الأدب الألماني في القرن الثامن عشر
لقد قيل إن في الأدب الأوروبي فترتين خَفَقَتْ فيهما أوروبا بقلبٍ واحد كأنها أمةٌ واحدة، إحداهما عصر الحروب الصليبية والأخرى هي القرن الثامن عشر، ففي الأولى اتجهت جهود الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين أوطانهم نحو غايةٍ واحدة، وشخصت أبصارهم جميعًا إلى أملٍ واحد، هو استرجاع بيت المقدس من أيدي المسلمين، فكان إذن عصرَ جهاد ونضال، وكان المثل الأعلى هو الفحولة في البطولة والمهارة في القتال، فجاء الأدب الأوروبي كله ناطقًا بالفروسية في شتى أوضاعها، وأما القرن الثامن عشر فهو عصر التنوير والتحرير، فأوروبا كلها ساعية نحو حرية الفرد والجماعة. فأما نصيب إنجلترا في هذا السعي فهو الصناعة والاستعمار، إذ من شأن الاستعمار والصناعة أن يخلقا طبقةً عاملةً كاسبةً مستثمرة، هي الطبقة الوسطى، فإن أَثْرَتْ هذه الطبقة كان لا بد لها أن تتوسع في حقوقها السياسية، ومن ثم تقلُّ الفوارق بين الطبقات أو تزول، وكانت النغمة السائدة في الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر هي هذه الطبقة الوسطى تُكْتب القصةُ من أجلها. وتمثل المسرحيةُ لتشبع حاجتها، وينشد الشعراء ما ينشدون عن رجالها، ومن هنا جاء الأدب الإنجليزي في ذلك العهد عمليًّا واقعيًّا لا يشطح مع الخيال الشارد. وأما نصيب الأدب الفرنسي في هذا التحرير، فهو وضع الأصول والقواعد، فهو لا يزال في المرحلة النظرية الخالصة، ولم يكن يسعه غير هذا قبل انفجار الثورة الفرنسية الكبرى، فبينما كان الإنجليزي قد أَلِفَ الحرية في حياته، كان الفرنسيُّ يتأمل نظرياتها ويفكر في قواعدها، ففولتير وروسو وديدرو ومنتسكيو وغيرهم من رجال الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر لم يريدوا بما كتبوا إلا مَحْوَ القديم، وإنشاء الجديد على أساس الحرية العقلية والسياسية. وهنا نتفلت إلى ألمانيا لنرى نصيبها في بناء هذا الصرح الذي ساهمت في بنائه أوروبا كلها، فنراها أمة لا كالأمم، بل مجموعة من دويلات قام على كلٍّ منها أمير يطمح أن يضارع بملكه الصغير أبهة فرساي! لم يكن الألمان في القرن الثامن عشر شعبًا سياسيًّا واحدًا، فبديهي ألا يكون الأدب سياسي الصبغة كالأدب الفرنسي في ذلك العهد مثلًا، ولم يكن الأدباء الألمان قد ذاقوا طعم القومية، فبديهي كذلك ألا يجيء أديبهم الكبير أو شاعرهم العظيم ناطقًا بالعزة القومية والفخار الوطني، فانطوى الأدباء على أنفسهم يحررونها!
الأدب الألماني في القرن الثامن عشر يهتم بالفرد لا بالجماعة، والغاية التي ينشدها هي تحرير النفس الإنسانية من قيودها، حتى تحلق صاعدة في أجواز السماء، فهو لم يُرِدْ للفرد حريةً سياسية واجتماعية كزميليه في إنجلترا وفرنسا، بل أراد له حريةً روحية، وليس يحطُّ من قدره أنه لم يعالج الأغلال المادية ليطلق سراح الناس من أصفادها؛ لأنه وهو يحاول تحرير الروح وفكَّ إسارها، علَّم الناس كيف يحررون أنفسهم من طغيان العوامل الخارجية التي تعطِّل النموَّ وتحول دون التقدم، علَّمهم أن يروضوا الإرادة على أن تساير المثل العليا في تناغم واتساق، وألا تستعبدها الشهوات والرغبات، وإنما يكون ذلك التحرير الروحي بتربية النفس على تقدير الجمال، وتلك هي مهمة الأدب، بل مهمة الفنون على اختلاف ضروبها.
لقد كان نصيب الأدباء الفرنسيين الذين جاهدوا في سبيل الحرية في عصر التحرير — القرن الثامن عشر — أن زُجُّوا في ظلمات الباستيل، بينما كان زملاؤهم الألمان على صلة من الود والتفاهم مع أولي الأمر في بلادهم، لماذا؟ لأن الأديب الفرنسيَّ يحارب أوضاعًا سياسيةً قائمة، أما الأديب الألماني فيعمل على تحرير نفسه ورياضتها، بحيث تعلو على العوائق المادية القائمة في وجهها، فلئن كسبت فرنسا حريتها بدماء الثورة الفرنسية، ولئن كسبت إنجلترا حريتها في سكونٍ وهدوءٍ عن طريق التشريع لها في مجلس النواب، فقد كسبت ألمانيا حريتها في معركةٍ باطنية نشبت في نفوس الأفراد، وها هنا قامت رسالة الأدب الألماني في القرن الثامن عشر، فلن تجد روحَ الفرد مصورة في غيره من الآداب — إبَّان ذلك القرن — بمثل الدقة والأمانة التي صُوِّرت بها في الأدب الألماني، ولم يواجه أدبٌ غير الأدب الألماني مشكلات الفرد وحياته النفسية بمثل ما واجهها ذلك الأدب في جِدٍّ وعزمٍ وبصيرةٍ نافذة، فمن ضلَّت نفسه في متاهة الحياة، وأراد لها سواء السبيل، ومن تحطمت سفينته على موج نفسه المضطربة، فلن يجد العون والعزاء في أدبٍ غير هذا الأدب، ومن هنا كانت «فاوست» — آية جيته الخالدة — أعمق وأعظم ما شهدت الآداب الحديثة في حياة الفرد، فهي العزاء الذي لا تبلى جدَّتُه ولا تبرد حرارته «لكل من أكل خبزه تحيط به الهموم، وأنفق طوال الليالي يسفح الدموع.» وقُلْ في الأدب الألماني كله في القرن الثامن عشر ما تقوله في «فاوست».
(١) جوهان ولفجانج جيته Johann Wolfhgang Goethé (١٧٤٩–١٨٣٢م)
ذلك رجل كان أخصُّ ما يميزه صحةُ العقل وصحة البدن، فأما صحة بدنه فموهبة من الله الذي بسط له في قوة الجسم وسلامته، وأما صحة عقله فكذلك، ونتيجة لمجهودٍ طويلٍ ما فتئ خلاله يتخفف من الأثقال التي تقعد بالروح فلا تسمو، فطرْدٌ للمخاوف وتنزُّهٌ عن الهوى، واطِّراح لتركةٍ نفسية مثقلةٍ بالأوضار خلَّفتها خرافة العصور الوسطى، والتمست سبيلها إلى نفسه أيام الصبا، أحاطت به الكروب فهمَّ أن ينتحر، لكنه سارع إلى كتابة «فرتر» لينجو بنفسه من هذه الظلمة الغاشية، فجعل بطله يزهق روحه ليجد في انتحاره متنفَّسًا لكروبه، وبذلك ألقى عن نفسه وسواسًا كان يشوب صحة عقله التي امتاز بها، وشاءت الأقدار لقصة «آلام فرتر» أن تُنشر، فكان من نتائجها العجيبة أن أخذ الشباب في أوروبا الذين كانوا يعانون مثل ما عاناه «فرتر» ينتحرون كما انتحر! وهكذا قد تبلغ قوة الإيحاء في الأثر الفني، أراد به الأديب لنفسه تطهيرًا من أدرانها، فإذا بهذه الأدران تصيب القارئين!
وتستطيع أن تقول في كل ما أنتجه «جيته» من آثار أدبية ما قُلناه في «فرتر»، فهي وسائل أريد بها تطهير الروح من شوائبها لتصفو، فإذا لم تستطع أن تقرأ جيته لتنفض بأدبه عن نفسك ما نفضه الكاتب به عن نفسه، فخير لك ألا تقرأه.
ولد «جيته» في فرانكفورت على نهر مان في الثامن والعشرين من أغسطس لأبٍ يشتغل بالقانون كان سليل أسلافٍ مهنتهم الحدادة أو الحياكة، وأم هبطت من أسرةٍ نبيلة، وكان أبوه متعصبًا متعالمًا ضيق الأفق، وقد صمم أن يهيئ لابنه من التعليم ما يواجه به خضم الحياة العنيف، وأخذه أخذًا شديدا — وهو ما يزال طفلًا — بدراسة تستغرق ساعات طوالًا في اللاتينية واليونانية والعبرية والفرنسية والإنجليزية وفي العلوم الطبيعية وفن العروض! بل استحثَّ ولده أن يكتب عما يرى ويسمع، وألا يحاول قرض الشعر، فكان لهذا التدريب الصارم أثره في عقل الناشئ من غير شك، لكنه نفَّر الابن من أبيه، ولم يعد يضمر له من الحب ما يضمر الأبناء للآباء، ولعلنا إذ نقرأ في «فاوست» كيف اعتزم فاوست هجر كتبه ليغامر في الحياة مغامرة تستثير فيه العاطفة الحية نلمس صدى لثورةٍ تأججت في نفس جيته الطفل نفورًا من الدراسة المسرفة البغيضة.
جَدَّ الأديبُ في منصبه فارتقى وزاد راتبه وأُنعم عليه بألقاب النبلاء، وما أكثر ما وجَّه النقَّاد إلى الأديب اللوم على الإذعان للألقاب والمناصب، لكن فلسفة جيته لم تكن إلا هذا: قبولًا للحياة كما هي، واضطلاعًا بما تفرضه واجبات العيش من أعباء، ولم يكن ذلك ليمنع سيل إنتاجه الدافق، حتى أسلم الروح في الثاني والعشرين من أكتوبر سنة ١٨٣٢م.
وأبَتْ سيدات فيمار أن تكون هذه الريفية ندًّا لهن في المجتمع، فإذا ما انعقد حفل في بيت جيته عاملها الزوج والأضياف جميعًا معاملة الخادمة، فلم تجلس إلى مائدة بين الحضور، ولبث الأمر قائمًا على هذا النحو، حتى بدَّلته «مدام جوهانا شوبنهور» — أم الفيلسوف المعروف، وهي أديبة لها في الأدب قسط موفور — وذلك أن وجهت إليها الدعوة كما توَجَّه إلى سيدات الطبقة الراقية، لكن هيهات أن تَنْحطم الفوارق الاجتماعية بمثل هذا اليسر، فقد لبثت «كرستيانة» طريدة المجتمع الرفيع في فيمار حتى ماتت، مع أنها أنجبت ولدًا شبَّ وتزوج من نبيلة، ونَجَلَ لها ولجيته من تلك النبيلة ثلاثة أحفاد.
ونعود إلى آيته الأدبية الخالدة بشيءٍ من التفصيل: أسطورة فاوست قديمةٌ قِدَمَ العصور الوسطى، وقد أتينا لك على طرف من أخبارها إذ حدثناك عن الأدب الألماني في عصر النهضة، لكن جيته تناولها على أساسٍ جديد، ولُبُّ الأسطورة أن الدكتور فاوست رجل عاش في وتنبرج بألمانيا في أوائل القرن السادس عشر، وكان يشتغل بالسحر والتنجيم، ويزعم لنفسه القدرة على استحضار الأرواح واستعادة ما بَدَّدَتْه الأيام من صحائف القدماء، وكان ماكرًا مخادعًا يستخدم ذكاءه في ابتزاز أموال السذَّج الغافلين، وشاع عنه أنه باع روحه للشيطان. وتفصيل الأمر أنه ورث من عمه ثروةً عريضة بدَّدها في عربدته ومجونه، فلما أفلس عزَّ عليه أن يكسب القوت بالعمل الشريف، فاتفق مع الشيطان أن يمد له في حياة المتعة أربعة وعشرين عامًا، للشيطان الحق بعدها أن يتصرف في جسده وروحه كيفما شاء.
-
«كيف يستطيع الإنسان أن يعرف نفسه؟ إنه لن يعرفها بالتفكير، ولكن بالعمل، فحاول أن تؤدي واجبك وستعلم من فورك قدر نفسك.»
-
«إن أقل الناس شأنًا يمكنه أن يكْمُلَ إذا عمل في حدود قدرته وقواه الموهوبة والمكسوبة على السواء، وخير الملكات قد تَرِينُ عليها غشاوةٌ ويصيبها الجمود والفساد إذا أعوزتها صفةٌ لا مناص من وجودها، هي صفة التوازن، وذلك شرٌّ سيعاود الناس كثيرًا في العصر الحديث؛ إذ من ذا يستطيع أن يسدَّ حاجات عصر بلغ هذا المبلغ من الامتلاء والعمق، ثم هو فوق ذلك عصر مسرعٌ في خطاه؟»
-
«خطأٌ فاحش من المرء أن يعلو بنفسه عن قدرها، أو أن ينزل بها عما هي جديرة به.»
-
«ليست التقوى غايةً في ذاتها، لكنها وسيلة، هي وسيلة يبلغ بها المرء ذروة الثقافة إذ يهيئ لنفسه أخلص ما يستطيع لها من سكون.»
ذلك هو جيته الذي يعادل في عظمته شيكسبير، أو قل إنه من ذلك القبيل السامق الجبار، فإذا قصُرَ باعًا عن زميله الإنجليزي فلنذكر له أنه أسَّسَ الأدب الألماني مما يشبه العدم، على حين كان شيكسبير لجهود السابقين زهرةً وتاجًا، فمن ورائه «شوسر» و«سبنسر» وإلى جانبه «مارْلُو» و«بِنْ جونْسُنْ»، وسائر هذا الرعيل الذي عاصره في عهد اليصابات، أما جيته فمن ورائه خواء، وإلى جانبه ما يشبه الخلاء.
•••
هنا جديرٌ بنا أن نلقي بعض الضوء على موضوع قد يثير فيك الحيرة والتساؤل، فقد عرضنا لك الأدب الأوروبي في القرن السابع عشر، ولم نذكر الأدب الألماني إذ ذاك بكلمةٍ واحدة، وذلك لسببٍ بسيطٍ هو أن القرن السابع عشر لم يشهد للألمان أدبًا، ثم ها نحن أولاء نعرض عليك أدبهم في القرن الثامن عشر، فنجتاز النصف الأول من هذا القرن لنلتقي بجيته في نصفه الثاني، ثم نزعم لك أنه يطاول شيكسبير! فكيف يمكن أن تخلو أمة من ثمار الأدب قرنًا ونصف قرن، ثم تقفز بغتة إلى الأوج بقفزةٍ واحدة، وفي رَجُلٍ واحد لم يجد من يعبِّدُ له الطريق ويمهِّد أمامه السبيل؟
نشبت في النصف الأول من القرن السابع عشر حربٌ طويلة فتَّاكة تعرف باسم حرب الثلاثين سنة (١٦١٨–١٦٤٨م) كانت ألمانية أول الأمر، ثم أخذت تتسع حتى أوشكت أن تشترك فيها الدول الأوروبية جميعًا، فلما وضعت تلك الحرب الضروس أوزارها كانت ألمانيا قد بلغت من الضعف حدًّا بعيدًا يُعْجزها عن التفكير والعمل. ثم حدث سنة ١٦٨٥م أن ألغى لويس الرابع عشر في فرنسا مرسوم نانْت، فصودرت بمقتضى هذا الإلغاء العقيدةُ البروتستنتيةُ في فرنسا وفقد الهيجونوتُ حريةَ العبادة والمساواة أمام القانون، فهاجر سرًّا عددٌ كبير منهم، إذ بلغت الأُسَرُ الراحلة خمسين ألفًا، ولجئوا إلى هولندا وإنجلترا وبروسيا وأمريكا، فكانت خسارة فرنسا عظيمةً بفقد هذه الطائفة الفنية النشيطة التي كان لها أوفر قسط في الحركة الثقافية، فكان أن لجأ كثيرون من هؤلاء في مهاجرهم إلى أقلامهم، وأسسوا المطابع وأصدروا الصحف، وأخذوا في كل بلدٍ هاجروا إليه يترجمون ويكتبون وينشرون، وكانوا يستخدمون في ذلك كله لغتهم الفرنسية التي كان لها في أوروبا إذ ذاك السَّيْرورة والمقامُ الأول، وبذلك جعلوا الفكر الفرنسي والأدب الفرنسي سائدًا شائعًا، وأصبحت الموازين الأدبية الفرنسية هي المسيطرة في مراكز الثقافة الأوروبية جميعًا، فكأنما كان إلغاء مرسوم نانت حادثًا ساقَتْه الطبيعة لتتعاون أوروبا على حركة التنوير التي تُعَدُّ طابعًا يميز الأدب الأوروبي في القرن الثامن عشر، كما أسفلنا لك القول في أول هذا الفصل.
فلما دنا القرن السابع عشر من ختامه لم يكن في ألمانيا من الأدب إلا صورٌ منقولةٌ عن الأدب الفرنسي، والصورةُ لا بد أن تكون ضعيفةً هزيلة إذا قيست بأصلها ومثالها الذي استمدت منه الوحي واحتذته احتذاء التلميذ للمعلم، والأدب الفرنسي في القرن السابع عشر — كما تعلم — اتِّباعيٌّ صارم يلتزم قيود المذهب الاتِّباعي فلا يحيد عنه، فلم تكد تترجم من الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر بعضُ روائعه مثل مقالات «أَدِسُنْ» و«روبنسن كروزو» لدانيال دفو، وأخيرًا قصص «ردتشردسن» وقصائد «تومْسُنْ»، حتى هبَّتْ نسائم الحرية على الأدباء الألمان، وأزاحوا عن كواهلهم نير المذهب الاتباعي الفرنسي. ومهما يكن من أمر فقد أخذت ألمانيا تستقي الأدب الفرنسيَّ حينًا والأدب الإنجليزيَّ حينًا آخر، وهي جامدةٌ لا تنتج شيئًا، ولكنها في فترة النقل كانت تهضم ما تنقله حتى اختمر في نفوس أدبائها، وخرج رحيقًا مستساغًا دفعةً واحدة في «جيته» و«شِلَرْ» و«لِسِنْج».
(٢) جوتهولد إفرايم لسنج Gotthold Ephraim Lessing (١٧٢٩–١٧٨١م)
في هذه الحياة الأدبية الشاقة التي عصفت به إبَّانها الأعاصيرُ العواتي، صَلُبَ عودُه، وأخذت موهبته في النقد تزداد وضوحًا يومًا بعد يوم، حتى بات ناقدًا يؤتَمُّ برأيه ويُخْشى بأسُه في الهجوم، وصادقه قومٌ وخاصمته أقوام، وأصدر صحيفةً أدبية مع بعض أصدقائه، حمل فيها على القواعد الاتِّباعية الجامدة، وأخذ يبسط رأيه في كيف يكون الاتِّباع في الأدب، بحيث يحتفظ الأدب بنضارته ورونقه، فالمذهب الاتِّباعي كما أخذت به أوروبا في القرن الثامن عشر زائف يشبه الاتِّباع وليس منه، وهنا أتيح للأديب العظيم أن يَرِدَ حياضَ اليونان ويتملَّى من جمالها وسحرها، فارتسمتْ في ذهنه صورةٌ جديدة للاتِّباع الأدبي، وأنشأ في النقد كتابه الجليل «لاوْكُون» فمهد هذا الكتابُ بما فيه من توضيحٍ جليٍّ للفوارق بين ألوان الفنون، مَهَّدَ الفريق لأدبٍ جديد وفنٍ جديد.
نُشر «لاوْكون» سنة ١٧٦٦م، وكان أعظم كتاب في النقد الأدبي مما أنتجته قرائح الأدباء في القرن الثامن عشر، فهو بحثٌ مبتكرٌ مطبوعٌ بأصالة الرأي حول مبادئ النقد، وليس من الإسراف في شيءٍ أن نزعم أن هذا الكتاب الخالد هو الذي مكَّن لجيته وشِلَرْ من التكوُّن والظهور، ومجمل ما في هذا الكتاب تفرقةٌ واضحة بين مهمة الشعر ومهمة النحت والتصوير، وقد أطلق على كتابه هذا اسم «لاوْكُون»؛ لأنه وهو يعرض للتمييز بين النحت والشعر، اختار نموذجًا للنحت تمثالَ «لاوكون» الذي يمثل لاوكون وابنتيه وقد التفَّت بهم الأفاعي التي أرسلها جوف عندما حذَّر لاوْكُونُ أهلَ طروادة من قبول الحصان الخشبي، والتمثال يمثِّل جزع الوالد وولدَيه وهم فريسة الأفاعي، واختار «فرجيل» نموذجًا لتصوير الجزع في ألفاظ الشعر، ليبين الفرق بين اللونين من التعبير، وعلى أساس فكرته بأن النحت والتصوير لا يمكنهما أن يقوما بما يؤديه الشعر بحث لِسِنْج كلَّ ما يريد بحثه من مبادئ النقد.
فلما انتهى مسرح هامبرج إلى الفشل والإفلاس، تعطَّل لسنج من جديد، حتى عُيِّنَ آخر الأمر أمينًا لمكتبة في بلدٍ صغير، وفي هذا المنصب المتواضع لبث حتى وافته منيته في الخامس عشر من فبراير سنة ١٧٨١م.
من هذا الذي عرضناه عليك من حياة «لِسِنْج» تستطيع أن تلمس في الرجل ثلاث نواحٍ بارزة؛ الأولى: أنه أمدَّ المسرح في بلاده بالدعائم التي جعلت بناءه منذ ذلك الحين ثابت الأركان، والثانية: أنه ناقد وضع القواعد والأصول في الشعر والفن، والثالثة: أنه مجاهد كافح رجال الدين ليظفر للناس بحرية الرأي والتسامح.
وأما لسنج الناقد فحسبك أن تعلم ما قاله عنه ماكولي من أنه «أعظم ناقد في أوروبا.» وقد ذكرنا لك كتابيه في النقد «لاوكون» و«الفن المسرحي في هامبرج»؛ أما أولهما فيحدد مرحلة من مراحل التطور الفكري في القرن الثامن عشر، فهو أول من فرق بين الفنون المختلفة على أساس اختلاف غاياتها، وقد فقد الكتاب شيئًا من أهميته التي كانت له عند صدوره؛ لأنه جاء عندئذٍ احتجاجًا قويًّا على الشعراء، الذين يطغون بفنهم على ما ينبغي أن يترك للنحت والتصوير. أما نحن اليوم فلا نشاطر الناقد وجهة نظره، ونحاول أن نوحِّد بين الفنون ونزيل ما بينها من فواصل وفوارق، لا أن نباعد بينها بالحدود الفاصلة كما أراد لسنج. وأما كتابه الثاني عن الفن المسرحي فهو — كما رأينا — نقدٌ صحفي لروايات يومه وممثليها، ولم تكن الروايات والممثلون مما يستحق التقدير والتقريظ، فكان في هذا الركود المسرحي نفسه فرصةٌ سانحة للِسِنج أن يملأ صحيفته النقدية بالقواعد العامة في المسرحية ما دام المسرح القائم وممثلوه لا يمدونه بالمادة الكافية. والمحور الرئيسي الذي يدور حوله الناقد في بحوثه هو فولتير — لا كتاب الشعر لأرسطو كما يذهب بعض الناقدين — إذ كتاب «الفن المسرحي» في صميمه نقد لفولتير وللأسس التي بنى عليها أشباه الاتِّباعيين في فرنسا فنهم، هو نقدٌ شديد يهاجم به القيود الخانقة التي فرضتها «المأساة الاتِّباعية» على نفسها، فضيَّقت بها على نفسها الخناق. نعم إن لسنج يعرض لكتاب أرسطو، فيُعلي من شأنه ويرفع من قدر مبادئه النقدية، لكنه إنما فعل ذلك ابتغاء غايةٍ يرجوها، هي أن يحطِّم المأساة الاتِّباعية التي كانت تسود فرنسا، بأن يبين أنها تنحرف عن تلك المبادئ إذا فسرت بمعناها الصحيح، وحقيقٌ بنا أن نذكر في هذا الصدد أنه يرى شيكسبير أقرب إلى القواعد الأرسطيَّة في المأساة من هؤلاء الذين يفاخرون ويتشدقون بحرصهم على اتِّباع تلك القواعد في فنِّهم، ولم يقل لسنج ما قاله عن شيكسبير إكبارًا له، فقد ذكرنا لك فيما سلف أنه لا يقف موقف الإجلال من شيكسبير، إنما قاله استثارة لغيظ عدوه الأكبر فولتير. وعلى كل حال فلست ترى شيكسبير مذكورًا في هذا الكتاب إلا لمامًا؛ لأن المسرح في هامبرج لم يكن يمثل من رواياته شيئًا يذكر، فلم يجد لسنج الفرصة للتعليق الكثير والقول المستفيض حول شيكسبير. ولئن امتدحنا في لسنج صدق النظر في إدراكه أن شيكسبير أكثر انطباقًا على قواعد أرسطو من كورني — مثلًا — مخالفًا بذلك ما يبدو للوهلة الأولى، فإننا لا شك نعدُّ هذا القول وضعًا مقلوبًا، فكان أولى بالناقد البارع أن يعلي من شأن أرسطو في نقده الأدبي؛ لأنه جاء من المرونة واتساع الأفق، بحيث اتسع لفن شيكسبير، لكننا لا نتوقع مثل هذا القول من رجلٍ يؤمن بالاتباعية في الأدب، غير أنه لا يرضى عن الاتباعية كما أخذ بها الفرنسيون، ويريدها كما يراها في فن اليونان الأقدمين، فهو إن رأى في شيكسبير شيئًا يستحق المدح فذلك أنه يطبِّق قواعد أرسطو وأنه أخ «لسوفوكليز»! كان لسنج ناقدًا اتِّباعيًّا لا تجري في عروقه قطرةٌ واحدة من النظرة الابتداعية التي وجدت طريقها أول ما وجدت في قلب شيكسبير، غير أنه — كما قلنا — يمتاز من سائر الاتِّباعيين إذ ذاك في أنه لا يأخذ المذهب كما فسره الإيطاليون والفرنسيون، بل يعود في الطريق بنفسه حتى يواجه فن اليونان عن كثب، فينقل منه رأسًا بغير وسيط … وسواء أخذنا بوجهة نظره في نقد المأساة أو لم نأخذ بها، فقد كان كتابه في «الفن المسرحي» أعظم كتاب أنتجه القرن الثامن عشر في ذلك الفن.
(٣) شلر Schiller (١٧٥٩–١٨٠٥م)
(يجذب السهم من منطقته، وينظر إلى الحاكم نظرةً مخيفة):
ومات شلَرْ سنة ١٨٠٥م فانتهت بموته الفترة الاتباعية في الأدب الألماني، فلئن بقي جيته بعد ذلك حيا حتى سنة ١٨٣٢م فقد كان المذهب الابتداعي الجديد الذي استهلَّ به القرن التاسع عشر قد ذاع وانتشر.