الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر
(١) النثر
(١-١) جوناثان سوِفْت Jonathan Swift (١٦٦٧–١٧٤٥م)
لبث «سْوِفْت» في منصبه ذاك نحو عشرة أعوام، ملأها بالقراءة والدرس، فأكمل بهذا المجهود الشخصي نقص دراسته الجامعية، وكان إذ ذاك يكتب ويكتب، ثم يقذف في النار بما يكتبه، وحاول قرض الشعر ولم يوفق، وقد عرض إحدى منظوماته الشعرية على «دريدن» — وبينه وبينه صلة من الرحم — فقال له الناقد الكبير قولًا كان له في نفس الكاتب أعظم الأثر: «سوفْتُ يا ابن العم، إنك لن تكون شاعرًا.»
وكان في «مُورْ بارك» — حيث أقام السير تمبل ومعه سوفت — طفلة تنتمي بصلةٍ بعيدةٍ إلى أسرة الكاتب، هي «إِسْتَرْ جونْسُنْ»، تعهد سوفت بتعليمها وتثقيفها، فنشأت صلة من الود بين التلميذة وأستاذها، ثم تطور الود فأصبح حبًّا وغرامًا، كان أقوى في جانب الفتاة منه في جانب الأستاذ، وهذه هي الفتاة التي أطلق عليها الكاتب في أدبه اسم «سْتِلَّا»، ومات «السير تمبل» بعد حين، فعُني «سوفت» بنشر مؤلفاته — وكان تمبل سياسيًّا أديبًا له مكانته في عالم الأدب — وبعدئذٍ عاد «سوفت» إلى وطنه أيرلنده قسيسًا لحاكمها «لورد باركلي»، فسافرت في إثره «سْتِلَّا»، ومعها صديقة لها، واتصلت صلة الصداقة بين الكاتب وفتاته، فكانت له مصدر سعادة لولاها لأصبحت حياته معتمةً كئيبة.
كان جيش القدماء أقل عددًا من جيش المحدثين قلةً ظاهرة، وكان لهومر قيادة المدفعية الراكبة، ولبندار قيادة كتيبة الفرسان الخفيفة، وكان إقليدس رئيس المهندسين، وعُهد بقيادة رُماة القوس إلى أفلاطون وأرسطو، وبقيادة المشاة إلى هيرودت ولفي، وكان هبوقراط على رأس فرقة من الفرسان، واصطف في المؤخرة جنود الحلفاء يقودهم «فوسْيَسْ» و«تمبل».
ودلَّت الدلائل كلها على أن معركةً فاصلة وشيكة الوقوع، فطارت «الشهرة» — وقد كانت كثيرًا ما تطوف بالمكتبة الملكية، وكان لها فيها مكانٌ فسيح تأوي إليه — طارت في عجل إلى جوبتير، فقصَّتْ عليه كل ما حدث بين الحزبَين في العالم الأرضي، وكانت أمينةً فيما قَصَّتْ؛ لأنها لا تقول إلا الصدق وهي بين الآلهة، فأبدى جوف اهتمامًا عظيمًا بالأمر، وجمع من فوره مجلسًا في مجرَّة السماء، ولما اجتمع شيوخ السماء أنبأهم كبير الآلهة النبأ، قائلًا إن معركةً دامية وشيكة الوقوع بين جيشَين قويَّين من القدماء والمحدثين، وما تلك الكائنات القديمة والمحدثة إلا كتبٌ يهتم بأمرها آلهة السماء اهتمامًا شديدًا، وربما أسرفت الآلهة في اهتمامها ذاك …
ولما رأى «أرسططاليسُ» (بيكُنْ) يتقدم نحوه مقطب الجبين من غضب، رفع قوسه إلى رأسه وأرسل رمحه يشق الهواء، لكن الرمح أخطأ «المُحْدَثَ» المِقْدَام، ومضى فوق رأسه يئزُّ أزيزًا، حتى صادف ديكارت فأصماه …
كان «سوفت» أول الأمر مؤيدًا لحزب الأحرار، ثم ساءته سياستهم، فانضم إلى حزب المحافظين، وسرعان ما أصبحت له مكانةٌ سياسية ممتازة، بل لسنا نسرف إن زعمنا أنه أصبح في عالم السياسة — كما كان في عالم الأدب — قطب الرحى، وكان من الأدباء الأصدقاء الذين تجمعوا حوله «بوب» و«أَدِسُنْ» و«سْتِيل» ونوشك أن نقول في غير تحفظٍ إن الأدب الإنجليزي لم يشهد رجلًا بلغ من السلطان وقوة المركز ما بلغه «سوفت» إذ ذاك، وأخذ يخرج رسالة في إثر رسالة يهاجم بها «الأحرار» أصدقاء الأمس، والعجيب أنه رغم جبروته لم يستفد شيئًا مما يأمله، فقد كان يطمح أن يكون أسقفًا لكنيسة في إنجلترا، ولكن أولي الأمر أبوا أن يعهدوا بمثل هذا المنصب الديني إلى رجل طعن الكنيسة طعناتٍ دامية في قصة «الدَّلْو»، وأخيرًا نُصِّبَ نائبًا لأسقفٍ في كنيسة «سنت باترك» في دبلن، ولم يكن «سوفت» مقتنعًا بهذا المنصب، ولم يُرْضه أن يستقر به المقام في دبلن بعيدًا عن النشاط السياسي في إنجلترا، وما هي إلا فترةٌ قصيرة مضت، حتى سقط المحافظون وفقد سوفت بسقوطهم كل رجاء. وظل مقيمًا في دبلن وكأنه منها في مطارح النفي.
ولم يَرُقْ للدكتور جونْسُنْ أن يجعل في هذا قدرةً ونبوغًا، قائلًا: «يكفيك أن تفكر في ناسٍ ضخام وناسٍ ضئال، ثم يسهل عليك بعد ذلك بقية القصة.» ولكن يظهر أن سهولة الأمر قد أوحى بها الاطراد العجيب الذي استطاع سوفت أن يحافظ عليه من بدء القصة إلى ختامها، فظن الناقد أن تصغير الأشياء والأحياء أمرٌ طبيعي في مقدور كل إنسان، وقد يقول قائل: إن القصة أكذوبةٌ واحدة، ومن اليسير أن يكذب الإنسان، ولكن فكِّر قليلًا تجد الأكذوبة المتَّسقة المطردة التي لا تتناقض أجزاؤها ليست من السهولة، بحيث ظننت للوهلة الأولى.
ولكن ماذا يريد «سوفت» بهذه الرحلات العجيبة؟ يريد أن يهاجم الإنسانية عامة في غرائزها وحماقاتها، وأن يسخر من رجال عصره خاصة في خصوماتهم وسفاسفهم، فإذا قال لك مثلًا إن قومَين من الأقزام اقتتلا، واستعان فريق منهما بجلفر؛ لأنه كان يخشى سطوة أسطول الأعداء، فيذهب جلفر إلى ذلك الأسطول المخيف، فيحطمه بإحدى يديه. ضحكتَ من زهو هؤلاء الذين اعتدوا بسطوة أسطولهم. والخطوة التالية أن تضحك من زهو الإنسان بقدرته وإنه لضعيف، بل إذا قال لك إن جيشَين من هؤلاء الأقزام تلاقيا في حومة الوغي، وأنت تعلم أن الجنديَّ منهم لا يزيد على طول إصبعك، ضحكتَ ملء شدقَيك عجبًا من خصومةٍ تشتد بين تلك المخلوقات الضئيلة، حتى تؤدي بهم إلى القتال، والخطوة التالية لذلك أن تضحك ملء شدقَيك أيضًا عجبًا من بني الإنسان يختصمون ويقتتلون، وإنهم كذلك لتوافه ضئال، وإن روى لك الكاتب عن أرض الأقزام أن حزبَين هنالك أحدهما يلبس أعضاؤه أحذيةً عالية الأعقاب، والآخر يلبس أعضاؤه نعالًا وطيئة الأعقاب، وأن هذين الحزبَين يختلفان في تلك البلاد على ولاية الحكم، وأن الإمبراطور قرر ألا يعهد بأزمَّة بلاده إلا لذوي النعال الوطيئة، وأن ابن الإِمبراطور كان مترددًا بين الحزبَين أيهما أقوم سبيلًا فلبس نعلًا عاليًا ونعلًا وطيئًا، فاعلم أن الكاتب يرمز بذلك إلى حزب «الكنيسة العالية» وحزب «الكنيسة الواطئة» — فهكذا كانا يسمَّيان في إنجلترا في القرن الثامن عشر — أي إلى المحافظين والأحرار، وهو يرمز بإمبراطور الأقزام إلى الملك جورج الأول، وقد كان يميل بهواه مع الأحرار، وابن الإمبراطور يمثل أمير ويلز الذي أبدى بعض الميل نحو المحافظين، وإن رأيت الكاتب يروي لك عن الأقزام أنهم اختلفوا من أين تُكسر البيضة؟ أتكسر من طرفها العريض أم من طرفها الدقيق؟ وأن هذا الاختلاف أدى بينهم إلى خصومةٍ وشحناء، فاعلم أنه يشير بذلك إلى الاختلافات الدينية التافهة التي يثيرها رجال الدين بتعصبهم، ولو نُظِرَ إلى تلك الخلافات من أعلى لوُجد أنها لا تزيد في جدها عن مشكلة البيضة من أين تكسر، وهكذا، وهكذا … فلو قرأت «رحلات جلفر» تحت هذا الضوء لرأيت أنه أعظم كتاب في الهجاء الساخر بالإنسان عامة وبرجال عصره خاصة.
والآن نعرض عليك فكرةً موجزة عن أجزاء الكتاب:
لستُ أرى مما تقول … أن رجالكم يُكرَّمون بما لهم من فضيلة، أو أن القساوسة يرتقون بما لهم من علمٍ وتقوى، أو أن الجنود يُرَقَّوْن بما لهم من خلقٍ وإقدام، والقضاة بما لهم من سلوكٍ قويم، والنواب بما يبدونه من حبٍّ لبلادهم، والمشيرين بما يتحلون به من حكمة … فلا يسعني إلا أن أحكُم بأن الشطر الأعظم من مواطنيك أسوأ فصيلة من الدود الصغير الكريه مما يزحف على سطح الأرض من ديدان.
«أَدِسُنْ» و«سْتِيلْ».
لا بد أن نقرن هذين الكاتبَين أحدهما بالآخر، وأن نضعهما جنبًا إلى جنب في كلمةٍ واحدة، فقد اتصلت حياتهما الأدبية وتعاونا على نحو ما تعاون «بُومُنْتْ» و«فِلتْشَرْ» في القرن السابع عشر، فأصبح عسيرًا أن تذكر زميلًا بغير زميله.
(١-٢) جوزيف أدسن Joseph Addison (١٦٧٢–١٧١٩م)
هو من أئمة النثر في الأدب الإنجليزي، تخرج في جامعة أكسفورد وأتقن دراسة اللاتينية إتقانًا مكَّنه أن يقرض فيها الشعر، وأن يصادف هذا الشعر إعجابًا عند «بوالو» — الناقد الفرنسي الذي عرفته في الفصول السابقة — حين عرضه عليه «أَدِسُنْ» أثناء إقامته في فرنسا، وكان «أَدِسُنْ» حييًّا خجولًا يتعثر في القول إن كان بين جماعة، ومن هنا أحجم عن النقاش وهو عضو في البرلمان، ويميل بطبعه إلى التفكير الهادئ المتأمل، وقد كان يهيئ الكاتب نفسه لينخرط في سلك الكنيسة، لكن مواهبه الأدبية استوقفت أنظار «لورد هاليفاكس» الذي كان زعيمًا لحزب الأحرار، وراعيًا للأدب والأدباء، فمنحه راتبًا يمكنه من الرحلة في أوروبا، وإنما قَصَدَ الزعيم بذلك أن ينشِّئ شابًّا أديبًا تنشئةً قد تعود على حزبه بالنفع إذا ما عاد الأديب، واكتمل نضجه، وأخذ يدافع عن الحزب بقلمه، وانتهز «أَدِسُنْ» هذه الفرصة السانحة، وطاف بفرنسا وسويسرا وإيطاليا وألمانيا يجمع التجارب، ويزيد من معارفه، حتى أُثقلت حديقة فكره بالثمار، فراح يقطفها وينثرها في أدبه بعد عودته إلى بلاده.
ففي هذه الأبيات — كما ترى — وصفٌ جميل لرباطة الجأش وضبط الأعصاب وسط زعازع الحرب ورياحها الهوج، وهي الصفة التي كسب بها «مولبرا» موقعة «بلنهايم». وعلى كل حال أُعجب الوزراء الأحرار بالقصيدة، وكوفئ شاعرها «أَدِسُنْ» بمنصب يدر مائتي جنيه كل عام، ثم أخذ طالعه في سعود ما دام الأحرار في مناصب الحكم، حتى تربع في دست الوزارة وزيرًا.
(١-٣) رتشرد ستيل Richard Steele (١٦٧٢–١٧٢٩م)
ولد في دبلن، لكنه لم يُقم في أيرلنده طويلًا؛ إذ مات أبوه وهو في سن الخامسة، فانتقل إلى إنجلترا، ودخل مدرسةً زامل فيها «أَدِسُنْ» زمالةً دامت طول الحياة، وتمم «سْتِيلْ» دراسته الجامعية في إكسفورد، وكانت إنجلترا عندئذٍ تخوض في الحرب إلى ركبتَيها، فانخرط الأديب في سلك المحاربين، وظل في الجيش عشرين عامًا.
•••
صدرت مجلة «تاتْلَرْ» وقد وضَّح محررها «ستيل» في عددها الأول غايته من إصدارها: «الغاية من هذه الصحيفة أن تعرِّض بفنون الحياة الزائفة، وأن تمزق أقنعة الدهاء، والغرور، والتكلف، وأن تشيد بالبساطة العامة في ثيابنا ونقاشنا وسلوكنا.» وكانت «تاتْلَرْ» تصدر ثلاث مرات كل أسبوع، ولم تكد تظهر، حتى صادفت نجاحًا عظيمًا، وظهورها يحدد بدايةً واضحة للصحافة الحديثة.
ولما صدرت مجلة «تاتلر» كان «أَدِسُن» في أيرلنده، ولكنه ما عتَّم أن واصلها بمدده، ولبثت المجلة قائمة مدة عام وتسعة أشهر أقفلت بعدها لظروفٍ سياسية، غير أن «ستيل» سرعان ما أعلن عزمه على إصدار صحيفةٍ يومية.
•••
•••
وهنا تزوج «أدسن» من نبيلةٍ ثرية وعُيِّن وزيرًا، وسارت حياته سيرًا هادئًا مطَّردًا لولا أن نشبت معركة أدبية بينه وبين صديقه القديم «بوب» مصدرها ما تأجَّج به صدر «بوب» من حسدٍ وغيرة، وسنذكر طرفًا من هذه الخصومة الأدبية الطريفة حين نتناول «بوب» بالعرض في الجزء الثاني من هذا الفصل.
(١-٤) دانيال دفو Daniel Defoe (١٦٦١–١٧٣١م)
هو البادئ الحقيقي للقصة في الأدب الإنجليزي، ولد في لندن لأبٍ قصاب، وقد أراد له أبوه أن يكون واعظًا دينيًّا، لكن الفتى لم يطع أباه فيما أراد، وبدأ حياته صانعًا يصنع الجوارب، ثم عاش بعد ذلك حياة شهدت من صنوف العيش ألوانًا، فهو تارة في رغدٍ، وطورًا في ضنك وضيق، ثم مات مفلسًا لا يملك من حطام الدنيا شيئًا.
وأهمية هذه القصة في تاريخ الأدب أنها بدأت ضربًا من القصص الواقعي، يتعمَّد فيه الكاتب أن يوهم قرَّاءه بأن ما يطالعونه حقيقة لا خيال. يقول «تشارلز لام» في «روبنسن كروزو»: «إنه يستحيل عليك أن تشك وأنت تقرؤها في أن شخصًا حقيقيًّا يقص عليك ما حدث له في حياته الواقعة.»
(١-٥) صموئيل رتشردسن Somuel Richardson (١٦٨٩–١٧٦١م)
لسنا نعرف من طفولة الكاتب إلا قليلا، فهو يحدثنا عن نفسه أنه في سن الحادية عشرة أخذ على نفسه أن يكتب خطابًا يستشهد فيه بكثيرٍ من آيات الكتاب المقدس إلى سيدة في الخمسين من عمرها عرفت بالنميمة ليعظها ويهديها سواء السبيل، وأنه في سن الثالثة عشرة كان يكتب خطابات غرامية لكثيرٍ من الفتيات اللائي عرفن فيه القدرة على الإنشاء، وأنه في سن السابعة عشرة التحق «صبيًّا» بمطبعة يمارس فيها فن الطباعة، وفي سن الثلاثين أدار بنفسه عملًا يرتزق منه، وبعد عامَين تزوج من ابنه «معلِّمه» الذي دربه على الطباعة، ولم يبدأ كتابة قصته «بامِلَا» إلا وهو في الخمسين من عمره. وباملا فتاةٌ ريفيةٌ عفيفةٌ ساذجة، حاول سيدها المستهتر العربيد أن يغريها بالفجور، لكنها قاومت إغراءه بكل ماله من شباب ومال، وأخيرًا «لقيت الفضيلة جزاءها» — كما يشير عنوان القصة — بأن اضطر السيِّد المتعقِّب إلى الزواج من الفتاة التي يشتهيها. ويعلِّق المتزمتون في الأخلاق على هذه الخاتمة بقولهم إن زواج الفتاة الطاهرة ممن أراد بها الغواية ليس فضيلة من الطراز الممتاز، إنما هي فضيلة «تجارية» تقاوم الرذيلة حتى تستفيد منها، ثم تذعن لها وتستسلم، فحقيق بنا أن نقول إن «رتشردسن» في محاولته تقويم الأخلاق كان رجلًا عمليًّا لا يحلِّق في سماء الخيال والتجريد، ومهما يكن من شيء، فقد كانت قصة «باملا» بدايةً قوية للكاتب، بل بدايةً قوية للقصة في الأدب الإنجليزي، وهي تجري في سلسلة من الرسائل التي يستشفُّ القارئ من ثناياها طبيعة المرأة على حقيقتها، وهذه الناحية هي أظهر ما امتاز به الكاتب في فنِّه القصص.
(١-٦) هنري فيلدنج Henry Fielding (١٧٠٧–١٧٥٤م)
نشأ في كلية «إيتُنْ» التي تنشِّئ أبناء الخاصة، وجاء إلى لندن يعتمد في عيشه على رزقٍ مضطربٍ تدره عليه مسرحياته، إذ ماتت أمه وتزوج أبوه من غيرها، فكان لا يأتيه المدد إلا لمامًا متقطعًا، ولما بلغ الثالثة والثلاثين التحق بسلك القضاء، وإنما يخلده الأدب بقصصه الروائع.
وكل ما أراد الكاتب أن يؤكده هو أن طيبة القلب خير شفيع لما يزل فيه الإنسان من أخطاء، وأن من يحب إخوانه من بني الإنسان جدير أن تغفر له رذيلته، فها هو ذا «توم جونز» يحمل قلبًا طيبًا، لكن فضيلته ليست من القوة، بحيث تستعصي على الإغراء فيزلُّ في الرذيلة آنًا بعد آن، فنحبُّه ونعطف عليه ونغفر له ذنوبه.
ويقول فيلدنج في مقدمة «توم جونز»: إنه يتأثر خطو أصحاب الملاحم الكبرى هومر وفرجيل، كما يقتص أثر القصصيُّ الإسباني سيرفانتيز في قصته، «دون كيشوت» ويصرح بأن غايته من القصة أن يعكس الدنيا الحقيقية كما تجري في عالم الواقع، وأن يحصر نفسه في حدود الممكن المحتمل، قائلًا إن القصصي لا ينبغي أن يكتب إلا فيما يعلمه حق العلم من صور الحياة.
(١-٧) توبياس سمولت Tobias Smollett (١٧٢١–١٧٧١م)
في قصة «رودريك رَانْدَمْ» يقصُّ الكاتب سيرة حياته إلى حدٍّ كبير، فهو لا يبتكر أحداثها إنما يستذكر ويستعيد، ثم يسجل، ويشيع في القصة روح الفكاهة التي يخرج بها أحيانًا عن حد التهذيب، فيجعل كثيرًا من نكاته فاحشًا غليظًا، وقد كان «سمولت»، في هذه القصة تلميذًا للقصصي الفرنسي «لي ساج»، فقصته — كقصة «جِيل بلَا» — سلسلة من المغامرات يتلو بعضها بعضًا في غير اتصالٍ وثيق بين السابقة واللاحقة.
ومما يجدر ذكره عن «سمولت» أنه كان ذا أثرٍ قوي في قصصيٍّ إنجليزيٍّ عظيم في القرن التاسع عشر، هو «دكنز» الذي قرأ «سمولت» طفلًا، فتعلَّم منه فن القصة، وكلا الكاتبَين يتشابهان في الفكاهة الصارخة، وفي التصوير «الكاريكاتوري» لأشخاصهم، فتراهما يُبرزان فيمن يصورانه جانبًا، ثم يبالغان في تصويره، وكلاهما يحدد نفسه بالواقع فيما يصف فلا يشطح بخياله في أوهام، على أن «سمولت» امتاز عن كتَّاب عصره بقدرته العظيمة على وصف دخائل بعض الطبقات، كوصفه لحياة البحارة في أدق تفصيلاتها.
(١-٨) لورنس ستيرن Laurance Sterne (١٧١٣–١٧٦٨م)
أزعجني وأنا مستغرق في تأملي صوتٌ ظننته لطفل، يقول شاكيًا، إنه لا يستطيع الخروج، فصعَّدت بصري وصوَّبتُه على طول الممشى، ولما لم أجد رجلًا ولا امرأةً ولا طفلًا خرجت أنظر الأمر.
ولما عدتُ مارًّا بالممشى سمعتُ الألفاظ بعينها تتردد مرتَين، فنظرت إلى أعلى، ورأيت أنه زرزور معلق في قفص صغير، فقال الزرزور: «لا أستطيع الخروج! لا أستطيع الخروج!»
وقفت أنظر إلى الطائر، وكلما جاء إلى الممشى قادمٌ، طار يرفُّ إلى الناحية التي يدنو منها القادم الجديد، وفي كل مرة يرثي لأَسرِه بالعبارة نفسها «لا أستطيع الخروج!» فقلت: «كان الله في عونك، لكني سأطلق سراحك، وليكن بعد ذلك ما يكون!» فأخذت أدور حول القفص ألتمس بابه، لكني وجدته ملفوفًا بالسِّلْك في طيَّاتٍ مزدوجة، بحيث يستحيل فتحه بغير تحطيم القفص، فهممت أن أفعل بكلتا يديَّ.
وطار الطائر إلى حيث كنت أحاول خلاصه، ودفع رأسه خلال القضبان وضغط بصدره عليها كأنما أخذه القلق، فقلت: «لَكَمْ أخشى أيها الطائر المسكين ألا أستطيع لك فكاكًا!» فأجاب الزرزور: «كلا، لا أستطيع الخروج، لا أستطيع الخروج!»
وأُقْسِمُ أن مشاعري تحركت عندئذٍ بعطفٍ ما أحسستُ له مثيلًا قبل ذلك، ولست أذكر في حياتي كلها حادثة أثارت في نفسي فجأة ثورةً جامحة — وقفت قواي العقلية إلى جانبها فقاعةً واهية — بمثل ما أثارت تلك الحادثة، نعم كانت نبرات الطائر في شكاته آلية، لكنها جاءت مطابقة في أنغامها لأنغام الطبيعة؛ حتى لقد ارتدَّت قواي العقلية المنطقية في لحظةٍ إلى الباستيل، وصعدتُ السُّلَّم بخطواتٍ ثقيلة، منكرًا على نفسي كل لفظة نطقتُ بها إذ كنت أهبطه قلت: «تنكَّرْ بما شئتَ من قناع أيها الرِّق، فما زلتَ جرعةً مريرة، ورغم ما شهدتْه العصورُ كلها من ألوفٍ أُرْغمت على اجتراعك، فلم تقلَّ بذلك عما كنتَ مرارةً.» ثم توجهتُ بالخطاب إلى (الحرية) قائلًا: «إن الناس لا يعبدون إلاكِ في السرِّ والعلن، أيتها الإلهة الرحيمة المحببة إلى النفوس، إن مذاقك حلو، وسيظل كذلك إلى أبد الآبدين، حتى تتبدل الطبيعة غير الطبيعة، إن ثوبك الأبيض الناصع لن تلوثه شوائب الألفاظ، كلا ولن تستطيع قوة أن تردَّ صولجانك إلى قضيبٍ من حديد، إنك إذا افترَّ ثغرك بابتسامة على القرويِّ الساذج وهو يأكل خبزه القديد جَعَلْتِهِ أسعد من ملك أنتِ عن قصره مُبْعَدَة …»
وبعدُ، فقد استطاع «ستيرن» بكتابَيه — و«تَرِسْتِرَامْ شندي» على وجهٍ أخص — أن يحرك أجيالًا متعاقبة إلى الضحك والبكاء في آنٍ معًا، وقلما تجد في الأدب الإنجليزي أديبًا آخر كان في مقدوره أن ينال بمثل إنتاجه القليل ما ناله من أثرٍ عميق، فمهما قَلَّتْ مادَّته رأيت في مستطاعه أن ينسج من خيوطها نسيجًا فاتنًا جذابًا حلو الفكاهة، وإن كان لنا أن نقسم الأدباء صنفين، صنف كدودة القز تغزل غزلها؛ لأنها مليئة، وصنف كالعنكبوت يغزل غزله لأنه خاوٍ، كان أديبنا «ستيرن» بغير شك من دود القز الذي يُفْرغ في غَزْله مادةً أُتْرع بها جوفُه، ومهما جاءت خيوطه دقيقةً رفيعة، رأيتها قويةً محبوكة، وهو — في رأي كارليِلْ — ضريبٌ لسيرفانتيز في طلاوة الفكاهة التي استحق بها أن يحتل مكانه في طليعة الأدباء.
(١-٩) أولفر جولدسمث Oliver Goldsmith (١٧٢٨–١٧٧٤م)
ستقرأ عن هذا الأديب العظيم في ثلاثة مواضع من هذا الكتاب، ستقرأ عنه هنا ناثرًا، وفي مكانَين آخرَين مسرحيًّا وشاعرًا.
ولِدَ لقسيسٍ فقير، ولما كان في سنته الثامنة أصابه جدريٌّ ترك وصماته الشائهة على وجهه طول الحياة، وأرسل حين بدأ عهد الطلب إلى مدرسة تديرها سيدة، فقالت عنه: «لم أصادف قط طفلًا في غباء هذا الطفل!» ثم عُهِدَ به بعدئذٍ إلى معلم كان قبلُ جنديًّا في جيش «مولْبرا»، وكان هذا المعلم الجنديُّ زاخر الذاكرة بالقصص عن البر والبحر وعن مغامراته ومغامرات سواه، كما كان يحفظ كثيرًا من الأغاني الشعبية الإيرلندية القديمة والقصص الخرافية، ولعل هذا المعلِّم أن يكون أول من وجَّه أديبنا في سن الصبا إلى كتابة القصة. وأخذ ينتقل الفتى في المدارس الريفية، حتى أكمل ثلاثة عشر عامًا من سنِّه، فالتحق بكلية في دَبْلِنْ يتعلم فيها بالمجان لقاء خدماتٍ يؤديها، وكان «جولد سمث» في الكلية متراخيًا لا يحافظ على موعد أو نظام، تؤرقه حاجته إلى المال، فكان يكتب الأغاني ويبيعها، وحدث أن أشرف عليه في الكلية مربٍّ غليظ القلب طاغية، فلقي منه صاحبنا عنتًا، من ذلك أن زاره بعض أصدقائه يومًا، فدخل عليهم المربِّي محتدم العواطف ثائر النفس، وصفع جولد سمث وركله فأوقعه أمام رفاقه، فما طلع الصباح حتى باع الطالب كتبه وغادر الكلية ليضرب في فجاج الأرض هائمًا على وجهه، فصادفه أخوه وكساه بكساءٍ جديد، وأعاده إلى كليته، حيث أقام حتى ظفر بدرجته العلمية وهو في عامه الحادي والعشرين.
وما فرغ من الكلية حتى أرسل له عمه مبلغًا من المال يمكِّنه من دراسة القانون في «دبلن»، لكن أديبنا أضاع المال على مائدة القمار، وسافر إلى أدنبره حيث شرع يدرس الطب، ولبث عامًا ونصف عام، ثم حفزه حافز أن يرحل عن أرض الوطن، فيمم شطر بوردو في سفينة تحمل طائفة من الجنود الخوارج على القانون، فسيق راكبوها جميعًا إلى السجن، وظل جولد سمث في ظلماته أربعة عشر يومًا، ثم عاد فصمم على الإبحار مرةً أخرى، وكانت غايته هذه المرة مدينة «روتردام»، ومنها واصل الرحلة إلى «ليدن» حيث التحق بجامعتها عامًا يواظب مرة وينقطع أخرى.
وعندئذٍ بدأ جولد سمث «الرحلة الكبرى» سائرًا على قدمَيه، لا يملك من حطام الدنيا إلا جنيهًا واحدًا ومزمارًا، فكان وهو يجول في فرنسا يزمر للزارعين في رقصهم لقاء نومه وطعامه، وطوف بعد فرنسا في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا. ويقال إنه وهو في بادوا ظفر بإجازة الطب، ولكن كيف السبيل إلى الرزق في إيطاليا، فلئن استطاع مزماره في فرنسا أن يكسب له قوتًا ومخدعًا، فماذا هو صانع بمزماره في بلاد كل زارع في حقولها يفضله في العزف والموسيقى؟
أسرع إلى العودة إلى إنجلترا مفلسًا مهلهل الثياب بشع المنظر، فتعذر عليه أن يجد عملًا يقتات منه، ثم بدأ ينتقل من عملٍ إلى عمل كيفما اتفق له، فهو اليوم معين لصيدلي، وهو غدًا طبيب يعالج المرضى، وهو تارة يصلح التجارب في مطبعة (هو الذي أصلح تجارب قصص رتشردسن)، وهو طورًا حاجب في مدرسة، وأخيرًا عيِّن محررًا لمجلةٍ شهرية.
طارت هذه المقالات بشهرة جولد سمث، فتسابق عليه الناشرون، وأجزلوا له العطاء، فتدفَّق المال غزيرًا في جيوبه، لكنه ظل على فقره. وماذا يصنع المال الغزير أمام هذا الإسراف الشديد؟ فلباسٌ فاخر، وميسر، وإحسان في تبذير! واتصل جولد سمث بأعلام الأدب، فهو صديقٌ حميم لإمام العصر «الدكتور جونْسُنْ» وهو مُجالسٌ لمعشر الأدباء في «الندوة الأدبية» المشهورة في تاريخ الأدب، والتي سيرد ذكرها عند الكلام على «جونْسُنْ».
أما قصة «راعي ويكفيلد» فهي — كما يقول ناقد — شبيهة بِسِفْر أيوب، تتناول رجلًا طيب القلب، وتمتحنه بالكوارث المتلاحقة، فتظل شعلة نفسه صافية النور وسط ما يحيط به من ظلام، وفي آخر الأمر تجزيه عما صبر، فتردَّه إلى السعادة التي سُلِبها، وليست تُمْدح القصة لفنها القصصيُّ، فهي هنا ناقصةٌ معيبة، وهي كثيرًا ما تجاوز حدود المعقول الممكن في عالم الواقع، وتجعل في مجرى الحوادث دخلًا للمصادفة أكبر مما نشاهده في الحياة. ويظهر أن «جولد سمث» حين بدأ كتابة هذه القصة لم يكن في ذهنه حَبْكة الحوادث في إطارها، ولكنا لا نقرأ هذا الكتاب لحبكته، وإنما نقرؤه ويقرؤه العالم كله لهذه الشخصيات الإنسانية التي أجاد الكاتب تصويرها. إن هذا الكتاب وحده لدليل على تشابه النفوس الإنسانية أينما كان الإنسان، وإلا فكيف تهتز قلوب القراء من كل أرض وفي كل زمن لهذه القصة التي تصف أسرةً إنجليزية تعيش حياةً هادئة في بيتٍ ريفيٍ متواضع؟
(١-١٠) صموئيل جونسن Somuel Johnson (١٧٠٩–١٧٨٤م)
ولد في لتشفيلد، وأبوه «ميخائيل جونسُن» كان يبيع الكتب في ذلك البلد، وقد عُرِفَ بسعة علمه وسلامة رأيه، بعث بابنه إلى مدارس لتشفيلد، ولبث بها الفتى حتى بلغ السادسة عشرة، وعندئذٍ أقام في الدار عامَين وضع فيهما أساس علمه وثقافته؛ إذ انصرف إلى الكتب التي في مكتبة أبيه، وهي كثيرةٌ منوعة، ووجَّه عنايته بصفةٍ خاصةٍ إلى المؤلفات اللاتينية، وبذلك اكتسب علمًا واسعًا بالأدب اللاتيني. وبعد ذلك التحق بجامعة أكسفورد، التي لقي بها ما جرح عزته وكبرياءه، فقد كان فقيرًا يلبس الثياب البالية أحيانًا، وكثيرًا ما يلمح على وجوه أصحابه نظرات الإشفاق تارة والازدراء طورًا، وأخذت الرحمةُ قلب صديقٍ فوضع أمام غرفة صديقه «جونْسُن» — في الخفاء — حذاءً ليستبدله الطالبُ المسكينُ بحذائه الممزق العتيق، فما أبصر به «جونْسُن» حتى طوح به من النافذة، وترك أكسفورد بغير درجةٍ علمية.
ذاع صوته وعرفه الناشرون، فعرض عليه بعضهم أن يكتب «قاموسًا» للغة الإنجليزية في مجلدَين، وكان الأجر المعروض ألفًا وخمسمائة جنيه، لكن معظم هذا الأجر تسرَّبَ إلى من عاونوه، ولم يكسب من هذا العمل المضني إلا قليلًا، وظهر «القاموس» فجاء دليلًا على دقةٍ لغويةٍ ممتازة وسعة اطلاع على الآداب بَدَتْ فيما كان يسوقه من الشواهد.
كان «صموئيل جونسن» قد بلغ في عالم الأدب عندئذٍ مكانة الإمام الذي يقول الكلمة، فإذا هي القول الفصْل، وهي نفس المكانة التي احتلها سميُّه «بن جونسن» في القرن السابع عشر. وتكوَّنت في لندن ندوةٌ أدبية يجتمع فيها قادة الأدب، وكان «جونسن» في تلك الندوة رئيسًا، وسائر الأدباء إلى جانبه أتباعٌ ومريدون، وبين أعضاء تلك الندوة «أولفر جولد سمث» الأديب المطبوع صاحب «راعي ويكفيلد»، و«إدمنْد بِيرْك» أعظم السادسة في عصره و«جِبُن» المؤرخ العظيم وغيرهم كثيرون. في تلك الندوة نتج الشطر الأعظم من الحديث الأدبي الذي ورثناه عن «جونسن»، فقد كان جونسن — كما ذكرنا — محدِّثًا بارعًا يتحدر الأدب من بين شفتَيه إذا ما تحدث، فسجَّل صديقه «بُوزْويل» أحاديثه تلك في السيرة التي كتبها عنه، ولعلها أعظم ما شهدت الآداب من أدب السِّيَرْ.
في المعرفة المكتسبة لا بد لنا أن نعترف بالتفوق لدريدن، الذي جاء تعلُّمه أكثر انطباقًا على النظم المدرسية، والذي أتيح له — قبل أن يأخذ في التأليف — زمنٌ أطول للدرس، ومواردُ أفضل لنيل المعرفة، وعقله أوسع أفقًا، وهو يجمع صوره الذهنية من نطاقٍ علمي أوسع محيطًا. وكان «دريدن» أكثر معرفة بالإنسان في سلوكه الخاص، والأفكار عند «دريدن» تتكون بعد تأملٍ شامل، وهي تتكون عند «بوب» من توجيه الانتباه إلى الأجزاء، والمعرفة عند «دريدن» أكثر اتزانًا وهي عند بوب أكثر دقةً.
لم يكن الشعر هو الحسنة الوحيدة فيهما، فكلاهما ضرَبَ في النثر كذلك بسهم موفور، غير أن «بوب» لم يستمد نثره من سلفه، فالأسلوب عند «دريدن» متقلِّب متنوِّع، والأسلوب عند بوب متأنقٌ مطرد، فدريدن يستمع إلى خلجات عقله، أما بوب فيقْسر عقله على التزام قواعده في الإنشاء، ودريدن في بعض الأحيان قويٌّ متدفِّع، أما بوب فلا ينفك سلسًا مطردًا رقيقًا، والصفحة عند دريدن كالحقل الطبيعي، فيها تفاوت، وتتنوع باختلاف الخصوبة حيث يكثر النبات، أما الصفحة عند «بوب» فرقعةٌ من المخمَّل شذَّ بها المنجلُ وسوَّاها المقراض.
•••
عُرف جونسن بالتفخيم في أسلوبه، فهو يُؤْثر الأَلفاظ القوية الطويلة، حتى ليوصف باسمه كلُّ أسلوب يجري على هذا النسق. والحقيقة أن أسلوبه يختلف باختلاف الموضوع الذي يكتب فيه، فهو أحيانًا يستخدم الألفاظ القصيرة إن اقتضتها طبيعة الموضوع، وهو أجود ما يكون أسلوبًا حين يكتب كما يتحدث، غير أنه في حديثه كان يتوخى العبارة القوية، وفي ذلك يقول لأحد أصدقائه من روَّاد الندوة الأدبية: «لقد اتخذتها قاعدة منذ بعيد أن أبذل قصاراي في كل مناسبة وبين أية صحبة من المجالسين في أن أعبر عما أعلمه كائنًا ما كان في أقوى عبارة أستطيع أن أعبر بها عن المعنى الذي أريد، حتى أصبح ذلك عادة بالمران المتصل، وبالحرص الشديد على ألَّا تلفت مني عبارةٌ واحدة أهمل تركيبها، وألا أُخرج أفكاري قبل ترتيبها ترتيبًا يؤدي إلى توضيح المعنى إلى أقصى حدٍّ مستطاع.» وكتابه «راسلاس» مثال للأسلوب المتكلف الفخم. أما «تراجم الشعراء» ففيه القوة مع السلاسة، وفيه التنوع الخصيب في الأسلوب، وفيه مرونة الجرس وبراعة الفطنة وروعة الخيال، غير أن «جونس» يميل إلى موازنة العبارة صدرها مع العجز، وإلى المقابلة التي كثيرًا ما تكون آلية لا تصدر عن طبع، كما يميل إلى الجملة الثقيلة في لفظها المثقلة بمعناها، فهو مثلًا يُجْرى على لسان فتاة في سن السادسة عشرة، تتحدث عن عمتها، هذه العبارة: «لم تكن عواطفها سامقة التسامي ولا نظراتها رحيبة الأفق، لكنها خيرة المبادئ خالصة النوايا، فلئن جاز أن يكون بعض الناس أكثر منها فضيلةً، فقَلَّ أن تجد مَنْ يقلَّ عنها إثمًا.» وهو كذلك يميل أحيانًا إلى استخدام الألفاظ التي تدل على العلم والثقافة، ولو لم يقتضِ الموقف مثل هذه الألفاظ، وفي ذلك يقول ماكولي: «إن كل كتبه مكتوبة بلغةٍ علمية (المقصود باللغة العلمية هنا اللغة التي تنمُّ عن ثقافةٍ عالية) لغة لا يسمعها أحد من أمه أو مرضعته، لغة لا يَشْتَجر بها الناس ولا يعقدون بها الصفقات ولا يغازلون بها، لغة لا يفكر بها أحد.»
(١-١١) إدرود جبن Edward Gibbon (١٧٣٧–١٧٩٤م)
والكتاب يبدأ بعرضٍ جميل للتاريخ الروماني منذ عهد أوغسطس، ثم يبدأ التفصيل من تربُّع كومودس على عرش البلاد (١٨٠م)، ويتتبع في وصفٍ جميل وعبارةٍ واضحة تاريخ الرومان، وانحلال الإمبراطورية الغربية نتيجة لغارات القبائل الهمجية القادمة من أواسط أوروبا، وتطور الكنيسة المسيحية ونموها، وتوطيد الدولة البيزنطية، حتى يصل إلى سقوط القسطنطينية سنة ١٤٥٣م.
… وعلى رأس هؤلاء الأمجاد وحَّد ابنه نور الدين قُوى المسلمين رويدًا رويدًا، فأضاف مملكة دمشق إلى مملكة حلب، وشنَّ حربًا طويلة موفَّقة على المسيحيين في سوريا، فبسط سلطانه القوى من دجلة إلى النيل، وكافأ العباسيون عاملهم الأمين بكل ما يتمتع به السلاطين من ألقابٍ وحقوق، وقد اضطر اللاتينيون أنفسهم أن يعترفوا بما لهذا العدو العنيد من حكمةٍ وشجاعة، بل بما له من عدلٍ وتقوى، وكان هذا المجاهد الورع في حياته وحكومته قد أعاد ما عُرِفَتْ به عهود الخلفاء الأولين من حماسةٍ وبساطة، فأزال من قصره الذهب والحرير، ومنع في أرجاء ملكه احتساء الخمر، وأنفق دخل الدولة في خدمة الشعب، لا يتهاون في ذلك قيد أنملة. وأما نفقات بيته — وكان فيها كزًّا — فقد اعتمد فيها على نصيبه المشروع من الغنائم، الذي استثمره في ضيعة خاصة اشتراها، وحدث أن تحرقت زوجته العزيزة «سلطانة» شوقًا إلى حليةٍ ثمينة مما يتحلى به النساء، فأجاب الملك: «وا أسفاه! إني لأخشى الله، فما أنا إلا خازن لمال المسلمين، وليس في وسعي أن أتصرف في مِلكهم، لكنَّ لي ثلاثة حوانيت لا أزال أملكها في مدينة حمص، فلكِ أن تأخذيها، وليس لي أن أهب شيئًا سواها.» وكانت ساحة عدله ملجأً للعظيم ومأوًى للفقير. فلما مضت بضعة أعوام بعد موت السلطان، صاح في شوارع دمشق رجل أصابه غبن: «نور الدين! نور الدين! أين أنت اليوم؟ انهض، انهض لترحمنا وتحمينا!»
(١-١٢) إدمند بيرك Edmund Burke (١٧٢٩–١٧٩٧م)
هو من أعظم من أنجبتهم إنجلترا من الخطباء والمفكرين السياسيين، ولد في دَبلن، وكان زميلًا لجولد سمث في الجامعة، وقد أطال القراءة في الأدب الإنجليزي والشعراء الإنجليز وهو طالب، وأسس في الجامعة «جمعية تاريخية»، فكانت أول حلبة تجلَّت فيها مواهبه الخطابية والأدبية.
ولما بلغ السابعة والثلاثين من عمره دخل البرلمان حيث لبث عضوًا مدى ثلاثين عامًا. وكان «بيرك» رغم فصاحته الخطابية عضوًا برلمانيًّا فاشلًا، فقد كان يلقي الخطاب الجيد البليغ فلا يصغي إليه أحد، ثم ينشره في صحيفة فإذا هو مثيرٌ لاهتمام القراء جميعًا، وهنا يجدر بنا أن نعيد ما قُلناه في الخطابة في الجزء الأول من هذا الكتاب.
«والخطابة إنما تكون أدبًا حين تحتفظ الألفاظ المنطوقة بقوة فصاحتها إذا ما خُطَّتْ على الورق لتُقرأ، فما أكثر ما تفنى خطب الخطباء مع الهواء كما تفنى ألحان المنشدين وأصوات الممثلين! والخطب ثلاثة أنواع: خطب تُسمع ولا تقرأ، وخطبٌ تُقرأ ولا تسمع، وثالثة تشمل بتأثيرها العيون والآذان. فها هو ذا «غلادستون» مثلًا حرَّك النفوس بخطبه، ولكنها حين صُبَّت في أحرف المطابع بردت نارها، وذلك هو «إدْمَنْد بيرك»، لم يكن له من القدرة الخطابية ما يقنع البرلمان الإنجليزي، ومع ذلك فخطبه — مكتوبةً — ساحرةٌ فاتنة، وهي تحتلُّ مكانةً رفيعة في الأدب الخالد، وأما خطباء اليونان فقد بلغوا بهذا الفن حدًّا بعيدًا من الكمال …»
واعتزل «بيرك» معترك السياسة؛ إذ مات وحيدُه الذي حلَّ من قلبه في السويداء، فتحطمت قواه وازورَّ عن الدنيا وعبثها، فلم يعد لها فيها مأرب ولا رجاء.
ومن خصائص أسلوبه تلاحق الإشارات وكثرة الاستعارات، وهو يمتاز بالقوة والطلاقة، وكثيرًا ما يستعير الشواهد من الكتاب المقدس، فقد أدمن قراءته حتى كانت آياته على سنان قلمه وتوقيع أنغامه حاضرة في ذهنه وهو يكتب، وكان يحب التعبير عن المعنى الواحد في عباراتٍ مختلفة، ويميل إلى التكرار أحيانًا، شأن الخطيب المصقع الذي يقصد بكلامه إلى صميم القلوب، وهو يؤثر الأمثلة العملية المحسوسة على الأقوال النظرية المجردة، وتراه يجمع بين الجمل القصيرة الحادة والجمل الطويلة المديدة.
مضت ستة عشر أو سبعة عشر عامًا مذ رأيت ملكة فرنسا في فرساي، وكانت إذ ذاك ولية للعهد، وإني لعلى يقين أن هذا الفَلَكُ السماويُّ — الذي لم تكن قد مَسَّتْه إلا مسًّا رفيقًا — ما شهد قط أبهج منها منظرًا، رأيتها وقد أشرقت في الأفق منذ قليل، تزيَّن ذلك العالم الرفيع الذي بدأت لتوِّها تتحرك في أرجائه فملأته مرحًا وبهجة، وهي تتلألأ كأنها نجمة الصبح، تملؤها الحياة والجلال والغبطة. أواه! يا لها من ثورة! ويا له من قلبٍ لا بد أن أحمله بين أضلعي لأتخيل ذلك الارتفاع وذاك السقوط دون أن يهزَّني انفعال! … لم يَدُرْ بخلدي أني سأحيا حتى أرى هذه الكوارث تنصبُّ عليها في أمةٍ عُرِفَ بالشهامة رجالُها، في أمةٍ يتصف بالشرف أبناؤها، في أمةٍ في أهلها نخوة الفرسان، لقد حسبتُ أن ألوف السيوف ستنسلُّ من أغمادها لتثأر لها لو توجهت إليها نظرةٌ واحدة تتهددها بالهوان، لكن عهد الفروسية انقضى، وأعقبه عهد فيه رجال الجدل الزائف والاقتصاد والحساب، فذهب عن أوروبا مجدها إلى الأبد، ولن نرى بعدُ، لن نرى ذلك الولاء السَّمْح لأبناء الطبقة النبيلة وبنات الجنس اللطيف، لن نرى بعدُ ذلك الإِذعان في عزةٍ، وتلك الطاعة في كرامةٍ، وذلك الخضوع يصدر عن القلب ويُبقي روح الحرية الشامخة حيَّة حتى في العبودية نفسها.
(٢) الشعر
كانت بوادر المذهب الاتِّباعي قد ظهرت في الشعر الإنجليزي في أواخر القرن السابع عشر، ثم بلغ هذا المذهب نهاية شوطه في النصف الأول من القرن الثامن عشر على يدي «بوب» أو فيما يسمى بالعصر الأوغسطي، وهنا نرى لزامًا علينا أن نوضح العناصر الأساسية في المذهب الاتباعي في الأدب، ونحاول التفرقة بينه وبين المذهب الابتداعي.
لسنا نريد بلفظ الاتِّباع أن الأديب يستقي وحيه من الآداب اليونانية والرومانية القديمة فحسب؛ فذلك وحده لا يكون اتِّباعًا؛ لأن الأدب في عصر اليصابات كان يستوحي تلك الآداب القديمة، ومع ذلك فهو أدبٌ ابتداعيٌّ خالص، وإنما نعني مجموعة من الخصائص مجتمعة، فالاتِّباعيون يعنون كل العناية باللفظ قبل المعنى، بالصورة قبل المادة، هم يكثرون من القيود التي يراعون فيها أن تكون مستمدة من الآداب القديمة، ثم تكون البراعة عند الأديب أن يحافظ على تلك القيود، والشاعر الابتداعي يهتم بالمعنى وبالمادة التي يريد أن يعبر عنها، ثم لا يتقيد بشيءٍ حين يختار لنفسه أداة التعبير؛ لأنه حرٌّ يختار أنسب أداة تُخْرج المعنى الذي يريد إخراجه قويًّا سليمًا، أما الشاعر الاتِّباعي فيبدأ بالتسليم بضرورة صورٍ معينة للتعبير، ثم يحاول أن يُعرب عما في نفسه في حدود تلك الصور.
وقد يتشابه الاتباعي والابتداعي في المعاني، لكن هنالك سماتٍ تميز أحدهما من الآخر، فالكاتب الاتِّباعي يميل إلى السخرية والهجاء، وإلى أن يكون أدبه تعليميًّا تهذيبيًّا، ويحبُّ أن يصف حياة المدينة لا حياة الريف، ووصفُه موضوعيٌّ يتعلق بالشيء الموصوف أكثر منه ذاتيًّا يعبر عما يجيش في نفس الأديب الواصف، على نقيض الكاتب الابتداعي، فهو يميل نحو الطبيعة كما تبدو في كافة صورها، ومن بينها الحقول والأزهار والحياة الريفية، ويميل كذلك إلى وصف الغريب دون المألوف، والمغامرة دون الاستقرار، ثم هو في وصفه ذاتي يدوِّن خلجات نفسه إزاء ما يصف. ولئن كان الأديب الاتباعي يريد أن يعلِّم قارئه درسًا بما يكتبه، فإن الأديب الابتداعي يكفيه أن يغنِّي بما في قلبه ولا يعنيه بعد ذلك أفاد القارئ شيئًا أو لم يُفِدْ، والاتِّباعي يحتكم إلى العقل، ويلجم العواطف الحادة، أما الابتداعي فيرخي العنان لخياله ولا يكبت شيئًا من عواطفه، بل — على نقيض ذلك — لا يرى الأدب إلا أداة للتعبير عن تلك العواطف.
(٢-١) إسكندر بوب Alexander Pope (١٦٨٨–١٧٤٤م)
أول ما نشر من شعر «بوب» «الأشعار الريفية» وهي أربع قصائد: واحدة عن الربيع، وثانية عن الصيف، وثالثة عن الخريف، ورابعة عن الشتاء، وهو يحاكي بها «أشعار الحقول» لفيرجيل، ونستطيع أن نَعُدَّ هذه الأشعار بمثابة مرحلة التدريب، على الرغم مما فيها من حلاوة أنغام ومرونة سياق وصقل.
وبعدئذٍ همَّ الشاعر بعملٍ جليل استغرق من سنيه ستًّا ملأها بالمجهود المتصل، فقد أخذ ينقل الإلياذة والأوذيسية شعرًا إنجليزيًّا، وكان «سِوِفْت» عندئذٍ يروِّج له في القصر وفي طبقات المجتمع الراقية، فيذيع بينهم أن «أنبغ شاعر في إنجلترا» يترجم هومر، ويستحثهم بقوله: «أريدكم جميعًا أن تساهموا في ترجمته لهومر؛ لأنه لن يبدأ الطبع إلا إن جمعتُ له ألف جنيه.» وما أتمَّ «بوب» إخراج الملحمتَين حتى كان له منهما تسعة آلافٍ ضمنت له العيش الرغيد بقية حياته.
يزعم الشاعر في الرسالة الأولى من الرسائل الأربع أن الإنسان مخلوقٌ كامل، غير أن سعادته في الحاضر تعتمد على جهله بالمستقبل، وعلى أمله في أن يتاح له عالمٌ أكمل وظروفٌ أصلح من العالم القائم والظروف الراهنة، والغرور هو أسُّ شقاء الإنسان؛ لأنه يعميه عن حدوده، التي يجب أن يقف عندها لا يجاوزها، ويشير الشاعر إلى حماقة الإنسان في اعتبار نفسه علَّة الخلق، وفي شكاته من أن الله لم يخلقه كاملًا، ويبيِّن تسلسل الكائنات من الأنواع الدنيا إلى الإنسان، فالملائكة فالله، قائلًا إنه إذا تحطمت حلقةٌ واحدة في هذه السلسلة المتدرجة انهار بناء الكون كله. ومن هنا كان من دلائل الفوضى والخروج على النظام أن يطمح نوع من الكائنات أن يكون أعلى مما خلق له، وأن يتألم مما فرضه عليه الله من واجبات، وهو يختم الرسالة الأولى بهذه الأبيات:
وفي الرسالة الثانية من «مقالة في الإنسان» يوضِّح «بوب» فلسفته، ويبحث في الإنسان باعتباره فردًا، وهنا ينصح الإنسان أن يعرف نفسه — كما أوصى بذلك سقراط منذ قرون — وألا يحاول توجيه بحثه نحو الله؛ لأن الدراسة التي يجدر بالبشرية أن تنهض بها هي دراسة الإنسان نفسه، وبعدئذٍ ينتقل في الرسالة الثالثة إلى بحث الإنسان باعتباره عضوًا في المجتمع، ثم يبين في الرسالة الختامية عناصر السعادة ومقدماتها.
والقصيدة — كسائر شعره — قوية الديباجة رصينة الأسلوب مزدوجة القافية، أما من حيث المعاني، فقد قال عنها ناقدٌ حديث إنها مضطربةٌ متناقضةٌ صبيانية في كثير من مواضعها، ومهما يكن من أمر فهي القصيدة التي طارت بشهرته في أوروبا، إذ ترجمت إلى الألمانية والفرنسية بُعَيْدَ صدورها.
كان في شخصية «بوب» كثير من المتناقضات — ولعل تناقض الشخصية من سمات الإنسان — فهو نحيلٌ هزيلٌ عليل، لكنه وهب عقلًا دائم الحركة دائب النشاط، لا يهن ولا يفتر، وهو مبتدعٌ مبتكر، لكنه في الوقت نفسه يحب أن يهتدي في أدبه بمن هو أعلى منه موهبةً ونبوغًا، وهو عدوٌّ قاسٍ عنيف، ومع ذلك فقد كان له أصدقاء حميمون يحبونه حبًّا نادرًا بين الأصدقاء.
(٢-٢) جيمس تومسن James Thomson (١٧٠٠–١٧٤٨م)
لم تمضِ روحُ الاتِّباع التي سادت في العصر الأوغسطيِّ، والتي تزعَّمها «بوب» بغير مقاومة ومعارضة وردِّ فعل، بل بدأ هذا الردُّ وتلك المقاومة و«بوب» لم يزل حيًّا يقرض الشعر، إذ اتجه بعض الشعراء إلى الطبيعة يستوحونها، ثم أخذت الحركة الجديدة تتسع وتزداد، حتى بلغت أوجها في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، وقلَّةٌ ضئيلةٌ من الشعراء هي التي تابعت «بوب» في اتِّباعيته وصناعته، ولعل ذلك راجع إلى اليأس من مجاراته في صنعة القريض على مذهبه، إذ لم يدعْ بوب في ذلك الفن زيادةً لمُستزيد، وكان «جيمس تومْسُنْ» بطلَ الشعر الطبيعي في عهد الصنعة والاتِّباع إبان العصر الأوغسطي.
بدت أول بوادر الشعر في «تومْسُنْ» حين نظم النشيد التاسع عشر من المزامير، فكان توفيقه في نظمه أقوى ما أوحى إليه أن ينصرف إلى الأدب، فقصد إلى لندن حيث التحق بإحدى الأُسَر النبيلة مربِّيًا لأبنائها، وهنالك وجد الفراغ الذي مكَّنه أن ينشئ قصيدة «الشتاء» التي نشرها وعمره ستة وعشرون عامًا، والتي عقَّبَ عليها «بالصيف» «فالربيع» «فالخريف»، وكان من مجموعة هذه القصائد الأربع ديوانه «الفصول».
من هذا الاتجاه نحو الطبيعة يتبين لك الوجهة الجديدة التي خرج بها تومْسُنْ على بوب ومدرسته، فقد عصى زعيم الشعر في القاعدة التي استنَّها للناس وهي «أن ما يجب على الإنسان درسُه هو الإنسان.» وأجال «تومْسُنْ» بصره في أرجاء الطبيعة التي أحبَّها وهام بها، فكان الشتاء أول ما ظفر منه بالشعر؛ يصف لك عاصفةً مطيرة عاتية، فالسماء متجهمةٌ اختلط في أديمها الضباب والمطر، والسهل مغمور بسيلٍ أدكنَ طامٍ، وقمم الجبال وأشجار الغابات اضطربت أمام العين، فلا تراها في وضوحٍ وجلاء، والماشية تدلَّت أعناقها وهي تغوص في السهل كساه الوحل، والدجاج اجتمع زرافاتٍ في أركان الحظائرِ فوقف ساكنًا لا حراك به تتساقط من ريشه قطرات الماء، لكن ذلك لم يكن كل شيء في الشتاء، فهنالك الحراث يمرح، وهو يصطلي مدفأته الوهاجة في بيته الصغير، يتحدث ويضحك غير عابئ بهذه العاصفة التي تقعقع فوق سطح البيت، ثم يخرج بك الشاعر مرةً أخرى إلى الطبيعة ليطلعك على الأنهار، وقد فاضت بمائها وعلى سيول الماء الدافقة، وقد جرفَتْ أمامها كل شيء، فجسورٌ محطمة وطواحينُ مهشمة، وهيهات أن يقف سيلَ الماء شيءٌ، فهو يَصدِّع السدود، ويجتاز جلاميد الصخر في الطريق، ثم يغيِّر الشاعرُ المنظر كأنما تبدل بفعل السحر، فإذا أنت في سكونٍ رائقٍ صافٍ أعقب العاصفة، وها هو ذا العصفور الصغير ينقر الزجاج في نافذة غرفتك، ويضرب بصدره الأحمر كِسَفَ الثلج التي جمدت على الزجاج، فيُسْمِعُكَ حفيفًا لطيفًا، ويراه الأطفال داخل الغرفة، فيجتمعون له وراء الزجاج، وينظر إليهم الطائر بعينَيه الدقيقتَين يلوي عنقه ذات اليمين وذات اليسار، لكن هذا السكون لا يطول، فينقلك الشاعر من جديد إلى مراعي الأغنام في السهل الطليق، فإذا الشتاء يستجمع قواه في الهواء الذي أخذ يزداد بردًا وظلامًا، والثلج يسَّاقط ويكثفُ، فيوجس الراعي خيفة؛ لأن الثلج الكثيف قمين أن يخفي عنه معالم الطريق، فتبدو الأماكن المألوفة غريبةً أمام عينَيه، فالويدان الجوفاء تظهر له مليئةً، والمكانُ الجبليُّ الوعر يتخذ صورة السهل البسيط، وذلك ما حدث للراعي، فقد غشيت الغاشية ووقف المسكين حائرًا ضالًّا، وبدا السهل كله كأنما يدور من حوله إذ أخذت هبَّاتُ الريح تعلو بطبقاتٍ من الثلج، وتدور بها في الهواء كأنها تدير ملاءةً بيضاء، وتمت المأساة ومات الراعي، ويأخذك الشاعر إلى بيته، فترى الأطفال تجمعوا عند النافذة أو الباب يرقبون أباهم، ولكن أباهم لن يئوب.
وليست كل أيام الشتاء بهذا السواد الحالك، ففي الشتاء أيامٌ بهيجةٌ صافية لا ينساها الشاعر. انظر إلى هذا القرويُّ الساذج، وهو يمشي فرحًا فوق الثلج الجامد كأنه يخطو على أرضٍ من البلور الشفاف!
هكذا تجري الصور في قصيدة «الشتاء» وتتعاقب، وحَسْبُك هذا لتعلم كيف انحرف «تومْسُنْ» بالشعر إلى الطبيعة بعد أن كان يحصره «بوب» في المدينة وأهليها.
(٢-٣) تومسن جراي Thomas Gray (١٧١٦–١٧٧١م)
هذا مثال نادر في تاريخ الأدب، فإنتاجه — كما ترى — ضئيل جدًّا، فلم يكد «جراي» يزيد على ثلاثين بيتًا من الشعر في كل عام، ومع ذلك له مكانةٌ عالية لا يدانيه فيها إلا أعظم الأدباء، وأبرز ما يطبعه عنايته بالصقل عنايةً لا تجد لها مثيلًا عند أديبٍ آخر، فهو يكتب القصيدة القصيرة في عامَين كاملَين! ولا يفتأ طوال العامين يراجع ما كتب ويعدل ويبدل، ومن هنا كانت قصيدته الكبرى «مرثية كتبت في فناء كنيسة ريفية» درةً لامعة برئت من كل النقائص والعيوب، ولعل هذا الكمال في «الكيف» هو الذي عوض الشاعر عن النقص في «الكَمِّ»، فسلكه التاريخ بين الخالدين. وسنقتبس من هذه القصيدة الرائعة المقطوعات التالية خجلين إذ ننقل هذا البناء المحكم والأسلوب الرصين:
•••
•••
•••
(٢-٤) وليم كوبر William Cowper (١٧٣١–١٨٠٠م)
هو سليل أسرةٍ كريمة خلقه الله مرهف الحس حييًّا، وقد عانى من حيائه وحسِّه المرهف ما عانى أيام كان يطلب العلم في مدرسةٍ داخلية، فيحرجه صغار الشياطين من زملاء الدراسة، ويوغرون صدره، حتى يضيق بحياته ذرعًا، وبَدَتْ له قدرةٌ بارعة، وهو طالب، في نظم الشعر اللاتيني، وخرج من معاهد العلم ولم يكد يخوض خضمَّ الحياة حتى مات أبوه، وتعاورته بعد ذلك حالاتٌ نفسيةٌ غريبة، ما زالت تزداد خطرًا، حتى أصبحت مرضًا نفسيًّا عضالًا دفعه مرة أن يزهق روحه بيده. ويظهر أن قد نشأت علته من العزلة والبطالة واليأس، وعُهِدَ به إلى مصحةٍ خاصة ردَّتْ إليه العافية بعد قليل، لكنه فقد عملًا كان يرتزق منه وبدَّد ما كان معه من مال مُدَّخر، فامتدت إليه أيادي الإحسان من أصدقائه وذوي قرباه، وانتظم له دَخْلٌ ضئيل ركن إليه وأوى إلى مكانٍ هادئٍ في الريف.
وقصيدة «الواجب» هي أروع آثار الشاعر، وهي شعرٌ مرسل ومقسمة ستة أجزاء: «الأريكة» و«الساعة» و«الحديقة» و«المساء في الشتاء» و«مشية الصبح في الشتاء» و«مَشْيَةُ الظهر في الشتاء»، وسنعرض عليك موجزًا لأحد هذه الأقسام نموذجًا لبقيتها، وليكن ذلك «مَشْيَةُ الصبح في الشتاء».
يستهله الشاعر بهذه الأبيات:
ثم يمضي الشاعر فيصف ما يصادفه في «مشية الصبح» يصف الماشية كاسفةً في أركان الحقول والحظائر، والحطَّاب يُسْرِع الخُطَى، والدجاج يختال إلى طعامه، وآثار الثلج والجليد على المياه الساقطة، وما ينتج عن ذلك من أشكالٍ جميلة ورشاش يستوقف النظر، فيدعوه هذا إلى حكاية قصر من الثلج شيدتْه أميرةٌ، ثم يستدعي ذلك إلى ذهنه الحروبَ ونشأتها ونموَّ الملكية وما يترتب عليها من شر، ثم يقارن بين ولاء الشعب لمليكه في فرنسا وفي إنجلترا، ويعرج على الكلام في الحرية فيوجِّه إليها خطابًا غاية في البلاغة، ويذكر استبداد الحكم المطلق في فرنسا فيستنكره، ويتجه بخطابه إلى سجن الباستيل فيتمنى الأماني التي لم تلبث أن حققتها الأيام، ويمتدح الحرية السياسية والاجتماعية التي تتمتع بها إنجلترا، وتكوِّن فخارها ومجدها، ثم يذكر الحرية الروحية في الدين فيثني عليها ويعدها الخير الأسمى.
لم يكن «كوبر» من أعظم الشعراء الإنجليز، لكنه يمثل بشعره خير تمثيل تطور العناصر الجديدة التي دخلت على الشعر، وهي العناصر التي انتهت في فرنسا بالثورة الفرنسية، وفي إنجلترا بثورةٍ أدبية نهض بها «وردزورث»، ونعني بها عناصر الحرية وتحطيم القيود.
(٢-٥) أولفر جولد سمث
أما «الرحالة» فقصيدةٌ تهذيبية يقصد بها الشاعر إلى تلقين مبادئه، تلمس فيها الروح الجديدة التي دخلت الشعر منذ منتصف القرن الثامن عشر؛ إذ تراه يصف المناظر الطبيعية وصفًا صادقًا، وهو في هذه القصيدة وفي «القرية المهجورة» أيضًا ينفر من عناصر المدنية الدخيلة على الإنسان، ويتمنى أن تعود الحياة إلى أحضان الريف ورحاب الطبيعة.
فهو لهذا يؤثر خيرات الطبيعة على أَنْعُمِ الحضارة الصناعية، وفي «القرية المهجورة» كذلك يستدرُّ إشفاق القارئ على قرية هجرها أهلوها، وقصدوا إلى المدينة ليعملوا في صناعتها، وعجيب أن يؤثر الإنسان المدينة على الريف، والريف من صنع الله والمدينة من صناعة الإنسان! هو في هذه القصيدة يصوِّر لك القرية، وهي عامرة بأهلها، ثم يصورها وقد خَلَّفها أبناؤها، وفي القصيدة كذلك شخصيات أبدعت ريشة الشاعر تصويرها، منها واعظ القرية، ومنها معلم القرية:
(٢-٦) روبرت بيرنز Robert Burns (١٧٥٩–١٧٩٦م)
عندئذٍ همَّ أديبٌ اسكتلنديٌّ بنشر مجموعة من الأغاني الاسكتلندية أطلق عليها «المتحف الموسيقي»، فساهم «بيرنز» في هذه المجموعة بأربع وثمانين ومائة قصيدة معظمها جديدٌ مبتكر، واضطلع آخر بعد ذلك بقليلٍ بنشر مختارات من الشعر الاسكتلندي كذلك، فساهم شاعرنا في تلك المختارات بستين أغنيةً، وكانت مساهمته في كلتا الحالتَين بغير أجر، وفي ذلك قال حين أرسل قصائده: «أما عن الأجر فلك أن تعدَّ قصائدي فوق أن تؤجر أو دون أو تؤجر؛ لأنها ستكون بغير شك إما هذه وإما تلك.» فلا عجب أن عاش «بيرنز» في فقرٍ شديد، فقد كانت قصائده غالية القدر، عظيمة الثمن، ولو أراد بها الربح لكفا نفسه مئونة العناء المادي الذي لاحقه طيلة حياته.
كان هذا الأديب القوي النابغ ثائر النفس — كما أسلفنا — فلم يتوانَ في إعلان عطفه على الثورة الفرنسية، حتى لقد أرسل إلى «حكومة الإدارة» في فرنسا بأربعة مدافعَ بحرية، ومعها خطاب يفيض بالعطف والتأييد، لكن المدافع لم يؤذن لها بالخروج من دوفر وورَّطه هذا الحماس الأحمق في مشكلات مع أولي الأمر، ومع ذلك فقد كان «بيرنز» وطنيًّا يلتهب بالشعور القومي، حرك الأمة كلها بقصائده الوطنية ومس بسحره صميم فؤادها، ولما هدد نابليون البلاد بالغزو، نظم نشيدًا يتغنَّى به المتطوعون — وكان واحدًا منهم — فجرت به ألسنة القوم من أقصى البلاد إلى أقصاها.
لم يكن «بيرنز» مكثارًا في شعره، ولكن قليله كثيرٌ غزير إذا قِستَه بهذه الظروف التي نشأ فيها، وهذا الصراع العنيف المضني الذي لم ينقطع طول حياته يومًا في سبيل القوت، بحيث لم تُمكِّنه الحياة من الانصراف إلى القريض في أمن ودعة، ومن هنا استحال عليه أن يكتب القصائد الطوال؛ لأنه إذا ما أمسك القلم أسرعت ضرورات الحياة فاضطرته للعمل، فجاء شعره نفحاتٍ خاطفة ولمعاتٍ سريعةٍ بارقة، تستثيرها أعراض الحياة العابرة في نفسه الشاعرة. ولما كان زارعًا يفلح الأرض بيديه كان أصدق من يعبر عن خواطر الزارعين من أهل بلاده، يخفف من عنائهم بحلو فكاهته، ويفيض عليهم عطفًا؛ لأنه واحد منهم، وما نظن أن حياة الفقير وجدت من يصوِّرها في وضوحٍ وقوةٍ كما صورها «بيرنز» في قصيدة «مساء السبت عند ساكن البيت الصغير»، وهو فيها إنما يصور حياة أبيه وأسرته:
فيجيب كلب الغنيِّ:
وأعظم ما ورَّثه «بيرنز» للأدب الإنجليزي من ثراء هو أغانيه، فهو منشد القصائد الغنائية الذي لا يدنو منه شاعرٌ آخر في ذلك الأدب، فكأنما كانت روحه معينًا تنبثق منه الأنغام انبثاقًا متداركًا متلاحقًا، وهو عجيب في سرعة تفجُّر ينبوع الشعر في نفسه كلما عرض لقول الشعر عارض، تراه في مثل لمح البصر يلقف المعاني الشاردة، ويسوقها في عبارة يُحْسِنُ اختيار ألفاظها، بحيث يستحيل أن تبدل بلفظه لفظًا آخر خيرًا منه، فهو يختار الألفاظ التي تفتن الآذان بسحر أنغامها وهو وإن يكن قوميًّا في أغانيه، إلا أنه يمسُّ بها العواطف الإنسانية العامة بين البشر، فهو — مثلًا — في أغنيته «قبلةٌ حارةٌ» يعبر — كما قيل — «عن أبجدية الشعور، وهو يضمنها جوهر هذا الوجود الذي تتجاوز فيه اللذة والألم، فيخرج ذلك الجوهر في قطرةٍ واحدةٍ محترقة.» وهذه الأسطر الأربعة ختام الأغنية:
(٣) المسرح
ذهب القرن السابع عشر، فذهبت معه المأساةُ بموت «دريدن»، والملهاةُ الفطنة الفكهة بعد «كونجريف»، ولبثتا في ركود حينًا طويلًا من الدهر؛ إذ لم تجدا في القرن الثامن عشر إلا قليلًا من النوابغ يسعفونهما.
وأما المأساة في القرن الثامن عشر فضعيفة لا تكاد تجد لها مكانًا في هذا الكتاب، وحسبنا أن نشير من رجالها إلى «لِلُو» (١٦٩٣–١٧٣٩م) بمأساته «التجار اللندني أو تاريخ جورج بَارْنُوِلْ» و«مُورْ» بمأساته «المقامر»، وقد ذكرنا لك كلتا المأساتَين، ونحن نحدثك عن المسرحية في فرنسا في القرن الثامن عشر لما كان لهما من أثر في توجيه المسرحية إلى مشكلات الطبقة الوسطى التي تنشأ في الحياة اليومية.