَطَارَ مِنْ عَلَى الشَّجَرَةِ، صَائِحًا بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «كَاوْ كَاوْ كَاوْ كَاوْ كَاوْ! كَاوْ كَاوْ كَاوْ كَاوْ كَاوْ!» كَانَتْ هَذِهِ صَيْحَةَ الْخَطَرِ الَّتِي يَعْرِفُهَا كُلُّ مَنْ فِي الْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ وَالْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ.
عَلَى الْفَوْرِ دَارَ داسكي وَبَدَأَ فِي التَّحْلِيقِ عَالِيًا وَتَبِعَهُ بَقِيَّةُ السِّرْبِ، وَحِينَ مَرُّوا مِنْ فَوْقِ الصَّيَّادِ الْمُخْتَبِئِ كَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَى ارْتِفَاعٍ عَالٍ جِدًّا، حَتَّى لَمْ يَعُدْ إِطْلَاقُ النَّارِ عَلَيْهِمْ مُجْدِيًا. بِالْفِعْلِ، صَوَّبَ الصَّيَّادُ بُنْدُقِيَّتَهُ نَاحِيَتَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُطْلِقِ النَّارَ؛ فَهُوَ لَمْ يَرْغَبْ فِي أَنْ يُخِيفَهُمْ حَتَّى يَعُودُوا مَرَّةً أُخْرَى. ثُمَّ اسْتَدَارَ السِّرْبُ وَحَلَّقَ عَائِدًا فِي الِاتِّجَاهِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ، وَفِي غُضُونِ دَقَائِقَ قَلِيلَةٍ كَانُوا مُجَرَّدَ خَطٍّ أَسْوَدَ فِي سَبِيلِهِ لِلِاخْتِفَاءِ عِنْدَ الطَّرَفِ الْآخَرِ لِلنَّهْرِ الْكَبِيرِ.
اتَّجَهَ بلاكي نَحْوَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ مُبَاشَرَةً، ضَاحِكًا أَثْنَاءَ طَيَرَانِهِ. كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَطَّ لَنْ يَعُودَ إِلَّا بَعْدَ حُلُولِ الظَّلَامِ. لَقَدْ أَنْقَذَهُمْ هَذِهِ الْمَرَّةَ، وَكَانَ سَعِيدًا لِلْغَايَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَلْحَظِ الظِّلَالَ السَّوْدَاءَ مِنَ الْأَسَاسِ. أَمَّا الصَّيَّادُ فَقَدْ وَقَفَ وَأَخَذَ يَهُزُّ قَبْضَتَهُ لِبلاكي مُتَوَعِّدًا.