بلاكي يَسْتَجْمِعُ شَجَاعَتَهُ
«الْبَعِيدُ عَنِ الْعَيْنِ بَعِيدٌ عَنِ الْقَلْبِ.» هَذَا قَوْلٌ تَسْمَعُهُ كَثِيرًا. رُبَّمَا يَكُونَ سَلِيمًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَلَكِنْ فِي أَحْيَانٍ أُخْرَى يَصِيرُ أَبْعَدَ مَا يَكُونُ عَنِ الْحَقِيقَةِ، كَمَا فِي حَالَةِ بلاكي؛ فَقَدْ أَلْقَى نَظْرَةً وَاحِدَةً خَاطِفَةً عَلَى ذَلِكَ الْعُشِّ بِجِوَارِ الْبَابِ فِي حَظِيرَةِ دَجَاجِ الْمُزَارِعِ براون، وَلَكِنَّ تِلْكَ النَّظْرَةَ الْخَاطِفَةَ كَانَتْ كَافِيَةً لِيَرَى أَنَّهُ ثَمَّةَ بَيْضَتَانِ فِي الْعُشِّ. ثُمَّ عِنْدَمَا طَارَ نَحْوَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ، كَانَتْ هَاتَانِ الْبَيْضَتَانِ بَعِيدَتَيْنِ عَنْ نَظَرِهِ بِالطَّبْعِ، وَلَكِنْ هَلْ تَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا كَانَتَا بَعِيدَتَيْنِ عَنْ فِكْرِهِ؟ لَيْسَ كَثِيرًا! بَلْ أَبَدًا! فَالْحَقِيقَةُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ كَانَتَا تُلِحَّانِ عَلَى فِكْرِ بلاكي. وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُفَكِّرَ فِي أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ. فَطَارَ مُبَاشَرَةً إِلَى شَجَرَةِ صَنَوْبَرٍ عَالِيَةٍ فِي مَكَانٍ مُنْعَزِلٍ مِنَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. فَحِينَمَا يَرْغَبُ بلاكي فِي التَّفْكِيرِ أَوْ تَدْبِيرِ حِيلَةٍ، يَذْهَبُ إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَيَتَوَارَى بَيْنَ فُرُوعِهَا الْكَبِيرَةِ عَنِ الْعُيُونِ الْفُضُولِيَّةِ، وَيَجْلِسُ فِيهَا بِلَا حَرَاكٍ تَقْرِيبًا.
تَمْتَمَ بلاكي قَائِلًا: «أُرِيدُ وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ.» بَيْنَمَا كَانَ يَعْتَدِلُ فِي جِلْسَتِهِ عَلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ عَلَى فَرْعٍ بِعَيْنِهِ مِنْ شَجَرَةِ الصَّنَوْبَرِ الْعَالِيَةِ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْمِيَةُ هَذَا الْفَرْعِ بِاسْمِ «فَرْعِ الْحِيَلِ»؛ فَقَدْ فَكَّرَ بلاكي فِي حِيَلِهِ الشَّهِيرَةِ جَمِيعًا وَدَبَّرَهَا عَلَى فَرْعِ الشَّجَرَةِ ذَاكَ. وَوَاصَلَ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «أَجَلْ، أُرِيدُ وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ، وَالْأَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ أَنِّي سَوْفَ أَحْصُلُ عَلَيْهَا.»
وَضَيَّقَ عَيْنَيْهِ وَدَفَعَ رَأْسَهُ لِلْخَلْفِ وَابْتَلَعَ رِيقَهُ بِضْعَ مَرَّاتٍ، كَمَا لَوْ كَانَ قَدْ تَذَوَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِالْفِعْلِ.
«إِنَّ الْبَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ تِلْكَ تُسَاوِي عُشًّا مَلِيئًا بِبَيْضِ عُصْفُورِ أَبِي الْحِنَّاءِ الْوَدُودِ. لَمْ يُحَالِفْنِي الْحَظُّ بِتَذَوُّقِ بَيْضَةِ دَجَاجَةٍ مُنْذُ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، وَهَذِهِ هِيَ فُرْصَتِي. أَنَا لَا أُحِبُّ دُخُولَ حَظِيرَةِ الدَّجَاجِ تِلْكَ، رَغْمَ أَنَّ الْعُشَّ بِجِوَارِ الْبَابِ مُبَاشَرَةً. فَالْأَبْوَابُ تُثِيرُ رِيبَتِي؛ إِذْ إِنَّهَا كَثِيرًا مَا تَنْغَلِقُ فَجْأَةً. رُبَّمَا أُحَاوِلُ أَنْ أَجْعَلَ الْعَمَّ بيلي الْأَبُوسُومَ يُخْرِجُ لِي إِحْدَى هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ. وَلَكِنَّ هَذِهِ الْخُطَّةَ لَنْ تَنْجَحَ عِنْدَمَا تُمْعِنُ التَّفْكِيرَ فِيهَا، فَأَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَثِقَ فِي الْعَمِّ بيلي. فَالْوَغْدُ الْعَجُوزُ مُولَعٌ بِالْبَيْضِ أَيْضًا. رُبَّمَا أَكُونُ مُسْتَعِدًّا لِمُشَاطَرَتِهَا مَعَهُ، وَلَكِنَّهُ سَيَتَنَاوَلُ نَصِيبَهُ أَوَّلًا، وَأَخْشَى أَنْ يَجِدَ طَعْمَهَا لَذِيذًا إِلَى حَدٍّ يَجْعَلُهُ يَأْكُلُ النِّصْفَ الْآخَرَ. لَا، عَلَيَّ أَنْ أَحْصُلَ عَلَى إِحْدَى هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ بِنَفْسِي. إِنَّهَا الطَّرِيقَةُ الْوَحِيدَةُ الْأَكِيدَةُ لِأَنْ أَحْصُلَ عَلَيْهَا.»
«عَلَيَّ أَنْ أَتَأَكَّدَ مِنْ عَدَمِ وُجُودِ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون أَوِ الْمُزَارِعِ براون نَفْسِهِ فِي الْجِوَارِ. مِنَ الْمُفْتَرَضِ أَنْ يَذْهَبَا إِلَى حَقْلِ الذُّرَةِ عَمَّا قَرِيبٍ. وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ، مَا عَلَيَّ سِوَى أَنْ أَتَحَيَّنَ الْفُرْصَةَ وَأَتَسَلَّلَ إِلَى دَاخِلِ الْحَظِيرَةِ. لَنْ يَسْتَغْرِقَ الْأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَانِيَةٍ. فَلْتَتَحَلَّ بِقَلِيلٍ مِنَ الشَّجَاعَةِ يَا بلاكي، قَلِيلٍ مِنَ الشَّجَاعَةِ فَحَسْبُ! فَلَا يُمْكِنُ الْحُصُولُ عَلَى شَيْءٍ ذِي قِيمَةٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ دُونَ بَعْضِ الْمُخَاطَرَةِ. أَمَّا مَا يَجِبُ فِعْلُهُ فَهُوَ التَّأَكُّدُ مِنْ تَقْلِيلِ نِسْبَةِ الْمُخَاطَرَةِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ.»
فَرَدَ بلاكي جَنَاحَيْهِ وَطَارَ مِنْ عَلَى شَجَرَةِ الصَّنَوْبَرِ الْعَالِيَةِ بِهُدُوءٍ كَمَا هَبَطَ عَلَيْهَا بِهُدُوءٍ، وَتَوَجَّهَ مُبَاشَرَةً إِلَى حَقْلِ الذُّرَةِ الْخَاصِّ بِالْمُزَارِعِ براون. وَعِنْدَمَا اقْتَرَبَ بِمَا يَكْفِي لِرُؤْيَةِ الْحَقْلِ بِأَكْمَلِهِ، نَزَلَ لِيَقِفَ عَلَى عَمُودِ سِيَاجٍ، وَانْتَظَرَ هُنَاكَ. لَمْ يَنْتَظِرْ بلاكي طَوِيلًا؛ فَفِي الْوَاقِعِ، لَمْ تَمْضِ إِلَّا دَقَائِقُ حَتَّى لَمَحَ شَخْصَيْنِ قَادِمَيْنِ عَلَى الطَّرِيقِ الطَّوِيلِ فِي اتِّجَاهِ حَقْلِ الذُّرَةِ. نَظَرَ إِلَيْهِمَا بِتَمَعُّنٍ وَتَنَهَّدَ بِرِضًا. كَانَا هُمَا الْمُزَارِعَ براون وَابْنَهُ. وَسُرْعَانَ مَا وَصَلَا إِلَى حَقْلِ الذُّرَةِ وَدَخَلَاهُ. ثُمَّ بَدَآ الْعَمَلَ، وَعَلِمَ بلاكي أَنَّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَإِنَّ طَرِيقَهُ نَحْوَ حَظِيرَةِ الدَّجَاجِ خَالٍ.
لَمْ يَطِرْ بلاكي إِلَى الْحَظِيرَةِ مُبَاشَرَةً! لَا، فَهُوَ أَذْكَى مِنْ ذَلِكَ. فَقَدْ طَارَ نَحْوَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. وَعِنْدَمَا عَلِمَ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ أَنْظَارِ مَنْ بِحَقْلِ الذُّرَةِ، اسْتَدَارَ وَطَارَ نَحْوَ الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ، وَمِنْ أَعْلَى إِحْدَى أَشْجَارِ التُّفَّاحِ الْمُعَمَّرَةِ، رَاحَ يُرَاقِبُ حَظِيرَةَ الدَّجَاجِ وَالْفِنَاءَ وَمَنْزِلَ الْمُزَارِعِ براون وَمَخْزَنَ الْحُبُوبِ مُتَمَعِّنًا؛ لِكَيْ يَتَأَكَّدَ تَمَامًا مِنْ عَدَمِ وُجُودِ أَيِّ خَطَرٍ فِي الْجِوَارِ. وَعِنْدَمَا تَأَكَّدَ تَمَامًا، طَارَ بِهُدُوءٍ شَدِيدٍ إِلَى حَظِيرَةِ الدَّجَاجِ كَمَا فَعَلَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً مِنْ قَبْلُ. وَتَظَاهَرَ بِأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ حُبُوبِ ذُرَةٍ مَنْثُورَةٍ، وَلَكِنَّهُ طَوَالَ الْوَقْتِ كَانَ يَقْتَرِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ بَابِ حَظِيرَةِ الدَّجَاجِ الْمَفْتُوحِ. وَأَخِيرًا، اسْتَطَاعَ أَنْ يَرَى الصُّنْدُوقَ ذَا الْقَشِّ. مَشَى نَحْوَ الْبَابِ الْمَفْتُوحِ مُبَاشَرَةً وَنَظَرَ إِلَى الدَّاخِلِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا جَدِيرًا بِالْخَوْفِ. رَغْمَ ذَلِكَ، كَانَ مُتَرَدِّدًا. كَانَ يَكْرَهُ الدُّخُولَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَلَوْ لِدَقِيقَةٍ، وَهَذَا هُوَ مَا سَيَسْتَغْرِقُهُ الطَّيَرَانُ إِلَى ذَلِكَ الْعُشِّ وَالْحُصُولُ عَلَى إِحْدَى الْبَيْضَتَيْنِ.
أَغْمَضَ بلاكي عَيْنَهُ لِثَانِيَةٍ، وَعِنْدَهَا بَدَا أَنَّهُ يَرَى نَفْسَهُ يَتَنَاوَلُ إِحْدَى الْبَيْضَتَيْنِ، وَتَمْتَمَ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ قَائِلًا: «مِمَّ تَخَافُ؟» ثُمَّ نَظَرَ سَرِيعًا فِي كُلِّ الِاتِّجَاهَاتِ وَطَارَ إِلَى حَافَةِ الصُّنْدُوقِ. وَوَجَدَ هُنَالِكَ الْبَيْضَتَيْنِ!