دَهَاءُ بلاكي
عِنْدَمَا اكْتَشَفَ بلاكي أَنَّ الْبَيْضَتَيْنِ الْمَوْجُودَتَيْنِ فِي الْعُشِّ الْقَدِيمِ لِلصَّقْرِ أحمر الذيل فِي ذَلِكَ الرُّكْنِ الْمَهْجُورِ مِنَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ تَعُودَانِ لِلسَّيِّدِ هوتي؛ اتَّخَذَ قَرَارًا مُمْتَازًا دُونَ تَرَدُّدٍ؛ وَهُوَ أَنَّهُ سَوْفَ يَنْسَى أَمْرَهُمَا تَمَامًا. سَوْفَ يَنْسَى تَمَامًا أَنَّهُ رَآهُمَا وَيَبْقَى بَعِيدًا عَنْ هَذَا الرُّكْنِ مِنَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. كَانَ هَذَا قَرَارًا حَكِيمًا لِلْغَايَةِ؛ فَمِنْ بَيْنِ سُكَّانِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ جَمِيعًا، لَا يُوجَدُ مَنْ هُوَ أَشَدُّ عُنْفًا أَوْ شَرَاسَةً مِنَ السَّيِّدِ هوتي، مَا عَدَا السَّيِّدَةَ هوتي. فَهِيَ أَضْخَمُ مِنَ السَّيِّدِ هوتي وَجَدِيرَةٌ تَمَامًا بَأَنْ يَخَافَهَا سُكَّانُ الْغَابَةِ الصِّغَارُ كَمَا يَخَافُونَ زَوْجَهَا.
كَانَ بلاكي يَعِي ذَلِكَ كُلَّهُ، أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ آخَرَ. وَلَيْسَ بلاكي بِمَنْ يُوقِعُ نَفْسَهُ فِي الْمَتَاعِبِ بِإِرَادَتِهِ؛ لِذَا قَرَّرَ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ أَنْ يَنْسَى أَمْرَ هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ. وَكَمَا تَعْلَمُونَ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْقَرَارِ أَمْرٌ، وَالِالْتِزَامَ بِهِ أَمْرٌ آخَرُ تَمَامًا؛ فَقَدْ كَانَ مِنَ السَّهْلِ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ سَيَنْسَى، وَلَكِنَّ الْفِعْلَ أَصْعَبُ بِكَثِيرٍ. كَانَ الْوَضْعُ سَيَخْتَلِفُ لَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي الرَّبِيعِ أَوْ فِي بِدَايَةِ الصَّيْفِ؛ حَيْثُ يَتَوَافَرُ كَثِيرٌ مِنَ الْبَيْضِ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهِ أَيُّ شَخْصٍ لَدَيْهِ مَا يَكْفِي مِنَ الذَّكَاءِ لِلْعُثُورِ عَلَى الْبَيَضِ وَسَرِقَتِهِ. وَلَكِنْ بِمَا أَنَّ الْوَقْتَ كَانَ شِتَاءً آنَذَاكَ (وَهُوَ وَقْتٌ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ أَحَدٌ بَيْضًا!) وَكَانَ مِنَ الصَّعْبِ إِيجَادُ مَا يَكْفِي مِنَ الطَّعَامِ لِسَدِّ جُوعِ الْغُرَابِ الْجَائِعِ، فَإِنَّ صُوْرَةَ هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ ظَلَّتْ تُلِحُّ عَلَى فِكْرِهِ؛ فَقَدْ «عَجَزَ» عَنْ نِسْيَانِهِمَا. وَبَعْدَ فَتْرَةٍ، كَفَّ عَنْ مُحَاوَلَةِ نِسْيَانِهِمَا.
وَإِنَّ بلاكي يَتَّسِمُ بِقَدْرٍ كَبِيرٍ مِنَ الدَّهَاءِ، وَهُوَ أَحَدُ أَذْكَى الطُّيُورِ الصَّغِيرَةِ. فَلَا أَحَدَ أَقْدَرُ مِنْهُ عَلَى تَدْبِيرِ الْحِيَلِ لِلْآخَرِينَ دُونَ الْوُقُوعِ فِي الْمَتَاعِبِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُعْمِلُ ذَكَاءَهُ الْحَادَّ. بَلْ إِنَّ الْبَعْضَ بَلَغَتْ بِهِ الْقَسْوَةُ حَدَّ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ يَقْضِي وَقْتَ فَرَاغِهِ كَلَّهُ فِي تَدْبِيرِ الْحِيَلِ. وَكُلَّمَا فَكَّرَ أَكْثَرَ فِي هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ، زَادَتْ رَغْبَتُهُ فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِمَا، وَسُرْعَانَ مَا بَدَأَ يُحَاوِلُ إِيجَادَ طَرِيقَةٍ لِلْحُصُولِ عَلَيْهِمَا دُونَ أَنْ يُعَرِّضَ حَيَاتَهُ لِلْخَطَرِ.
فَكَّرَ قَائِلًا: «لَا أَسْتَطِيعُ فِعْلَ ذَلِكَ بِمُفْرَدِي، وَلَكِنِّي إِذَا أَطْلَعْتُ أَحَدًا عَلَى سِرِّي فَسَوْفَ أُضْطَرُّ لِتَقَاسُمِ الْبَيْضَتَيْنِ مَعَهُ. وَهَذَا لَنْ يَكُونَ؛ فَأَنَا أُرِيدُهُمَا لِنَفْسِي. أَنَا وَجَدْتُهُمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ أَحْصُلَ عَلَيْهِمَا.» وَنَسِيَ تَمَامًا — أَوْ تَنَاسَى — حَقِيقَةَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ تَخُصَّانِ فِي الْوَاقِعِ السَّيِّدَ وَالسَّيِّدَةَ هوتي دُونَ سِوَاهُمَا. وَفَكَّرَ: «لِأَرَ مَاذَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَفْعَلَ!»
رَاحَ يُفَكِّرُ وَيُفَكِّرُ، وَشَيْئًا فَشَيْئًا بَدَأَتْ تَتَبَلْوَرُ فِي رَأْسِهِ الْأَسْوَدِ الصَّغِيرِ خُطَّةٌ. ثُمَّ قَهْقَهَ ضَاحِكًا. قَهْقَهَ ضَاحِكًا بِصَوْتٍ عَالٍ، ثُمَّ نَظَرَ مِنْ حَوْلِهِ بِسُرْعَةٍ لِيَرَى مَا إِذَا كَانَ أَحَدٌ قَدْ سَمِعَهُ. لَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدٌ، فَقَهْقَهَ ضَاحِكًا مَرَّةً أُخْرَى. ثُمَّ أَمَالَ رَأْسَهُ جَانِبًا وَعَيْنَاهُ نِصْفُ مُغْمَضَتَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَتِ الْخُطَّةُ شَيْئًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرَاهُ وَكَانَ يُمْعِنُ النَّظَرَ فِيهِ. ثُمَّ أَمَالَ رَأْسَهُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَأَعَادَ الْكَرَّةَ.
وَأَخِيرًا قَالَ: «لَا بَأْسَ! سَتَكُونُ تِلْكَ الْخُطَّةُ مُمْتِعَةً لِأَقَارِبِي، وَهُمْ بِالطَّبْعِ سَيَكُونُونَ مُمْتَنِّينَ لِي كَثِيرًا لِذَلِكَ. وَلَنْ تُؤْذِيَ السَّيِّدَ وَالسَّيِّدَةَ هوتي الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهَا سَوْفَ تُغْضِبُهُمَا كَثِيرًا؛ فُهُمَا سَرِيعَا الْغَضَبِ، وَالْأَشْخَاصُ سَرِيعُو الْغَضَبِ غَالِبًا مَا يَنْسَوْنَ كُلَّ شَيْءٍ فِي غَضَبِهِمْ. سَوْفَ نَزُورُهُمَا عِنْدَمَا تَكُونُ الشَّمْسُ سَاطِعَةً؛ لِأَنَّهُمَا حِينَهَا رُبَّمَا لَنْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَرَيَا جَيِّدًا حَتَّى يُمْسِكَا بِنَا، وَسَنَغِيظُهُمَا حَتَّى يَشْتَاطَا غَضَبًا وَيَنْسَيَا أَمْرَ حِرَاسَةِ الْبَيْضَتَيْنِ. وَحِينَهَا سَوْفَ أَنْسَلُّ وَآخُذُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا وَرُبَّمَا الِاثْنَتَيْنِ. بِذَلِكَ سَيُسَاعِدُنِي أَصْدِقَائِي وَأَقَارِبِي فِي الْحُصُولِ عَلَى وَجْبَةٍ شَهِيَّةٍ دُونَ عِلْمٍ مِنْهُمْ. يَا إِلَهِي! كَمْ سَتَكُونُ هَاتَانِ الْبَيْضَتَانِ لَذِيذَتَيْنِ!»
كَانَتْ خُطَّةً ذَكِيَّةً وَمَاكِرَةً؛ فَبلاكي وَغْدٌ ذَكِيٌّ مَاكِرٌ، وَلَكِنَّهَا بِالطَّبْعِ خُطَّةٌ لَا تَسْتَحِقُّ النَّجَاحَ؛ فَأَيُّ شَيْءٍ يُسَبِّبُ قَلَقًا وَمَتَاعِبَ لَا دَاعِيَ لَهُمَا لِلْآخَرِينَ لَا يَسْتَحِقُّ النَّجَاحَ.