هوتي يَهُبُّ لِنَجْدَةِ السَّيِّدَةِ هوتي
لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعِيشَ لِنَفْسِهِ فَقَطْ. يَعْتَقِدُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ أَنَّهُمْ يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لِلْغَايَةِ. وَهُمْ يَقَعُونَ فِي خَطَأٍ مِنْ أَعْظَمِ الْأَخْطَاءِ فِي الْعَالَمِ؛ فَكُلُّ فِعْلٍ صَغِيرٍ — أَيًّا كَانَ — يُؤَثِّرُ فِي شَخْصٍ آخَرَ. وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوَانِينِ الْعَظِيمَةِ لَدَى الطَّبِيعَةِ الْأُمِّ الْعَجُوزِ، وَيَسْرِي بَيْنَ سُكَّانِ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَالْمُرُوجِ الْخَضْرَاءِ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَالْبَنَاتِ وَالْبَالِغِينَ. إِنَّهَا طَرِيقَةُ الطَّبِيعَةِ الْأُمِّ الْعَجُوزِ لِجَعْلِنَا مَسْئُولِينَ عَنِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وَلِتَعْلِيمِنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَاوَنَ دَوْمًا.
وَكَمَا تَعْلَمُونَ، عِنْدَمَا نَادَى بلاكي جَمِيعَ أَقَارِبِهِ لِلْمَجِيءِ إِلَى الْعُشِّ الَّذِي تَرْقُدُ فِيهِ السَّيِّدَةُ هوتي عَلَى بَيْضَتَيْهَا، تَوَقَّفُوا عَلَى الْفَوْرِ عَنْ مُضَايَقَةِ هوتي وَتَرَكُوهُ وَحِيدًا عَلَى شَجَرَةِ الشَّوْكَرَانِ كَثِيفَةِ الْأَغْصَانِ فِي الْجَانِبِ الْمُظْلِمِ مِنَ الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ. بِالطَّبْعِ كَانَ هوتي مَسْرُورًا لِأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ فِي سَلَامٍ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ أَنْ يَقْضِيَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ نَائِمًا مُسْتَرِيحًا فِي هَذَا الْمَكَانِ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ … أَجَلْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. فِي الْبِدَايَةِ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ وَاسْتَقَرَّ فِي مَجْلِسِهِ كَمَا لَوْ أَنَّهُ يَنْوِي الْبَقَاءَ. وَأَنْصَتَ فِي سُرُورٍ لِأَصْوَاتِ تِلْكَ الْغِرْبَانِ الْمُزْعِجَةِ وَهِيَ تَخْفُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ لِبِضْعِ دَقَائِقَ فَحَسْبُ. فَسُرْعَانَ مَا بَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ تَتَعَالَى، وَبَدَتْ فِيهَا الْإِثَارَةُ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى، وَكَانَتْ تَأْتِي مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ. حِينَهَا عَلِمَ هوتي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُزْعِجِينَ قَدِ اكْتَشَفُوا الْعُشَّ الَّذِي تَقْبَعُ فِيهِ السَّيِّدَةُ هوتي، وَأَنَّهُمْ يُزْعِجُونَهَا كَمَا كَانُوا يُزْعِجُونَهُ.
طَقْطَقَ مِنْقَارَهُ بِغَضَبٍ ثُمَّ أَعَادَ الْكَرَّةَ بِغَضَبٍ أَشَدَّ.
وَتَمْتَمَ مُتَذَمِّرًا: «أَعْتَقِدُ أَنَّ السَّيِّدَةَ هوتي قَادِرَةٌ تَمَامًا عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِنَفْسِهَا، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي إِزْعَاجُهَا بَيْنَمَا تَرْقُدُ عَلَى هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ. أَكْرَهُ أَنْ أَعُودَ إِلَى هُنَاكَ فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ السَّاطِعِ؛ فَهُوَ يُؤْذِي عَيْنَيَّ، وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّنِي سَأُضْطَرُّ لِلْعَوْدَةِ إِلَى هُنَاكَ؛ فَالسَّيِّدَةُ هوتي تَحْتَاجُ مُسَاعَدَتِي. كُنْتُ أُفَضِّلُ الْبَقَاءَ هُنَا، وَلَكِنْ …»
لَمْ يُنْهِ كَلَامَهُ، وَإِنَّمَا بَسَطَ جَنَاحَيْهِ الْكَبِيرَيْنِ وَحَلَّقَ عَائِدًا إِلَى الْعُشِّ وَإِلَى السَّيِّدَةِ هوتي. لَمْ يُحْدِثْ جَنَاحَاهُ الْكَبِيرَانِ أَيَّ صَوْتٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مُعَدَّانِ لِلطَّيَرَانِ فِي صَمْتٍ. وَقَالَ مُتَمْتِمًا: «إِذَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُمْسِكَ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ الْغِرْبَانِ! إِذَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أُمْسِكَ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ الْغِرْبَانِ، فَسَوْفَ …» وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا سَيَفْعَلُ، وَلَكِنْ إِذَا كُنْتَ قَرِيبًا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي لِسَمَاعِ طَقْطَقَةِ مِنْقَارِهِ، كُنْتَ سَتُخَمِّنُ الْبَقِيَّةَ.
طَوَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَتِ الْغِرْبَانُ تَقْضِي مَا تُسَمِّيهِ وَقْتًا مُمْتِعًا مَعَ السَّيِّدَةِ هوتي، وَلَكِنْ لَا مُتْعَةَ حَقِيقِيَّةَ فِي عَمَلٍ يُزْعِجُ الْآخَرِينَ، غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْخَاصِ يَنْسَوْنَ ذَلِكَ لِسَبَبٍ أَوْ لِآخَرَ. وَبَيْنَمَا جَلَسَ بلاكي يَتَفَرَّجُ، رَاحَ أَقَارِبُهُ يُثِيرُونَ ضَجَّةً عَظِيمَةً حَوْلَ السَّيِّدَةِ هوتي، وَكُلَّمَا ازْدَادَ غَضَبُهَا، ازْدَادَ صِيَاحُهُمْ وَسَبُّهُمْ لَهَا وَانْقِضَاضُهُمْ عَلَيْهَا، مُتَظَاهِرِينَ بِأَنَّهُمْ سَيُقَاتِلُونَهَا. كَانَ الْغِرْبَانُ مُنْهَمِكِينَ لِلْغَايَةِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ بلاكي مُنْهَمِكًا تَمَامًا فِي مُرَاقَبَتِهِمْ — آمِلًا أَنْ تَتْرُكَ السَّيِّدَةُ هوتي الْعُشَّ وَتَمْنَحُهُ الْفُرْصَةَ لِسَرِقَةِ الْبَيْضَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَعْرِفُ أَنَّهَا تَرْقُدُ عَلَيْهِمَا — حَتَّى إِنَّ أَحَدًا لَمْ يُفَكِّرْ فِي السَّيِّدِ هوتي.
وَفَجْأَةً، ظَهَرَ هوتي عَلَى الشَّجَرَةِ الْمُلَاصِقَةِ لِلْعُشِّ! لَمْ يَسْمَعْهُ أَحَدُهُمْ قَادِمًا، وَلَكِنَّهُ ظَهَرَ فَجْأَةً، وَقَدْ أَمْسَكَ بَيْنَ مَخَالِبِ إِحْدَى قَدَمَيْهِ رِيشَ ذَيْلِ أَحَدِ أَقَارِبِ بلاكي. كَانَ الْغُرَابُ مَحْظُوظًا، مَحْظُوظًا لِلْغَايَةِ بِالْفِعْلِ؛ حَيْثُ كَانَ ضَوْءُ الشَّمْسِ يُعْمِي عَيْنَيْ هوتي، فَلَمْ يُصِبْ هَدَفَهُ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتِ الْغِرْبَانُ قَلَّتْ وَاحِدًا.
وَإِنَّ إِغَاظَةَ بُومَةٍ وَاحِدَةٍ شَيْءٌ، وَإِغَاظَةَ بُومَتَيْنِ مَعًا شَيْءٌ آخَرُ تَمَامًا. وَإِلَى جَانِبِ ذَلِكَ، كَانَتْ هُنَاكَ رِيشَاتُ الذَّيْلِ السَّوْدَاءُ الَّتِي يَحْمِلُهَا الْهَوَاءُ نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُغَطَّاةِ بِالثُّلُوجِ. وَفَجْأَةً قَرَّرَتِ الْغِرْبَانُ أَنَّهَا قَدْ حَصَلَتْ عَلَى مَا يَكْفِي مِنَ الْمُتْعَةِ لِهَذَا الْيَوْمِ، وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ جُهُودِ بلاكي لِإِيقَافِهِمْ، حَلَّقُوا بَعِيدًا، صَائِحِينَ بِصَوْتٍ عَالٍ وَمُتَحَاوِرِينَ بِجَلَبَةٍ شَدِيدَةٍ. كَانَ بلاكي آخِرَ مَنْ غَادَرَ الْمَكَانَ، كَسِيرَ الْفُؤَادِ. وَرَاحَ يُفَكِّرُ كَيْفَ يَمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى هَاتَيْنِ الْبَيْضَتَيْنِ.