في الأدب العربي
بلغ الأدب العربي ذروته قبل سقوط بغداد، أي في النصف الأول من القرن السابع الهجري، أو النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تغلَّب الفرس أولًا والترك ثانيًا، ولكنهم حافظوا على السيادة العربية، ولو ظاهرًا بالبقاء على الخلافة، وانتقالهم إلى اللغة العربية يتأدبون بها، ويُظهرون بها نتاج أفكارهم وعقولهم، وعلى كل حال فلم تكن سلطة الفرس والأتراك سلطة تدمير وتخريب، وظلت الحركة العلمية والأدبية في عهدهما ناميةً زاهرة، ولم يترك المتكلمون باللغة العربية ناحيةً من نواحي العلم والأدب إلا عالجوها وبحثوا عنها وألَّفوا فيها، فكانت ثروتهم إذا قيست بثروة الأمم الأخرى في عصرهم من أغنى الثروات، وعقليتهم وتفكيرهم وأدبهم من خير ما في العالم إن لم يكن خيره.
حتى جاء هجوم التتار فأفسد كل شيء، إذ كان اعتداءً مخرِّبًا مدمِّرًا، من قوم مُتبربرين لا ثقافة عندهم، ولا مبادئ، ولا عدل، ولا دعوة، ولا غرض إلا التسلط والإبادة والإخضاع.
فقد تحرَّك المغول من التتار الذي يسكنون جنوبي سيبيريا، وهم قومٌ شدادٌ غلاظ كانوا يعيشون على الغارة والصيد، وكان بأسهم بينهم شديدًا، حتى رأَسهم جنكيز خان فوحَّد كلمتهم. وبعد أن أتم فتوحه في الشرق الأقصى اتجه نحو الغرب، فهجم على المملكة الإسلامية فيما وراء النهر، واستولى على مملكة شاه خوارزم، ثم اكتسح بجيوشه خراسان وفارس يذبح أهلها، ويخرِّب حضارتها.
ثم جاء هولاكو حفيد جنكيز خان، فصمم على الاستيلاء على الدولة العباسية سنة ٦٥٤ﻫ / ١٢٥٦م وعرَّج على قلعة أَلَمُوت ففتحها، وأخذها من الإسماعيلية وقتل مَن فيها، واستولى على الري، ثم قصد بغداد سنة ٦٥٥ﻫ / ١٢٥٧م وكان أهلها في خلاف بين سنيين وشيعيين، وقد خُدع الخليفة المستعصم وفقهاء المدينة وأعيانها، حتى حضروا إلى هولاكو في معسكره فأمر بذبحهم، ثم هجم على دار الخلافة، فاستولى على ما بها وأباح بغداد أربعين يومًا وقتل من أهلها — كما يقول بعض المؤرخين — أكثر من مليون وثمانمائة ألف، وخرب عمرانها ورمى كتبها في دجلة، وبذلك قضى على حضارة ونتاج عقول ظلت تعمل قرونًا. وأصبحت بغداد — التي كانت ملجأ العلماء والأدباء ومضرب المثل في المدنية والحضارة — تنعى من بناها.
وقد أثرت هذه الغزوات في العالم العربي أسوأ الأثر، فهذه المنطقة التي اكتسحها التتار كانت أنضر وأنضج بقعة في الحياة العقلية والأدبية، يقلدها ويحذو حذوها سائر الممالك العربية، فلما فُقدت فقد المتعلمون أساتذتهم. وقد استمر هذا الإفساد والتخريب مدةً طويلة اجتثت فيها الأشجار من جذورها، فقد ظل هؤلاء المغول من ٦٥٤–٧٥٠ﻫ أي نحو قرن، وهم يحكمون المسلمين بقسوتهم وجهالتهم ووثنيتهم إلى أن بدءوا يتحضَّرون ويقوِّمون العلم ويسلِّمون.
وفي سنة أربع وخمسين وستمائة خرج الطاغية العنيد مبيدُ الأمم هولاكو، فأخذ قلعة ألموت من الإسماعيلية وقتلهم، وأخرب نواحي الريِّ، وبذلت السيوف على عوائدهم، فتوجه الكامل محمد — صاحب مَيَّافارقين — إلى خدمة هولاكو، فأعطاه الفرمان، ثم نزل هولاكو بأذربيجان وأخذها.
وفي سنة خمسٍ وخمسين وستمائة ثارت فتنةٌ مهولة ببغداد بين السُّنِّيَّة والرافضة أدَّت إلى نهبٍ عظيمٍ وخراب، وقُتل عدَّة من الرافضة، فغضب لها وتنمَّر ابن العلقمي الوزير، وجسَّر التتارَ على العِراق ليُشتفَى من السُّنِّية.
وفي أول سنة ست وخمسين وستمائةٍ وصل الطاغية هولاكو — ابن تولى بن جنكيز خان المغلى — بغداد بجيوشه وبالكَرَج وبعسكر الموصل، فخرج الدويدار بالعسكر، فالتقى بطلائع هولاكو وعليهم ياجنوس، فانكسر المسلمون لقلَّتهم. ثم أقبل ياجنوس فنزل على بغداد من غربيِّها ونزل هولاكو من شرقيها. فقال الوزير ابن العلقمي للخليفة المستعصم بالله: إني أخرج إلى القاءان الأعظم في تقرير الصلح. فخرج الكلب وتوثَّق لنفسه ورجع. فقال: إن القاءان قد رغب في أن يزوِّج بنته بابنك، وأن تكون الطاعة له كالملوك السلجوقية ويرحل عنك. فخرج المستعصم في أعيان دولته وأكابر الوقت ليحضُروا العَقْد، فضُربت رقاب الجميع، وقَتلوا الخليفة رفسوه حتى مات. ودخلت التتار بغداد واقتسموها، وأخذ كلٌّ ناحيةً، وبقي السيف يعمل أربعة وثلاثين يومًا، وقَلَّ من سلمَ، فبلغت القتلى ألف ألف وثمانمائة ألفٍ وزيادة. فعند ذلك نادَوا بالأمان، ثم أمر هولاكو بضرب عنق ياجنوس، لكونه كاتَبَ الخليفة، وأرسل إلى صاحب الشام يهدده إن لم يخرب أسوار بلاده.
كذا في «دول الإسلام».
وفي تاريخ الجمالي يوسف: سبب قتل المستعصم بالله أنه لما وَلِيَ الخلافة لم يتوثَّق أمره؛ لأنه كان قليل المعرفة بتدبير الملك، نازِلَ الهمة، مهمِلًا للأمور المهمة، محبًّا لجمع المال. أهمل أمر هولاكو وانقاد إلى وزيره ابن العلقمي، حتى كان في ذلك هلاكُه وهلاك الرعية، فإن وزيره ابن العلقمي الرافضي كان كتب كتابًا إلى هولاكو ملك التتار في الدشت أنك تحضر إلى بغداد، وأنا أسلمها لك. وكان قد داخل قلب اللَّعين الكفر. فكتب هولاكو: إن عساكر بغداد كثيرة، فإن كنت صادقًا فيما قلته وداخلًا في طاعتنا فَرِّقْ عساكر بغداد ونحن نحضرُ، فلما وصل كتابه إلى الوزير، دخل إلى المستعصم وقال: إن جندك كثيرة، وعليك كلفةٌ كبيرة، والعدو قد رجع من بلاد العجم، والصواب أنك تعطي دستورًا لخمسة عشر ألفًا من عسكرك، وتوفر معلومهم. فأجابه المستعصم لذلك. فخرج الوزير لوقته، ومحا اسم من ذكر من الديوان، ثم نفاهم من بغداد، ومنعهم من الإقامة بها، ثم بعد شهر فعل مثل فعلته الأولى، ومحا اسم عشرين ألفًا من الديوان، ثم كتب إلى هولاكو بما فعل. وكان قصد الوزير بمجيء التتار أشياء، منها: أنه كان رافضيًّا خبيثًا، وأراد أن ينقل الخلافة من بني العباس إلى العلويين، فلم يتم له ذلك، من عظم شوكة بني العباس وعساكرهم، فَأَفْكَرَ أن هولاكو إذا قدم يقتل المستعصم وأتباعه، ثم يعود إلى حال سبيله، وقد زالت شوكة بني العباس، وقد بقي هو على ما كان عليه من العظمة والعساكر وتدبير المملكة، فيقوم عند ذلك بدعوة العلويين الرافضة من غير ممانعٍ لضعف العساكر ولقوَّته، ثم يضع السيف في أهل السُّنَّة.
فهذا كان قصده، لعنه الله.
ولما بلغ هولاكو ما فعل الوزير ببغداد، ركب وقصدها إلى أن نزل عليها، وصار المستعصم يستدعي العساكر ويتجهَّز لحرب هولاكو، وقد اجتمع أهل بغداد وتحالفوا على قتال هولاكو، وخرجوا إلى ظاهر بغداد، ومشى عليهم هولاكو بعساكره، فقاتلوا قتالًا شديدًا، وصبر كلٌّ من الطائفتين صبرًا عظيمًا، وكثرت الجرحى والقتلى في الفريقَين، إلى أن نصر الله تعالى عساكر بغداد، وانكسر هولاكو أقبح كسرة، وساق المسلمون خلفهم، وأَسَرُوا منهم جماعة، وعادوا بالأسرى ورءوس القتلى إلى ظاهر بغداد، ونزلوا بخيامهم مطمئنين بهروب العدو. فأرسل الوزير ابن العلقمي في تلك الليلة جماعة من أصحابه، فقطعوا شطر الدجلة، فخرج ماؤها على عساكر بغداد وهم نائمون، فغرِقت مواشيهم وخيامهم وأموالهم، وصار السعيد منهم من لقِيَ فرسًا يركبها. وكان الوزير قد أرسل إلى هولاكو يعرِّفه بما فعل، ويأمره بالرجوع إلى بغداد، فرجعت عساكر هولاكو إلى ظاهر بغداد، فلم يجدوا هناك من يردُّهم، فلما أصبحوا استولَوا على بغداد، وبذلوا فيها السيف، ووقعت منهم أمور يطول شرحها.
والمقصود أن هولاكو استولى على بغداد وأخذ المستعصِمَ أسيرًا، ثم بذل السيف في المسلمين، فلم يرحم شيخًا كبيرًا لكِبَرِه، ولا صغيرًا لصِغره.
ولما أُخذ الخليفة أسيرًا هو وولده أُحضر بين يدَيه، وأمر به هولاكو، فأُخرج من بغداد، وأنزله بمخيمٍ صغير بظاهر بغداد هو وولده. ثم في عصر ذلك اليوم وُضع الخليفة وولده في عِدْلَيْن وأمر التتار برفسهما إلى أن ماتا في المحرم سنة ست وخمسين وستمائة، ثم نُهبت دار الخلافة ومدينة بغداد، حتى لم يبقَ فيها لا ما قل ولا ما جل. ثم أُحرقت بغداد بعد أن قُتل أكثر أهلها، حتى قيل إن عدَّة من قُتل في نوبة هولاكو يزيد على ألفِ ألفٍ وثلاثين ألف إنسان. وانقرضت الخلافة من بغداد بقتل المستعصم هذا، وبقيت الدنيا بلا خلافةٍ سنين، إلى أن أقام الملك الظاهر بيبرس البندقداري بعض بني العباس في الخلافة، حسبما يأتي ذكره على سبيل الاختصار.
وكانت خلافة المستعصم خمسَ عشْرَة سنةً وثمانية أشهر وأيامًا، وتقدير عمره سبع وأربعون سنة. وزالت الخلافة من بغداد.
قال الشاعر:
أما الوزير ابن العلقمي فلم يتمَّ له ما أراد من أن التتار يبذلون السيف في أهل السنة، فجاءوا بخلاف ما أراد، وبذلوا السيف في أهل السنة والرافضة كلهم، وهو في منصِبه مع الذل والهوان، وهو يظهر قوة النفس والفرح، وأنه بلغ مراده، فلم يلبث أن أمسكه هولاكو بعد قتل المستعصم بأيام، ووبَّخه بألفاظٍ شنيعةٍ معناها أنه لم يكن له خير في مخدومه ولا في دينه، فكيف يكون له خير في هولاكو؟
ثم إنه قتله شر قِتلة، في أوائل سنة سبع وخمسين وستمائة.
إلى سقر، لا دنيا ولا آخرة! اﻫ.
وما كادت الأمة تفيق من غشيتها، حتى جاء تيمورلنك فأعاد سيرة أجداده جنكيز خان وهولاكو، واجتاح آسيا الصغرى، وأكثر في الأرض الفساد والتخريب والقتل.
والشام التي استعصت على هولاكو لم تستعصِ على تيمورلنك، فخربها فيما خرب، وقتل علماءها فيمن قتل، ومات سنة ٨٠٧ بعد أن عصف بالبلاد عصفةً ثانية.
فلا عجب بعد هذا كله أن تذبل الحياة العلمية والأدبية في العالم العربي، وأن يكون طابع النتاج العقلي والفني طابع تقليد للسابقين، أو جمع لما قال الأولون، وألا ترى ابتكارًا إلا في القليل النادر.
لقد أُغلق الشرق على نفسه من القرن الثالث عشر الميلادي إلى نهاية القرن الثامن عشر تقريبًا، فلم يتصل بالغرب إلا اتصالًا عدائيًّا حربيًّا في الحروب الصليبية، أو اتصالًا تجاريًّا ضعيفًا، أما اتصالًا ثقافيًّا علميًّا أدبيًّا فلا. ولهذا لما بدأ الغرب في القرن الخامس عشر والسادس عشر يضع أساس نهضته في العلوم والفنون والسياسة والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك مما غير وجه حياته تغييرًا تامًّا لم يصل إلى الشرق شيء منها، ولم يشعر بها، واستمر في دائرته المغلقة يقلد حياة الشرق الأولى من غير روح، ولم يتنبه للحياة الجديدة في الغرب إلا عند غزو نابليون مصر.
العراق وما حوله أفسده وخربه التتار، وعرب الأندلس انسحبوا أمام غزوات الإسبان، وبلاد الغرب أصبحت فريسةً للبربر، ومصر والشام خضعتا لاستبداد المماليك، ثم الأتراك العثمانيين. فكيف نرجي من هذا كله نهضةً علمية أو أدبية، ولا حرية لأهل البلاد، ولا عدل حكام، ولا استقاء من منابعَ جديدة تحرك الركود؟ لذلك كان أكثر ما نعرضه من الحياة العلمية والأدبية حياةً تقليدية لما كان قبل سقوط بغداد غالبًا.
وفي هذه الحقبة من التاريخ كانت أصلح بقعة في العالم العربي للعلم والأدب هي مصر والشام؛ لأنهما أمنا من تخريب هولاكو — أولًا — وأمنت مصر من تخريب تيمورلنك ثانيًا، ولأنهما كانتا تحت حكم المماليك، وهم كانوا أرحم من التتار، وكانوا يجلَبون من بلادٍ مختلفة ليس لهم فيها تاريخ ولا لغة ولا أدب يتعصبون له، ثم رأوا أن البلاد التي يحكمونها تتعصب للغتها ودينها وتاريخها، ورأوا أن الحاكم لا بد لسهولة حكمه أن يجاريهم في شعورهم الديني واللغوي، فتحبَّبوا إلى الناس بمظاهر الدين، ومظاهر اللغة والأدب، وأكثروا من بناء المساجد والمدارس، وقرَّبوا العلماء والشعراء، فحيى العلم والأدب في حمايتهم ما لم يحيَ مثله في سائر البلاد العربية، فازدحمت القاهرة والإسكندرية وأسيوط وقوص في مصر، ودمشق وحلب في الشام، بالعلماء والمدارس والمكاتب، ونشطت الحياة العلمية والأدبية، ولكن في الحدود التي رسمناها من قبلُ.
(١) الشعر
كان الشعر العربي في العصر العباسي وقبله شعرًا أرستقراطيًّا في الأعمِّ الأغلب، يزهر في بلاط الخلفاء، وقصور الأمراء، ولهذا كان أكثره مديحًا، وقلَّ أن نجد شاعرًا يشعر في نقد المجتمع أو تحليل مشاعره، كما فعل أبو العلاء المعري. وبجانب هؤلاء شعراء غنوا لأنفسهم في حبهم وغزلهم أو ولوعهم بالخمر كأبي نواس، ولكنهم بجانب شعرهم هذا هم شعراء مدَّاحون أيضًا، متصلون بالبلاط والأمراء، يعتمدون عليهم في معيشتهم، وقلَّ أن نجد مثل العباس بن الأحنف الذي يُشعر لحبه فقط.
ولهذا كان عماد الشعر هم الخلفاء والأمراء في مجالسهم وذوقهم، وكان هؤلاء الخلفاء والأمراء يتذوقون الشعر، ويعرفون جيده ورديئه، وكثير منهم يشارك في قوله، ويثيب عليه بمقدار جودته وخدمة أغراضه. فلما سقطت بغداد، وأصبح البلاط بلاط أعاجم، والأمراء ومن بيدهم مقاليد الأمور أعاجم، لا يحسنون العربية، ولا يتذوقون المديح وإن أثابوا الشعراء فعن تقليد لا عن ذوق؛ ضعف هذا النوع وهو أكثر الشعر، وصار تقليدًا ضعيف الروح، فاتر الحرارة، مهلهل النسج.
ثم لم يكن الجو جو حرية تنمو فيه مشاعر الفنان فيغني لنفسه، ويشعر لعواطفه، بل كان الجو خانقًا، وعيشة الشعب ضنكًا، ومن لم يكن من طبقة الحكام وأتباعهم جاهد في الحياة جهادًا مُرًّا لتحصيل القوت، ومحال أن تنمو مشاعر الفنان الذي يريد أن يغذي مشاعره ومشاعر من حوله بفنه في هذا الجو الخانق البائس. ثم أصيب الفن بفكرةٍ قاتلة، وهي ظن أهله أن قيمته في كثرة حليته، كالفلَّاحة الساذجة ترى أن جمالها في ملء يديها بالأساور الكثيرة، وصدرها بالعقود الضخمة، وأذنها بالقرط الثقيل الوزن، ورجلها بالخلخال الضخم، وثيابها بما يبرق ويلمع، فإن لم تفعل ذلك لم يكن جمالًا. وهيهات أن تفهم أن هناك جمالًا للبساطة يفوق جمال التركيب والتعقيد، وأن جمال السوار ليس في ضخامته، ولا القرط في ثقل وزنه، ولا الثوب ببريقه ولمعانه، فقد يكون سوارٌ بسيط فيه من الجمال ما يفوق أضعافه وزنًا، وأن من الألوان الباهتة ما يفوق الألوان الصارخة، ولكن هذا الجمال الذي أدركه أمثال البهاء زهير لم يدركه كثير من شعراء هذا العصر وكتَّابه، وأفسدهم أمثال الصاحب بن عباد، وابن العميد، والقاضي الفاضل، والعماد، وشعراء البديع، فظنوا أن الفن هو الحلية. وما زال كل جيل يأتي يتفنَّن في زيادة هذه الحلية، حتى ثقلت عليه وأعجزته عن الحركة، وأفقدته روحه.
وما أكثر من نجد في هذه العصور من أسماء الشعراء، ولكن ما أقلَّ من نجدهم من الشعراء حقًّا!
لقد كان الشعر تقليدًا، يقرأ الشاعر من المتأخرين ما تصل إليه يده من دواوين السابقين، ويستلُّ معانيهم، ويصوغها صياغةً من عنده هي في الأغلب أقل قيمة من صياغة من سبقه، وإن زاد في حليتها. كما قال مجير الدين بن تميم الأسعردي الذي توفي بحماة سنة ٦٨٤ﻫ:
والشاعر يقلد ولو لم يذق، يكون رجل دين فيتغزل في الخمر، وعفيفًا فيتغزل في المذكر، وفي وسط المدينة فيبكي الأطلال والدمن، وهكذا من أنواع التقليد السمج.
ولما فقدوا المعاني والعواطف عمدوا إلى الزينة يفرطون فيها؛ لتكون عوضًا عما فقدوا، وهيهات أن تعوَّض الروح بمادة، فأسرفوا في التورية، كقول نصير الدين الحمَّامي، وكتب به إلى السراج الوراق، وكان يسكن «الروضة».
والتضمين كقول أبي الحسين الجزار:
والاقتباس كقول ابن العفيف التلمساني:
وهكذا تفننوا في أنواع البديع، وتسابقوا في استكشافها وتسميتها والإكثار من القول فيها، حتى أوصلها ابن حجة الحموي إلى ١٤٢ نوعًا، زادها من أتى بعده أيضًا، وجاءوا في شعرهم بأمثلةٍ كثيرةٍ منها:
ومما كثر في هذه العصور وذاع وشاع؛ المدائح النبوية، فكأنهم لما حرموا عطاء الملوك والأمراء على مدائحهم، وغلب على الناس الالتجاء إلى الدين لفساد الدنيا، وشاع التصوف سواء ما كان منه صحيحًا أو مزيفًا، كثر اتجاه الشعراء إلى المدائح النبوية، وكان كل شاعر يتفوق في الشعر يرى واجبًا عليه أن يقول في هذا الباب. وكان من أسبقهم في هذا البوصيري المصري (١٢١١–١٢٩٤م)، وقد قلَّد قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير. وكان البوصيري من تلاميذ أبي العباس المرسي في التصوف، وكان فقيرًا كثير الشكوى من كثرة الأولاد، وكان كاتبًا صغيرًا من كتاب الحساب، وقد مدح الأمير التركي أيدمر واستجداه في قصيدةٍ بلغت ٣١٠ من الأبيات.
وأهميته الكبرى في مدائحه النبوية، فقد أنشأ البردة التي مطلعها:
وهي في ١٥٩ بيتًا.
والهمزية التي مطلعها:
وهي طويلة ذكر فيها حياة الرسول ومعجزاته وغزواته.
وذخر المعاد على وزن «بانت سعاد»، وهي ٢٠٦.
وقد راجت قصائده هذه رواجًا كبيرًا بين الشعب، وخاصةً البردة والهمزية؛ لأن شعره فيهما من أحسن الشعر في نظر أهل العصر، ولأنهما تتفقان ومشاعر الجمهور وميله إلى الابتهال وتجاوبان مطالب نفسه.
ومن عظم شأن البردة أن كانت مَثَل كثير من الشعراء يقلدونها إلى زمن البارودي، فقال على وزنها وقافيتها قصيدته:
وشوقي في قصيدته «نهج البردة» ومطلعها:
وأكثر الناس من تشطيرها وتخميسها.
وتفنن المقلدون للبردة كل تفنن، فمن ذلك أنهم وضعوا قصائد في المديح النبوي ضمنوها كل أنواع البديع، فكل بيت فيه نوع من البديع وفيه تمثيل له، وسميت كل قصيدة «بديعية»، وبدأ ذلك صفي الدين الحلي (٧٥٠ﻫ) فعمل بديعيته التي أولها:
وجاء بعده ابن نباتة (٧٦٨ﻫ) فعمل بديعيته:
وجاء عز الدين الموصلي (٧٨٩ﻫ) فزاد على ذلك أن جعل البيت من القصيدة يحمل اسم النوع البديعي وأولها:
وتبعه ابن حجة الحموي (٨٣٧ﻫ)، فعمل بديعيته المشهورة على هذا المنوال ومطلعها:
إلخ إلخ …
وهكذا سال سيل هذا النوع من الشعر في ذلك العصر، فما وجد الشعراء بابًا يُفتح للتقليد حتى ازدحموا عليه، وأوسعوه قولًا، وما أسهل التقليد وأصعب الابتكار.
وقد ترجمت البردة إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية.
•••
وأكثروا من المقطعات في وصف الأشياء المألوفة كوصف سجادة ووصف مسبحة، وفي الحوادث التي تعرض كوصف سقوط مئذنة وقتل زنديق، كما أكثروا من الأبيات في الألغاز وأمثال ذلك من موضوعاتٍ خفيفة.
وفي العصر العثماني أكثروا من مقطوعات التاريخ وعدُّوه نوعًا من البديع، وهو أن يأتي الشاعر بكلماتٍ إذا حسبت حروفها بحساب الجُمَّل بلغت عدد السنة التي يريدها الشاعر، فأرَّخوا لقدوم والٍ، وعرس غني، وموت عالم.
وأفرطوا في أقوال الهجر بألفاظٍ عاريةٍ صريحةٍ لا تورية فيها ولا إيماء، مع ضعف في الأسلوب، وضعة في المشاعر، وإغارة على معاني السابقين.
وعلى الجملة فقد سقط الشعر أسلوبًا ومعنًى وعاطفة وخيالًا إلا في القليل النادر.
شهد هذا العصر في أوله «صفي الدين الحلي»، وقد عده بعضهم أكبر شعراء عصره (١٢٧٨–١٣٥١م)، وقد ولد في الحلة (مدينة كبيرة في العراق على شاطئ الفرات)، وزار القاهرة في عهد الملك الناصر، ثم عاد إلى ماردين، واتصل ببلاط الأسرة الأرتقية في ماردين وكان شاعرها.
وهو يمثل أكبر تمثيل شعر عصره من التصنُّع واللعب بأنواع البديع. فمثلًا أنشأ القصائد الأرتقيات وهي تشتمل على ٢٩ قصيدةً، كل قصيدة ٢٩ بيتًا، وكل قصيدة لحرف من حروف الهجاء، يبتدئ كل بيت به وينتهي به، فقصيدة أول كل بيت فيها همزة وآخره همزة وهكذا. ومحال أن تجتمع الروح الشعرية العالية مع هذا التصنُّع البالغ. وكلها في مدح الملك المنصور الأرتقي الذي حكم ماردين من سنة ١٢٧٤ – سنة ١٣١٢م، وقد قال شعرًا في مصر في مدح ملكها، وقد ترجم شعره المصري إلى اللاتينية والألمانية، وطبع ديوانه في دمشق وبيروت، ومن أحسن شعره قوله:
وقوله:
ومن مُلَحه الطريفة الدالة على نزعَةٍ تجديدية قوله:
•••
كما اشتهر ابن نباتة (١٢٨٧–١٣٦٦م)، وقد ولد في ميافارقين ونشأ في مصر، ورحل إلى دمشق، واتصل بالملك المؤيد أمير حماة، وكان كاتبًا له، ودعاه السلطان حسن ليكون كاتبه في مصر فلبَّى الدعوة، ولكن السلطان مات في السنة التالية، وقد خلف لنا ديوان شعر، وهو كثير الشكوى فيه من فقره وبؤسه وشيبه وزمانه وكثرة أولاده، ومن أمثلة شعره قوله:
•••
•••
•••
•••
•••
ومما شُغِفَ به ابن نباتة مراعاة النظير، كقوله:
وقد تنازع صفي الدين الحلي، وابن نباتة المصري زعامة الشعر في عصرهما، هذا في مصر وذاك في العراق، وقالا الشعر في كل الأغراض التي قال فيها الشعر من سبقهما، من غزلٍ، وخمريات، ومديح، وشكوى. ويغلب على ابن نباتة الشكوى، ويغلب على صفي الدين الفخر والمديح. وقد كانت نفسية ابن نباتة أضعف، فقد عاش أكثر حياته في ظل الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقد كان مستبدًّا جبارًا، وعهده مملوء بالفتن والقلاقل، وقد دعاه حذره إلى كثرة سفكه للدماء ومصادرته للأموال والإفراط في التجسس، فأمات بذلك النفوس، هذا إلى أن ابن نباتة كان مُرزأً من فقر، وكثرة عيال، وموت أطفال، ومن أجل ذلك لا ترى في شعره هجاءً قويًّا ولا نقدًا لعمل من الأعمال، ولا التفاتًا إلى الشعب، وظلم الراعي له، وإذا عاتب عاتب عتابًا رقيقًا كقوله:
وإذا عادى أحدًا فوض أمره إلى يوم الحساب:
ولكن صفي الدين الحلي كان أقوى وأكثر اعتدادًا بنفسه، يقول الكثير في الفخر من مثل قوله:
وعلى الجملة فكان شعر صفي الدين أجزل وأقوى، وأقرب إلى الديباجة العربية العباسية، وأقل احتفالًا بالبديع، وكان ابن نباتة أسهل وأرقَّ وأملأ بالفكاهة، وأكثر زينة بأنواع البديع.
وكان بين الشاعرَين صلة ودٍّ، تبادلا الشعر، وتقارضا المديح، وكان كلٌّ منهما مثالًا يحتذى لشعراء عصره.
ثم البوصيري، وقد تقدَّم ذكره.
ثم الشاب الظريف، وهو محمد بن سليمان، ولد بمصر سنة ٦٦١ﻫ ومات شابًّا، وقد كان أبوه عفيف الدين التلمساني شاعرًا كذلك محسنًا.
والشاب الظريف شاعرٌ غزِلٌ خفيف الروح، أولع بالبديع كأهل زمانه، ولكنه استعمله في رقة وعذوبة، كقوله:
وقال فيما يجد العاشق وما يصنع:
ثم سراج الدين الوَرَّاق (١٢١٨–١٢٩٦م) وهو شاعرٌ مكثر، ملأ شعرُه كثيرًا من الكتب التي تعرض للنماذج الشعرية. عمل في الديوان المصري، وقد قالوا إن شعره يبلغ ثلاثين جزءًا ولم يبقَ منه الآن إلا مقتطفات جمعها الصفدي.
ومن أمثلته:
قال في شكر الله على نعمائه:
وقال في لوم النفس على المعصية:
وقال في الترفُّع:
وقال في الحنين إلى الأحباب:
ثم ابن الوردي المولود في معرة النعمان ١٢٩٠م والمتوفى في حلب ١٣٤٩م، وقد كتب في النحو والفقه والتصوف، وقد اشتهر في الشعر بقصيدته في الحكم والمواعظ منها قوله:
ثم ابن حجة الحموي (١٣٦٦–١٤٣٤م) ولد في حماة، وزار الموصل ودمشق ومصر، ورأى دمشق وهي تحترق أثناء حصار السلطان برقوق لها، ووصف ذلك في رسالةٍ بعث بها إلى «ابن مكانس». وقد اشتهر في شعره بالمدائح النبوية، وبما أنشأ في ذلك من بديعية، وقد جمع شعره الذي ألَّفه في الشام ومصر، وألَّف كتابًا في مختارات من النثر والنظم سماه «ثمرات الأوراق».
•••
ويصح أن نقف وقفة عند شاعرٍ مشهور في ذلك العصر، وهو عبد الغني النابلسي (١٦٤١–١٧٣١م)، وهو شاعرٌ صوفي على الطريقة النقشبندية والقادرية، وقد ولد في دمشق من أسرة من أصلٍ نابلسي وقد تعلم علوم الدين، ثم غلبت عليه النزعة الصوفية، وقد سافر إلى القسطنطينية سنة ١٦٦٤م، وعاد منها إلى البقاع ولبنان، وفي سنة ١٦٩٣م رحل إلى مصر، ثم إلى الحجاز، ثم عاد إلى الصالحية بدمشق، وقد شرح ديوان ابن الفارض، وله شعرٌ صوفيٌّ كثير سار بين الناس، وقد أعاد لنا في شعره نغمة من نغمات ابن الفارض وابن العربي تُشعر بوحدة الوجود.
وقد اشتهر في العصر العثماني من المصريين، عائشة الباعونية، اشتهرت بمدائح الرسول أيضًا، وعبد الله الشبراوي، وهو من أكابر شيوخ الأزهر، أغرم بالشعر وقال قصائد في المدائح النبوية والغزل، ومن أمثلة شعره قوله في مدح آل البيت:
ويقول في بعض أسفاره متشوقًا إلى مصر:
ومن الشاميين شمس الدين الهلالي، وحسين بن الجزري، ومنجك باشا، وأحمد بن إلياس الكردي إلخ.
وفي العراق ابن معتوق الموسوي (١٦١٤–١٦٧٦م)، وله ديوانٌ مشهور امتلأ بمديح حكام من الفرس في عهد الصفويين.
•••
وهكذا تقرأ في دواوين الشعراء في ذلك العصر، فتراها كرقعة الشطرنج تتحد حجارتها، وتختلف أوضاعها، وللحجارة أسماء من ذوات الروح كالفرس والفيل والجندي والوزير والشاه، ولكن ينقصها الروح، وأقوالٌ مرددة هي صدًى لما قبلها، ولذلك كثر في هذا العصر التأليف في السرقات الشعرية، يقول البحتري:
فيردده آخر بقوله:
وقد ذكروا أن صلاح الدين الصفدي بالشام أغار على معاني جمال الدين بن نباتة في مصر، فلم يترك له معنًى إلا أخذه، حتى اضطر ابن نباتة أن يؤلف كتابًا يجمع فيه هذه السرقات سماه «خبز الشعير»، واستهله بقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا.
ومما ورد في هذا الكتاب من أمثلة السرقة قول ابن نباتة:
فقال الصلاح:
فقال ابن نباتة: «لا إله إلا الله سرق الصلاح — كما يقال — من الحبَّتَين حبة.»
وتلتفت إلى الغرب وتستعرض قصة الشعر فيه، فترى الشعر كان قبل «النهضة» كشعرنا أو أقل، ثم عملت فيه عوامل الرقي كما عملت في كل مرافق الحياة، فبدأت الحياة تدب فيه وأخذ النزاع يثور بين الأدباء حول الكلاسيكية والرومانتية، وأخذ التحول من الأرستقراطية إلى الديمقراطية، ونبغ شيكسبير في إنجلترا، وأمثاله في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا كما أسلفنا، وأخذ هؤلاء الشعراء يفتحون في الشعر أبوابًا جديدة، وآفاقًا جديدة في الموضوع وفي الأسلوب وفي الأوزان، وأخذ الشعر يرقى شيئًا فشيئًا، كما أخذ الشعر العربي في مثل ذلك العصر ينحطُّ شيئًا فشيئًا. وذلك تبعًا للبيئة الاجتماعية والسياسية. فالنهوض هناك شمل كل مرافق الحياة ومعها الفن ومنه الشعر. والحريات السياسية والاجتماعية أخذت تثمر ثمارها؛ إذ كانت في الشرق تختنق شيئًا فشيئًا من ظلم الحكام ورفاهيتهم وفقر الشعوب وبؤسها، ودعا الدعاة هناك إلى تقويم الدنيا كما تقوَّم الآخرة، وأن يستمتع بالحياة ما أمكن. وفي الشرق رأوا الاستمتاع بالحياة غير ممكن في ظل ظلم الحكام، فغرقوا في التفكير في الآخرة إلى حد التخريف، ونسوا قول الله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. ومما زاد الطين بلة أن عدوى الشرق مما يحدث في الغرب لم تكن؛ لأن الأبواب موصدة والحواجز بين الإقليمين في الأمور الثقافية متينة، واستمر الحال على هذا المنوال إلى دخول الفرنسيين مصر.
•••
وقد اعتاد مؤرخو الأدب العربي أن يترفعوا عن تأريخ الأدب الشعبي وعرضه في مختارهم، مع أنه يمثل خير تمثيل ذوق الشعب ومشاعره. وقد كان في هذا العصر نوع من الشعر الشعبي يقال ويتغنى به وتوصف به الأحداث، وتحكى به المشاعر من موشحات وأزجال ودوبيت ومواويل وكان وكان.
وقد كثرت هذه الأنواع من الشعر في هذه العصر، وتحرروا فيها من التقيد باللفظ الفصيح، والنحو الصحيح، واستراحوا فيه من قيود القوافي والأوزان، وكان في الواقع أكثر قبولًا عند العامة، بل وبعض الخاصة، وأنبض بالحياة، وكان أقرب إلى نفس الملوك والأمراء أيضًا؛ لأنهم أقرب إلى العامة في ذوقهم اللغوي.
وراج الزجل في أيام بني قلاوون وأيام برقوق وشغل به الناس.
واشتهر من الزجالين في هذا العصر «خلف الغباري» وبدر الدين الفرضي وأحمد الدرويش وغيرهم.
ومن أمثلة ما قاله الغباري في مدح الملك الأشرف شعبان:
وترى للشعر العامي أمثلةً كثيرة في قصة «الزير سالم» و«الزناتي خليفة» وفي بدائع الزهور لابن إياس.
وقد استعمله في الفكاهة المُرة الشيخ الشربيني في كتابه «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف»، الذي ألَّفه في سنة ١٦٨٧م، فكتبه باللغة العامية المصرية، وجعل بطل القصيدة «أبا شادوف» نموذجًا للفلاح المصري يصف فيها شقاءه وبؤسه وجهله وقلة ذوقه، ويشير في لباقةٍ إلى أن ذلك نتيجة ظلم الحكام وقسوتهم في استخراج الأموال، وسوء معاملتهم للفلاح. فكان موضوع الكتاب على هذا الوضع منحًى جديدًا في الأدب، واتجاهًا به إلى الديمقراطية، ووصفا للفلاح وكوخه الحقير، حيث كان الأدب إنما يتجه إلى قصور الأمراء والملوك.
(٢) النثر
كان النثر الفني ينقسم إلى قسمَين: كتابةٌ ديوانية أو «رسمية» تستعمل فيما يصدر عن الحكومات أو السلاطين، وقد أنشي له ديوانٌ خاص اسمه «ديوان الإنشاء» يشرف عليه أشهر من عُرف بالأدب، وكان رئيس هذا الديوان يجمع بين السياسة والقلم، فإليه تنتهي أسرار الدولة، ويتصرف فيها عن السلطان، ومنه تصدر المكاتبات الهامة، وإليه تَرد، وهو يشارك السلطان الرأي والمشورة، ويتولى الكتابة في أدق الأمور كالعلاقات الخارجية، والأزمات السياسية، والثورات الداخلية، وتقليد المناصب، ومكاتبات العمال والأمراء، والإنباء بالوقائع الحربية، ونحو ذلك؛ ولذلك لا يكفي في اختياره القدرة الكتابية، بل القدرة السياسية أيضًا، والثقافة الواسعة. وقد تولى هذا المنصب للمماليك في مصر فخر الدين بن لقمان، ثم محيي الدين بن عبد الظاهر، ثم ابنه فتح الدين، وعلاء الدين بن الأثير، وشهاب الدين الحلي، وابن فضل الله العمري إلخ. وقد صدر عن هذا الديوان كتبٌ كثيرة كانت نماذج للأدب، كما ألِّفت كتب كبيرة ليتربى عليها من يُعَدُّون لهذا المنصب.
وقد قوي هذا الديوان في عصر المماليك، ثم ضعف في عصر الأتراك العثمانيين لما تحولت الكتابة الرسمية من العربية إلى التركية.
ويتميز هذا النوع من الكتابة بالمحافظة على الألقاب الرسمية، فلا يوضع لأحدٍ لقب أعلى ولا أقل من لقبه الرسمي، وقد تواضعوا على مصطلحات في ذلك كما نتواضع نحن الآن على التفرقة بين صاحب السعادة وصاحب العزة، فقد اصطلحوا — مثلًا — على أن يكون الأشرف أرفع من الشريف، والشريف أرفع من الكريم، والكريم أرفع من العالي، والعالي أرفع من السامي، وركن الإسلام والمسلمين أرفع من عز الإسلام والمسلمين، كما جعلوا اللقب الملحق به ياء النسبة أرفع من الخالي منها، فالقاضوي أرفع من القاضي وهكذا.
وقد وضعوا للكتابة في الموضوعات المختلفة مناهج مختلفة، ففي التهنئة بالنصر يتبسط الكاتب في شكر الله، وتعظيم النصر، وذكر ما يتصف به الممدوح من عزمٍ وإقدامٍ وصبر، ووصف جيش عدوه والتهويل فيه، وبذل الجهد في التغلب عليه، والتنكيل به إلخ، وهكذا في كل لونٍ من ألوان الكتابة.
وقد عرض القلقشندي في كتابه صبح الأعشى نماذجَ كثيرة لهذا النوع من الكتابة في العصور المختلفة.
وهذا النوع يحتاج — أول ما يحتاج — إلى دقةٍ تامةٍ في التعبير، فرب كلمةٍ في غير موضعها، أو عبارةٍ غير دقيقةٍ أضاعت على الدولة فوائدَ كثيرة أو أوقعتها في مضارَّ كبيرة، كما يحتاج إلى الوضوح التام، حتى يفهم المعنى المقصود على حقيقته، فإن احتيج إلى نوعٍ من المحسنات فإظهار القوة في موضع القوة، واللين في موضع اللين، ومعرفة موضع نوع الكلام المكتوب في نفسية المكتوب إليه، حتى يؤدي الغرض المطلوب منه.
ومع هذا فقد انصرف كثير من كتاب هذا النوع عن هذه الأوصاف، ومالوا إلى السجع، والبديع، والتورية، والتضمين، والاقتباس، وما إلى ذلك كما فعلوا في الشعر، ولو أضاعوا في ذلك جوهر الموضوع. وكان الذي يحمل كبر ذلك قديمًا ابن العميد، والصاحب بن عباد في الري، ثم القاضي الفاضل، والعماد الأصفهاني في مصر، وهؤلاء وإن كان في كتابتهم شيء من الروح، فقد ضعفت أو فُقدت على تقدم الزمان، ونحن إن قسنا هذا النتاج الرسمي بمقياس زمننا استخرج منا التبسُّم.
وقد وصف القلقشندي حالة الكتابة في عصره بقوله: وإنما تقاصرت الهمم عن التوغل في صناعة الكتابة، والأخذ منها بالحظ الأوفى لاستيلاء الأعاجم على الأمر، وتوسيده لمن لا يفرق بين البليغ والأنوك؛ لعدم إلمامه بالعربية، والمعرفة بمقاصدها، حتى صار الفصيح لديهم أعجم، والبليغ في مخاطبتهم أبكم، ولم يَسَع الآخذ من هذه الصناعة بحظٍّ إلا أن ينشد:
والنوع الثاني من النثر الفني ما يسمى بالرسائل الأدبية، أو الإخوانيات، وهي — عادةً — تكون مكاتبة بين أصدقاء من الكتَّاب في عتاب، أو استهداء، أو إهداء، أو مناظراتٍ أدبية، أو وصف مشاهدات، أو فكاهات، أو مقامات أو نحو ذلك، وقد يضاف إلى ذلك كتب في موضوعاتٍ تاريخية، أو أدبية، عُني فيها بالصياغة الفنية «كفاكهة الخلفاء» لابن عربشاه في حكَم على ألسنة الحيوانات، و«عجائب المقدور في أخبار تيمور» و«ريحانة الألباء» لشهاب الدين الخفاجي.
وكل الكتَّاب من هذا النوع، ساروا على نفس المنهج، الذي سار عليه كتَّاب الدواوين، من التزام السجع، والإغراق في البديع، ورعايتهم للشكل اللفظي أكثر من المعنى والموضوع، وتفاخرهم بما يأتون به من حلية البديع، فإذا تم له تركيب حلَّاه بحلًى شتى من التورية والتضمين والاقتباس والجناس؛ فخر كل الفخر، ولو كان المعنى سخيفًا، بل قد يدير المعنى ليتفق والبديع، ولم يستطيعوا أن يدركوا أن المعنى الجميل أو الشعور الجميل في اللفظ السهل، الجاري مع الطبع، أجمل بكثيرٍ من معنًى تافه، محلًّى بكل أنواع البديع أو مشاعر متصنعة جُمِّلت بكل أنواع الزينة، وقد أدرك هذا المعنى في دقة تدعو إلى الإعجاب كاتب انغمس في هذا الوسط، ولكنه تحرر منه، وهو ابن خلدون إذ قال:
«وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية، وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتَّاب على هذه الطريقة، واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصَروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل، وخصوصًا أهل المشرق … وما حملَ عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه من مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبُعد أمده في البلاغة، وانفساح خطوه، وولعوا بهذا السجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومطابقة الحال فيه، ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء القول كُتاب المشرق، وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليُخلُّون بالإعراب في الكلمات والتصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها، فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس، ويَدَعون الإعراب، ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف ذلك التجنيس.»
فعند ابن خلدون أن الكلام المرسل المطابق لمقتضى الحال خير من المسجوع، وأن السجع والبديع دليل فقر المعنى، وأن الإفراط في التحلي بهما دليل الانحطاط، ومصداق ذلك ابن خلدون نفسه، فلما غزرت معانيه تحرَّر قلمه، ولما رقي أسلوبه تحلَّى ببساطة الجمال.
•••
فمن أشهر البارزين من أوائل الكتاب في هذا العصر القلقشندي المصري، عمل بديوان الإنشاء بمصر، وله إلى كتاباته الرسمية كتابات من النوع الثاني في التهاني، أو وصف انتصار أو مقامة أو نحو ذلك.
وكتابته من أمثل ما عرف لأهل زمانه في أداء الغرض، وقلة التكلف، وعدم الإلحاح في البديع.
وهو من أصلٍ عربي، ينتسب إلى قومٍ من بني فزارة، نزلوا مصر في مديرية القليوبية، ومنها بلدة قلقشندة التي ينسب إليها، ولعل لأصله العربي هذا دخلًا في صحة أسلوبه إلى حدٍّ ما.
ومن إنشائه المشهور رسالة سماها «حلية الفضل وزينة الكرم، في المفاخرة بين السيف والقلم» مثالها:
قال القلم للسيف: «فررتَ من الشريعة وعدلها، وعولت على الطبيعة وجهلها، فافتخرت بحيفك وعدوانك، واعتمدت في الفضل على تعديك وطغيانك، فملت إلى الظلم الذي هو إليك أقرب، وغلب عليك طبعك في الجور والطبع أغلب، فلا فتنة إلا وأنت أساسها، ولا غارة إلا وأنت رأسها، ولا شر إلا وأنت فاتح بابه، ولا حرب إلا وأنت واصل أسبابه، تؤكد مواقع الجفاء، وتكدر أوقات الصفاء، وتؤثر القساوة، وتوتر العداوة، أما أنا فالحق مذهبي والصدق مركبي، والعدل شيمتي، وحلية الفضل زينتي، إن حكمتُ أقسطتُ، وإن استُحفظتُ حفظتُ وما فرطتُ، لا أفشي سرًّا يريد صاحبه كتمه، ولا أكتم علمًا يبتغي متعلمه علمه … أدير في القرطاس كاسات خمري، فأزري بالمزامير وأهزأ بالمزاهر، وأنفث فيه سحر بياني، فألعب بالألباب وأستجلب الخواطر، وأنفذ جيوش سطوري على بُعد فأهزم العساكر:
فقال السيف: أطلت الغيبة، وجلت بالخيبة، وسكتَّ ألفًا، ونطقت خلفًا.
إن نجادي لحلية للعواتق، ومصاحبتي آمنة من البواتق، ما تقلَّدني عاتق إلا بات عزيزًا، ولا توسدني ساعد إلا كنتُ له حرزًا حريزًا، أمري المطاع، وقولي المستمع، ورأيي المصوَّب، وحكمي المتَّبع، لم أزل للنصر مفتاحًا، وللظلام مصباحًا، وللعز قائدًا، وللعداة ذائدًا، فأنى لك بمساجلتي ومقاومتي في الفخر ومنافرتي، مع عري جسمك، ونحافة بدنك، وإسراع تلفك، وقصر زمنك، وبخس أثمانك على بعد وطنك، وما أنت عليه من جري دمعك، وضيق ذرعك، وتفرق جمعك، وقصر باعك، وقلة اتباعك.
•••
وفي الشام — مثلًا — كان بدر الدين الحلبي، وقد ألَّف كتابه «نسيم الصبا»، الذي كان يعد في زمنه قطعةً فنيةً رائعة، وهو فصول نحو الثلاثين، في وصف الطبيعة، والأخلاق والأدب ونحو ذلك، ملأ كل فصل منه بكل ما استطاع من أنواع الزينة. يقول — مثلًا — في وصف الكُتَّاب: «الكتَّاب عماد الملك وأركانه، وعيونه المبصرة وأعوانه، وبهاء الدولة ونظامها، ورءوس الرياسة وقوامها، ملابسهم فاخرة، ومحاسنهم باهرة، وشمائلهم لطيفة، ونفوسهم شريفة، مدار الحل والعقد عليهم، ومرجع التصرف والتدبير إليهم، بهم تحلى العواطل، وتبتسم ثغور المعاقل، مجالسهم بالفضائل معمورة، وبندائهم أندية القصاد مغمورة، يهدون إلى الأسماع أنواع البديع، وينزهون الأحداق في حدائق التوشيح والتوشيع، هم أهل البراعة واللسن، وشيمتهم لف القبيح ونشر الحسن، يميلون إلى القول بموجب المدح، ولا يميلون من مراجعة الراغبين في المنح، دأبهم استخدام الناس بالمعروف، وعدم التورية عن العاني والملهوف، يجلون الكبير، ويبجلون الصغير، ولا يخلون بمراعاة النظير، لهم إلى الخير رجوع والتفات، وبالجملة فقد حازوا جميع جميل الصفات.
بأيديهم أقلام، تختلس بلطفها الأحلام، صافية الجواهر، زاهية الأزاهر، لينة الأعطاف، ناعمة الأطراف، تبكي وهي مبتسمة، وتسكت وهي بما يطرب السمع متكلمة، قد اعتدلت قدودها، وأشرقت في سماء البراعة سعودها، … نشأت على شطوط الأنهار، وتعلمت اللحن من أعراب الأطيار، الشجاعة كامنة في مهجتها، والفصاحة جارية على لهجتها، تبهر بالنضارة نواظر البهار، وتطرز بالليل أردية النهار، إن قالت لم تترك مقالًا لقائل، وإن صالت رجعت السيوف مستترة بأذيال الخمائل …» إلى أن يقول:
«فاجتهد أعزك الله في طلابها، واحرص على الدخول في زمرة أربابها، وتمسك بأذيال بنيها، تجد جوادًا أو نبيلًا أو نبيها، حسبهم شرفًا أن الله تعالى نوه بذكرهم في العالمين، ووصف الكتبة بالحفظ والكرم فقال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ».
وفي هذا الفصل صورة دقيقة لوصف الكاتب في هذا العصر في مظاهره وأغراضه ونفسيته وفنه.
•••
ويقول في وصف سفينة:
يا لها سفينة، على الأموال أمينة، ذات دُسُر وألواح، تجري مع الرياح، وتطير بغير جنَاح، وتعتاض عن الحادي بالملَّاح، تخوض وتلعب، وترِدُ ولا تشرَب. لها قِلاع كالقِلاع، وشِراع يحجُب الشُّعاع، وسكينة وسُكَّان، ومكانة وإمكان، وجُؤْجُؤٌ وفَقار، وأضلاع محكمة بالقار، وجسمٌ عارٍ عن الفؤاد، وهو في عين الماء بمنزلة السواد. بعيد ما بين السَّحْر والنحر، من أحسن الجواري المنشَئات في البحر، معقودٌ بنواصيها الخير كالخيل، لا تَمَلُّ من سير النهار ولا من سُرَى الليل.
كأنها وَعِلٌ ينحط من شاهق، أو عِرْباض سابق يحثُّه سائق، أو عقرب شائلة، أو عُقاب صائلة، أو غراب أَعْصَم، أو تمساح أو أرقم، أو ظَليم نفر في الظلام، أو جواد فرَّ مستنكفًا من صحبة الأنام. حاكمها عادل في حكمه، عارف بنقض أمرها وبَرْمه، يهتدي بالنجوم، ويبتدئ باسم الحيُّ القيُّوم، يبرزُ من نَواتِيِّها في جنود، ويشمل إحسانُهم أهلَها أيقاظًا وهم رقد، يتأنقون فيما يعملون، ويفعلون ما يؤمرون.
وفي آخر أيام العرب بالأندلس ظهر خاتمة الكتَّاب «لسان الدين بن الخطيب»، الذي ترجم له المقري في كتابه «نفح الطيب» في نحو جزأين. وقد نشأ من بيت وزارة، وكان هو نفسه وزيرًا لبني الأحمر في غرناطة، وانغمس في الأحداث السياسية، وسفر إلى الملوك، واكتوى بنار الفتن المشتعلة في أيامه، وقد وصف في بعض كتبه ما يعاني رجال السياسة والوزارة في عصره من عناءٍ من «توقع المكروه صباحًا ومساءً، وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم البأساء، ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤساء، وترتب العتب، على التقصير في الكتْب، وضغينة جار الجنب، وولوع الصديق بإحصاء الذنب، ونسبة وقائع الدولة إليك وأنت بريٌّ، وتطويقك الموبقات وأنت منها عريٌّ، وقطع الزمان بين سلطان يُعْبَد، وسهام للغيوب تكبد، وعجاجة شر تلبد، وأقبوحة تخلد وتؤبد، ووزير يصانع ويدارَى، وذي حجةٍ صحيحة يجادَل في مرضاة السلطان ويمارَى … وسوق للإنصاف والشفقة كاسد، وحال فاسد، ووفود تتزاحم بسدَّتك، مكلفة لك غير ما في طوقك، فإن لم يقع الإسعاف قلبت عليك السماء من فوقك، وجلساء ببابك، لا يقطعون زمان رجوعك وإيابك، إلا بقبيح اغتيابك.
وما الفائدة في فُرُش تحتها جمر الغضا، ومال من ورائه سوء القضا، وجاه يحلق عليه سيف منتضى …»
إلى أن يقول في أعباء الوزير ومتاعبه: «أما ليله ففكر أو نوم، وعتب بجرائر الضرائر ولوم، وأما يومه فتدبير، وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير، وبلاء مبير، ولغط لا يدخل فيه حكم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير.»
ثم تحقق ما وصف، فدست له الدسائس، فترك الوزارة وذهب إلى فاس سنة ١٣٧١م، فاستقبل فيها استقبالًا حسنًا.
ثم لما عاد السلطان الذي يولي ابن الخطيب عطفه أعاد ابن الخطيب إلى غرناطة، وما زالت تحاك حوله المؤامرات، حتى اتهموه أخيرًا بالتهمة التي تثير العامة، ويتخلصون بها — دائمًا — ممن يضايقهم وهي الزندقة، فقد كان ابن الخطيب ألف كتابًا اسمه «روضة التعريف بالحب الشريف»، وهو كتاب في التصوف، نحا فيه منحى القول بوحدة الوجود، فنسبوا إليه القول بالحلول، وأُحضر إلى مجلس الشورى، ووبِّخ وسجن، وأفتى المُفتون بقتله، ودسوا إليه من قتلوه خنقًا سنة ١٣٧٤م.
وقد كان واسع الثقافة، ملمًّا بعلوم أهل زمانه، فقد أخذ الطب والمنطق والفلسفة عن ابن زهر، والعلوم اللسانية عن ابن مرزوق، كما كان واسع الاطلاع على التاريخ، وخاصة تاريخ الأندلس ورجالها، وألف فيه كتاب «الإحاطة في تاريخ غرناطة».
وأسلوبه الأدبي من أرقى ما وصل إليه أسلوب زمانه، يلتزم طريقتهم في السجع والبديع، ولكن يخفف ثقله غزارة معانيه التي تأتيه من سعة اطلاعه، إلى نبله وخفة روحه. وقد عرف في أسلوبه بالإطناب، وطول النفَس، وإن لم يبلغ حد الإملال. وقد كان له آثارٌ أدبية في نواحي الأدب المختلفة من مخاطبات الملوك، ومقامات وإخوانيات وغير ذلك، ومن أمثلة أسلوبه قوله لمعلم كتَّاب عاد إلى حرفة التعليم بعد أن هجرها:
«تعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررتُ باستقامة حاله، وفضل ماله، حبذا والله عيش التأديب، فلا بالضنك ولا بالجديب، معاهدة الإحسان، ومشاهدة الصور الحسان، يمينًا إن المعلمين، لسادة المسلمين، وإني لأنظر منهم — كلما خطرت على المكاتب — أمراء فوق المراتب، من كل مسيطر الدِّرَّة، متقطب الأسرة، متنمر للوارد تنمُّر الهرة، يغدو إلى مكتبه، كالأمير في موكبه، حتى إذا استقلَّ في فرشه، واستوى على عرشه، أظهر للخلق احتقارًا، وأزرى بالجبال وقارًا، ورُفعت إليه الخصوم، ووقف بين يديه الظالم والمظلوم، فتقول كسرى في إيوانه، والرشيد في أوانه، أو الحجاج بين أعوانه، فأي عيش كهذا العيش، وكيف حال أمير هذا الجيش، طاعةٌ معروفة، ووجوه إليه مصروفة، فإن أشار بالإنصات، لتحقق القصات، فكأنما طمس على الأفواه، ولأم بين الشفاه، وإن أمر بالإفصاح، وتلاوة الألواح، علا الضجيج والعجيج، وحفَّ به كما حف بالبيت الحجيج، وكم بين ذلك من رشوة تُدس، وغمزة لا تُحس، ووعد يستنجز، وحاجة تستعجل وتحفز؟ هنأ الله سيدي ما خوله، وأنساه بطيب أخراه أوله.»
هذا نموذج من خير من أخرجه هذا العصر من الكتَّاب.
وفي العصر العثماني ربما كان أمثل الكتَّاب شهاب الدين الخفاجي، وهو مصري ولد بسرياقوس من مديرية القليوبية، ودرس بالأزهر، وقد جمع بين الفقه والأدب واللغة وأفادته حياته فاطلع على كثيرٍ من شئون الدنيا وتجارب الحياة، فقد رحل إلى مكة مع أبيه، ثم سافر إلى القسطنطينية وشغف هناك بتعلم الرياضة، ثم عُيِّن وهو في الأستانة قاضيًا للروملي ثم سالونيكا، ثم أرسل إلى مصر «قاضي عسكر»، ثم عاد إلى القسطنطينية، ثم عاد إلى مصر قاضيًا، وهنا وجه همته إلى التأليف في الأدب واللغة.
ومن خير ما ألَّفه «شفاء الغليل بما في كلام العرب من الدخيل» أتى فيه بمقدمةٍ حسنة عن التعريب، ثم أورد الكلمات المعرَّبة مرتبة على حروف المعجم.
وفي موضوعنا الأدبي خلف لنا «خبايا الزوايا» في ترجمة أدباء عصره، وقسمه إلى خمسة أقسام: أدباء سوريا والحجاز ومصر والمغرب والروم (القسطنطينية)، وقد أعاد هذا الكتاب في كتابه ريحانة الألبا ونزهة الحياة الدنيا.
وأسلوبه مسجوع متكلف للبديع كقوله في ترجمة ابن منجك:
الأميرُ محمدً بن مَنْجَك الجَرْكَسِيُّ أصلًا ومَحْتِدُا، الشاميُّ منشأً ومولدًا، أديبٌ أريبٌ، ونجيبٌ وابن نجيب، أورق عودُه بالشام وأثمر، فإذا عُدَّت السجايا عَرَضًا فسجاياه جَوْهر، نشأ بها والدهرُ أبيضُ أقمرُ، ونادم العيشَ والعيشُ أخضر، وللبِقاع تأثيرٌ في الطباع، والعِرْق — كما قيل — لمغرِسِه نزَّاع، ومَنْ كان جارَ الرياض، لبِس طبعُه بُرْدَ نسيمها الفَضْفَاض، كما لبِس النهر الجاري، دِرْعَ النسيم الساري.
وقد صحبني بجِلِّقَ ونسيمُه سَجْسَج، وخيوطُ شبيبته بيد الكهولة لم تُنْسَج، ولازَمني إذ رأى انعطافي عليه، وشِبْهُ الشيء منجذبٌ إليه.
وله شرح درة الغواص للحريري ونقدها. قال في أوله: «دعاني الانتصار للسلف، إلى تمييز الدر من الصدف، فضممت إليها دررًا تصيرها عقدًا، ونشرت عليها من جلستان الآداب نورًا ووردا، مما تتقرطق به الآذان، وتتوشح ببرده معاطف الزمان.» إلخ، وقد مات في مصر سنة ١٦٥٩م.
•••
ثم توالى الضعف في الكتابة، حتى أصبحت لا لفظًا ولا معنى، وحتى أنواع البديع ثقلت وسمجت كقول عبد الوهاب الحلبي إلى الشهاب الخفاجي: «لقد طفحت أفئدة العلماء بشرًا، وارتاحت أسرار الكاتبين سرًّا وجهرا، وأفعمت من المسرة صدور الصدور، وطارت الفضائل بأجنحة السرور، بين قدوم من اخضرت رياض التحقيق بإقدامه، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه.» وسبب ضعف النثر ما قُلناه في سبب ضعف الشعر.
وأكبر مصيبة أصيب بها أدباء العربية — شعراء وكتَّابًا — أنهم شدوا أعينهم إلى قصور الخلفاء والأمراء، وربطوا مشاعرهم بها، ولم ينظروا إلى غيرها إلا تبعًا، ولم يشعروا بأنفسهم، ولا لأنفسهم إلا قليلًا، فكان لهذا نتائجُ سيئة من وجوهٍ شتى:
-
(١)
أن الأدب — أكثر ما كان — أصبح أرستقراطيًّا في أغراضه من مديحٍ واستعطاف واستمناح واعتذار ونحو ذلك، وفي ألفاظه، إذ كان تحفة كالتحف التي تهدى أو تباع للملوك. أما أن تهيج مشاعر الشاعر أو الناثر فيفرج عن نفسه بالفن فقليلٌ نادر.
-
(٢)
أن كثيرًا من الشعراء والكتاب أصيبوا بهذه الرابطة إصاباتٍ قاتلة من غضب السلطان أو النزاع السياسي بين الأمراء، وتغلِّب أحدهم على الآخر، فينكل بأتباعه، وكانت تلك سُنةً قديمة من عهد خلفاء بني أمية إلى مثل ما رأينا في لسان الدين بن الخطيب، ولو شعروا أو كتبوا لمشاعرهم ومشاعر الناس لأجادوا وسعدوا وحفظوا أرواحهم.
-
(٣)
لما ربطوا أنفسهم بالقصور ربطوا فنهم بها، فالأمراء يعطون فيجود الفن، ويمنعون فيضعف الفن، والأمراء يجيدون العربية فيرقى الأدب، ويجهلون العربية فيضعف الأدب. والعثمانيون يحولون الدواوين إلى اللغة التركية فينهار الأدب، ولو كان الأدب مستقلًا لاستقام سيره، ولو اختلت القصور.
-
(٤)
كان لهذه الظاهرة أثرٌ سيئ في حياة الشعوب الشرقية نفسها، فلو اتجه الشعراء والكتاب إلى الشعوب لوضعوا بذور الثورة على الملوك والأمراء إذا ظلموا الرعية، ولأشعروا الشعب بآلامه، ورسموا له آماله، واستحثوه على بلوغ غايته — كما حدث من رجال الأدب في الغرب — فكان عملهم مبعث نهضتهم. أما في الشرق فلم يتجه الأدب شعرًا ونثرًا إلى الإصلاح الاجتماعي، ولم يغنِّ الفنان لنفسه ولقومه، فكانت النتيجة ما نرى.
لقد كان الأدب الغربي في عصور الإقطاع على هذا المنوال، فكان الشعراء والأدباء يستمدون شعرهم وأدبهم من الأمراء؛ لأن الشعب لم يكن يطعِم ولم يكن يغذى فنًّا، إنما يفعل ذلك سادة الإقطاعات، وكان لكل شاعر أو أديب راعٍ من هؤلاء السادة، وكان الأديب يستمد وحيه وموضوعاته من حياة الأمراء في لغتهم وأسلوبهم وملابسهم وسلوكهم، وكانت الروايات التي تمثل إنما يقصد بها — أولًا — إلى تسلية هؤلاء السادة باختيار الموضوعات التي تلذهم، والمناظر التي تغذي كبرياءهم، ولكن «النهضة» حوَّلت هذا التيار، وجعلت الأدباء يتحولون إلى الطبقة الوسطى من الشعوب، وغيرت الموضوعات من قصور الأمراء إلى كوخ الفقراء، وصورت حياة الطبقات الفقيرة كما كانت من قبل تصور حياة الطبقات الرفيعة، وأمكن بانتشار المطابع أن يقوم ناشر الكتاب مقام الأمير في إمداد الأديب بالمال، وأن يقوم رضا القراء من الشعب مقام رضا القصور. وقراء الشعب إنما يرضيهم أن يجدوا فيما يقرءون ما يصور نفوسهم وآمالهم وآلامهم.
أما في الشرق فلم يحدث هذا التحول؛ لأن الحالة الاقتصادية لم تمكن الطبقات الوسطى والدنيا من اليسر المالي، ولم تكن المطابع وانتشار القراءة والكتابة حتى يغنِّي الأدباء لهم، فبقي الأدب العربي في أوضاعه القديمة لم يسعفه ما طرأ على الغرب.
وظلت موضوعاته كما هي في القديم، فإن أنت نظرت إلى كتاب في المختارات من أدب هذا العصر رأيت ما يأتي: قال «صفي الدين الحلي» يمدح الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقال يهنئ المؤيد بالقدوم من الصعيد، وقال ابن نباتة يمدح السلطان الأفضل ويعزيه في والده، وقال في الناصر حسن. فإن خرجوا عن هذا رأيت ابن الوردي يقول في الحكم، والشاب الظريف في الغزل، وسراج الدين الوراق في شكر الله على نعمائه، وفي لوم النفس على المعصية، ومحيي الدين الحموي يصف روضًا أو نهرًا … أما الدنيا وشئونها والناس وحياتهم ومطالبهم فلا نجد فيها شيئًا.
وزاد الأمر سوءًا أن العثمانيين لما فتحوا مصر والشام وغيرها أرادوا أن يجمِّلوا القسطنطينية بخير ما في هذه البلاد، فأخذوا من خزائن المدارس بمصر والشام أكثر الكتب القيمة التي فيها، فحرموا البلاد أغلى كنوزها، ونقلوا كثيرًا من الأدباء والعلماء والمهندسين والوراقين وأرباب الصناعات إلى بلادهم، وقد قدرهم ابن إياس بنحو ألف وثمانمائة، وغرقت بعض السفن التي تحملهم، وكان هؤلاء الذين أُخذوا خير من في مصر علمًا وأدبًا وفنًّا، فتركوا البلاد في ظلام.
•••
وكما كان الشعراء والأدباء ينشئون كان بجانبهم من يجمع المختارات من أدبهم وأدب من قبلهم، فألف جمال الدين الوطواط (١٢٣٥–١٣١٨م) كتابه «غرر الخصائص الواضحة» و«مباهج الفكر».
وألَّف شهاب الدين الأبشيهي المولود نحو سنة ١٣٨٨–١٤٤٦م كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف» جمع فيه شعرًا وقصصًا وأمثالًا.
وألف شمس الدين النواجي المتوفى سنة ١٤٥٥م «حلبة الكميت» جمع فيه كثيرًا مما قيل في الخمر.
وألف داود الأنطاكي الطبيب المشهور صاحب التذكرة كتابًا في الحب، وما قيل فيه سماه «تزيين الأسواق»، وقد توفي سنة ١٥٩٩م.
وألَّف عبد القادر البغدادي المتوفى سنة ١٦٨٢م كتابه الكبير «خزانة الأدب» ترجم فيه لكثيرٍ من الأدباء والشعراء من الجاهليين ومن بعدهم، وجمع فيه معلوماتٍ قيمة، وهو في الأصل شرح لشواهد «الكافية» في النحو بنى عليه هذه التراجم.
(٣) القصص
أما الأدباء الكلاسيكيون فأغلب نتاجهم القصصي كان إنشاء مقامات يقلِّدون فيها مقامات الحريري، حتى كاد كل أديب يقيم البرهان على أدبه بإنشاء مقامة أو مقامات.
فعمل شمس الدين بن الصيقل الجزري المتوفى سنة ٧٠١ﻫ خمسين مقامةً نسبها إلى ابن نصر المصري، وروايتها إلى القاسم بن جريال الدمشقي.
وعمل محمد بن إبراهيم الدمشقي (٧٢٧ﻫ) خمسين مقامةً فلسفيةً، وشهاب الدين الخفاجي بعض مقامات في كتابه «ريحانة الألبا» وهكذا إلى الشيخ ناصيف اليازجي.
وكلها إذا وزنت بميزان القصة كانت خفيفة الوزن لضيق خيالها وقصر نفَسَها، وضعف عاطفتها، وقلَّة حبكتها، ورخاوة عقدتها.
وأما القصص الشعبية فكانت أوفر حياةً، وأوسع خيالًا، وأدخل في باب القصص. وعلى رأس هذه القصص «ألف ليلة وليلة»، وهو كتاب لم يعره أدباء العربية التفاتًا إلا بعد أن ذاع في أوروبا وترجموه إلى لغاتٍ كثيرة، وقدروه تقديرًا كبيرًا. والسبب في انصراف الأدباء العلماء من أهل العربية عنه هو أنه شعبي في أسلوبه وموضوعه.
وإنما ذكرناه هنا؛ لأنه لم يستكمل شكله الذي بين أيدينا إلا في عهد المماليك، فقد ذكر المسعودي أن أصله فارسي، واسمه «هزار أفسانا»، ومعناه ألف ليلة، وترجم من الفهلوية إلى العربية، ويدل على فارسيته أسماؤه الفارسية في هذا القسم من مثل «شيرازاد» ومعناه: النبيلة بالحسب، وقد غيرت إلى شهر زاد، ودنيا زاد، ومعناه: النبيلة بالنسب، وقد حرفت إلى دينار زاد. وقد زادت فيه الأمم العربية المختلفة على توالي العصور إلى آخر عصر المماليك. وقد اجتهد المستشرقون في تحليل قصصه وردِّ كل مجموعة منها إلى الأمة التي صدرت عنها وتحديد تاريخها، فهناك قصصٌ بغدادية تمثل حياة بغداد في عصر الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، وهناك قصصٌ مصرية تمثل حياة مصر «كأحمد الدنف ودليلة».
وهناك قصص من أصلٍ يهودي أدخلها فيها يهود تعربوا كقصة كريم الدين، وقصص من عصرٍ قديم، حيث أزهرت التجارة في الخليج الفارسي والمحيط الهندي كقصة السندباد البحري، وبعضها تدل حوادثها على قرب عهدها كقصة معروف وزوجته فاطمة، فإن حوادثها تدل على أنها أُلِّفت في القرن السادس عشر، وكقصة أبي قير وأبي صير، فإنها من أحدث ما كُتب.
وأسلوبها قريب التناول يفهمه العامة والخاصة، سواء في ذلك شعرها ونثرها، وبعض القصص تظهر فيها خصائص اللغة العامية السورية، والبعض المصرية، وكلها تصور الحياة الشرقية في دينها ودنياها، ونظرتها إلى النساء، وأوهامها وخرافاتها، وإيمانها بالقدر، ومباهجها وأحزانها وحياة قصورها، وعلاقة حكامها بشعوبها إلخ. وقد انعكست فيها كل هذه الصور من غير شعور مؤلفيها.
وهي من الناحية الفنية تفوق المقامات بسعة خيالها، وتنوع ألوانها وتصوير الحياة في مختلف أشكالها، وحسن حبكتها، ومن أجل هذا لم ينل كتابٌ شرقي في الغرب ما لقيه كتاب «ألف ليلة».
وقصة عنترة بن شداد المعروفة بسيرة عنتر، والمنسوبة إلى الأصمعي العالم اللغوي المشهور في عصر الرشيد، ولا شك أنها نسبةٌ مختلقة، وهي مؤلفة — كما يرى بعض المستشرقين — أيام الحروب الصليبية، وقد عدَّها بعضهم «إلياذة العرب»، وقيمتها في أنها تمثل حياة البدو، من كرمٍ، وانتقامٍ، ونجدة، وحب، وتذوق للشعر، مزجت فيها حياة البدو في الجاهلية بحياتهم بعد الإسلام، وحيك حولها كلها قَصصٌ لطيف بطلها عنترة بن شداد العبسي صاحب إحدى المعلقات.
وقد ترجمت أجزاء منها إلى الإنجليزية والفرنسية.
ومن أشهر القصص قصة بني هلال، وهي في الحقيقة سلسلة من القصص تصور أحداث بني هلال ممزوجةً بالخيال الواسع، منها قصة جابر وجبير تمثل بني هلال في القرون الأربعة الأولى للإسلام، وقصة الخضراء — أم أبي زيد الهلالي — وقصة الشماء وزهر البان، وقصة أبي زيد إلخ، وكلها تستمد حوادثها مما كان من غزواتٍ وحروبٍ من قبيلة بني هلال بين الغرب وحدود مصر في القرن الحادي عشر الميلادي، وغير ذلك من القصص كثير كقصة سيف اليزن، وهي تدور حول شخصيةٍ عجيبة، تفتح العالم وتحارب الجن، وتُخضع أهل الكفر للإسلام، وكقصة ذات الهمة والظاهر بيبرس إلخ.
وكلها قصص من الأدب الشعبي كانت تسلِّي الشعب، وتغذي خياله وعواطفه، يقرؤها من يعرف القراءة، ويستمع لها الناس في المجتمعات من قارئين يحترفون قراءتها.
وهي — وإن فضلت المقامات من ناحية فنها — فلا تعدُّ راقيةً أمام الذوق الفني المهذب.
وربما كان من أهم أسباب ضعف القصص في الشرق ورقيه في الغرب في هذا العصر حركة التمثيل في المسارح، فقد رقيت في الغرب تقليدًا للمسرح اليوناني وترقيةً له مع الزمان. وقد أبى الشرق أن يستعير الأدب اليوناني منذ العصر العباسي، فاستعار العلوم، ولكن لم يستعر الآداب، ولو استعارها لاقتبس منها المسرح، ولكنه لم يفعل واقتبسه الغرب، وسار به مع الزمان، فكان مبعثًا للقصص الراقي، وما كان يكون شيكسبير وأمثاله لولا المسرح.
وقد نشأ في الشرق مسرح هو «خيال الظل» اشتهر فيه وفي عمل الروايات له ابن دانيال، ولكنه لم يتم، ولم يرتقِ مع الزمان، وظل بدائيًّا طول حياته، حتى انقضى أجله.
وقد نلاحظ — أيضًا — الانفصال الشديد بين أدب الخاصة وأدب العامة مع أن هذا الانفصال يقضى عليه في الأدب الغربي، فكان للخاصة في الشرق مقاماتها وشعرها وإعرابها، وكان للعامة زجلها وقصصها، وليس يمكن أن تعيش طائفة من غير أدب، فالشعب لا بد أن يغذي مشاعره بأغانيه وزجله وأمثاله وأحاديثه (حواديته)، فنبغ منهم أدباء يقومون بهذه الأغراض، عندهم ملكة الأدب وإن لم يثقفوا ثقافةً واسعةً عميقة، وكان من حسن الحظ أن لم يثقفوا؛ لأنهم لو فعلوا لقالوا في أدب الخاصة، والخاصة يترفَّعون عن أن يقولوا للشعب، وإنما يتجهون إلى الأمراء وأمثالهم. ولا تزال الحواجز بين الأدبين قوية إلى اليوم، فكل من يكتبون في الأدب إنما يكتبون لمن يقرءون العربية الفصحى، وهم المتعلمون، وهم الأقلون. والسواد الأعظم من الأميين يعيش على الأغاني البلدية والأمثلة الشعبية والحواديت العامية، ولم تحل مشكلة التقريب بين طبقتي الشعب في لغتها وأدبها إلى اليوم.
(٤) التصوف والفلسفة
وقد فشا في هذا العصر التصوف، سواء بين الخاصة والعامة؛ ذلك لأن الناس فقدوا الدنيا فانصرفوا إلى الأخرى، ويئسوا من العدالة الاجتماعية في الأرض فأمَّلوها في السماء، ولم يجرءوا أن يثوروا في وجه الحكام يطالبونهم بتحقيق العدل فقنعوا بالسلامة في ظل الأمل، وضعفت عقولهم عن تمييز الحق من الباطل، فملئوا التصوف بالخرافات والأوهام، ولم تتجرَّد طبيعتهم من حب اللهو فأدخلوه في التصوف، فكان فيه الغناء والموسيقى والرقص وألعاب البهلوان، وهرع الناس إلى المتصوفة يستمنحونهم البركة، ويستقضون منهم حوائجهم، ويقرعون بهم أبواب السماء، وامتلأَت البلاد بأرباب الطرق، ومشايخ الصوفية والأولياء ومدعي الولاية، وعلى الجملة فكان في الحياة الصوفية على سعتها وانتشارها حقٌّ قليل وباطلٌ كثير.
وكان لهذا كله صدًى في الأدب، فكان عبد الغني النابلسي شاعر المتصوفة، وأشعاره الكثيرة تعيد علينا نغمات ابن الفارض وابن العربي.
وكان عبد الوهاب الشعراني زعيم المتصوفة المؤلفين في هذا العصر، مصريٌ قاهري ولد في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، ومصر ولايةٌ عثمانية، وقد شاهد في هذا العصر ظلم الحكام للفلاحين، وكثرة الضرائب عليهم، وسوء تحصيل المال منهم، كما شاهد سوء حال الصناع والتجار، فحبب ذلك إليه التصوف، وعاش في كنفه ينعم بمشاهدة الملائكة والأنبياء والتحدث إليهم، وتلقي أوامرهم ونواهيهم، وقصَّ علينا في كتابه «لطائف المنن» كثيرًا مما نعم به في مشاهداته الروحانية، وألَّف كتبًا كثيرة في التصوف شاعت في الناس وتأثروا بها، وربما كان من خيرها «طبقات الصوفية»، يترجم فيها للمتصوفين، ويحكي لكل صوفي بعض حكمه وأقواله وأحداثه، وكتابه «الميزان» يبحث فيه في أسباب اختلاف الأئمة بحثًا صوفيًّا طريفًا.
أما الفلسفة فلم تلقَ رواجًا في هذا العصر، ونُظر إليها على أنها نمط من الزندقة، وربما نمت الفلسفة الإسلامية في الجو الشيعي أكثر مما نمت في الجو السُّنِّي كما كان ذلك قديمًا، فقد أزهرت في العصر الفاطمي الشيعي في مصر، ثم ضعفت في العصر الأيوبي السُّني، وكذلك في عصرنا ربما عد بهاء الدين العاملي الشامي الشيعي أظهر رجال الشام ومصر في الفلسفة ممزوجة بالتصوف، ولم يقتصر على الفلسفة، بل تعدى ذلك إلى الرياضة والأدب، وتظهر سعة نواحيه وتعددها في كتابيه «المخلاة» و«الكشكول»، فهما دائرة معارف غير منظمة؛ فيها الأدب والتصوف والفلسفة والحساب والهندسة إلخ. وقد توفي سنة ١٠٣١ﻫ/١٦٢١م. إنما نشطت حركة الفلسفة في هذا العصر في فارس في عهد الدولة الصفوية، وكانت فلسفةً إشراقيةً ممزوجة بالتصوف تعدُّ من أساتذتها فيثاغورس وأفلاطون أكثر من أرسطو. وقد كان نتاج هؤلاء الفلاسفة الفرس كثير منه باللغة العربية، ورأسهم في هذا الباب صدر الدين الشيرازي المتوفى سنة ١٦٤١م، وكتابه «الأسفار» من أعظم الكتب في الفلسفة، مزج فيها آراء الفلاسفة اليونانيين بآراء ابن سينا بتصوف ابن العربي، واستخرج من كل ذلك خلاصةً قيمة، وكانت شخصيته وكتبه ذا أثر كبير في الحركة الفلسفية في فارس إلى عصرنا الحاضر.
(٥) التأليف
الحق أن حركة التأليف في هذه الفترة كانت كبيرةً نشيطة — وخاصة في مصر والشام — فنظرة إلى ما أُلِّف في هذا العصر في مختلف العلوم تدل دلالةً واضحة على هذا النشاط.
وكان من حسن حظ العلم أنه لم يقصر نفسه على القصور كما فعل الأدب، نعم إن بعض العلماء ألَّف للأمراء واتصل بهم، واستفاد منهم، ولكن الكثير كان يشتغل بالعلم في عزلة عن القصور، وكان أهم باعث لهم الباعث الديني، فهم يؤلفون في التفسير والحديث للباعث الديني، ويؤلفون في اللغة والأدب؛ لأنهما وسيلتان من وسائل فهم القرآن والحديث، على أن سلاطين المماليك من جانبهم فهموا من مقتضيات الملك وتأييده وعظمته وتخليد ذكره بناء المساجد عادة توارثوها من أول أمرهم؛ ولذلك حليت مصر في عهدهم بكثيرٍ من المساجد. وكان الصالح منهم يبني المسجد تدينًا، والفاسق يبنيها مكفِّرًا عن فجوره وظلمه، إذ كانت عقيلتهم أن لا بأس من الجمع بين تذبيح وتسبيح، وسرقة وصدقة، وأن التسبيح يجبُّ التذبيح، والصدقة تذهب بالسرقة.
وكان المسجد قطعةً فنيةً جميلة حيى بها الفن، ولا يزال يعيش عليه دارسو الفن الإسلامي إلى الآن، وكان أيضًا مدرسة، لكل مسجد شيخه، بل شيوخه، ولهم تلاميذ، وعليهم جميعًا الأوقاف تعينهم على طلب العلم، وفي المسجد مكتبة للاطلاع والبحث، فكان في كل مسجد حركةٌ علمية تقوى وتضعف بمقدار الأوقاف، وبكفاية شيخ المدرسة، وعناية الأمراء بالمسجد، وكان كثير من العلماء البارزين في هذا العصر شيوخ هذه المدارس أو المساجد، كمدرسة بيبرس، وقلاوون، وشيخون، وبرقوق، والمؤيد.
وقد تعاون على التأليف في الأدب هذه المدارس من جهة، وديوان الإنشاء وإعداد رجاله من جهةٍ أخرى.
ونحن نعرض في إيجاز حركة التأليف في الأدب وما يتصل به.
فأول ما يلفت نظرنا في أول هذا العصر، التأليف في الموسوعات، أو دوائر المعارف، وكان القصد منها جمع المعارف التي وصلت إلى زمانهم، وإمداد رجال الديوان بالمعلومات التي تلزمهم، ولو جاءتهم فكرة ترتيبها على حسب حروف الهجاء، لكان لنا من ذلك دوائر معارف قيِّمةٌ سهلة التناول.
وكان من أسبقهم في ذلك النُّوَيْرِي أبو العباس شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب (١٢٨٢–١٣٣٢م)، وهو مصريٌّ من نويرة، وقد اشتهر بالفقه والتاريخ، وألَّف موسوعته التي اسمها «نهاية الأرب»، وهي تطبع في دار الكتب الآن، وقد انتهى منها طبع ثلاثة عشر جزءًا، وقد تبلغ الثلاثين. وقسم كتابه إلى أقسام: (١) السماء والآثار العلوية، والأرض والمعالم السفلية. (٢) الإنسان وما يتعلق به. (٣) الحيوان الصامت. (٤) النبات. (٥) التاريخ من بدء الخليقة إلى سنة ١٣٣١م أي قبل وفاته بعام.
وكان النويري من رجال الملك الناصر محمد بن قلاوون.
وقد استغله كثير من المستشرقين في بحوثهم، فترجم بعضهم إلى الفرنسية ما كتبه عن صقلية، وبعضهم ما كتبه عن فتح العرب للمغرب، واعتمد بعضهم عليه فيما كتبه عن الظاهر بيبرس إلخ.
وجاء ابن فضل الله العمري (١٣٠١–١٣٤٨م)، وقد كان معاصرًا للنويري، فألَّف كتابه «مسالك الأبصار»، وهو من نسل عمر بن الخطاب، وقد ولد في دمشق، ورحل إلى بلادٍ كثيرة، وانتقل إلى القاهرة، وتولى بها القضاء، وعمل أيضًا في ديوان الملك الناصر.
وكتابه «مسالك الأبصار» في التراجم والتاريخ والجغرافيا مملوء بالفوائد القيمة والمعلومات الواسعة، إلى أناقة في التعبير، وجمال في الأداء يفوق النويري، وهو يقع في أكثر من عشرين جزءًا طبع منه جزؤه الأول في دار الكتب.
ثم القلقشندي المصري، وقد تقدم ذكره، وهو من أصحاب الموسوعات، إذ ألَّف كتابه الضخم، «صبح الأعشى في صناعة الإنشا».
قدَّمه بمقدمة في فضل الكتابة، وصفات الكتَّاب، والتعريف بديوان الإنشاء وقوانينه.
ثم المقالة الأولى فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العلمية والعملية، والثانية في المسالك والممالك.
والثالثة والرابعة في تاريخ الكتابة وتطوراتها، وما التزم في بدئها وختامها، واختلافها باختلاف المكتوب إليه وموضوع الكتاب. والخامسة في البيعة والعهد وأنواع المناصب من رجال السيف والقلم. ثم ما يحتاج إليه الكاتب من الإقطاعات وما يكتب في شأنها، وعقد الصلح وفسخه وما يكتب في ذلك، وتاريخ البريد، ومراكزه في مصر والشام، وحمام الرسائل، ومطاراته وأبراجه إلخ إلخ.
وقد أراد به أن يزوِّد الكاتب بكل ما يحتاج إليه من معلومات، وقد طُبع في دار الكتب في أربعة عشر مجلدًا، وقد توفي القلقشندي سنة ١٤١٨م.
فكتاب النويري أوسع موضوعًا، وكتاب العمري أوسع في الجغرافيا والتاريخ، وكتاب القلقشندي ألصق بالكتابة وأدواتها ولوازمها، ولكلٍّ فضل.
وقد كانت كلها مصدرًا للأدباء والعلماء، كما أنها حفظت لنا ثروةً كبيرة من مؤلفات الأقدمين، ومن معلوماتٍ هامة عن الأحداث المعاصرة، وكما كانت مادة قيمة للباحثين من المستشرقين والشرقيين.
(٥-١) المؤرخون
كثر مؤلفو التاريخ في هذا العصر من تراجم رجال إلى تاريخ مدن إلى تاريخٍ سياسي لدولة إلى تاريخٍ عام.
وكان من أوائل المؤلفين في هذه الفترة ابن خلكان، فقد ألَّف كتابه وفيات الأعيان، فكان مرجع كل باحث، ومؤلفه ابن خلكان هذا ينتمي إلى يحيى بن خالد البرمكي، وقد ولد في أربل (١٢١١م)، ودرس في حلب ودمشق والقاهرة، وكان قاضي القضاة في الشام في عهد الظاهر بيبرس.
وكتابه من أهم الكتب في تراجم المشهورين من رجال العلم والأدب والصناعة والمال غير الصحابة والتابعين والخلفاء، واجتهد فيه في تحري الحقائق بعينٍ ناقدة، في لغةٍ سليمةٍ بسيطة، متوقيًا قدر الإمكان ألفاظ الفجور. وقد احتوى نحو ٨٦٥ ترجمة، وعُني أشد العناية بتحقيق سنة الوفاة، ومن ثم سماه «وفيات الأعيان»، وربما ترك مشهورًا من العلماء والأدباء؛ لأنه لم يتحقق من تاريخ وفاته، وربما كان كتابه هذا أول كتاب من نوعه لشموله وعدم اقتصاره على نوعٍ معينٍ من المشهورين ولا على بلدٍ معين.
وقد مات سنة ١٢٨٢م.
وقد ذيَّل هذا الكتاب ابن شاكر الكتبي المتوفى نحو سنة ١٣٠٣م مترجمًا لبعض من تركه ابن خلكان، ولابن خلكان نفسه ولبعض من جاءوا بعده، وسمى ذيله «فوات الوفيات». وهو دون الوفيات في استيفاء الترجمة، وتحري سنة الوفاة.
•••
وألَّف محمد بن علي بن طباطبا نزيل الموصل في عهد فخر الدين عيسى بن إبراهيم كتابه الذي نسبه إليه وسماه الفخري. وعرض فيه لتاريخ الدولة الإسلامية من أول عهدها إلى آخر الدولة العباسية، وقد عنى فيه بالأسلوب، ودقة التعبير، وحسن السبك، كما أن له نظراتٍ دقيقة في شئون السياسة العامة وقواعد كلية يستشهد عليها بالأحداث الإسلامية الجزئية، وقد ولد ابن طباطبا سنة ١٢٦٢م.
كما ألف أبو الفداء أمير حماة، من قبل الملك الناصر ومن نسل الأيوبيين، والذي عاش من سنة ١٢٧٣–١٣٣١م كتابه في التاريخ العام، وقد اعتمد فيه على الطبري وابن الأثير، وهو أكثر فائدة في تأريخه للفترة الأخيرة التي كانت بعد ابن الأثير، وانتهت سنة ١٣٢٩.
واشتهر بالتاريخ شمس الدين الذهبي (١٢٧٤–١٣٤٨م)، وهو من أصلٍ تركماني، ولد في دمشق ورحل إلى بلادٍ كثيرة يلقى علماءها، وقد اشتهر في التاريخ بكتابيه «طبقات الحُفَّاظ» في تراجم المحدِّثين ونقدهم والحكم لهم أو عليهم، وكتاب «تاريخ الإسلام» وكان عمدة كثير من المؤرخين بعده، وهو لم يطبع إلى الآن.
وخليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة ١٣٦٣م الفلسطيني، وقد اشتهر بكتابه الواسع في التراجم المسمى «الوافي بالوفيات» في ستة وعشرين جزءًا، وقد طبع منه بعض أجزائه.
ثم ابن كثير (١٣٠٢–١٣٧٢م)، وقد خلف الذهبي في التدريس بدمشق وألف في التاريخ كتابه «البداية والنهاية» بدأه ببدء الخليقة، وانتهى إلى سنة ١٣٣٧م، وقد طبع في مصر في أربعة عشر مجلدًا.
وألف لسان الدين بن الخطيب الذي تقدم ذكره «الإحاطة في أخبار غرناطة» ترجم فيه لرجالها كما ألف في تاريخ الأندلس والمغرب.
وكان من المؤرخين في هذا العصر ابن الفرات المصري المولود سنة ١٣٣٤م، وله كتابٌ كبير في جملة أجزاء طُبع بعضها، وأهميته في أنه يعدُّ مرجعًا عظيم القيمة في الحروب الصليبية.
وقد تفوق في التاريخ — وكان نسيج وحده — «ابن خلدون» (سنة ١٣٣٢–١٤٠٦م) منحه الله عقلًا نفاذًا، وذكاءً لامعًا، وملاحظةً دقيقة، ثم انغمس في الحياة السياسية المضطربة في الأندلس والمغرب ومصر فأفاد منها، اتصل بالملوك والأمراء والخاصة والعامة، فدرس أحوالهم عن قرب، وتولى المناصب الكبيرة، وسفر بين الملوك فاطلع على بواطن الأمور، وربط الأحداث بعضها ببعض، وعرف أسبابها ونتائجها، واستخرج من ذلك علمًا هو علم التاريخ. لقد كان المؤرخون قبله يسردون الحوادث، ويسمون ذلك تاريخًا، فجاء هو يستخرج من الجزئيات كلياتٍ ونظريات، ويطبقها على الأحداث وأمثالها.
أصله عربي من كندة من حضرموت. رحل بعض أجداده «خالد» إلى الأندلس، وسميت الأسرة ببني خلدون، وسكنت أولًا بالقرب من إشبيلية، ثم في إشبيلية، ثم في تونس. وبعد أن أتم دروسه التحق بخدمة السلطان أبي إسحاق إبراهيم من بني حفص، وتوالت عليه أيام البؤس والرخاء، وتدخل في نزاع السلاطين، ونصر بعضًا على بعض، فإذا جاءت دولته كرم، وإذا زالت عُذِّب وسجن، إلى أن أتى مصر، وتولى التدريس فيها، ثم على كرهٍ منه ولَّاه السلطان برقوق القضاء، فعرف بشدته، ورفضه الرجاء، فكان له من ذلك أعداء، فعزل، ثم ولي، ثم عزل، ثم ولي، وصحب الملك الناصر «فرجًا» الذي خلف برقوق إلى الشام في حروبه مع تيمورلنك، ولقي ابن خلدون تيمورلنك فأكرمه وأعجب به، وعاد إلى مصر حيث مات بها سنة ١٤٠٦م.
ألَّف ابن خلدون تاريخه الضخم «العبر»، وأعظم جزء فيه مقدمته، فهي الموضوع المبتكر، وضع فيها أسس التاريخ من حيث هو علم، فنقد المؤرخين السابقين في طريقتهم من عدم الدقة، والتحري، وإعمال العقل فيما يروون، ورأى أن العالم ينتقل في أدوارٍ طبيعية، من بدو إلى حضارة، وشرح هذا الترقي في الاجتماع والدين والسياسة والاقتصاد والفن والعلم، فمزج بين ما سمي بعدُ بعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم الحضارة مزجًا تامًّا.
بيَّن لنا كيف تتكون الدول، وكيف تنمو وكيف تنهار، وما لذلك من أعمار، ووسائل الرقي والانحطاط، وطبائع البدو وطبائع الحضر، إلخ. وأسلوبه فيها أسلوبٌ رياضي أشبه ما يكون بشرح نظريةٍ هندسية — الفرض ثم الدعوى أو المطلوب ثم البرهان — في تعبير لا يزيد عن المعنى ولا ينقص، ليس فيه من المحسنات اللفظية ما يصرف النظر عن الجوهر، قد تحرر لفظه من قيود السجع، كما تحرر فكره من قيود السياسة والتعصب لمذهبٍ دينيٍّ معين، أو جنس من الناس معين حتى ولا جنسه العربي.
فإذا نحن علمنا أنه لم يحذُ في ذلك حذو أحد قبله أدركنا سر عظمته، وقد أخذ عليه بعض المستشرقين أن كل أمثلته وتطبيقاته إنما هي على الدول الإسلامية. ولو كان قد توسع في التاريخ السياسي اليوناني والروماني لكان له أفقٌ أوسع، ونظر أشمل، ولكن أي إنسان خلا من «لو»!
وبقية الأجزاء كسائر كتب التاريخ، ولكن تمتاز بمقدمةٍ صغيرة بين يدي الموضوع وبذكر حوادث مما حدثت بعد الطبري وابن الأثير، وبمعلوماتٍ وافية عن تاريخ المغرب.
وقد كتب هذا التاريخ — أولًا — سنة ١٣٣٧م، ثم أعاد تنقيحه مرارًا.
وعلى الجملة، فإن كان غيره من المؤرخين شريطًا مسجِّلًا، فإنه ترفع عن ذلك وأبى إلا أن يبحث في الآلة كيف تسجل، وكيف تصنع، ومتى تجود، وكيف يكون في الإمكان أن تكون خيرًا مما كان.
ومن الأسف أن لم يكن بين المسلمين من نهج نهجه، ورقَّى نظرياته، وإنما كان ذلك في الغرب أخيرًا إذ أسس علم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الاقتصاد وعلم التاريخ.
ومن أمثلة أسلوبه وتفكيره قوله في التربية وطرق التعليم:
«اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج شيئًا فشيئًا، وقليلًا قليلًا، يُلْقِي عليه أوَّلًا مسائلَ من كل باب من الفنِّ هي أصول ذلك الباب، ويُقَرِّبُ له في شرحها على سبيل الإِجمال، ويراعي في ذلك قوةَ عَقله واستعداده لقبول ما يَرِد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفنِّ. وعند ذلك تحصُل له مَلَكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتُها أنها هيَّأته لفهم الفنِّ، وتحصيل مسائله، ثم يَرجعُ به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالِك من الخلاف ووجههِ، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود ملكَته. ثم يرجع به وقد شدا، فلا يترك عويصًا ولا مُبْهَمًا ولا مُغْلَقًا إلا وَضَّحه، وفتح له مُغلَقه، فيخلُص من الفنِّ وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد، وهو — كما رأيت — إنما يحصل في ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يُخْلقُ له ويتيسَّر عليه. وقد شاهدنا كثيرًا من المعلِّمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويُحْضِرُون المتعلم في أوَّل تعليمه المسائلَ المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلَّها، ويحسبون ذلك مَرانة على التعليم وصوابًا فيه، ويكلفونه وَعْيَ ذلك وتحصيله، ويخلِطون عليه بما يُلقون له من غايات الفنون في مباديها، وقبل أن يستعدَّ لفهمها، فإنَّ قبولَ العلم والاستعداداتِ لفهمه تنشأ تدريجًا، ويكون المتعلم أوَّل الأمر عاجزًا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإِجمال، وبالأمثال الحِسِّيَّة. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرَّج قليلًا قليلًا بمخالفة مسائلِ ذلك الفنِّ وتكررها عليه. والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتمَّ الملكة في الاستعداد، ثم في التحصيل، ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا أُلقيت عليه الغايات في البدايات — وهو حينئذٍ عاجز عن الفهم والوعي، وبعيد عن الاستعداد له — كَلَّ ذهنه، وَحسب ذلك من صُعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه، وانحرف عن قبوله، وتمادَى في هِجرانه. وإنما أَتى ذلك من سوء التعليم.»
ثم المقريزي أبو العباس تقي الدين، أصله من بعلبك وتحول والده إلى القاهرة، فولد تقي الدين (١٣٦٥–١٤٤٢م)، ونسبته إلى حارة بعلبك تسمى المقارزة، وقد أكثر من التأليف في التاريخ، وخاصة في تاريخ مصر في عصورها المختلفة، من الخلفاء الفاطميين «اتعاظ الحنفا» إلى المماليك «السلوك»، وفي تخطيطها «المواعظ والاعتبار»، وهو واسع الاطلاع، كثير النقل من غير عزو، قليل النقد، ومع هذا ترك لنا ثروة من المعلومات قيمة ما كان يمكننا الوصول إليها لولاه. وجاء في أول خططه قوله:
«وبعدُ، فإنَّ علمَ التاريخ من أجلِّ العلوم قدْرًا، وأشرفها عند العقلاء مكانةً وخَطَرًا؛ لما يَحويه من المواعظ والإنذار، بالرحيل إلى الآخرة عن هذه الدار، والاطلاع على مكارم الأخلاق ليُقْتَدَى بها، واستعلام مَذَامِّ الفعال لِيَرْغَبَ عَنها أولو النُّهَى. لا جَرَمَ أن كانت الأنفس الفاضلة به وامِقةً، والهِمَمُ العالية إليه مائلةً وله عاشقةً. وقد صنف الأئمة كثيرًا، وضمَّن الأجلَّة كتبهم منه شيئًا كبيرًا.
وكانت مصر هي مسقَط رأسي، وملعب أترابي ومجمع ناسي، ومَغْنَى عشيرتي وحامَّتي، وموطنَ خاصَّتي وعامَّتي، وجوِّي الذي رَبَّى جناحَيَّ في وكْره، وعُشَّ مآربي فلا تهوى الأنفس غير ذِكره. لا زلتُ مذ شدوت العلم، وآتاني ربي الفطانة والفهم، أرغب في معرفة أخبارها، وأُحبُّ الإشراف على الكثير من آثارها، وأهوَى مساءلة الركبان عن سكان ديارها، فقيَّدتُ بخطِّي في الأعوام الكثيرة من ذلك فوائد قلَّما يجمعها كتاب، أو يحويها لعِزَّتها وغرابتها إهاب، إلا أنها ليستْ بمرتَّبة على منوال، ولا مَهذَّبةٍ بطريقةٍ واحدة ومثال. فأردتُ أن أُلخصَ منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية، عن الأمم الماضية والقُرون الخالية، وما بقي بفُسْطاطِ مصرَ من معاهدَ غيَّرَها — أو كاد — البلَى والقِدم، ولم يبقَ إلا أن يمحوَ رسمها الفناء والعَدَم، وأذكر ما بمدينة القاهرة، من آثار العصور الزاهرة، وما اشتملت عليه من الخِطَطِ والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال مَنْ أَسَّس ذلك من أعيان الأماثل، والتنويه بذكرَى الذي شادها من سَراة الأعاظم الأفاضل، وأنثُر خلال ذلك نُكَتًا لطيفة، وحكمًا بديعةً شريفة، من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف يُخِلُّ بالغَرَض ولا اختصار، بل وسَطٌ بين الطرفَين، وطريق بَيْنَ بَيْن …» إلخ.
وجاء ابن عربشاه (١٣٨٩–١٤٥٠م) وهو دمشقي الأصل أُخذ أسيرًا في غزوة تيمورلنك للشام، وأرسل إلى سمرقند، وقد استفاد من إقامته في هذه البلاد ومن رحلته إلى خوارزم وطراخان وغيرها معلوماتٍ قيمة عن الفرس والترك ومعرفة بلغتهما، وقد اتصل بالسلطان محمد الأول بن بايزيد وقرَّبه إليه، ثم حجَّ وأتى مصر.
وقد ألَّف كتابه «عجائب المقدور في أخبار تيمور» وهو مسجوع مملوء بالمحسنات البديعية، وفيه معلوماتٌ طريفة عن تيمورلنك ودولته، كما ألَّف «فاكهة الخلفاء» وهو كتاب في السياسة الرمزية ككليلة ودمنة، وقلد فيه كتابًا فارسيًّا اسمه مرزبان نامه.
وألف أبو المحاسن بن تغري بردي (المتوفى سنة ١٤٥٩م) كتابه النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة مرتبًا حسب السنين من فتح العرب لمصر إلى سنة ١٤٥٣م، مع ذكره في كل سنة مَن توفي فيها من المشهورين.
ثم شهاب الدين أبو العباس المقري (سنة ١٥٩١–١٦٣٢م) ولد في تلمسان، ورحل إلى فاس ومراكش، ثم حج وجاء إلى مصر ورحل إلى بيت المقدس ودمشق.
وقد ألف كتابه «نفح الطيب» أثناء إقامته في القاهرة وهو قسمان؛ قسمه الأول: في تاريخ الأندلس ورجالها، والثاني: في ترجمة لسان الدين بن الخطيب ومشايخه، ومن يتصل به، وفي الكتاب معلوماتٌ قيمة عن الأندلس لا نظفر بها في غيره.
وكتب طاشكبرى زاده التركي الأصل (١٤٩٥–١٥٦٠م) كتابه شقائق النعمان ترجم فيه لنحو ٥٢٢ رجلًا من علماء الترك ومتصوفتهم، كما أَلَّف «نوادر الأخبار» ترجم فيه لأعلام الإسلامي … إلخ إلخ.
•••
وإذا انحرفنا قليلًا عن خط التاريخ وجدنا شيئًا كبير القيمة قريبًا منه وهو الرحلات، وعلى رأسها رحلة ابن بطوطة (١٣٠٤–١٣٧٧م). ولد مؤلفها في طنجة، ونشأ طُلَعة. وبعد أن تثقف نوى أن يزور العالم الإسلامي ويتعرف أحواله، ويقيد ما يرى في البلاد وأحوال سكانها وعاداتهم ونحو ذلك، وقد رحل إلى شرق أفريقيا والقسطنطينية والهند وسيلان والصين. وعاد إلى بلده طنجة سنة ١٣٤٩م، واستقر بها أشهرًا، ثم زار غرناطة، ثم بلاد السودان.
وقد فاق في وصفه الرحالين في العصور القديمة والوسطى في دقة تصويره رغم ما وقع فيه من أخطاء ومبالغات وأوهام، ولا يزال مصدرًا معوَّلًا عليه في وصف الحياة الاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي في عصره.
•••
وأُلِّف في هذا العصر من معاجم اللغة كتاب لسان العرب لأبي الفضل محمد بن مكرم المتوفى في القاهرة سنة ١٣١١م في عشرين مجلدًا جمع فيه كتاب التهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، والصِّحاح للجوهري، والجمهرة لابن دريد، والنهاية لابن الأثير.
وهو يجمع مادةً ضخمة في اللغة والأدب، إذا استشهد ببيت أو حديث أو آية فسره، وأتى في ذلك بفوائدَ قيمة، وقد قال في مقدمته: «وإني لم أقصد سوى حفظ هذه اللغة العربية وضبط فضلها؛ إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية … وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعدُّ لحنًا مردودًا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودًا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمنٍ أهلُه بغير لغته يفخرون، وصنعتُه كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.»
ثم «القاموس المحيط» لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي (١٣٢٩–١٤١٤م) ولد بكازرين إحدى بلاد فارس، وتعلم في واسط وبغداد ودمشق، ورحل إلى مصر، ثم إلى آسيا الصغرى ولقي تيمورلنك في شيراز، فقابله مقابلةً حسنة، ثم دخل زبيد فتلقَّاه الأشرف إسماعيل سلطان اليمن بالقبول، وعينه قاضي القضاة باليمن، حتى مات.
ولقي كتابه «القاموس» شهرةً كبيرة، حتى سمي كل معجم قاموسًا، وهو شديد الاختصار وأقل قيمة من لسان العرب، وإن كان يمتاز ببعض مزايا كتمييزه بين الواوي واليائي، وضبطه البلدان والأعلام، ونصِّه على صيغة المؤنث إلخ.
وقد جاء في العصر العثماني السيد المترضى الزبيدي، ولد في اليمن ونشأ بها، ثم جاء إلى مصر، وكان يعرف العربية والفارسية والتركية، فشرح قاموس الفيروزابادي في عشرة مجلداتٍ ضخمة وسمَّاه تاج العروس.
•••
وكما كان هناك موسوعات في الكتب، كان هناك رجالٌ موسوعيون يؤلفون المؤلفات المختلفة الكثيرة في الموضوعات المختلفة، ولعل من يمثل هذا خير تمثيل جلال الدين السيوطي (١٤٤٥–١٥٠٥م)، وقد سكنت أسرته أسيوط فنسب إليها، ولكنه ولد في القاهرة من أب كان قاضيًا، وقد درس العلوم المختلفة في عصره، وحدَّث عن نفسه فقال: رزقت التبحر في سبعة علوم — التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة — والذي أعتقده أن الذي وصلتُ إليه من هذه العلوم سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي فضلًا عمن دونهم.
وأما الفقه فلا أدَّعي ذلك فيه، بل شيخي فيه أوسع نظرًا وأطول باعًا (يريد شيخه علم الدين البلقيني)، ودون هذه السبعة في المعرفة أصول الفقه والجدل والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض ودونها القراءات، ولم آخذها عن شيخ، ودونها الطب، وأما علم الحساب فهو أعسر شيء عليَّ وأبعده من ذهني، إذا نظرت فيه مسألةً تتعلق به فكأنما أحاول جبلًا أحمله.
وقد عدَّ هو من تآليفه ثلاثمائة كتاب في فروعٍ مختلفة، في اللغة «المزهر» — مثلًا — وهو من خير كتبه، وفي النحو كالأشباه والنظائر، وطبقات النحويين واللغويين، وفي التاريخ كحسن المحاضرة، وفي علوم القرآن كالإتقان … إلخ.
ويظهر أن إعجابه بنفسه — كما تدل عليه كلمته السابقة — وإغارته على بعض تأليف غيره جعلت له أعداءً كثيرين من علماء عصره؛ مما دعا السلطان طومان باي أن يُنحِّيه من مناصبه، وقد اتُّهم كثيرًا بأنه يأخذ من تآليف غيره ويحورها وينسبها إلى نفسه، حتى تنازع هو والقسطلاني في كتاب «المواهب اللدنِّية» أيهما ألَّفه، والقسطلاني يدَّعي أن السيوطي أغار عليه، حتى تحاكمًا إلى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، فحكم به للقسطلاني.
وأيًّا ما كان، فقد كان جمَّاعًا أكثر منه مبتكرًا أو ناقدًا.
•••
وجاء حاجي خليفة المعروف بكاتب جلبي، وهو تركي من الأستانة تعلَّم والتحق بالجيش واشترك في حملة وجهت إلى بغداد وإلى همذان وإلى حلب، وانتدبه السلطان محمود الثاني في لجنة لإصلاح مالية الدولة، ومات سنة ١٦٥٨م.
فألَّف موسوعة يذكر فيها كل ما اطلع عليه ووصل إلى علمه من الكتب، وسماه «كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون» يشتمل على نحو خمسة عشر ألف اسم لكتاب مع ذكر مؤلفيها وتاريخ وفاتهم ما أمكن.
ويذكر فذلكة عن كل علم عند ذكر حرفه حسب حروف الهجاء، فتاريخ علم الأدب في الهمزة، والفقه في الفاء، والحساب في الحاء وهكذا.
وقد حظي هذا الكتاب لحاجة الباحثين إليه، وهو مرجع للباحث العربي والفارسي والتركي.
•••
من هذا كله يتجلَّى أن حركة التأليف هذه كانت حركةً قوية، ورجالها مخلصون في بذل الجهد والرغبة في التحصيل والمسابقة في التأليف، ولكنها حركةٌ معادة كحركة الماء على سطح البحيرة الراكدة، فأكثر هذا التأليف جمع لأقوال من سبق، أو تجميع لمتفرق، أو تفريق لمجتمع أو تسجيل لما حدث، وإذا استثنينا ابن خلدون وقليلًا من المؤلفين لم نجد جديدًا.
والأدب ليس إلا صورةً ممسوخة لأدب ابن العميد، وابن عباد، والقاضي الفاضل، ومقامات الحريري، وشعر أبي تمام، والبحتري، وأمثالهما. وكان الأمر في العصر العثماني أسوأ منه في عهد المماليك، فقد أصبح الأدب والعلم تقليدًا للتقليد، وأصاب البلاد ركود في الحركة العلمية والأدبية، وصار نَفَسًا ينبعث من صدر شيخٍ فانٍ، واستمر الحال على هذا المنوال إلى الحملة الفرنسية، ثم محمد علي.
•••
هذه لمحةٌ خاطفة في قصة الأدب العربي في ذلك العصر لم نطل فيها كما أطلنا في الآداب الأخرى؛ لأن كتبها المطولة في متناول القارئ العربي.
فإذا نحن نظرنا إلى الأدب العربي في هذه الفترة في ضوء ما حكيناه عن الأدب الغربي رأينا البون شاسعًا، في هذه الفترة في أوروبا كانت النهضة، والثورة على القديم، ووضع أسسٍ جديدة لحياةٍ جديدة، وتحكيم العقل في المسائل العلمية، وتحرير العواطف من قيود التقاليد، واستمرت العواطف والعقل ترقى طوال القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. وشهدت هذه النهضة قصص شيكسبير، ومآسي راسين، وملاهي موليير، وأساطير لافونتين، وروائع جوته إلى كثيرٍ من أمثال ذلك، كما شهدت فلسفة بيكون وديكارت وهجل، ووضع كل قضية موضع البحث والتجربة، وكما شهدت الرقي الصناعي، واكتشاف البلدان والتقدم في كشف المخترعات.
لقد كان الشرق والغرب يسيران متحاذيَين تقريبًا قبل النهضة الأوروبية إن لم يفق الشرق، فلما جاء عصر النهضة كان الغرب يسير إلى الأمام، والشرق يسير إلى الخلف في العلم والأدب والفن والصناعة وسائر ضروب الحضارة، وكلما مضى الزمن كبر الفرق.
ويرجع ذلك إلى سوء الحالة الاجتماعية والسياسية في الشرق، فظلم الحكام من المماليك والعثمانيين خنق الشعب، وإسرافهم في ترفهم أفقر الشعب، ولكن كان الحال كذلك في الغرب، فثار الشعب، فلِمَ لم يثُر الشرق على حكامه وينتزع حقوقه من أيديهم؟
لقد أصيب الشرق بكوارثَ خطيرة من غزوات التتار وتيمورلنك والصليبيين، وكان الخراب والتدمير والفقر وتوالي النكبات، فضعفت من ذلك نفوس الشعوب.
وكان رجال الدين في يد الحكام يسخِّرونهم كما يشاءون إلا في القليل النادر، والشعوب تحترم رجال الدين، وتصغي إليهم، وتسمع لأوامرهم ونواهيهم، فكان الصمت، وكان الاستسلام، وكان الاعتقاد بأن الظلم من غضب الله، والفقر من قدر الله.
لقد كان من أهم ما اتَّجه إليه الأدب والعلم في النهضة الأوروبية الدنيا وشئونها، فلا حرج على الإنسان أن يستمتع بملذات الحياة، وأن يهتم بالدنيا وما فيها، بل أفرطوا في ذلك، وعلى أثر ذلك قوي العلم وقويت العواطف فقوي الأدب. أما في الشرق فلم يضموا الدنيا إلى الآخرة في الحساب، ونسوا قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وقوله ﷺ: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا»، وكان نظرهم إلى الآخرة يصبِّرهم على بؤسهم في الدنيا، فنظروا إلى الآخرة وحدها؛ ولذلك كانت الحركة العلمية حركةً دينيةً بحتة من تفسير وحديثٍ وفقه، واللغة لخدمة الدين، والنحو والصرف لخدمة الدين، أما النظر إلى الطبيعة والصناعة والمادة والعمل على ترقيتها واستخدامها فليس في الحساب، ولذلك غلبهم الأوروبيون — في أول احتكاك — بمهارتهم في شئون الدنيا، ودهش الجبرتي وأمثاله مما رأوا من عمل الفرنسيين في الطبيعة والكيمياء. ولم يرزق الله الشرق بعظماء يغيرون هذا الاتجاه، ويدعون إلى النظر في الدنيا كما ينظرون إلى الآخرة، ومن بدأ في ذلك كابن خلدون لم يستطع أن يكوِّن مدرسة. في الغرب كان من دعا مثل هذه الدعوة، ثم سجن أو عذب لتعاليمه الجديدة الجريئة، كان يجد من يحمل اللواء عنه حتى تستقر الدعوة، ولكنه في الشرق كان يسجن أو يعذب، فتنكمش النفوس، ولا يجرؤ أحد على نصرته فتموت الفكرة، وذلك لما ذكرنا مما أصاب نفسية الشعب.
ماتت الفلسفة التي تحيي الفكر ومات الاعتزال الحر، وبقي الأمر في يد الفقهاء والصوفية، والفقه تحوَّل إلى شكل، والتصوف تحوَّل إلى شعوذة إلا في القليل النادر، وكان هؤلاء جميعًا قادة الشعوب روحيًّا، والملوك الظلمة والأمراء الطغاة قادتهم إداريًّا، وتصالح هؤلاء وهؤلاء على إماتة الشعوب، فمن فاه بكلمة تخالف المألوف فويل له، فوقفت حرية الفكر، وليس ينهض الأدب إلا في جو الحرية.
ثم إن الأدب لا ينهض إلا بالتطعيم، لقد نهض الأدب العربي في آخر العصر الأموي وفي العصر العباسي بتطعيمه بالأدب الفارسي والهندي والعلم اليوناني، ونهض الأدب الأوروبي في عصر النهضة بتطعيمه بالأدب اليوناني والروماني، ونهض أدب كل أمة أوروبية من إنجليزية وفرنسية وألمانية وإيطالية باقتباسها من غيرها، وترجمة خير ما تخرجه الأمم الأخرى إلى لغتها، فبذلك كان الأدب في حركةٍ مستمرة وحياةٍ متدفقة غير راكدة.
والأدب العربي في هذه الفترة أُغلق على نفسه، لم يطعَّم أي تطعيم ولم يتفتح أمامه أي أفقٍ جديد، ولم يتأثر أي تأثر بما كان يجري في أوروبا من نهضة، فلما لم تهبَّ عليه ريحٌ جديدة، ولا جرى إليه جدولٌ جديد أصيب بالركود.
•••
لقد كان ذلك إلى حملة نابليون على مصر سنة ١٧٩٨م، حيث اتصل الشرق بالغرب، وأخذ يطلع على علومه وآدابه، ويدخلها مع الأدب العربي القديم في منهاجه، ولكن مع الأسف شعر الشرق حين اطلاعه على علم الغرب وأدبه بشيء من «مركَّب النقص» كما امتزج إعجابه بتقدم العلم والأدب في أوروبا بشعوره بكراهية الاستعمار الذي جرته معها المدنية الغربية، فكان من ذلك كله نتائج هي موضوع بحثنا في الجزء الثالث إن شاء الله.