النهضة في إيطاليا
إن ما يُسمى عصر النهضة في مراحل التاريخ الأوروبي، عصر شهد بعثًا جديدًا للآداب والفنون والعلوم، وامتدَّ خلال القرنَين الخامس عشر والسادس عشر، ويجوز لنا القولُ بأن دانتي كان يُحتضر طوال هذين القرنَين؛ فقد زال الأدب الذي تُمثِّله «الكوميديا الإلهية» ليحل محله أدبٌ آخر يُعبِّر عن نزعاتٍ جديدة؛ إذ كانت حرية العقيدة الدينية وحرية التفكير العلمي، وما نتج عنهما من العوامل، وليدة قرنَين من الزمان.
فقد لبثت أوروبا في الشطر الأعظم من القرون الوسطى في ظلامٍ دامسٍ من الجهل، حيث طويت ثمرات الفكر القديم في أديرة الرهبان، وما إِنْ وَجدت سبيلها إلى النشر، حتى أشرقت شمس النهضة في طول البلاد وعرضها تحيي بدفئها الجميل عقولًا كانت قد ركنت إلى جمود الموت زمانًا طويلًا، ولسنا في هذا المقام بصدد بسط مستفيضٍ لبواعث النهضة وأسبابها، وحَسْبنا أن نوجز في ذلك القول فنذكر أن سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك عام ١٤٥٣م قد تَبِعَتْه هجرة العلماء اليونان إلى إيطاليا يحملون معهم علمًا بالأدب اليوناني كانت أوروبا الغربية قد أضاعته، وجهلت من أمره كل شيء، وشاء الله أن يتعهد هذه الحركة المباركة بالتوفيق، فهيأ للإيطاليين أن يتعلموا قبل ذلك بقرن صناعة الورق، وأن تُخترع المطبعة في ألمانيا قبل سقوط القسطنطينية بعشر سنوات، ثم حدث إلى جانب ذلك كله أن استكشف كولمبس القارة الأمريكية عام ١٤٩٢م، فانقلبت فكرة الناس عن دنياهم التي يسكنونها رأسًا على عقب. ويستحيل أن يقع كل هذا، ولا يُنْتج انقلابًا في مذاهب الاجتماع والسياسة والدين.
ولما كانت إيطاليا أقرب الدول الأوروبية إلى اليونان وألصقها بتراث الرومان القدماء، فقد أصبحت مهدًا للنهوض؛ ففي إيطاليا رفع الإنسان — لأول مرة بعد محنة القرون الوسطى — بصره المكدود من طول النظر إلى القبور، والتفكير في يوم البعث والنشور، ليستمتع بجمال الحياة فوق هذه الأرض الفاتنة، وكانت المدن الإيطالية بصفةٍ عامة، وفلورنسه بصفةٍ خاصة مهبط النور، وقد استمدت ضياءها من أثينا كما يستمد القمر ضوءه من الشمس، وأول ما همَّ العلماء الإيطاليون بصنعه أن أنقذوا الوثائق المخطوطة القديمة من فَناءٍ كاد يحيق بها في مدافنها، وأخذ المترجمون ينقلون إلى اللغات الحديثة تراث اليونان والرومان، نعم كتبت مؤلفاتٌ عظيمة القدر في عصر النهضة، لكن كان لنشر القديم في عالم الفكر القسط الأوفى.
لم يلبث الفكر بعد موت دانتي أن نحا نحوًا جديدًا في فلورنسه أولًا، ثم في إيطاليا كلها، ثم في أوروبا بأسرها، فلئن ظل الأدباء يلتمسون في دانتي نموذجًا يحتذى في جَوْدة الأسلوب، فإن رجال الفكر وأصحاب العمل لم يجدوا فيما كتبه دانتي عونًا لهم فيما تتطلَّبه ظروف الحياة الجديدة؛ فإذا قيل إن دانتي لم يؤسس مدرسة، وإنه في الحلبة فريد لا يحيط به التلاميذ والأتباع، فما ذاك إلا لأن العالم سارت قافلته في اتجاهٍ جديدٍ، وخَلَّف وراءه دانتي، وربما كان ذلك لأنه مثال من الأمل تعذَّر على الحياة العملية أن تحققه فأهملته.
لكن هل يمكن أن يخيم هذا الخمود على العقول من غير أن تحاول الإفلات؟ إن ذلك لا يستوي وطبيعة البشر، فلا بد أن تشرق للنهضة طلائع، تمثلت أولًا في «بتْرَارْك» و«بوكاتشو» حتى إذا ما ازدهرت النهضة في إيطاليا شهدت من حماة الشعر والفن أسرة مديتشي وأسرة بورجيا وأسرة أورسيني، وشهدت من رجال الفن «ميخائيل أنجلو» و«رفائيل» و«دافنشي»، ومن الأدباء «أريوستو» و«مكيافلي»، وحَسْب إيطاليا في عصر نهضتها هذه الأنجم السواطع دليلًا على ما بلغته من عظمة ومجد.
(١) بترارك Petrarch (١٣٠٤–١٣٧٤م)
لكن هذه النهضة الأدبية لم تكن لتزدهر لولا أن وجدت تربةً صالحة تورق فيها وتثمر، وإنما تعهد هذه التربة نفر هم من حركة النهوض بمثابة الطلائع والبشائر تهتف بقادمٍ جديد، ومن هؤلاء بترارك الذي كان يصغر دانتي بجيلٍ واحد، ويكبر بوكاتشو بتسع سنوات، والذي غلبت شهرته في زمانه — وإلى قرنين مقبلين — اسم دانتي، فضؤل دانتي عند الناس بالقياس إلى بترارك الذي تُوِّج أميرًا للشعراء في روما، وخلع عليه معاصروه كل علائم التمجيد.
كان بترارك يكتب اللاتينية في يسرٍ وطلاقة، ويدعو الناس إلى دراسة الأدب الإغريقي في أصوله، فكان بذلك أول مذيع للدعوة الهِلِينية في أوروبا الحديثة، مع أنه هو نفسه لم يتعلم قراءة اليونانية، ومات وهو يقرأ ترجمة «الأوذيسية»، ويكتب مذكراته على هوامشها في مكتبته على سفح جبلٍ معشوشب، فكان حبه للإقامة في حضن الطبيعة حلقةً أخرى تربطه بالاتجاه الطبيعي الجديد، ذلك الاتجاه الذي أفصح عن نفسه في رحلات الناس الاستكشافية في الزمان وفي المكان معًا، أما رحلاتهم في الزمان فقد تمثلت في الرجوع إلى ثقافة الماضي ونشرها، وأما رحلاتهم في المكان فقد تمثلت في كشف أمريكا وغيرها من أصقاع الأرض.
ومن مقطوعاته الغنائية التي أنشدها في حبيبته لورا:
لا سكينة لي في الليل
(٢) بوكاتشو Boccaccio
ولكن أين بترارك في هذه النزعة الإنسانية من بوكاتشو الذي كان أول من نبغ بين الكتَّاب الإيطاليين في النثر القصصي، بل إن كثيرًا من النقاد ليذهبون إلى أنه لا يزال حتى يومنا هذا رب القصة القصيرة وسيدها.
ولد جيوفاني بوكاتشو في باريس عام ١٣١٣م من زواجٍ غير شرعي لأبٍ كان يشغل منصبًا على كثيرٍ من الوجاهة واليسار، فقد كان في مقدمة رجال التجارة في مدينة فلورنسه في وقتٍ كانت تسود المدينة فيه جماعةٌ من الطبقة الوسطى أَثْرَت فأزاحت الطبقة العليا عن عرشها، وقضت أعمال التجارة أن يذهب الوالد إلى باريس في رحلةٍ قصيرة، فاتصلت الأسباب بينه وبين امرأةٍ فرنسية، وكان «جيوفاني» ثمرة ذلك الاتصال، ثم عاد الوالد مع وليده إلى بلده فلورنسه.
ولم يمضِ طويل زمنٍ بعد موت حبيبته «فيامتا» (واسمها الحقيقي مارية)، حتى عاد بوكاتشو إلى فلورنسه، وأخذ في إنشاء آيته الكبرى، وهي كتاب «ديكامرون» أو الأيام العشرة. وموضوع الكتاب عشرة أشخاص — سبع نساء وثلاثة رجال — قرروا أن يلوذوا بالفرار من المدينة الموبوءة إلى الريف الطلق، وأخذوا على أنفسهم أن يُسَرُّوا عن أفئدتهم المحزونة بقصصٍ يروونها، فيروي كلٌّ منهم حكاية كل يوم، وأن يظلوا على هذا النحو عشرة أيام فيكون من ذلك مائة قصة، وسترى أن شوسر الشاعر الإنجليزي سيستوحي الديكامرون في كتابه «حكايات كانتربري».
قرر هؤلاء العشرة ألا يذعنوا للموت في فلورنسه، وأن يفروا إلى حيث الحياة خارج أسوارها، فجمال السماء لم يغير منه الموت الأسود الذي ألمَّ بالأرض، وقصد الكاتب بذلك أن يرمز إلى الإفلات من قيود العصور الوسطى إلى حيث الحرية والطلاقة، فكأنما خروج تلك الفئة من مدينة فلورنسه هو خروج من التقاليد وانقشاع لغيوم اللاهوت وسحائب التفكير العقيم.
تلك نظرةٌ جديدة بغير شك، فبعد أن كان الناس في العصور الوسطى يركزون اهتمامهم في أنفسهم، ويقيسون الأشياء بمقياس مصالحهم، فينظرون إلى السماء كأنما هي وحش يكشر لهم عن أنيابه لينتقم، أصبح الناس في مستهل النهضة ينظرون إلى الطبيعة نظرةً موضوعية، يرون مناظرها، ويسمعون أنغامها ليعيشوا فيها وفق ما يحتمه العقل السليم، وحين أطلق بوكاتشو لسان بامبينيا قائلًا: «نريد أن نحيا حياة مرحة.» إنما أراد بذلك أن يخلق جمهورًا قارئًا يستمتع بقراءة حكاياته.
والحق أن قصص الديكامرون ممتعة تشتمل على كثيرٍ من مواقف الجد والهزل؛ فيها سخرية بالقساوسة والرهبان الذين غصَّت بهم العصور الوسطى، وفيها أصول لكثيرٍ جدًّا من الملاهي التي جرت بها أقلام الكتاب المسرحيين، وفيها بهجة ومرح ومجون. ولعل خير ما يوصف به هذا الكتاب هذه العبارة الموجزة الجامعة التي اختارها له مترجمُهُ إلى الإنجليزية في القرن السابع عشر، وهي: «نموذج للمرح والبديهة الحاضرة والفصاحة وحسن الحديث.» فموضوعات هذه القصص من التنوع والتباين، بحيث لا تجد لها في ذلك ضريبًا، فمنها ما يخوض في مهاترات الحمقى، ومنها ما يستدر أرقَّ العواطف وأرقاها، وبعضها تافه الموضوع، وبعضها يخرج على حدود العرف الاجتماعي، بحيث لا يصلح أن ينشر اليوم في مجلة تطالعها عامة الناس، ولكنك لن تجد في هذه القصص المائة واحدةً قد زلَّت فيما يزل فيه الكثير من الآثار الأدبية، وهو جمود العاطفة وبرودها.
إن من الآثار الأدبية ما يصور للإنسان مثله الأعلى ليجتذبه نحوه، ومنها ما يصور له عيوبه ليضحكه من نفسه، فالكوميديا الإلهية لدانتي من الضرب الأول، والديكامرون لبوكاتشو من الضرب الثاني. إن الإنسان حيوانٌ طموح تراه دائمًا يزخرف حقائق طبيعته بأوهامٍ ليتوهم أنه كامل أو مقترب من الكمال؛ ولذا تراه أحيانًا يبذل مجهودًا محمودًا محاولًا أن يحيا وفق أوهامه لعله يدنو فعلًا مما رسمه لنفسه من مثلٍ أعلى، لكنه كثيرًا ما يفشل ضعفًا وعجزًا، فيجد العزاء والسلوى حين يقرأ كتابًا كالديكامرون يذكره بأن في الناس آلافًا يماثلونه ضعفًا ونقصًا.
لقد زعمنا فيما سلف أن الكوميديا الإلهية تمثل ذروة ما بلغه الأدب في العصور الوسطى، وأن الديكامرون يمثل البادرة التي بَشَّرَت بالنهوض والإحياء، فمن أين أتى هذا الخلاف؟ هو في أن الكوميديا الإلهية تهيئ القارئ لحياة الآخرة، بينما أريد بالديكامرون أن يُعد الإنسان نفسه للحياة على هذه الأرض، وها هنا يقع الفارق بين روح العصور الوسطى وروح العصر الحديث.
إن الديكامرون من أكثر الآثار الأدبية ميلًا إلى تصوير الواقع من غير تأثر بالميل والهوى، فأدبه موضوعيٌّ متطرف، إذ لا تلمس شخصية المؤلف في أي موضعٍ من الكتاب، ولا هو يلون القصة بميوله الخلقية، فالحكايات تروى من وجهة نظر إنسانٍ متفرج يقص علينا أن شيئًا معينًا وقع على نحوٍ معين، دون أن يضيف الكاتب عاطفته من إشفاقٍ أو تأنيب، لذلك ترى بعض ما يثير الأسى والحزن في شخصيات القصة يثير فينا الضحك، وهذا تصوير دقيق لما يحدث في الحياة الواقعة، فقد يحب فتًى فتاة، وتقوم في وجهه عقبات تستدعي منه سلوكًا معينًا فيه غرابة وشذوذ، فمثل هذا السلوك في عين صاحبه فرض محتوم عليه لا قِبَل له بردِّه، ولكنه حين يُروى لنا قد نراه مهزلةً مضحكة، وإذن فالقصة الواحدة قد تُضحك وقد تُبكي حسب أسلوب روايتها. وقد حكى بوكاتشو حكاياته على نحوٍ يثير في قارئه الضحك من ضعف الإنسان؛ لأنه حكى الواقع، والواقع أكبر المهازل.
ذلك هو كتاب ديكامرون الذي قال عنه أحد النقاد: إن الأدب قد انتقل به «من منطقة ما وراء الطبيعة والقصة الرمزية واللاهوت، وأخذ يحيا حياةً جديدة وفق الأصول الكلاسيكية القديمة التي تعمل على تقليد الطبيعة تقليدًا مباشرًا.»
فرغ بوكاتشو من كتابة ديكامرون بلهجته التسكانية، ثم حدث أن ذهب إلى «بادوا» مبعوثًا من جمهورية فلورنسه ليعيد بترارك من منفاه، وكان بوكاتشو قد حفظ أغاني بترارك عن ظهر قلب، وأعجب به منذ الصبا، فلما التقى ببترارك وجده مشتغلًا بإحياء اللاتينية واليونانية القديمتَين إحياءً جعله أبًّا للنهضة الأدبية غير مدافَع، وقد تأثر به بوكاتشو فأمسك عن الكتابة باللهجة التسكانية ليكتب باللاتينية كتابة العلماء. ومما نذكره عن بوكاتشو أنه هو الذي أضاف إلى عنوان ملحمة دانتي لفظة «الإلهية»، فأصبح «الكوميديا الإلهية» كما هو اليوم.
ومات بوكاتشو في ديسمبر من سنة ١٣٧٥م، وهو في عامه الثاني والستين بعد أن أنفق أواخر أعوامه في فاقةٍ مريرة وحزنٍ أليم، لكنه كان قد شقَّ طريق الخلاص من العصور الوسطى، وقد كان في أوله طريقًا ضيقًا وعرًا، فهو ضيق؛ لأن الرائد الأول كان لا بد له أن يحصر انتباهه في البقعة التي أمامه، ولذلك جاء كتاب بوكاتشو صورة لمكانٍ بعينه وزمانٍ بعينه، حتى ليصحُّ أن يقال عنه إنه يصور إيطاليا في القرن الرابع عشر، وهو وعر؛ لأن تفتيت الصخر عملٌ مجهدٌ شاق، لكن الطريق الجديد سلك بالنزعة الجديدة عبر جبال الألب إلى مسالكَ فسيحةٍ طيعة، هي آفاق الآدب الأوروبي الحديث.
وهاك موجزًا لإحدى قصص بوكاتشو، وعنوانها «قصة شابَّيْن».
•••
طبقت شهرة سليمان في الحكمة الخافقَين، فقصد إليه الناس من كل حدبٍ وصوبٍ يستلهمون حكمته، فبين من حجَّ إليه شاب يسمى «مليسو»، وكان غنيًّا نبيلًا. ولما كان «مليسو» في طريقه إلى أورشليم قادمًا من بلده أنطاكية، صادف شابًّا آخر يدعى «جيوسيفو» في سبيله إلى الغاية نفسها، فبادله الحديث على نحو ما يفعل المسافرون، وتساءلا عن الغاية المقصودة، فأجاب «جيوسيفو» إنه إنما يريد مشورة سليمان في الطريقة المثلى التي ينبغي له أن يعامل بها زوجته التي لا يضارعها بين النساء ضريب في شذوذها وعنادها، فقد وعدها تارةً وتوعدها طورًا، لكنه أخفق في وعده ووعيده، ولما سئل «مليسو» عن غايته أجاب: «إن حالي كحالك سوءًا، فبرغم يساري وسخائي على بني وطني جميعًا، لست أجد فردًا واحدًا منهم يبدي لي الحب، فها أنا ذا في طريقي إلى سليمان أستفتيه كيف أستطيع أن أظفر من الناس بالحب.»
ومضى الشابان حتى بلغا بيت المقدس، ومثلا بين يدي سليمان، فلما ذكر «مليسو» أمره موجزًا أجابه الملك بكلمةٍ واحدة وهي «أَحِبَّ» وأُخرج مليسو من الغرفة، ثم شرح «جيوسيفو» سبب قدومه، فلم يزد سليمان في إجابته على قوله: «اذهب إلى جسر الأوز.» وأُخرج كذلك من حضرة الملك، فوجد «مليسو» في انتظاره وأنبأه جواب سليمان. وفكَّر الرجلان في الإجابتين، فما وجدا فيهما شفاءً، فأخذتهما الريبة لعل الملك قد سخر منهما، وأخذا في المسير راجعَين إلى بلديهما.
مضت أيام، ثم بلغا نهرًا يصل شاطئَيه جسرٌ ضيق، وكانت طائفة من البغال والجياد تعبره واحدًا إثر واحد، فاضطر المسافران إلى الوقوف حتى يخلو لهما الطريق، فمضت الدواب في سبيلها إلا بغلًا ثبَّت قوائمه في مواضعها لا يتحول عنها قيد أنملة، وعندئذٍ أخذ صاحبه يستحثُّه بالعصا، يضربه ضربًا خفيفًا، فأخذ البغل يلوي عنقه يمنة ويسرة ولا يسير، فاستشاط الرجل غضبًا وضربه ضربًا مبرحًا آلم المسافرين؛ فقالا له: «ماذا تصنع أيها الوغد؟ أتريد قتل دابتك؟ لم لا تحاول أن تأخذها بالرفق واللين؟ ألا تدري أن اللين أفعل أثرًا من ضرب العصا؟» فأجاب الرجل: «أنتما أعرف مني بجواديكما، وأنا أعلم منكما ببغلي، فاتركاني أفعل به ما أشاء.» واستأنف الضرب حتى لم يجد البغل بُدًّا من المسير، وتبعه مليسو وجيوسيفو، فسأل جيوسيفو شابًّا جالسًا عند نهاية الجسر: بماذا يسمي الناس ذلك الجسر، فقال الشاب: «إننا نسميه يا سيدي جسر الأوز.» فتذكر جيوسيفو جواب سليمان، ونظر إلى زميله وقال: «أؤكد لك يا صاحبي أني أدركت الآن أن حكمة سليمان صائبة لا زلل فيها، فقد فاتني أن أعالج عصيان زوجتي بالعصا، وها قد علمني هذا الرجل ماذا أصنع.»
وبلغ المسافران بعد أيام أنطاكية، فطلب «جيوسيفو» من «مليسو» أن يقيم معه يومًا أو يومَين قبل أن يستأنف السفر، لكن زوجة جيوسيفو قابلتهما بوجهٍ عابس، فأمرها زوجها «جيوسيفو» أن تعدَّ العشاء الذي يأمرها به صاحبه «مليسو»، ورغب الزائر في ألوانٍ معينةٍ من الطعام، فأبدت الزوجة عصيانها المعهود، وأضافت إليه سخرية بما رغب فيه الزائر من ألوان الطعام، فقال لها زوجها مهددًا: «ألم يقل لك الضيف ماذا تعدين لعشائه؟» فأجابت: «مرحى مرحى! ماذا تعني؟ إن أردتَ عشاءً، فقم أنت وأعدَّ ما تريد.» فقال: «إنكِ لا تزالين على عنادكِ، ولكني سأعلمك هذه المرة كيف تسلكين!» ونظر إلى زميله مليسو، وقال: «سترى يا صديقي بعد قليل حكمة سليمان وصدقها.» وأخذ يضرب زوجته بالعصا، فصرخت صرخة تتوعد بها زوجها، فلما مضى جيوسيفو في ضربها، أخذت تستمطر عطفه وتستدرُّ رحمته، ووعدت أن تكون أوامره منذ ذلك اليوم مطاعة …
وسافر مليسو بعدئذٍ إلى بلده، وأنبأ رجلًا حكيمًا ما نصحه به سليمان، فقال الحكيم: إن سليمان ما كان ليجيبك بأصدق من هذا الجواب، ولا بأحكم من هذه النصيحة، إنك تسخو على الناس بمالك، لكنك لا تحبهم، فأنت تصنع ما تصنع حبًّا للظهور والتماسًا للنفوذ «أَحِبَّ الناس» إذن كما نصحك سليمان يبادلك الناس حبًّا بحب.
هكذا عوقبت المرأة العاصية فصلحت، وأحب الرجل الناس فأحبه الناس.
(٣) مكيافلي Machiavelli
اختار بوكاتشو لقصصه نثرًا سلسًا دفَّاقًا ليلائم فنه الطروب، ثم جاء مكيافلي في القرن الذي يليه، فصاغ من النثر الإيطالي لونًا آخر يصلح للعرض والتحليل.
جاء عام ١٥١٢م وعادت أسرة مديتشي إلى حكم فلورنسه، فأقيل مكيافلي من منصبه وسُجن وعُذِّب، وأخيرًا اعتزل في ضيعةٍ ريفية صغيرة، حيث أنشأ كتابه «الأمير» ومات في فلورنسه وله من العمر ثمانٍ وخمسون سنة.
كان مكيافلي سياسيًّا ينغمس في شئون الحياة إلى قمة رأسه، لكنه إذا ما خلا لقلمه خرج من إهابه فنانٌ بارع، يعرف كيف يستخدم الألفاظ، وإنها لظاهرة تستحق التسجيل في النهضة الإيطالية، أن نرى مناشط العقل يتداخل بعضها في بعض؛ فهذا شاعر وسياسي في آنٍ، وذلك مَثَّالٌ يقرض الشعر ويمتشق الحسام ويضرب في شئون الدولة بنصيب، انظر مثلًا إلى «لورنزو دي مديتشي» طاغية فلورنسه الذي كان يكبر مكيافلي بأعوامٍ قلائل، والذي اتخذ مكيافلي من حياته موضوعًا لدراسته، انظر إليه كيف كان يُصَرِّف سياسة دولته، ثم يشجع رجال الفن، ويخلع عليهم الهبات، ثم لا يكتفي بذلك، فيحمل القلم ليكتب كتابة الأديب.
كان مكيافلي — كما قدمنا — يسفُر لأمته عند الملوك والأمراء، وكان مشتغلًا بسياسة بلده ينعم بها آنًا ويشقى بها آنًا، فعرف خفايا الحكم معرفة الخبير، لهذا همَّ أن يبحث مشكلة الدولة في كتابه «الأمير» الذي يعد أول بحثٍ واقعيٍّ تحليلي للمجتمع السياسي، فتراه يبسط في كتابه هذا ما ينبغي أن يصنعه الأمير لو أراد لحكومته النجاح والتوفيق. وبلغت به الجرأة في الرأي حدًّا لم تألفه الأسماع؛ فهو يقرر — مثلًا — في صراحة «بأن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته لا بد له في كثيرٍ من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين.» لهذا أصبحت كلمة «مكيافلي» تعني في عالم السياسة المخادع الماكر الذي لا يستمع إلى صوت الضمير، فقد قال مكيافلي في الدولة رأيه عاريًا ممثلًا للواقع، فلم يزعم — رياءً — أن الحكومة من شأنها أن تكون شريفةً خيِّرة، ولم يشطح به الخيال، فيطلب للشعب «دولةً فضلى»، لكنه رجلٌ عملي، يحتم أن تقوم على أمور الناس حكومة تسلك في حكمهم ما يتفق وطبائع البشر وظروف الزمان والمكان. إن كتاب «الأمير» أثرٌ عقلي من أعظم ما أنتج الإنسان، وفيه أصالة في الرأي، وإبداع في التفكير، وهو على ما فيه من تفصيلاتٍ ذهبت طلاوتها لارتباطها بمكانٍ معينٍ وزمانٍ خاص؛ لا يزال في أفكاره الرئيسية كأنما أخرجته المطبعة بالأمس. وإنك لتجد من كتَّاب السياسة من يمجُّه ويلفظه لخروجه على مبادئ الأخلاق وقواعد الشرف، لكن رجال السياسة العملية يعلمون في أعماق نفوسهم أن مكيافلي صريح يصف الأمور كما تقع؛ فهو في كتابه هذا علميُّ الروح والأسلوب، يلاحظ ويسجِّل، وهو في نظم الحكم أميل إلى المحافظة والجمود، لا يخضع لمثلٍ أعلى ولا خلقٍ أسمى، تعجبه — إلى حدٍّ ما — حكومة الطاغية المستبد؛ لهذا تراه يؤيدها، ويضع لها القواعد والأصول. ونحن فيما يلي نسوق مثالًا من كتابه يصور طريقته وأسلوبه: «إن الأمير الذي يبتغي لنفسه القوة لا يجوز له أن يعنى أو يفكر إلا في الحرب، وإلا فقد عَرَّض مُلكه للضياع، فإن كان جاهلًا بشئون الحرب فلن يظفر باحترام جنده، ولن يجد في نفسه اطمئنانًا إليهم؛ لهذا وجب عليه أن يمارس هذا الفن عمليًّا، وأن يدرسه دراسةً نظرية. فأما المران العملي فالصيد من وسائله؛ إذ الصيد يتيح فرصةً نادرة لمعرفة البلاد، كما يُكسب الجسد قوةً وفتوة. وأما الدراسة النظرية فوسيلتها أن يطالع الأمير أخبار التاريخ، وأن يتدبر أعمال العظماء، وأن يبحث ما أدى بهم إلى النصر، وما أدى إلى الهزيمة، وأن يقتفي في سلوكه خُطَى الأعلام المشاهير.
إن من يأخذ نفسه بمثلٍ أعلى في الخير يحتذيه في كل شيءٍ مُنْتَهٍ — ولا بد — إلى الدمار؛ لأنه يعيش بين أناسٍ لا يعرفون إلى الخير سبيلًا، وإذن فلا مندوحة للأمير أن يعلم كيف ينحرف عن الخير، ومتى يستخدم خيره ومتى ينصرف عنه، تبعًا لضرورة الظرف القائم.
قد يكون مما ينفع الأمير أن يشتهر بين الناس بالكرم، أما أن يكون كريمًا ثم لا يعلم عنه الناس ذلك؛ فمما يعود عليه بالضرر …
يجب أن يعمل الأمير على أن يُقال عنه إنه رحيم لا يعرف القسوة، لكن الأمير الجديد لا نُدْحة له عن شهرة بالقسوة؛ لأن الذي يقضي على الفوضى بضرباتٍ قلائلَ حاسماتٍ هو الذي يكون في نهاية الأمر أرحم ممن سواه.
إن الناس أسرع إلى الإساءة إلى من وضع نفسه من قلوبهم موضع الحب، منهم إلى من جعل نفسه مخوفًا مهيبًا، ومع ذلك فينبغي للأمير أن يُلْقي في نفوس الناس خوفًا على نحوٍ إن لم يُمَكِّنْه من اكتساب حبهم فلا يثير مقتهم، وليذكر أن الناس أسرع إلى نسيان قتل آبائهم منهم إلى نسيان إرث فقدوه.
يجب أن يكون الأمير أسدًا، ولكن ينبغي له أن يتعلم كيف يلعب دور الثعلب، فمن أراد أن يخدع لن يعدم أن يجد بين الناس من يستطيب الخداع، وعلى الجملة يجب ألا ينحرف الأمير عن طريق الخير لو استطاع، لكنه يجب أن يعرف كيف يسلك سبل الشر إذا دفعته الضرورة إليها …»
(٤) ميخائيل أنجلو Michelangelo (١٤٧٥–١٥٦٤م)
وبينما كان مكيافلي منكبًّا على الدولة ونظامها، كانت تسطع في سماء فلورنسه عبقريةٌ أخرى لعلها بلغت حدًّا لم يبلغه سواها من نوابغ النهضة في إيطاليا، وتلك هي عبقرية ميخائيل أنجلو، فهذا المصور والمثَّال ينتمي كذلك إلى دولة الأدب، فلم يقنع بإزميل النحت وفرجون التصوير، لهذا هبَّ إلى القلم يقرض الشعر، فكانت له مقطوعاتٌ جميلة كتبها وهو في سن الستين.
(٥) بنفنوتو تشليني Benvenuto Cellini (١٥٠٠–١٥٧١م)
إنه لواجب حتم على كل ذي موهبة وخلقٍ قويم — مهما تكن طائفته التي نشأ فيها — أن يدوِّن أحداث حياته ما دام قد أنتج أثرًا مجيدًا أو جديرًا بالثناء، ولقد أدرت البصر، ورأيت بعض الحادثات سارًّا سعيدًا، كما رأيت منها حادثاتٍ كثيرة تشهد بالحظ المنكود، فهالني ما رأيت من ماضي حياتي، حتى أثار هذا المشهد الرهيب في نفسي عجبًا كيف بلغت من العمر عامي الثامن والخمسين، ولا أزال بنعمة الله موفور النشاط؛ فحفزني ذلك أن أنشر على الناس قصة حياتي.
أنا بنفنوتو وأبي جيوفاني تشليني، وأمي ماريا ليزابِتَّا ابنة استفانو جراناشي، وكلا أبوي من أهل فلورنسه، وكان أجدادي يقيمون بوادي أَمْبرا حيث كانوا يملكون فسيح الضِّياع، وقد مهروا جميعًا في حمل السلاح، ونبغوا في فنون الحرب، وكان جدي أندريا تشليني ذا موهبة لا بأس بها في فن البناء، وبلغ أبي جيوفاني حدًّا عظيمًا في فن التصوير.
وجاء مولدي يوم «عيد القديسين» من عام ١٥٠٠م، وكان الوالدان يرقبان بنتًا، لكن أبي لم يكد يرى بعينَيه الغلام غير المرتقب مُشَبِّكًا يديه حتى رفع بصره إلى السماء قائلًا: «أحمدك اللهم من أعماق قلبي على ما منحتني، وإنه لعزيزٌ عليَّ، ومقدمه حبيب إلى نفسي.» فسأله الحاضرون في مرحٍ: ماذا اعتزم أن يسمي الوليد؟ فلم يجب بغير هذه الكلمات: «إن مقدمه لخير»، ثم صمم أن يكون هذا اللفظ «مقدم الخير» — وهذا معنى بنفنوتو — اسمًا لي، وهكذا سُمِّيتُ عند التعميد. ولما بلغت الخامسة عشرة من عمري، اشتغلت مع صائغ يدعى ماركوني، وكان ميلي إلى هذه الصناعة من القوة، بحيث لم تمضِ شهور قلائل، حتى نافست فيها مهرة صُنَّاعها، كذلك مارست فن صياغة الأحجار الكريمة في «سيينا» و«بولونيا» و«لوكا» و«بيزا»، فأخرجت في كل مكان من هذه مصنوعات من الدقة والجمال، بحيث كانت آية في ذلك الفن، فأوحى إليَّ ذلك أن أكون شديد الطموح. وقد احتفرت لوحة من فضة نقشت فيها مجموعة من أوراق الشجر، وطائفة من أجسام الشباب، وغير هذه من المناظر الفخمة، فلما وقعت على هذه اللوحة أبصار جماعة الصائغين في فلورنسه، ذاع بينهم أني أمهر من يشتغل في ذلك الفن من الشباب … إلخ.
(٦) أريوستو Ariosto
كان كتَّاب النهضة وفنَّانوها يجمعون بين الاتِّباع والابتداع (أو النزعة الرومانتيكية والنزعة الكلاسيكية)، فكانوا من جهة يقلدون القدماء، ويعنون بالفكرة وزخرفة اللفظ، ومن جهةٍ أخرى كانت آثارهم تنبض بالعاطفة والخيال، ولست تجد فيهم سماتٍ واضحة تنحاز بهم إلى جانبٍ دون آخر. ومن أجمل ما تمثلت فيه النزعتان ملحمة أنشدها أريوستو، وسرعان ما ذاعت بين الناس، وأصبحت أحبَّ ما أنتجه الخيال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إلى قلوب القارئين، حتى أطلق على كاتبها لقب «الإلهيَّ». وقد وصف أحد النقاد المحدثين هذه الملحمة بأنها «أنقى وأكمل مثال مما بقي لنا من شعر النهضة»، وهي تصور عصرها في إحدى نواحيه، إذ تتجه اتجاهًا إنسانيًّا، ولا تعنى بشئون الدين أو الحياة الآخرة، مما كان يشغل أدباء القرون الوسطى. فمن أخص خصائص النهضة الأوروبية أنها حولت الأنظار من الآخرة إلى الدنيا، ومن السماء إلى الأرض.
وأورلاندو الثائر قصيدة خيالية تصف عراكًا حادًّا عنيفًا ينشب بين طائفةٍ من الفرسان المسيحيين، وأخرى من الفرسان الوثنيين، وفيها بالطبع مغامرات تثير العاطفة وحبٌّ فيه الهمة والمروءة الجديرتان بالفرسان. وموضوع القصيدة شديد الشبه بقصص «أرثر» التي مر ذكرها في أدب العصور الوسطى، بل إن «أورلاندو» الإيطالي هو نفسه «رولان» الذي دارت حوله أساطير الأدب الفرنسي الوسيط. وتقع القصيدة في سلسلةٍ من مقطوعاتٍ شعرية، تبدأ كل مقطوعةٍ منها بمقدمة تكون بمثابة حلقة تربط الحادثة السابقة بالحادثة اللاحقة، ثم تتيح للشاعر في الوقت نفسه فرصة التفكير العميق في مبادئ الأخلاق وخصائص الوطنية الصحيحة وما إلى ذلك. وقد ترجمت قصيدة «أورلاندو» إلى الإنجليزية في عصر اليصابات، وأثرت في الأدب الإنجليزي إذ ذاك أثرًا قويًّا. ولعل أجمل أجزائها تلك السطور التي يصف فيها الشاعر يأس «أورلاندو»، وما استتبعه من جنون حين يعلم أن حبيبته «أَنْجِلِكا» قد خانت عهده، وتزوجت من رجلٍ آخر:
وفي موضعٍ آخر من القصيدة يصف «أريوستو» موتَ ملكٍ شابٍ شهم وصفًا رائعًا فيقول:
(٧) توركواتو تاسو Torquato Tasso
ثم يقول الشاعر: إن الله قد أرسل من ملائكته جبريل إلى جودفري يستحثه على المسير بغير إبطاءٍ إلى بيت المقدس، فيُلقي جودفري خطابًا ثم يعقب عليه بطرس الراهب بخطابٍ آخر، وبعدئذٍ يقع الاختيار على جودفري ليكون قائدًا للحملة الصليبية، فينهض من فوره ويستعرض جنده، ويبدأ المسير، فيهتز لهذا النبأ أهل أورشليم، ويفزع له ملكها علاء الدين، ويأخذ العدة للدفاع والمقاومة.
فهنالك في بيت المقدس كانت تقيم فتاةٌ كريمة النفس فاتنة الجمال، لكنها لم تأبه لجمالها على روعته، ولا اتخذت منه حلية تزدان بها، وإنما انتبذت من المدينة مكانًا متواضعًا بعيدًا عن نظرات المحبين، وظلت في دارها بنجوة من كلمات الحب المعسولة، ولكن هيهات للجمال أن يختفي، ذلك الجمال الذي لا تكاد تشخص إليه ببصرك مرة، حتى يثير في فؤادك عشقًا وهيامًا، فقد وقعت عينا «أولندو» على «سوفرونيا»، فكان لجمالها في قلبه ما يكون لوقع السهام، وكان الفتى والفتاة من بلدٍ واحدٍ ونشآ على عقيدةٍ واحدة، لكنه كان من الحياء بقدر ما كانت الفتاة من الجمال، فتمنى العاشق أن يظفر من معشوقته بشيءٍ كثير، ولكنه لم يتوقع أن يحقق من أمنيته إلا قليلًا، ثم انعقد لسانه حين لقيها فلم يطلب منها قليلًا ولا كثيرًا، وظل يحترق بلذة حبه الصامت.
صممت «سوفرونيا» أن تنقذ بني عقيدتها المسيحيين، فزعمت للسلطان أنها سارقة التمثال، وأنها أحرقته فأزالته من الوجود، وسمع منها السلطان ما زعمت، فثارت ثائرته، وأمر أن يُلقى بالآثمة في النار جزاء ما فعلت، لكن «أولندو» أسرع إليه ينفي عن «سوفرونيا» جريمتها، ويعترف بأنه السارق، فأمر السلطان بإحراقه معها، لكن الفتى والفتاة ينجوان من الموت بفضل امرأةٍ مسلمةٍ جديرة أن توضع في زمرة الأبطال، وهي «كلورندا»، فقد أقبلت هذه البطلة مسرعة على ظهر جوادها إلى حيث أُعدت موارد الرَّدى للحبيبين، وأمرت ألا تقع تلك الفعلة الشنعاء، وأذعن لها السلطان كارهًا، على شرط أن يُنْفى من بيت المقدس ذلك الفتى ومعه فتاته، وعدد من طائفة المسيحيين …
جاء السفراء من مصر ليعرضوا على جودفري أن يترك المسلمون للصليبيين ما فتحوه من أصقاع، على شريطة ألا يهاجم الصليبيون بيت المقدس، فأعرض جودفري عن رسالتهم، وأعلن مواصلة القتال:
•••
طرد ميكائيل الشياطين من حومة القتال، فاستأنف المحاربون نضالهم، وقد ألمَّت بالمسيحيين الملمات؛ فالشمس محرقة، والظمأ شديد، فدعا جودفري أن يُنزل الله لهم غيثًا يطفئ ظمأهم، فما هي إلا أن تمطر السماء وينتعش الجنود. ومن معجزاته أيضًا أن هَبَطَت على صدره حمامةٌ زاجلة، كان يطاردها بازيٌّ مفترس، فوجد تحت جناحها رسالة بعث بها قائد الجيش المصري إلى أمير أورشليم يعده أن ينجده بعد أيامٍ قلائل، وعندئذٍ أمر جودفري بالهجوم فورًا، واستطاع المسيحيون بذلك أن يدخلوا أورشليم ظافرين:
وبعد «تاسو» غربت في إيطاليا شمس نهضتها، ولكنه لم يكن غروبًا يستتبع موتها؛ إذ لبثت النهضة الإيطالية حية في نتاجها وثمارها، تراها ماثلة في آثارها من مرمر التماثيل، وأصباغ الصور وكلمات الأدب. ومن إيطاليا شاعت النهضة في سائر الأقطار، وعلى الرغم من أن الشعر قد أفل نجمه في إيطاليا، فقد بقي فيها الفكر حيًّا ساطعًا، بل لعله ازداد قوةً وحياةً حين خيمت على إيطاليا ظلمة في عالم السياسة، وإنما ظهر ذلك الفكر القوي في النثر الفلسفي والعلمي الذي أنشأه «برونو» و«جاليليو»؛ فهذان الفيلسوفان ينتميان إلى الفلسفة بالفكر العميق، وإلى الأدب بالأسلوب الجميل.