الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر وهو الأدب الذي مهَّد للثورة الفرنسية
الفترة التي نطلق عليها اسم القرن الثامن عشر في تاريخ الأدب الفرنسي لا تبدأ ببداية هذا القرن ولا تنتهي بنهايته، وإنما هي فترةٌ تمتد من العام الذي شهد موت العاهل الفرنسيُّ العظيم لويس الرابع عشر (١٧١٥م) إلى العام الذي انفجر فيه بركان الثورة الفرنسية الكبرى (١٧٨٩م)، وعصور الأدب لا تفصلها الفواصل الحاسمة، بل يتداخل سابقها في لاحقها، حتى يفنى في تدرجٍ بطيء رويدًا رويدًا. وهكذا كانت الحال حين بدأ القرن الثامن عشر: بقيت آثار العصر الاتباعي السالف واضحةً ظاهرة، وبدأت بشائر المستقبل وبوادر التحول والانقلاب جلية لا يخطئها النظر، حتى شاء الله للأولى أن تزول، وللثانية أن تسود، فكنت ترى رجال الأدب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر يؤيدون قواعد المذهب الاتباعي من الوجهة النظرية، حتى إذا ما أخذوا يكتبون وينشئون كانوا هم أنفسهم أقوى عوامل الهدم لذلك المذهب بما يكتبونه وينشئونه؛ لأن موجة الزمن عنيفةٌ جبارة، ولا بد أن تسير، فتستطيع أن تقول إن القرن الثامن عشر في فرنسا كان مرحلة انتقال بين الحكم المطلق والحكم الذاتي في السياسة، بين التقيد بأوضاع الكنيسة الكاثوليكية في روما وروح التسامح في الدين، بين المذهب الاتباعي والمذهب الابتداعي في الأدب.
وكانت التغيرات السياسية والاجتماعية في مقدمة العوامل التي انتهت بالبلاد إلى هذا التحول والانقلاب، فقد كان «القرن العظيم» عهدًا سادت فيه الحكومة المركزية المطلقة، حيث الأمر كله في يد وحدة تصرِّفه، فسار كل شيء في ذلك العصر على وتيرةٍ مطردةٍ متسقة كأنها النظام، وظهر القوم في طاعة كأنها استقرار النفس ورضاها، وجاء القرن الثامن عشر، فكان عهد قلقلة واضطرابٍ في أمور الدولة وفي نفوس الناس على السواء، فلئن أنتج النظام السياسي في القرن السابع عشر وحدةً في الأدب بأن ساد المذهب الاتباعي كما رأينا، فقد أنتج اضطراب القرن الثامن عشر تفكُّكًا لتلك الوحدة، وانحلالًا لذلك المذهب. وقد بدأ التدهور السياسي منذ أواخر عهد لويس الرابع عشر، ثم تولى البلاد بعده وصيٌّ كان داعية للفساد الخلقي بفساده، ثم جاء لويس الخامس عشر، فكان فاجرًا عربيدًا في غير حياءٍ ولا خجل، وبذلك وصم الملكية بوصمة العار، وأعقبه حفيده الضعيف المسكين المنكود؛ وهكذا ساءت الحكومة في البلاد، وأصابها الوهن أعوامًا طوالًا، فماذا ينشأ عن هذا في أنفس الناس غير التذمُّر والتبرُّم؟ ثم إلى أي شيءٍ ينتهي الشعب الساخط المتذمِّر إن لم ينتهِ إلى ثورةٍ كبرى تكتسح أمامها كل شيء؟
وتريد الأيام أن تتآمر العوامل وتتحد؛ لتنتهي إلى نتيجةٍ بعينها، فلئن كان الحكم السيئ قد أدى إلى قلقٍ في النفوس، فقد زادت من ذلك القلق النفسي روح التشكك التي نشأت عن ازدهار العلوم ورقيِّها، كما زاد منه موقف الكنيسة التي كانت فيما سبق حصنًا قويًّا يعمل على الحكم المطلق في شئون الدين، كما كانت الملكية تعمل عليه في أمور الدولة، لكن شاء التعصب الأعمى لرجال الكنيسة أن يقفوا في وجه الرقي والتقدم مع ما أصابهم من تحللٍ خلقيٍّ بغيض، فكان أن نفر الناس منهم، ونظروا إليهم بعين الشك والريبة، ومن هنا رأيت التشكك في أواخر القرن الثامن عشر سمةً بارزةً في رجال الفكر إذ ذاك، فجاء هذا التشكك العقلي في سلامة الأوضاع العتيقة عاملًا آخر أدى إلى الثورة عليها وتحطيمها، فلم يَعُدْ لشيءٍ قداسةٌ في أعين الناس، وأخذوا يسألون عن كل شيء، ويَتَحَدَّوْن كل سلطة، ورفضوا أن يكون للعهد الماضي سلطان على حياتهم الحاضرة.
قلنا إن انحلال السلطة السياسية في فرنسا بدأت بوادره في أواخر عهد لويس الرابع عشر نفسه، ولم يَعُدْ للقصر تلك الكلمة العليا التي كان يفرضها على الثقافة في البلاد، وانتقل الحكم في ذلك من فرساي إلى الشعب في باريس، فمن علائم هذا التحول عودة «الصالونات» الأدبية إلى الظهور بعد أن طمسها قصر فرساي حينًا من الدهر؟ لكن تلك «الصالونات» لم تعد — على نحو ما كانت في العهد السابق — تَنْصرف بجهدها إلى تحديد الأوضاع الملائمة في دنيا الحب والغزل والبِدْع، بل أصبحت مراكزَ فلسفية يؤمها قادة الفكر ليكون أهم ما يتحدثون فيه شئون العلم والسياسة والاجتماع، ونشأ إلى جانب «الصالونات» رأيٌ عام ما لبث أن أصبح أقوى عوامل التوجيه في مجرى الحياة الفرنسية، وبات تطور الأدب في فرنسا في القرن الثامن عشر مرهونًا بالحالة الاجتماعية للطبقة الوسطى، لما أصابته التجارة والصناعة من رقيٍّ بعيد؛ ذلك لأن هذا التحول الاقتصادي كان من شأنه أن تثري طبقات الشعب العاملة، وأن تزداد قوتها في السياسة ازديادًا مطَّردًا، وأن تُكوِّن الجمهور القارئ الذي يتجه إليه الأدباء حين يكتبون.
وأُضيفَ إلى هذه العوامل السياسية والاجتماعية عاملٌ جديد كان له في الأدب الخالص أكبر الأثر، ونعني به تيارًا أدبيًّا أخذ يتدفق من إنجلترا إلى فرنسا فيفعل فعله في أدبائها، وهذه حقيقةٌ تستوقف النظر؛ لأن أنصار الاتِّباع في فرنسا إبَّان القرن السابع عشر أغمضوا عيونهم عن الأدب الإنجليزي، بل جهلوه جهلًا كاد أن يكون تامًّا، فشيخ النقد الأدبي في فرنسا في ذلك العهد — بوالو — مثلًا — لم يكن يدري شيئًا عن «الفردوس المفقود» لِملْتُنْ، فكتب عن فن الملحمة، ولكنه لم يذكر شيئًا عن أعظم ملاحم العصر الحديث، وعني بأدب السخرية والهجاء، ولكنه لم يعلم شيئًا عن شيخ الهجاء في الأدب الإنجليزي «جون دريدن»! أما في القرن الثامن عشر فقد انعكس الوضع، وأخذ الفكر الإنجليزي والأدب الإنجليزي يشقان طريقهما إلى فرنسا. فكان من أثرهما أن تحطمت قواعد الاتِّباع في الأدب، وأن ذاعت في رجال الفكر من الفرنسيين مبادئ الحرية والتسامح الديني، وحقوق الأفراد، واحترام الصناعة والتجارة.
وظاهرةٌ أخرى في الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر جديرة بالذكر، وهي أنه اتُّخِذ وسيلة لتحقيق أغراضٍ عملية، فلم يعد الأدب أدبًا خالصًا مقصودًا لذاته، بل أصبح أداة لنقل الأفكار إلى جمهور القراء، أو بعبارةٍ أخرى أصبح أدب القرن الثامن عشر في فرنسا «أدبًا تطبيقيًّا» لا «أدبًا بحتًا» — إن صح لنا أن نستخدم ما يقال في الرياضة والعلوم عند قسمتها إلى ما هو «بَحْتٌ» وما هو «تطبيقي»؛ فالقطعة الأدبية باتت تُقَوَّمُ بمحصولها الفكري لا بجمالها الفني، وانظر في آيات ذلك العصر، تجدها لا تدل على الخيال المبتكر المبتدع، بل هي عبارة عن رسائلَ سياسية، مثل «روح القوانين» لمونتسكيو، و«العقد الاجتماعي» لروسو، أو رسائل في التربية مثل «إميل» لروسو، أو أبحاث في العلوم والتاريخ وما إلى ذلك. بل إن الشعر والمسرحية اتُّخذت كذلك وسائل لغايات، فأصبح الأدب كله أدوات للدعاية السياسية على أيدي «الفلاسفة» — كما كان يُسَمَّى رجال الفكر في الحركة الثقافية الجديدة — يحاربون بها النظم القائمة في الكنيسة والدولة معًا، وينشرون بها آراءهم الجديدة في الدين والسياسة، فلا غرابة إن قلنا — بعد ذلك كله — إن أدب القرن الثامن عشر هو الذي مَهَّدَ للثورة الفرنسية.
(١) النثر
(١-١) مونتسكيو Montesquieu (١٦٨٩–١٧٥٥م)
ولد قريبًا من بوردو، من أسرة اشتهر أبناؤها في القضاء والقانون، ولهذا اشتغل بالقانون جريًا على سُنَّة أهله، وأصبح مستشارًا في محكمة بوردو وهو في عامه الخامس والعشرين، ثم أعقب عمه في رئاسته بعد ذلك بعامَين، ولكنه كان قد درس «نيوتن»، وانهمك في المطالعة العلمية، وانتخب عضوًا في المجمع الفرنسي، ولم يكد يتم انتخابه هذا حتى أنفق ثلاثة أعوام يرتحل في أنحاء أوروبا باحثًا في الأحوال الاجتماعية والنظم السياسية لكل دولة حلٌّ في أرضها، وقضى نصف هذه المدة في إنجلترا وحدها، حيث انصرف بكل مجهوده إلى دراسة «لوك» ودرس مبادئ الدستور الإنجليزي، ثم عاد إلى بلاده ينشئ ويكتب.
(١-٢) فولتير Voltaire (١٦٩٤–١٧٧٨م)
لقد قيل إنه لو كان القرن السابع عشر عصر لويس الرابع عشر، فإن القرن الثامن عشر هو عصر فولتير، وهذا حق لا ريب فيه، فلن تجد رجلًا يصوِّر ذلك العهد خيرًا من فولتير؛ ففي القرن الثامن عشر نشأت الطبقة الوسطى، وزاد ثراؤها، وكان فولتير «بورجوازيًّا» ثريًّا، وفي القرن الثامن عشر ازدهرت العلوم الطبيعية التي تسلك أسلوب البحث الجديد، وكان فولتير من هواة العلم يلتمسه أينما وجد إليه السبيل، وفي القرن الثامن عشر استهدف بناء المجتمع بكل ما فيه من نظمٍ دينية وملكية وأرستقراطية للتغيير والتحوير، وكان فولتير في هذا الإصلاح رائدًا وإمامًا، فكأنما كان فولتير لعصره بوقًا يعبر عما يضطرب فيه من مذاهب وآراء، فبات على وجه الدهر وثيقة نطالع فيها نوازع ذاك الزمان.
والشهرة في سن الثلاثين متعة، استمتع بها فولتير، وعاش بفضلها بين العظماء، حتى لكأنه يعيش في حلم أذهله عن الدنيا الواقعة من حوله، ولكن حادثًا وقع إذا ذاك أيقظه من ذلك الحلم البديع، وألقى به في مسالكَ وعرةٍ شائكة، وذلك أن نبيلًا استشاط منه غضبًا، فأوحى إلى خدمه أن يوسعوه ضربًا وتعذيبًا، ففزع فولتير إلى العدالة أن تقتصَّ له من الأثيم المعتدي، ولكن هيهات! أيشكو نبيلًا جليلًا فردٌ من الشعب؟ وسارعت أسرة النبيل فقذفت بهذا الذي اجترأ عليها بالشكاية في ظلمات الباستيل، فلما قضى عهد السجن وأطلق سراحه، أقسم ليؤججنَّها حربًا شعواء على المجتمع الذي احتمل مثل هذا الظلم الشنيع.
ها هنا ولد فولتير مولدًا جديدًا، فقد سافر إذ ذاك إلى إنجلترا، ولم يكد يستقر به المقام هنالك حتى صادفه ما ازداد به فكره ثورةً وانقلابًا. فقد شاهد أن أبناء الطبقة الوسطى من الإنجليز لهم أن يطمحوا إلى أرفع المناصب، ورأى بعينَي رأسه في تلك البلاد كيف يمكن للحرية والنظام أن يستقيما جنبًا إلى جنب، وأن الإيمان الديني السليم والفلسفة الحرة الطليقة يمكن أن يقوما في غير تشاحن ولا عداء، شهد المذاهب الدينية الكثيرة تختلف وتصطرع، فتعلَّم الشك، وطالع «جون لوك» فتعلم الفلسفة وقرأ «سوِفْت» فاتخذ طريقته الساخرة نموذجًا يحتذيه، ودرس «نيوتن» فعرف مذهبًا علميًّا جديدًا، وقابل في إنجلترا فريقًا من أعلام أدبائها: «بوب» و«سوفت» و«تومْسُنْ»، وتعلم الإنجليزية قراءةً وكتابةً وحديثًا، فأتقن مطالعة جزءٍ كبير من الأدب الإنجليزي، إذ قرأ «شيكسبير» و«مِلْتُنْ» و«دريدن». حقًّا لقد علمته مرارة السجن في الباستيل أن يتمنى للناس مجتمعًا جديدًا، ثم بينت له زيارته لإنجلترا كيف يمكن لهذا المجتمع الجديد أن يكون.
عندئذٍ أوى فولتير إلى فردريك الثاني ملك بروسيا، وقد كان بينهما تبادل الرسائل الودية، وكان فولتير يتمنى للإنسان «حكيمًا حاكمًا»، أو مستبدًّا مستنيرًا، وظن أن هذه الأمنية الجميلة تتمثل في فردريك، ولكنه لم يلبث مع ذلك المستبد المستنير في مقر حكمه طويلًا، حتى تبين له أن الملوك الفلاسفة يصطنعون من وسائل الحكم ما يصطنعه الملوك الطغاة في فرنسا، فأين المفر؟ إلى سويسرا. فلعله واجد في تلك الجمهورية من الدعة والأمن ما لم يجده في أحضان الملوك، ولكنه سرعان ما صادف لونًا جديدًا من ألوان العسف البغيض، وهو ما يضطرم في نفوس الناس من تعصبٍ ممقوت، فلم يطمئن رجال الدين في سويسرا إلى مقامه بينهم، وأخذوا يتحرشون به ويثيرون الناس عليه، وإذن فلن يجد الرجل حياة آمنة في سويسرا أو فرنسا، فاتخذ لنفسه منزلَين على جانبي الحدود الفرنسية السويسرية، ليفر إلى هنا إذا عصفت به العاصفة هناك، ثم يقفز راجعًا إلى هنالك إذا دارت به الدوائر ههنا.
على هذا النحو أقام أمدًا طويلًا أتاح الفرصة لاسمه أن يسير بين الناس شُهرةً وذيوعًا، فمن عرينه ذاك الذي كمن فيه واختفى من وجه الشرطة، أخذ ينثر رسائله ومقالاته نثرًا متلاحقًا، فلا تكاد تظهر حتى تشيع في أرجاء أوروبا، وهو في هذه الرسائل يجدُّ حينًا ويسخر حينًا، وكثيرًا ما أخذ على نفسه أن يدفع عن بريء تهمةً باطلة، فاقترن اسمه بين الناس بالشجاعة الأدبية والإنسانية الرحيمة، فسمع عنه من الناس ألوفٌ لم يطالعوا ما كتب، حتى بات فولتير في أفواه الشعب أسطورة تروى.
إن مؤلفات فولتير تؤلف مكتبةً كاملة، فهي تبلغ عددًا يُربي على مائتين وستين مؤلفًا — منها الطويل ومنها القصير — فيها ملحمة، وفيها قصائدُ تهذيبية، وفيها ضروبٌ مختلفة من الشعر، وفيها مآسٍ وملاهٍ وتاريخ وسِيَر، وفيها أبحاثٌ علمية ورسائلُ دينية ومقالاتٌ فلسفية، وفيها قصص ونقد، أضف إلى ذلك كله أنه كان دائم المراسلة مع أصدقائه العديدين، حتى بلغ ما كتبه من رسائل أكثر من عشرة آلاف! فانظر إلى هذه الخصوبة النادرة التي لم تمضِ بغير أثرٍ سيئ، فقد اقتضته أن يبعثر قواه بعثرةً لم تمكنه أن يكون أديبًا من الصف الأول في إنتاجه! فلم ينتج شيئًا نستطيع أن نضعه في الطراز الممتاز من نوعه.
وسنرجئ فولتير الكاتب المسرحي، وفولتير الشاعر، إلى أجزاءٍ أخرى تالية. أما في هذا الجزء الذي خصصناه للنثر الفرنسي، فلا يسعنا أن نقول عن أسلوبه، إلا أنه المثل الأعلى الذي يطمح إليه كل من حمل القلم؛ فهو أسلوبٌ زاخر بالصور، ولكنه واضح، قويٌّ نفَّاذ إلى القلوب، لكنه سهلٌ سلس، تراه دائمًا كأنما لم تمسسه يد الفنان إلا مسًّا رفيقًا، لكنه مع ذلك مترع بلفتات الذكاء الوقَّاد، فبهذا الأسلوب الموسيقي الرخيم أنشأ فولتير ما أنشأه على اختلافه وتنوُّعه. ولئن حقق له أسلوبه سائر أغراضه، فقد كان قبل كل شيءٍ أداةً طيعة مكَّنته من السخرية التي بلغت في كتابته حدًّا لم تكد تبلغه عند كاتبٍ آخر، فاستحق من أجلها في تاريخ الأدب أن يلقَّبَ «بالساخر العظيم». وممن كان يسخر فولتير؟ من كل ما نفر منه قلبه من القساوسة والملوك والطغاة والظالمين؛ فهؤلاء جميعًا أعداء لما أحب واشتهى وجاهد حياته من أجله، هم أعداء الله والحب والعطف، هم أعداء الحرية في الفكر والعمل. وجديرٌ بنا في هذا الصدد أن ننفي عن فولتير تهمة الإلحاد التي لصقت به مع أنه أنفق حياته يحارب مذاهب الملحدين من معاصريه، وبنى كنيسة نقش على جدرانها «مهداة إلى الله من فولتير.» وفي ذلك قال: «لن تجد كنيسة غير هذه أهديت إلى الله، إنما تبنى الكنائس للقديسين، أما أنا فأوثر أن أكون خادمًا للسيد على أن أكون خادمًا لأتباعه.»
وفولتير — فضلًا عن مكانته الأدبية — مؤرخ بدأ طريقةً جديدة في كتابة التاريخ، فمؤلَّفة «مقالة في السلوك» تحدد بداية طورٍ جديد في دراسة الإنسان لماضيه، وأخذ المؤرخون ينهجون منهجه، فتطور علم التاريخ بهذا تطورًا ملحوظًا، نعم تستطيع أن تأخذ على هذا المؤلَّف بعض المآخذ، فهو أحيانًا يذكر تفصيلاتٍ خاطئة، وهو كثيرًا ما يصل إلى تعميماتٍ لا عمق فيها، وتراه في بعض المواضع يتأثر بالهوى، ومع ذلك كله فهو — كما قلنا — يحدد طورًا جديدًا في كتابة التاريخ؛ لأنه ينتزع من الحوادث التاريخية فلسفةً قائمة على التطور الطبيعي، لا على تدخل قوة فوق الطبيعة، فقد كان المؤرخون قبله يعللون مجرى الحوادث بإرادةٍ عليا تُشرف عليها فتوجهها كيف شاءت. أما فولتير فلا يرى في حوادث التاريخ — بل في حوادث الكون كلها — إلا أسبابًا تعقبها مسببات، وهو أيضًا لا يجعل التاريخ سجلًّا للحروب والملوك، بل يجعله قبل كل شيء تاريخًا للمدنية الإنسانية والتقدم العقلي.
وهو في فلسفته يتابع المدرسة الإنجليزية وعلى رأسها «بيكُنْ» و«لوك»، التي تعتد بإدراك الحواس وبالتجربة في علمها بالأشياء، وفي الدين لا يعادي المسيحية في ذاتها، بل يعادي النظام الكنسي السائد في عصره؛ إذ كان هذا النظام في رأيه مقرونًا بالتعصب والقسوة والهوس، هو يعادي المذهب الكاثوليكي الروماني الذي يراه عاملًا من عوامل الجمود التي تعوق حركة التنوير والتقدم، فهو مؤمن بالله، لكنه لا يحترم الشعائر التي تدل على نفاق، وهو كذلك لا يؤمن بالوحي، وذلك عنده لا يتنافى مع إيمانه بالله، وأما مذهبه في الأخلاق فهو المذهب النفعي الذي يجعل الفضيلة فضيلة؛ لأنها تنفع الإنسان، لا لأنها واجبٌ مجرد يجب أداؤه بغض النظر عن نتائجه، فمصلحة المجتمع هي المقياس الوحيد الذي يقاس به العمل إنْ خيرًا وإنْ شرا.
وفيما يلي موجز لقصته «كانديد» لعلها تدلُّك على شيءٍ من خصائصه:
كان شابٌّ يعيش في قصر بارون بوستفاليا، وكان بطبعه قويم الخُلُق، طيب القلب صريحًا؛ ولهذه الصفات أُطلق عليه اسم «كانديد». وقد كان خُدَّام القصر يظنون كانديد ابن أخت البارون نَجَلَتْه من جارٍ فاضلٍ لم تقبل الزواج منه؛ لأنه لا يحفظ من أسماء أجداده إلا واحدًا وسبعين اسمًا، ومحا الزمان بقية أسلافه، وليس هذا دليلًا على النسب الشريف.
وكان للبارون ابنة اسمها «كونجوند» في السابعة عشرة من عمرها، فتانةً جذابة، وكان «بانجلوس» شيخًا في قصر البارون يلقي فيه المواعظ الدينية التي اعتاد كانديد أن يصغي إليها في سذاجة سِنِّه وبساطة أخلاقه، وكانت أولى تعاليم الشيخ وأهمها «أن لا معلول في هذا العالم بغير علة، وأن هذه الدنيا خير ما يمكن خَلْقُه من الدُّنَى.» يقول بانجلوس: إن الأشياء لا يمكن أن تكون على غير ما هي عليه، فكل شيءٍ أعد لغايةٍ مقصودة، وهي بالضرورة خير غاية يمكن أن يقصد الخالق إليها، فالأنف قد أعدَّ ليحمل المنظار، ومن ثم كانت لنا مناظير، والساق قد أعدت للجورب، ومن ثم كانت لنا جوارب، والصخور أعدت لتُنْحَتَ في حصونٍ وقصور، ومن ثم كان لسيدي البارون هذا القصر الجميل، والخنزير خُلِق ليؤكل، ومن ثم كان لحم الخنزير لنا طعامًا، فلا يكفي إزاء هذا كله أن نقول إن العالم خير، بل ينبغي أن نضيف أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
أصغى كانديد في انتباهٍ إلى تعاليم الشيخ، وآمن بما سمع، وكان طوال إقامته بالقصر مفتونًا بابنة البارون «كونجوند»، ولكنه لم يجرؤ أن يعلن لها إعجابه بها، فقد تقابلا ذات صباح، وعَلَتْها حمرة الخجل وعَلَتْه، وحَيَّتْه بصوتٍ متقطعٍ وحيَّاها، وفي اليوم التالي تقابلا مصادفة وراء ستار. فأسقطت كونجوند منديلها والتقطه كانديد، فأمسكت الفتاة بيد الفتى، فقبَّل كانديد يدها في لهفةٍ وعاطفةٍ مشتعلة، وتقابلت منهما الشفاه وتلاقت النواظر وارتعشت الأطراف، ثم شاءت المصادفة كذلك أن يجيء البارون على مقربة من الستار، فوقعت عينه على سبب ومُسبَّبٍ من أسباب الدنيا الكثيرة ومسبباتها، لكنه قذف بكانديد خارج القصر وركله ركلًا عنيفًا، وسقطت كونجوند في إغماءة لم تكد تفيق منها حتى صفعتها أمها البارونة على أذنها صفعةً قوية؛ وبهذا اضطرب الأمر كله في قصر كان أبدع ما يمكن لقصرٍ أن يكون.
خرج كانديد من فردوسه الأرضي طريدًا، فطوَّف أمدًا طويلًا، لا يدري إلى أين يسير، يبكي ويُصعِّد البصر إلى السماء، ثم يصوِّبه الحين بعد الحين إلى أجمل القصور التي تحوي أروع النساء، وكان يبيتُ على الطوى، ويفترش الحصباء في الحقول العارية والثلج يتساقط فوقه أكداسًا فوق أكداس، فلما أوشك أن يجمد جمود الموت أخذ يزحف في الصباح، حتى بلغ القرية المجاورة، وليس معه من المال شيء، ثم هَدَّهُ النَّصَبُ، فوقف منهوكًا أمام فندق، فمرَّ به سيِّدَان في ثيابٍ زرقاء، فقال أحدهما للآخر حين أبصراه: «هذا يا أخي رجل جميل البنية ملائم الطول.» وتحدث السيدان إلى كانديد واصطحباه في رفقٍ إلى حيث تناول معهما طعام الغداء.
قال كانديد: ليس معي يا سادة ثمن الطعام.
فقال أحدهما: لا عليك، فإن مَنْ في أسمالك لا يدفعون شيئًا، ألست تبلغ في الطول خمس أقدام وخمس بوصات؟
فقال كانديد: نعم، سيديَّ، فهذا مقياس طولي.
فقال أحدهما: تعال يا سيدي واجلس إلى هذه المائدة، فأنت ضيفنا، بل لن ندع رجلًا مثلك بغير مال، فقد خُلق الناس ليُعين بعضهم بعضًا.
قال كانديد: إنك لعلى حق فيما تقول، وهذا ما أنبأنيه بانجلوس، وها أنا ذا أرى كل ما في العالم يسير نحو الخير.
قال أحدهما: ألا تحب …
فقال كانديد: نعم، أحب كونجوند.
قال أحدهما: بل أسألك هل تحب ملك البلغاريين؟
فأجاب كانديد: كلا، فلم أره.
قال أحدهما: وكيف ذاك! إنه أفضل الملوك، وينبغي أن تشرب نخبه.
فقال كانديد: ها أنا ذا أشرب نخبه بكل قلبي.
فقال السيد: كفاك هذا، فقد غدوت الآن من حماة البلغاريين وبنيتَ مجدك.
ثم قَيَّدَاه في أغلال الحديد وساقاه إلى فرقة بالجيش وعَلَّماه كيف يسلُّ السيف وكيف يطلق النار، وكانا يجلدانه كلما أخطأ حتى بات كانديد بين الجند بارعًا.
ولكن عَنَّ له ذات يوم أن يسير على عقيدة عنده بأن للإنسان ما للحيوان من حق في استخدام أعضاء جسمه كيف شاء، ولكنه لم يكد يَبْعُدُ في مسيره حتى أقبل عليه أربعة رجال وشدُّوا وثاقه، وألقوا به في غياهب السجن، ثم جيء به أمام القضاء، فسألوه أيهما يفضل؟ أن يُضْرَب بالسياط ستًّا وثلاثين مرة، في كل مرة يضربه جنود الفرقة جميعًا، أم أن يُطْلَقَ عليه اثنا عشر رصاصة؟ وعبثًا حاول أن يقيم الدليل على أن إرادة الإنسان حرة، وأنه يرفض العَرْضَين جميعًا، ولكنه أُرغم على الاختيار فآثر العقاب الأول، وكان اختياره هذا دليلًا على ما وهبه الله للإنسان من حرية في الإرادة! فأخذت السياط تنوشه، حتى بلغت الضربات ألفين في مرتين اثنتين، وكان ذلك كافيًا أن يمزق جسده تمزيقًا، فلما هَمَّ الجند أن يبدءوا في المرة الثالثة صاح بهم كانديد أن يرحموه فيقتلوه، وقُبِلَ منه الرجاء وشُدَّ فيه الوثاق، لولا أن ملك البلغاريين مَرَّ بهم، وسأل المذنب ما ذنبه؟ فأجاب الفتى قائلًا: إنه شاب حَدَثٌ اشتغل بالفلسفة فجهل أمور الدنيا وتلك جريرته، فعفا عنه الملك وتولى علاجه طبيب فبرئت جروحه بعد ثلاثة أسابيع، وما كاد يستقيم على قدمَيه حتى نشبت الحرب بين البلغاريين وأعدائهم، ها هي ذي المدافع تحصد الجند حصدًا في هذا العالم الذي هو خير ما يمكن خلقه، وليس في الإمكان أبدع منه! وكان كانديد فيلسوفًا فلم يطق أن يرى تلك المجزرة البشرية فاختبأ، ثم انتهز فرصة كان الجند فيها يرتلون أناشيد الصلاة، وأسرع هاربًا يخطو فوق جثث وأشلاء، حتى بلغ قرية في أرض أعداء البلغاريين، فألفاها رمادًا إذ أحرقها البلغاريون وفقًا للقانون الدولي، وشهد هنالك كهولًا أثخنتهم الجراح يرمقون بعيونٍ كليلة جثث زوجاتهم ملقاةً على الأرض طرحى، وشهد في موضعٍ آخر ناسًا تأكلهم ألسنة النار في بطء، فأخذوا يضرعون إلى الله أن يمُنَّ عليهم بموتٍ سريع، فسارع كانديد إلى قريةٍ أخرى من قرى البلغاريين أنفسهم، فلقي الكوارث بعينها، فها هو ذا يطأ أعضاءً مبتورة لتوِّها لا تزال ترتعش بالحياة، فمضى مسرعًا حتى خلص من ميدان القتال، وليس في وفاضه إلا قليل من زاد، لكنه لم يَنْسَ قط فاتنته كونجوند!
وبلغ كانديد أرض هولنده، وطفق يسأل الناس إحسانًا، فيتهدَّده الناس بالسجن إذا هو لم يكفَّ عن السؤال، وأخيرًا صادف رجلًا كان قد أنفق ساعة كاملة يحاضر جمعًا حاشدًا في وجوب الإحسان، فمدَّ إليه كانديد يد المحتاج، فنظر إليه الخطيب سائلًا: «ماذا أنت صانع هنا يا فتى؟» فأجاب كانديد: إن ضرورة الحوادث قد دفعته إلى طلب الإحسان دفعًا، ولم يكن له قدرة على تحوير مجرى الأسباب والمسببات في هذه الدنيا، فنهره الخطيب قائلًا: عني أيها الوغد!
وهكذا مضى عنه مَنْ كان يدين بالعقيدة المسيحية في الحب والإحسان، وشاءت المصادفة أن يمر به رجل لا يدين بالمسيحية، وأشفق الرجل على هذا الإنسان البائس، وإنه لإنسانٌ كسائر الناس يمشي على قدمَين، وليس هو من ذوات الظلف أو الجناح! فاستصحبه إلى داره وأطعمه وعلَّمه صناعة يؤدِّيها في مصانعه.
وخرج كانديد في صبيحة اليوم التالي يجول في الطريق، فقابل سائلًا كادت حروق النار تمزق جسمه، وقد عشيت عيناه وتآكل أنفه، واعوجَّ فمه واسودَّتْ أسنانه، فتحركت الشفقة في قلب كانديد وناول ذلك المسكين قطعتي النقود اللتين كان رجل الأمس قد أعطاهما إياه، فنظر إليه الشيخ، وكاد يسقط على الأرض ودمعت عيناه، فذعر كانديد وخطا إلى الوراء فَزِعًا.
قال الشيخ: وا أسفاه! ألست تعرف صديقك بانجلوس؟
فأجاب كانديد: ماذا تقول؟ أهو أنت أستاذي العزيز؟ كيف حالت حالك وماذا أصابك من السوء؟ ما الذي أخرجك من أجمل القصور، وماذا حدث لكونجوند؟
قال الشيخ (وقد نقله كانديد إلى إسطبل سيده وأطعمه): ماتت كونجوند.
فطار صواب كانديد، ثم أفاق، فقال: هل ماتت كونجوند؟ أيتها الدنيا وأنت خير ما يمكن خلقه من الدُّنَى! وكيف ماتت؟
فأجاب الشيخ: بَقَرَها الجند البلغاريون، ولما أراد البارون أن يحميها ضربوه، ثم قطعوا البارونة إربًا إربًا، وهدموا القصر، حتى لم يبقَ فيه حجر على حجر، لكننا انتقمنا، إذ أحدث جندنا مثل هذا في قصرٍ لأميرٍ بلغاري.
واستعطف كانديد سيده أن ينفق على علاج أستاذه، وشفي بانجلوس لولا أنه فقد عينًا وأذنًا، واستخدمه السيد حاسبًا؛ لبراعته في الحساب، وبعد حين شاءت الضرورة لذلك الرجل أن يرحل إلى لشبونة، فاستصحب الفيلسوفَين بانجلوس وكانديد، وأخذ بانجلوس يشرح لسيده وهما في الطريق كيف لم يكن في الإمكان أبدع مما كان، فلم يوافقه الرجل على رأيه ذاك، فأضاف بانجلوس: إن طبيعة الإنسان قد فسدت، فالله لم يخلق الناس ذئابًا، لكنهم قد باتوا من الذئاب، إن الله لم يُعْطِ الناس مدافع أو بنادق، لكنهم صنعوها ليفتك بعضهم ببعض … ولكن الشرور الفردية تُكوِّن في النهاية الخير العام، وبينما هو ماضٍ في حديثه ذاك، اكفهرت السماء وهبَّت الريح، وعصفت العواصف بالسفينة وهي على مرأى من ميناء لشبونة.
ولم تَلْبَث السفينة أن باتت حطامًا، وغرق كل مَنْ عليها إلا بانجلوس وكانديد ومعهما بَحَّارٌ فظٌّ غليظ القلب، ولكن لم يكد الفيلسوفان يطآن أرض لشبونة، حتى زلزلت الأرض زلزالها، واندلعت نار بركانها. وامتلأت الشوارع باللهب والرماد وترنحت الدُّورُ فوق أساسها، واندكَّت قوائمها، وقضى ثلاثون ألفًا من سكان المدينة نحبهم صرعى، وأصابت كانديد قطع من الصخر هَوَتْ عليه فجرحته وسقط يتمرغ من الألم.
وبينما الناس في فزعهم والِهون، أخذ بانجلوس يهدِّئ من روعهم، وينزل السكينة على قلوبهم بقوله: إن كل ما يحدث في الدنيا معقول مقبول؛ لأن العالم خير، ولا بد أن يقع فيه ما وقع؛ لأن لكل شيءٍ سببًا، فجذبه شاب يتَّشح بالسواد — وكان عضوًا في محكمة التفتيش — وقال له: يظهر أنك يا سيدي لا تؤمن بالخطيئة الأولى، فلو كان كل شيءٍ خيرًا لما هوى الإنسان من الجنة، ولا كان هناك عقاب، وكأني أسمعك تقول: إن كل شيءٍ مقدور، وإذن فأنت لا تؤمن بحرية الإرادة. فبدأ بانجلوس يجيب بأن حرية الإرادة لا تعارض الجبر؛ لأنه من جبر الإرادة أن تكون حرًّا.
لكن الشاب القسيس لم يمهله حتى يفرغ من جوابه، وأمر به فقبض عليه وزجَّ في السجن، كما سُجِنَ تلميذه كانديد؛ لأنه كان يستمع إليه في إعجاب.
هدأت الأرض بعد زلزالها، وقد تهدم من لشبونة ثلاثة أرباعها، فأجمع حكماء المدينة أن لا وسيلة للإنقاذ خير من أن يُلْقى ببعض المذنبين في النار ليحترقوا احتراقًا بطيئًا في حفلٍ من الناس يرتلون لله الصلاة والدعاء، وإن هي إلا أيام قلائل تمضي حتى جيء برجلٍ رفض أن يأكل الطعام مطهيًّا بالشحم، مع أنه تقليد لا بد من احترامه، وأُلْقِي بالمسكين في النار، كذلك جيء بكانديد وأُمِرَ أن يُجْلَد بالسياط، كما سيق بانجلوس إلى حبل المشنقة؛ لأنه إباحيُّ التفكير، حدث كل هذا والناس من حولهم يرتلون الدعوات وينشدون الصلوات أن ينقذ الله لشبونة من زلزالها المخيف.
فلم يسع كانديد — وقد هاله ذلك كله — أن يصيح: «إن كانت هذه الدنيا خير ما يمكن خلقه، فما عسى أن تكون أسوأ الدُّنى؟»
هذا مثال لفولتير، ولن تخطيء فيه روحه الهازلة الساخرة، فهو يهزأ بمن ينظر إلى الدنيا نظرة التفاؤل، لما يراه في العالم من ألوان الشرور، وقد أمسى أسلوب فولتير — الذي يمتاز بالتدفق والصقل والبساطة والوضوح — مثلًا أعلى يطمح إليه الكاتبون، وأوحت قصة «كانديد» بما أوحت إلى «رينان» و«أناتول فرانس» من كتَّاب فرنسا، ثم تعدى تأثيره أرض الوطن إلى سائر الأقطار المجاورة، فاحتذاه «بيرون» في تهكمه، وتمنى «برناردشو» أن يقوم في إنجلترا بالدور الذي قام به فولتير في فرنسا من نقدٍ وتهذيب يقومان على السخرية اللاذعة.
(١-٣) ديدرو Diderot (١٧١٣–١٧٨٤م)
وأجلُّ إنتاجه قدرًا هو «الموسوعة» — أو دائرة المعارف — التي أدارها وساهم في تحريرها، فقد أحسَّ الناس أن المعارف المتفرقة لا بد من جمعها ليكون للإنسانية من مجموعها سبيلٌ مؤدية إلى الحق، وكان هذا الإحساس هو الحافز الذي دفع «ديدرو» إلى إنشاء الموسوعة، فجاءت كنزًا زاخرًا بكل صنوف العلم والمعرفة التي وصل إليها العقل البشري حتى ذلك الحين، بل أضافت إلى ذلك أنها وضعت أساس المذهب الديمقراطي. وقد عاون «ديدرو» في هذا المشروع الضخم طائفة ممتازة من الأعلام والفحول — كان بينهم فولتير وروسو — ولعل هذا الخطاب الذي أرسله فولتير إلى ديدرو، يقرِّب لك أساس هذه الموسوعة، قال: «ما أشبه موسوعتك ببرج بابل؛ فيها الطيب والخبيث، وفيها الحق والباطل، وفيها الجد والمرح، كلها مجتمعة في كتابٍ واحد، ويخيل إليَّ أن بعض فصولها قد كتبه متأنقٌ متحذلق وهو جالس في «صالونه»، وأن بعضها قد كتبه خادمٌ قذر وهو في مطبخه. إن قارئ الموسوعة لينتقل فها من أعلى سماء يحلق فيها الفكر إلى أسخف السفاسف التي تبعث في نفسه الملل.»
ورأى أولو الأمر أن ظهور هذه الموسوعة يفتق الأذهان فيؤدي إلى خطر، فاضطهدوها وقاوموها، واضطر ناشرها إلى إخراج مجلداتها الأخيرة في طي الكتمان خشية أن يصيبه من الشرطة أذًى، وقد حدث أن أصابت ديدرو خسارةٌ فادحة حين داهمت الشرطة يومًا دار المطبعة فأتلف عاملٌ جبانٌ كل «التجارب» بغير إذن من سيده. وهكذا أخرجت موسوعة العلوم للناس، فكانت عملًا جليلًا يخلد اسم «ديدرو» على وجه الزمان، ولو أنه لم يدرَّ على صاحبه من الربح أكثر من جنيهات عشرة في كل شهر مدى عشرين عامًا كاملة أنفقها في إخراجها، وبهذه الموسوعة كان «ديدرو» رسول المعرفة في عصره، فقد كان ينكر الوحي مثل فولتير وروسو، ويؤمن بأن إنقاذ العالم مرهون بنشر المعرفة والفضيلة.
هذا هو «ديدرو» بإنتاجه المتنوع الغزير، فهو — في عصره — الصحفيُّ الموهوب الذي ينتج إنتاجًا سريعًا متلاحقًا فيه سمات الإهمال إلى جانب ما فيه من طابع النبوغ والتجديد واستقلال الرأي. ويقول عنه سانتسبري: «إنه يوشك أن يكون أكثر الأدباء خصوبةً في تنوع آرائه؛ فيستحيل أن تجد موضوعًا لم يعالجه ديدرو، ويكاد يستحيل أن تذكر موضوعًا لم يقل فيه بعض الآراء الخالدة التي تدعو إلى الإعجاب.»
(١-٤) روسو Rousseau (١٧١٢–١٧٧٨م)
كانت «جماعة الفلاسفة»، التي يمثلها فولتير وديدرو، تعتد بالعقل وحده، ولا تؤمن إلا به، فجاء «جان جاك روسو» مزدريًا العقل ومنطقه، مؤمنًا بالعاطفة والشعور، فكان بذلك بمثابة رد الفعل الذي يعقب التطرف ليرده إلى الصواب.
إني بهذا الكتاب أؤدي عملًا لا أجد له مثيلًا، ولن يجد بين الناس مقلِّدًا، وغاية الكتاب أن يعرض رجلًا على حقيقته لا ينْقص من الحق شيئًا، والرجل الذي أعرضه هو نفسي، نفسي دون سواها؛ لأني أعتقد حقًّا أن ليس لي بين الأحياء شبيه. إنني في هذا الكتاب لا أخفي سيئة ولا أضيف حسنة، وأتحدى رجلًا في وسعه أن يقول، بعد أن يكشف عن سريرة نفسه بمثل إخلاصي: إنني خيرٌ منه!
كان مولدي في جنيف عام ١٧١٢م، وأبى إسحق روسو رجل يصلح الساعات، وأمي سوزان، ومولدي — الذي كان أول حلقة من سوء طالعي — قد كلف أمي حياتها، وجئت إلى العالم في ضعف لم يُنتظر لي معه أن أعيش، وكفلتني عمتي حتى غمرتني بحنانها، وأما أبي فقد كان في يأسه يحبني أبلغ الحب.
ولقد شعرتُ قبل أن أفكر، شأني في ذلك شأن سائر الأطفال، بل لعلي ذهبت في ذلك أبعد من سواي، وكان أول ما أيقظ شعوري قصصٌ قرأتها مع أبي، وحدث أحيانًا أن ظللنا نقرأ معًا حتى مطلع النهار، فما بلغتُ السابعة حتى فرغنا من قراءة كل ما احتوت عليه خزانة أمي من قصصٍ قديمة، وارتددنا إلى «بوسويه» و«موليير» و«بلوتارك» و«أوفد» وأضرابهم، وأبعدتني قراءة «بلوتارك» عن القصص، فتراجمه هي التي نفثت فيَّ هذه الروح الحرة الديمقراطية التي لا تصبر على الاستعباد الذي أرَّق جنبيَّ، وأنا مدين لعمتي التي كانت تحفظ ما لا حصر له من الأغاني، وتغنيها بصوتٍ حلوٍ رخيم، أنا مدين لها بعاطفتي نحو الموسيقى، فهذه كانت أول ما تعلق به حبي، تلك هي العوامل التي كونت لي هذا القلب الذي أَسْرَفَ في كبريائه، ولكنه مع ذلك قلبٌ شديد الإحساس، هذه العوامل صاغت لي هذه الشخصية المخنثة التي هي رغم ذلك جَموحٌ لا تُسلس القياد، وقد ظللت بهذه الشخصية أندفع إلى مواقف الضعف مرة وإلى مواضع الفضيلة مرةً أخرى، فقد كنت من التناقض مع نفسي، بحيث أفلتت مني اللذةُ والحكمةُ في آنٍ معًا، فلا أنا بالذي عفَّ عن المتعة ولا بالذي نعم باللذة …
وأما كتاب «جولي أو هلويز الجديدة»، فهو سلسلة من خطابات تبدأ بقصة عن حبٍّ آثم، وتنتهي برسالة في التهذيب. وروسو في هذا الكتاب مدين للقصصي الإنجليزي «رتشردسُنْ» في قصته «كلارسَّا» من حيث الطريقة والنغمة الخلقية التي تسود الكتاب، لكن الكاتب الفرنسي يكتب بعاطفة لا تدنو منها عاطفة زميله الإنجليزي.
و«العقد الاجتماعي» كتاب يختلف عن السابقيْن، فهو رسالة في مبادئ الحكومة والمجتمع، كتبت بالأسلوب العلمي المحكم الدقيق، ولكن اتِّباع الكاتب للأسلوب المنطقي في كتابه هذا لم يمنع أن يجيء الكتاب بعيدًا عن الحقائق التاريخية، سابحًا في الخيال، ومع ذلك فقد كان «للعقد الاجتماعي» أثرٌ قوي في عصر اضطربت فيه الأمور السياسية، بحيث اتخذه رجال الثورة بعدئذٍ انجيلًا يهتدون به ويستمدُّون منه المبادئ، وروسو في هذا الكتاب مؤمن بأن الإنسان خيِّرٌ بطبعه، وإنما أفسده نظام المجتمع، ومن رأيه أن يضحي الفرد بمصلحته في سبيل الصالح العام؛ لأن الغاية المنشودة عنده هي «أعظم خير لأكبر مجموعة من الناس»، وهو يريد بالإنسان الرجوع إلى الحالة الفطرية الأولى التي كانت قائمة قبل أن يفسد الإنسان بالحضارة الدخيلة الطارئة، وهو من جهةٍ أخرى يتمنى العودة إلى الماضي المجيد الذي يتمثل في اليونان والرومان، فقد بهر روسو ذلك الماضي العظيم، وصوره لنفسه أعظم مما تجيز له حقائق التاريخ، ولكن ماله وللحقيقة التاريخية! إنه كاتب يستلهم العاطفة ليثير النفوس ويحفزها على النهوض.
هذه العقيدة التي آمن بها إيمانًا قويًّا — وهي أن الإنسان ولد نقيًّا لا يشوبه شر — أدَّت به إلى رأي في التربية بسطه في كتابٍ قريب في سياقه من القصة. وهو «إميل» ومحور الرأي فيه هو أن الطفل ينبغي أن يترك حرًّا من كل قيد إبان نشأته، فلا يغلُّه معلموه بما يملأ رءوس الكبار من ترهات وأباطيل، وحسب هذا الكتاب قيمة أنه ما يزال عمدة بين المراجع عند علماء التربية. ولهذا الكتاب قيمةٌ أخرى، وهي أن روسو يعرض فيه مذهبه الديني، فهو معتقد بوجود الله، لكنه يرى أن طريقة البرهنة على وجوده لا تكون بالحجج العلمية العقلية، بل بالحدس واللقانة، بإحساسٍ من القلب لا يفهم العقل كنهه.
يستهل روسو كتاب إميل بقوله: «إن كل شيء يكون خيرًا حين تخرجه يدا خالق الأشياء، ثم يفسد كل شيء بين يدَي الإنسان، وفي هذه العبارة تتلخص فلسفة روسو التي قوامها التفرقة بين ما هو طبيعي وما هو صناعي، بين الإنسان الطبيعي كما أرادت له الطبيعة أن يكون، وبين الإنسان المتحضر الذي أفسده المجتمع، إن كل ما هو طبيعي خير، وكل انحراف عن الطبيعة شر، ولهذا فالحضارة الإنسانية غلطةٌ كبرى، لا نتخلص منها بغير العودة إلى أحضان الطبيعة.» وليس يخفى ما في هذا القول من دعوةٍ صريحة للديمقراطية؛ لأنه يمزق لفائف الحضارة عن وجه الإنسان ليخرج العنصر الإنساني من تلك الأكفان فيبدو تحت ضوء الشمس واحدًا متشابهًا في الناس جميعًا؛ لا فرق بين متعلم وجاهل، ولا بين شريف وعامل. وهو بهذه الدعوة أيضًا يمهد للمذهب الابتداعي في الأدب، يمهد له بحبه للطبيعة وباعتداده بالفرد وشخصيته، ويمهد له بحدَّةِ عاطفته وبأدبه الذاتي الذي يُخْرج فيه مكنونَ نفسه.
(٢) الشعر
كاد الشعر يختنق في فرنسا في القرن الثامن عشر، للقيود الثقيلة التي فرضها «بوالو»، والتي ما كان لينجو من أثرها غير النوابغ، وللنزعة العقلية التي سادت في فرنسا إبان ذلك القرن، وإن سيطر منطق العقل نضب معين الشعر، نعم قد تستطيع أن تسمِّي في ذلك العصر طائفةً كبيرة من الشعراء الذين غزُر نتاجهم وتنوَّع، ولكنهم كانوا ينشدون الشعر عن غير طبع وفي صورةٍ آلية، فهو كلامٌ منظوم لا روح فيه، اللهم إلا قليلًا جدًّا مما قيل.
ونبدأ قائمة هؤلاء الشعراء بفولتير الذي عرفناه ناثرًا عظيمًا، وشعره — كنثره — متنوِّع مختلف الألوان، فله ملحمة «هنرياد» التي كان يطمح أن يجاري بها الملاحم العظيمة وهي مقسَّمة عشرة أقسام، وموضوعها الحروب الدينية وبطلها هنري الرابع. وهذه القصيدة الكبيرة في مجموعها لا تخرج عن هجومٍ عنيف يتجه به الشاعر نحو التعصب والهوس الديني والخرافة، وتمجيد للتسامح وحرية الفكر. أما من حيث طريقة الأداء فهو يحذو حذو الملاحم القديمة، ولا سيما ملحمة الإنياذة، فكما أن «إنياس» أخذ يقص قصته للملكة «ديدو» ملكة القرطاجنيين فهكذا أخذ هنري يروي أخباره للملكة اليصابات، وكما أن إنياس أوحى إليه الله بما سيئول إليه أمر شعبه في المستقبل، فكذلك هنري، لكن أين ملحمة «هنرياد» في ضعف خيالها وبرودة أسلوبها من الملاحم القديمة الكبرى؟ ومما زادها ضعفًا أنه لم يُرد أن يختار العوامل الروحية في الملحمة وجوِّها الشعري من اللاهوت المسيحي؛ لأن هذه من القواعد التي حرمها «بوالو»، ولم يستطع من جهةٍ أخرى أن يجعل ذلك الجوَّ الشعري يونانيًّا أو رومانيًّا، ولا أن يستمد عناصرها الروحانية كالآلهة وغيرهم من الأساطير اليونانية والرومانية؛ لأن ذلك لا يناسب موضوعًا مختارًا من التاريخ الحديث، ولكن لا بد للملحمة — جريًا على العرف الأدبي — أن يكون لها جوٌّ روحانيٌّ أسطوريٌّ خيالي تجري فيه الحوادث، فعمد فولتير إلى تجسيد المعاني لتكون له بمثابة الأشخاص الأسطورية: «فالسياسة» و«التعصب» و«الرحمة»، وما إلى ذلك تكتب بأحرفٍ كبيرة وتعامل معاملة الأشخاص، لكن أمثال هذه المعاني المجسدة تعوزها الحياة التي تُكسِب القصيدة حرارةً، غير أن ملحمة «هنرياد» إلى جانب عيوبها تمتاز بحسن السياق التاريخي ووضوحه، والوصف في بعض مواضعها قويٌّ ناصع، مثل وصفه لمذبحة سنت بارثلوميو في الجزء الثاني، وحصار باريس في الجزء الرابع.
•••
•••
هكذا جاء «شينييه» حلقة تصل القديم والجديد، فشعره مزيج من هذا وذاك، ولكن ما زالت الصبغة الاتِّباعية أبرز طابع يميزه، فهو يوناني العاطفة والمزاج، ولعله استمد ذلك من أمه اليونانية، ثم أضاف إلى الطبع والسليقة تحصيلًا من الأدب اليوناني إذ أخذ يغذي فطرته بمددٍ من هومر وغيره من تراث اليونان، فتعاون الدم اليوناني الذي يجري في عروقه مع الاستعداد الفطري الذي مال به نحو الأدب اليوناني، ثم أضيف إلى هذين العاملَين دراسةٌ متصلة لما خلَّف اليونان، فأنتج هذا كله شاعرًا فيه العنصر اليوناني مليء بالحياة، ولم يكن كسائر معاصريه من أشباه الاتِّباعين يسلكون في أشعارهم الأصول القديمة جامدةً ميتة. ولا غرابة أن يُعدَّ «شينييه» بداية للعصر الابتداعي في الأدب لما تراه في شعره من صورٍ حيةٍ ناصعة، وأسلوبٍ واضحٍ مبين يبزر لك المعاني إبرازًا، حتى لتكاد تلمسها وتراها.
وهذا مثالٌ من شعره:
إلى فتاة تارَنْتُو
(٣) الأدب المسرحي
(٣-١) المأساة
تدهور الشعر في القرن الثامن عشر — كما رأيت — فتدهورت معه المأساة، وكان انحطاطها — في رأي ديدرو — نتيجة للقيود الثقيلة والتقاليد الباهظة التي فُرضت عليها، فأعجزتها عن النهوض والسير، فأصبحت المأساة شيئًا آليًا تُراعى فيه مجموعةٌ معينة من القواعد والقوانين، وتعالَجُ فيها الموضوعات القديمةُ بعينها، بأشخاصها ودوافعها ومواقفها، دون أن تعبأ بحقيقةٍ نفسية تصوِّرها، أو طبيعة تعكسها في مرآتها، فعلى كثرة مَنْ كتب المآسي في القرن الثامن عشر، لا تكاد تجد بينهم كاتبًا يستوقفك بابتكاره، ويسترعيك بجودته، بل لولا كاتبان فيه أجادا في كتابة المأساة بعض الجودة، لما ترددنا في الحكم على ذلك القرن بالنضوب التام في ذلك الفن من فنون الأدب، ونريد بهذين الكاتبَين: «كربيِّون» و«فولتير».
وعلى كل حال فلمأساته مكانةٌ هامة في تطور المأساة، فعلى الرغم من تمسك فولتير بقواعد المأساة الاتباعية كما وضعها أسلافه في القرن السابع عشر تمسكًا نظريًّا، فهو من الوجهة العملية قد خرج على تلك القواعد بعض الخروج متأثرًا بشيكسبير، لا سيما في توسيعه لنطاق المأساة، بحيث يشمل موضوعات لم تكن تقرُّها قواعد الاتباع من قبلُ، فقد كان يشترط أن تستمد المأساة موضوعها من أصولٍ يونانية ورومانية، وأن يكون للأشخاص أسماءٌ يونانية ولاتينية، فاتبع فولتير هذا العرف في بعض رواياته مثل «بروتس» و«موت قيصر» و«ميروب»، لكنه خرج عليه في رواياتٍ أخرى، فهو ينقلك في «تانكريد» إلى عالم الفروسية في العصور الوسطى، وفي «محمد» و«زائير» ينقلك إلى بلاد الشرق، وهكذا. بل إنه حتى في رواياته الاتباعية الخالصة تراه خارجًا بعض الخروج على أسلافه ممهدًا السبيل للحركة الابتداعية القادمة، فقد كان أسلافه في المأساة لا يلتفتون إلى تصوير الجو المحيط بهم في عصرهم، ويحاولون أن تظهر رواياتهم في جوٍّ يوناني أو روماني حسب الموضوع المختار. أما فولتير فقد عُني بما أهمله هؤلاء الأسلاف، مثال ذلك أنه أصرَّ على أن يظهر «بروتس» في ثيابٍ فرنسية تمثل الثياب السائدة في القرن الثامن عشر.
(٣-٢) الملهاة
وذكر «الملهاة الباكية» التي تمزج بين عنصرَي المأساة والملهاة معًا يؤدي بنا إلى الحديث عن «المأساة البورجوازية» أو «الدراما» كما أطلق عليها، وهي ضرب من المسرحية ظهر في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، فلعلك تذكر أن أصحاب المذهب الاتباعي لم يجيزوا قط أن تختلط ألوان الأدب بعضها ببعض، فلا يجوز لمأساة أن تقبل عنصرًا من عناصر الملهاة. والمأساة عندهم شرطها أن تكون أرستقراطية في موضوعها، فتعالج مصرعًا لعظيم، وتعرض أشخاصًا فوق المستوى المألوف من عباد الله، وأما الملهاة فشرطها عندهم أن تعالج مضحكاتٍ مأخوذة من حياة الطبقة الوسطى أو الطبقة الدنيا، وكان طبيعيًّا في عصرٍ أخذت روح الديمقراطية تظهر فيه وتزداد أن يثور الأدباء على هذه الأوضاع الأدبية التي تفرق بين الطبقات، وقد رأينا بداية هذه الثورة في «الملهاة الباكية»، حين حاولت أن تطمس الفوارق بين المأساة والملهاة، ثم أخذ رجال الأدب يتساءلون: فيمَ هذه التفرقة؟ لماذا لا تتخذ حياة الطبقة المتوسطة إلا موضوعًا للهو والفكاهة؟ لماذا لا تكون كوارث هذه الطبقة من الناس مصدرًا للأسى لا يقل في فجيعته عما تحدثه كوارث عظماء التاريخ القديم وأشخاص الأساطير؟ لا بد إذن من أن يُفْسح في مجال المأساة ليتسع «للمأساة الشعبية» إلى جانب «المأساة الحماسية» المألوفة، ولئن أعوز هذه المأساة الشعبية ما في زميلتها «الحماسية» من أبهةٍ وجلال، فسيعوض عن هذا النقص قربها من الحق الواقع وعمق أثرها في تقويم الأخلاق.
(٤) القصة
كثيرًا ما يتشابه مجرى الأمور في الأمم المختلفة، ففي إنجلترا في القرن الثامن عشر، أخرج الكاتب المسرحي «لِلُو» — الذي سلف ذكره في الكلمة الماضية — روايته «التاجر اللندني» محاولًا بها أن يضع أساسًا لنوعٍ جديدٍ من المأساة يُعالج شئون الطبقة الوسطى في حياتهم الخاصة، وأخرج الكاتب القصصي «رتشردسُنْ» قصة «باملا» يقصد بها إلى الغاية نفسها، فجاء المجهودان في وقتٍ واحد، يشدُّ أحدهما أزر أخيه، وكذلك حدث في فرنسا أن اتجهت جهود الأدباء نحو تحويل المسرحية والقصة في هذا الاتجاه الجديد في آنٍ معًا، فالمسرحية الجديدة والقصة الجديدة كلتاهما أريد بها أن تصور الحياة الجارية لسواد الناس، وكانت كلتاهما نتيجة لتطور الحركة الديمقراطية واتساعها.
(٤-١) لي ساج Le Sage (١٦٦٨–١٧٤٧م)
•••