النهضة في فرنسا
ليس من اليسير في تاريخ الأدب أن ترسم حدًّا دقيقًا فاصلًا يبين نهاية الأدب الوسيط وبداية الأدب الحديث، وقد يتخلَّص بعض المؤرخين من هذه المشكلة بأن يعدوا القرن الخامس عشر بأسره فترة انتقال تظهر فيها آثار القديم وبوادر الجديد جنبًا إلى جنب. ومهما يكن من أمرٍ فلا شك في أن شعر «فيون» ونثر «كومين» يحددان بدايةً واضحة للنهوض الأدبي في فرنسا؛ لأنهما يتميزان بما يتميز به الأدب الحديث من الأدب الوسيط؛ ألا وهو الصبغة الإنسانية والنزعة الذاتية، فلم يَعُدْ أديب النهضة — كما كان أديب العصور الوسطى — يُعنى بالحياة الآخرة والخطيئة والعقاب والثواب، بل تحول بنظره إلى هذه الأرض، وهذا الإنسان الذي يعيش عليها.
وقد اجتازت هذه الصبغة الإنسانية الجديدة — التي لوَّنت أدب النهضة فميَّزته — جبال الألب، فانتقلت من إيطاليا إلى فرنسا، ولم تكد تبلغها حتى تناولتها العقول والأقلام في حرارةٍ وحماسة. ولنا أن نتساءل لماذا أقبلت فرنسا هذا الإقبال كله، وفي هذه الحماسة المشتعلة لتبذر في أرضها بذور ثقافة جاءتها من بلدٍ أجنبي؟ وجوابنا عن ذلك السؤال أنها الحرب التي تمزج العقول بالعقول، وتقارب بين النزعات والنفوس. فقد نشبت حرب فرنسية إيطالية بين عامي ١٤٩٤م و١٥٥٩م، فكانت فرصةً سانحة للمجتمع الفرنسي يدنو بها من قصور الأمراء الباذخة في إيطاليا، فينظر إليها عن كثب، ويتأثر بما تزخر به من فنونٍ وآداب. فلئن خرجت فرنسا من الحرب خاسرةً فقد اكتسبت حضارةً عميقة الأثر، بعيدة المدى، تصطبغ بهذا اللون الجديد الذي أشرنا إليه، وعددناه أوضح ما يميز روح النهضة كلها؛ ألا وهو التفات الإنسان إلى نفسه وحياته فوق هذه الأرض.
ولم تكن هذه النزعة الإنسانية مقتصرة في إيطاليا على دراسة آثار الأقدمين دراسةً نقديةً عميقة، بل جاوزتها إلى نتائجها، فنفضت عن نفسها كل ما يعلق بها من غبار العصور الوسطى، من حيث وجهة النظر إلى الحياة. فمحال أن ينكبَّ الدارسون على أرسطو وأفلاطون، وأن يستمتعوا بأدب لوكريشس وهوراس، ثم يسيغون مثلًا أعلى في الأخلاق والسلوك ينبني على إنكار الجسم والروح؛ لأن هذا الأخير مثلٌ أعلى لا يفسح مجالًا لتقدير الجمال لذاته، ولا يفهم الفنون والآداب، إلا أن تكون مُعينة على تقويم الأخلاق، أما أن يُقدَّر الأثر الأدبي لروعة صورته، أو لجودة أسلوبه، أو لصدق تصويره، فذلك هراء لا تُسيغه عقلية القرون الوسطى.
درس رجال النهضة في إيطاليا أدب القدماء ونقدوه واستمتعوا به، فتعلموا بدراسته روح النقد والتقدير لما يقرءون، ثم تناولوا بهذه الروح الجديدة الكتاب المقدس، فلم يكْفهم أن يقفوا عند ظاهر العبارة، ومجرد أداء الشعائر أداء آليًّا، إنما تعمقوا فيه ليستقطروا منه روحه وخلاصته؛ ولهذا نشأت حركة إصلاح ديني جنبًا إلى جنب مع النزوع إلى تمجيد الإنسان، والرفع من شأن الحياة الدنيوية، فأصبح الإصلاح الديني ظاهرةً ثانيةً تميز أدب النهضة في إيطاليا، ثم في فرنسا.
(١) فيون Villon
في سنة ١٤٣١م، وهو العام الذي ذهبت فيه جان دارك شهيدة جهادها لتحرير فرنسا، ولد في باريس طفل كتب له أن يكون في الصف الأول من شعراء العالمين؛ إذ حباه الله موهبةً في الشعر الغنائي لا يكاد يضارعه في قوَّتها وجمالها ونفاذها منافس.
كان الطفل إذ ذاك في عامه الخامس، وكانت باريس التي طال بها العهد، وهي تئن من فقرٍ بشعٍ مخيف تخوض في ذلك العام شتاءً قارسًا، وكان الريف يبابا قد نفدت موارد القوت منه، ومات ألوف وألوف من الناس في أشهرٍ قلائل من الجوع والمرض، وعاش من عاش على الكفاف، وأخذت تعوي في ضواحي باريس الذئاب الجائعة، فلما عبرت الأم بابنها نهر السين لتسلم الطفل إلى قريبه القسيس كانت أمارات الجوع والإنهاك باديةً على وجهها الشاحب، وفي جسم طفلها الهزيل.
رأى جيوم دي فيون — وكان قسيس كنيسة الجامعة وأستاذًا للقانون — ذلك المنظر المروع، فأخذته الرحمة بالوليد المسكين وتبنَّاه وأكرم رعايته، بل لعل رحمته بالطفل جاوزت الحدود، وكان يقضي أمسياته يقرأ له القصص آنًا ويرويها له آنًا آخر، حتى أحاط اليافع علمًا بشعراء اللاتينية والفرنسية، ثم طلب إليه أن يدرس كتابًا فيه قواعد إنشاء الأغاني القصصية الشعرية، وكلما حاول الناشئ قرض الشعر منحه القسيس جوائز التشجيع.
بلغ فرانسوا دي مورنكور بييه عامه الثالث عشر، فسجل اسمه في قائمة الطلاب لدرجة الأستاذية في الآداب، وتلك درجة لا يظفر بها طالب، إلا إن أعدَّ نفسه إعدادًا طويلًا بعد الدرجة الجامعية في قانون الكنيسة ومذاهب الدين، وأطلق على نفسه اسم مُتبنِّيه «فيون» الذي عرف به منذ ذلك اليوم.
وقبل أن نأخذ في وصف الحياة الشائنة التي زل في وهدتها فيون مما كاد ينتهي به إلى المشنقة؛ لأنه سرق واغتال وخرج على القانون في كثيرٍ من جرائمه، يحسن أن نرى هل صادفته في حياته ظروفٌ خاصة تخفف من بشاعة ما اقترف. ومهما يكن من أمر، فإنا نحمد الله على حياته تلك؛ إذ لولاها لما ورثنا هذه المجموعة من القصائد التي تكاد تتفرَّدُ في نوعها؛ لأنه استمدها من صميم بؤسه وشقائه.
لم ينتفع فيون إلا قليلًا من دراسة الجامعة بكل فروعها، ولعل ما انحرف به عن الجادة المستقيمة تراخي مربيه في رعايته، وانعدام الحافز الذي يستحثه على الجد في العمل؛ لأن الجامعة كانت ستنتهي به إلى وظيفة في الكنيسة، ولم يكن فيون ينظر إلى مثل هذا المستقبل المرتقب إلا بالمقت والنفور.
أضف إلى ذلك ما انتاب باريس عندئذٍ من فقرٍ مدقعٍ شمل الناس جميعًا، إلا فئةً قليلة جدًّا؛ فلم تكن السرقة من تلك الفئة الغنية من البشاعة كما يقع في حسابنا اليوم! نعم كانت باريس غايةً في البؤس، فنضب المال، وقلَّت الأعمال. ولكن ما حاجة فيون إلى عملٍ ومال؟ إنه الشاعر الموهوب الذي اتخذ القريض متعة له وسلوة، ومع هذا كان له بمثابة المورد الذي يدرُّ عليه المال؛ إذ كان ينشئ الأغاني «البلدية» والقصائد المستهترة، ثم ينشدها في الحانات، فيقدم له الموسرون خمرًا وطعامًا، لهذا غادر فيون أروقة الجامعة الباردة ليلتمس طعامه وشرابه وصحبته عند من يرتادون الحانات، فقد وجد هؤلاء أقرب إلى نفسه بيسارهم وانحلال أخلاقهم واستخفافهم بكوارث الأيام، ثم أحبَّهم فوق ذلك كله للهجتهم العامية الجميلة التي حَسُن وقعها في أذنَيه بعد تلك المحاضرات الميتة التي ألف سماعها في الجامعة حول موضوعاتٍ غامضةٍ ملتوية في قانون الكنيسة. فما عتم فيون أن جرفه هذا التيار الجديد، وأخذ يقرض شعره فيمن يصادف في الحانات من طوائف الشبان والشابات المستهترين والمتشردين، وكان يقرضه باللغة الدارجة بين تلك الطوائف.
ومع ذلك كله، فقد أتم فيون في عامه التاسع عشر دراسته الجامعية، وظفر بدرجة «البكالوريوس»، ولم تمضِ بعد ذلك ثلاثة أعوام، حتى أصبح أستاذًا في الآداب، واستحق بذلك إما أن يحترف التعليم، أو أن يسير في سلك الكنيسة، لكنه كان عندئذٍ قد أوغل في الطريق الآخر، وآثر آخر الأمر أن ينفض عن نفسه غبار الدراسة الجامعية، وأن يوثق الروابط بينه وبين الصحبة الجديدة من طوائف المجون، ولعله وجد فيها ما يلائم شاعريته؛ وقد اشتغل فترة من الزمن مع الفرق التمثيلية الجوالة وجماعات الموسيقيين و«الحواة» والبهلوانات، لكن هذه الفِرق كان قد ضؤل شأنها في فرنسا في عهد فيون بعد ازدهارها في عهد الإقطاع من العصور الوسطى.
وحدث له وهو في عامه الرابع والعشرين أن اقتتل مع قسيس فقتله، وافتضح الأمر وحكم عليه بالنفي من باريس سنةً لا ندري كيف أنفقها، والراجح أنه اتصل بعصبةٍ من اللصوص عاشت في الريف على النهب والسرقة، وقد أرغمته الفاقة أن يعيش في غضون ذلك العام على نحوٍ ترتعد له فرائص التقوى، يصفه لنا في قصيدةٍ عنوانها «فرانسوا فيون والعاهرة مارجو».
واتصلت وشائج العشق بينه وبين نساءٍ كثيرات، منهن كاترين دي فوسل التي يطالعنا اسمها في شعره، والتي كان حبه إياها على شيءٍ من العفاف.
عاد فيون من منفاه في الريف، ولكنا لا نلبث أن نراه في إحدى ليالي الشتاء من نفس السنة التي عاد فيها جالسًا في منزل متبنِّيه يكتب له مذكرةً منظومة لينبئه أنه على وشك أن يغادر باريس من جديد. وهذه القصيدة هي التي يطلق عليها «الوصية» أو «العهد الأصغر» تمييزًا لها عن القصيدة الكبرى التي أنشأها فيما بعدُ، ويطلق عليها «العهد الأكبر»؛ فقد اشترك فيون بعد عودته إلى باريس في ارتكاب جريمة، وأراد الفرار من وجه الشرطة، ولعله قصد بتلك المنظومة التي تركها في منزل متبنيه أن يضلل الشرطة بإيهامهم أنه لم يكن في باريس ساعة ارتكاب الجريمة.
كتب «العهد الأصغر» في ليلةٍ واحدة، وفي فورةٍ واحدة من فورات النفس، وقرأها بعد أن فرغ من قرضها، فأخذته هزة الفرح لما رآها آيةً فنية، فقرأها في الصباح مرةً أخرى، وأخذته بها هزة أخرى من الطرب والنشوة، فأضاف إليها مقطوعة جاء فيها: «تالله إن فرنسوا فيون لشاعر، فأما من حباهم الله مالًا وجمالًا، فمصيرهم إلى النسيان، وأما فرانسوا فيون فسيحيا بين الخالدين.»
عاد إلى باريس وكأنه الشبح المخيف، وأخذ يكتب آيته الكبرى «العهد الأكبر»، وهي من أكثر الآيات الأدبية تصويرًا لكاتبها وللطبائع البشرية على السواء، وهي من أجود الشعر، يستعرض فيها حياته كلها، وكان عندئذٍ في الثلاثين من عمره، إلا أنه أصبح من أهوال حياته كهلًا محطمًا لم يبقَ له إلا أعصابٌ نشيطة وذهنٌ وقَّاد. إنه في هذه القصيدة يعرض نفسه عرضًا يُبدي كل ما فيها بغير حذفٍ أو إضافة، ويفحصها فحصًا دقيقًا، وينبئ القارئ عن كل أسرارها، ويطلب المغفرة ممن لحقهم أذاه، كما يغفر لمن لحقه منهم الأذى، ولم يخلُ من الفكاهة وهو يصور نفسه، فيقول مثلًا: إنه إن نفذ فيه الإعدام الذي كان على وشك أن يقع، لاستحال ذلك لخفة جسمه، فلا بد أن تشد إلى رجليه الأثقال، حتى تجذبه إلى أسفل، فيطبق على عنقه حبل المشنقة، ثم يقول إنه بعد ذلك لن يجدي سباع الطير شيئًا، فما به لحم يُنهش.
«والعهد الأكبر» قصيدةٌ طويلة تتألف من ثلاث وسبعين ومائة مقطوعة مثمَّنة الأبيات، وفي كل بيتٍ منها ثمانية مقاطع، وتجري القافية في الأشطر على هذا النحو: أ – ب – أ – ب – ب – ﺟ – ب – ﺟ، ويستهلها بهذه الأبيات:
•••
•••
•••
وفي «العهد الأكبر» أغنية هجا بها النساء قال فيها:
وكذلك وردت في العهد الأكبر أغنيتان جميلتان، إحداهما على لسان امرأةٍ عجوز كانت أيام شبابها آية في الجمال، وكان لها عشاقٌ كثيرون، ثم هي في شيخوختها تتحدث إلى بعض الفتيات اللائي يغامرن في مهالك الحب، فيبدأ الشاعر أغنيته بوصفٍ للمرأة العجوز، ويقارن فيها كل لمحةٍ من جمالها السابق بما آلت إليه، ثم تأخذ المرأة في إسداء النصح للفتيات قائلة إن علة شقائها أنها ذهبت في الحب إلى أغواره العميقة، وما كان ينبغي لها أن تفعل، وأنها لم تكسب من عشاقها مالًا تدَّخره، حتى أتى زمن لم تصبح فيه موضعًا لحب إنسان؛ ولذا فنصيحتها للبنات هي: خذن من عشاقكن مالًا، اخدعن الرجال بجمالكن الظاهر، ولكن حذارِ أن تسلمنهم قلوبكن، لأنكن إن فعلتن أسرعت إليكن الشيخوخة، وعندئذٍ ماذا يكون في أيديكن؟ لا جمال ولا مال، ستفقدن قيمتكن كورق النقد، حين يبطل استعماله فلا يرضى به أحد.
ثم عقبها الشاعر بأغنيةٍ أخرى يقف فيها هو نفسه من الشبان موقف الناصح، وهو الرجل الذي عركه الدهر، فينصح للمستهترين الخليعين الذين يحيون في شبابهم كما كان يحيا في شبابه، أن ينشدوا النساء دون أن يركزوا قلوبهم في امرأةٍ واحدة، ولا يقعوا في شراكها؛ لأن النساء مجلبة للهم والشقاء.
ذلك هو «العهد الأكبر» الذي لم يكد يفرغ من إنشائه، حتى زُجَّ في السجن لجريمةٍ أخرى، وحكم عليه بالموت شنقًا، فاسترحم فيون أولي الأمر، فأعيد النظر في قضيته. وعلم القضاة هذه المرة أن المتهم الماثل أمامهم شاعر نابغٌ نزل ضيفًا في بلاط شارل دوق أورليان، وأن شارل هذا قد أعجب به إعجابًا حدا به أن يكتب قصائده بيده. وعلم القضاة كذلك أن هذا المتهم هو الذي أنشد بعض القصائد الوطنية التي سار ذكرها في البلاد عندئذٍ؛ فتبدل الحكم بحيث أصبح نفيًا يدوم عشر سنوات.
(٢) كومين Commines
وهذا لونٌ آخر من الأدب الفرنسي أيام النهضة يختلف أشد الاختلاف عن أدب فيون، لكنهما يعودان فيلتقيان في تمثيل الروح الجديدة، غير أن كومين يمثل بأدبه تلك الروح الجديدة إزاء الحياة العملية، وأما فيون فيمثل وجهة النظر الجديدة في الفن والعاطفة.
لم يكن كومين في أدبه بارع الأسلوب، ولو أنه في بعض المواضع يزاوج بين العبارة السهلة، والفكرة العميقة، فيحدث في قارئه أثرًا جميلًا. ومن مميزاته انتقاء الألفاظ الغريبة وتركيب الجمل على غير المألوف، فيقلب عبارته صدرًا على عجز، ويقف وقفاتٍ مفاجئةً ليبث شيئًا من الحياة في كتابته. ومع هذا كله فلسنا نمدح في كومين براعة الأسلوب، بل ولا نحمد له دقة التصوير وروعته. وأهم ما عني به كومين فيما كتب تقلبات الدهر، وصروف الزمان، والعبرة التي تلقيها على الإنسان حوادث الأيام، ولما كانت هذه الغاية نصب عينيه، تراه دائم الاستطراد في أدبه، فهو يقص عليك حوادث أمة من الأمم، فتتوارد على خاطره حوادث أمةٍ أخرى، فيستطرد في سردها.
وإنما يمثل كومين روح النهضة؛ لأنه أضاف إلى مميزات العصور الوسطى نزعةً جديدة، ففي الوقت الذي تراه مهتمًّا بالدين واليوم الآخر إلى حدٍّ ما، تراه يمجد في السياسة أسلوبًا ينافي أخلاق الدين تتطلَّبه الحياة العملية، هذا إلى الدعوة التي تلمسها في كل ما كتب، والتي تعارض النظام الإقطاعي — وهو روح العصور الوسطى وصميمها — وتدعو إلى حكومةٍ مركزيةٍ تقوم مقام هذه المجموعة المفكَّكة من الأمراء.
وما خلفه لنا كومين من تراثٍ أدبي هو «ذكريات»، وهي لمحاتٌ تاريخية لم تبلغ أن تكون تاريخًا متصلًا، تقص الكتب الستة الأولى منها: أنباء الصراع الذي قام بين لويس الحادي عشر وشارل الجسور من ١٤٦٥م إلى ١٤٨٣م، وأما الكتابان السابع والثامن فيرويان أنباء الحروب الإيطالية التي شنها شارل الثامن. وله غير «الذكريات» «خطابات ومفاوضات».
ومع هذا فكومين أول كاتبٍ فرنسي يستحق أن يسمى مؤرخًا؛ وذلك لأنه لم يكتفِ بسرد الوقائع كما فعل سابقوه، بل بحث دائمًا عن أسبابها ووضح نتائجها كما قضى فيها وفقًا لقواعد الأخلاق التي كانت سائدة في ذلك العصر، وهي نفس القواعد التي جمعها بعد ذلك بقليل مكيافلي في كتاب «الأمير»، وإن يكن كومين قد خالف مكيافلي في تسليمه لإرادة الله بأثرها الفعال في كبار الحوادث التاريخية.
(٣) مارو Marot
ولما بلغ الفتى عامه العاشر «قدم إلى فرنسا» على حد تعبيره، وهي عبارة تدل على انحلال فرنسا من الوجهة السياسية، إذ كانت مقسمة إلى دويلاتٍ مستقلة عن «فرنسا» بمعناها الضيق المعروف إذ ذاك، ودخل جامعة باريس فاكتملت دراسته، وعُيِّن تابعًا لأحد النبلاء، فانفتح أمامه الطريق إلى منصب في البلاط الملكي، ولم يكد يتمم عامه السابع عشر، حتى أنشأ قصيدة «حكم ملكٍ عادل»، وقدَّمها إلى فرانسوا الذي أصبح ملكًا بعد قليل، بل إنه أنتج قبل ذلك ترجمة لأول أناشيد فرجيل الريفية. وكلتا القصيدتَين محكمة النظم، متينة اللفظ، لكنهما من غير شكٍّ جاءتا على غرار أدب البلاغة اللفظية الذي سبقته إليه جماعة تعرف في الأدب الفرنسي باسم «أنصار البلاغة اللفظية». ثم تعاورت حياتَه العقباتُ حتى اتُّهم بالزندقة أربع مرات، وزُجَّ في السجن مرةً، ولاذ بالفرار من فرنسا مرتَين، كانت ثانيتهما إلى بيدمونت في إيطاليا، حيث مات سنة ١٥٤٤م بمدينة تورينو.
ترك لنا مارو تراثًا أدبيًّا مختلف الألوان كالروضة تباينت أزهارها، فقد كتب ما يقرب من اثنتي عشرة مقطوعةً من الشعر التي نذكر منها قصيدة «معبد كيوبد» جعل وزنها عشرة مقاطع للبيت الأول وثمانية للبيت الثاني، وسار في القصيدة كلها على هذا التوالي، ثم كتب قصيدة «حوار بين حبيبَين»، ثم «نشيد ريفي للملك»، وبعدئذٍ أنشأ قصيدة «الجحيم» جاء فيها بوصفٍ قويٍّ جميل للأيام التي قضاها في السجن. وللشاعر بعد ذلك خمس وستون رسالةً منظومة كتبها في أبياتٍ من ذوات المقاطع العشرة والقافية المزدوجة (قافيةٌ واحدة لكل بيتَين متتاليَين)، ومن هذه الرسائل قطعة مشهورة عنوانها «مفارقات» وهي ضرب من الدعابة الخفيفة التي تشيع فيها روح السخرية، وقد كان شائعًا عندئذٍ تقليدًا لنوع من الشعر عرف في العصور الوسطى، وهذا يبين لك كيف اتجه مارو بجزءٍ من نظره إلى الوراء يستقي مصادر العهد الوسيط.
وكتب مارو كذلك ستًّا وعشرين مرثيةً بالقافية المزدوجة التي برهن في صياغتها على براعة تستوقف النظر، وخمس عشرة أغنيةً شعبية، واثنتين وعشرين أنشودة في مختلف الأوزان، واثنين وثمانين موالًا، واثنتين وأربعين أغنيةً قصد بها إلى التلحين الموسيقي.
كل هذه الصور الأدبية كانت قمينة في قلم الشاعر الضعيف أن تنتج شعرًا جافًّا باردًا لا طلاوة فيه، لكن مارو امتاز فيها جميعًا بأسلوبٍ سلسٍ رشيق جذاب تغلَّب به على ما قد تؤدي إليه تلك الصور من جفافٍ وبرود، بل استطاع أن يخلع على شعره بأسلوبه ذاك نغمًا حلوًا لا يكاد يفوقه فيه شاعرٌ فرنسي آخر إذا استثنيت فيون.
وأنت ترى من هذا أن معظم ما أنتجه مارو هو مما نطلق عليه اسم شعر المناسبات؛ فليس بين قصائده كلها قصيدة واحدة تزيد في طولها على بضع مئات من الأسطر، ويوشك إنتاجه كله أن يكون ذا صلةٍ بأشخاصٍ وحوادث مما صادف في حياته. وقد كان لمارو شهرةٌ بعيدة في عصره، بل كان له كثير جدًّا من الأتباع بعد موته على الرغم من ظهور منافسٍ قوي في شخص «رونسار» الذي سيأتي ذكره فيما بعدُ.
ولطالما قيل عن مارو إنه أبو الشعر الفرنسي، وهذه الأبوة إن لم تخْلُ من بعض الخطأ، فهي كذلك لا تخلو من كثيرٍ من الصواب، فنسبة هذه الأبوة إليه خاطئة إن أريد بالشعر الفرنسي تلك القصائد الجادة الرصينة الطامحة إلى أعلى مراتب الشعر، أما إن أردت بالشعر الفرنسي ذلك الضرب الخفيف الذي يصادف في فرنسا وفي غيرها إقبالًا وإعجابًا أكثر مما يلقى زميله الرصين الجاد، فالأبوة صحيحة لا سبيل إلى الشك فيها. ولعل أهم ما يمتاز به أسلوبه السلاسة والرشاقة لا شدة العاطفة أو عمق الفكرة، فعلى الرغم من أن الروح التي كانت تسود عصره هي الميل إلى الثقافة القديمة والاكتفاء بتقليدها، ترى مارو قد خرج على هذا الاتجاه السائد، فهو لا يمثل روح عصره. وليس ذلك بعجيب؛ إذ تمثلت في شخصه الثورة على أسلوب «أصحاب البلاغة اللفظية» الذي عرف بالجفاف والنبوِّ والشذوذ. ولما كان مارو ثائرًا على تجويد الصياغة والإسراف في الصناعة والتزويق، فقد عدَّه «السابوع» الذي أعقبه في تاريخ الأدب شاعرًا من العوام لا يسمو إلى مرتبة الشعر المهذب المصقول، لكنه حكمٌ فيه كثير من الإجحاف؛ لأن مارو لم يفعل سوى أن تناول الشعر الفرنسي القديم وجرَّده من الزوائد الصناعية التي تشوه جماله ورقته، وأخرجه من جديد رقيقًا رشيقًا. فهو أديبٌ فرنسيٌّ بكل ما تحمل هذه الكلمة من خصائص ومميزات، وهذه الروح الفرنسية الخالصة التي تتمثل فيه هي التي أوقفته في العبارة والأداء عند حدودٍ معينةٍ لا يجاوزها، حتى لا تشوب خصائصَه الفرنسية شائبة، ولكنها هي التي جعلت له منزلته ومكانته.
أمثلة من شعر مارو:
حُلم
رسالة (قالها وهو يغادر القصر)
•••
(٤) رابليه Rabelais (١٤٩٠–١٥٥٣م)
جاوزت النهضة الأدبية حدود إيطاليا لتنشر لواءها على فرنسا من بعدها، وكان «رابليه» عَلَمَ النهضة الفرنسية غير منازع، وهل من شكٍّ في أن رابليه الفرنسي، و«سِرفانتيس» الإسباني، و«شيكسبير» الإنجليزي، كانوا جبابرة النهضة الأدبية في أوروبا ورُوَّادها؟ وهل كانت النهضة الأدبية إلا عهدًا اشتد فيه الشعور بالحياة بعد جمودٍ طويل، وعهدًا للتحصيل العلميِّ يستقبل الحياة في بِشْرٍ وإقدام؟ وقد وجدت روح النهضة هذه خير ما يعبر عنها فيما كتب رابليه.
ولد «فرانسوا رابليه» على أرجح الظن عام ١٤٩٠م في إقليم «تورين» جنوبي فرنسا، ولسنا ندري عن نشأته إلا قليلًا، فيقال إن أباه كان صيدليًّا أو صاحب فندق، وكان لأبيه كرمة إلى جوار دير فيه مدرسة، ففي تلك المدرسة تلقى رابليه أول تعلُّمه الذي أريد به أن يُعده للوظائف الدينية. ولما بلغ عامه الخامس عشر التحق بديرٍ صادق فيه بعض الزملاء، فكان لهؤلاء الأصدقاء شأن في مستقبل حياته.
كانت جمعيةً نشيطة تلك التي كونها رابليه وزميله آمي، فوشى الواشون بهما لأولي الأمر في الكنيسة أنهما يخفيان في غرفتَيهما كتبًا يونانية وغير يونانية، وضبطت الكتب، وعوقب الرجلان بالسجن في حجراتٍ ضيقةٍ منعزلة في الدير، لكن «آمي» فرَّ من الدير إلى سويسرا، حيث هاجم الكاثوليكية، وتبع «لوثر» في دعوته الدينية، وأما «رابليه» فخرج على طائفته الدينية، وانضم إلى سواها.
ودرس رابليه الطب، ومُنح فيه الدرجة من جامعة مونبلييه، وعينته الجامعة أستاذًا للتشريح، وعندئذٍ أخذ يشتغل بدراساتٍ دنيوية لا شأن لها بالدين، وألَّف ملهاةً عنوانها «الرجل الذي تزوج امرأةً صماء»، وهكذا أخذ ينسحب شيئًا فشيئًا من الكنيسة لينغمس في مجرى الحياة الاجتماعية.
وفي عام ١٥٣٢م نشر ترجمةً لاتينية لمؤلفات أبقراط وجالينوس في الطب، لكن الناشر أصابته خسارةٌ فادحة، فأقسم له رابليه أنه مُعوِّضه عن هذه الخسارة ربحًا كثيرًا قال: «وأقسم لك إن رابليه الذي لا يعرفه الآن إلا نفرٌ ضئيل لن يلبث طويلًا، حتى يصبح في أفواه الناس جميعًا وبين أيدي الناس جميعًا، وسيمتد صيته إلى خارج البلاد كما ينتشر في أرجائها.»
فما هو إلا أن أخرج لذلك الناشر كتابًا صغيرًا عنوانه «بانتاجريل»، ثم لم يلبث أن أعقبه بكتابٍ آخر عنوانه «جارجانتوا»، حتى نجح المؤلف ونجح الناشر نجاحًا عظيمًا. وسنتناول هذا الكتاب العظيم بالتحليل.
ويبدأ كتاب جارجانتوا بقائمةٍ طويلةٍ تسجل أنساب الأسرة تسجيلًا يبعث القارئ على السخرية، ثم تتلو ذلك قصةٌ عجيبة عن مولد جارجانتوا بعد حملٍ دام أحد عشر شهرًا، ونزل من جوف أمه وهو يصيح في صوتٍ قويٍّ عريضٍ يسمعه الناس على مسافة أميالٍ بعيدة «ايتوني بالشراب! إني أريد شرابًا! أريد بعض الشراب!» ثم يتلو ذلك كيف نشأ رضيعًا وطفلًا ويافعًا، ووصف ذلك كله وصفًا مليئًا بالسخرية الممتعة.
هذا هو كتاب رابليه «جارجانتوا وبانتاجريل» الذي يمثل براعته الأدبية وميوله الشخصية أصدق تمثيل، ولقد أثار هذا الكتاب نقاشًا حادًّا، وبحثًا مستفيضًا حول ما يقصده المؤلف من هذا الكتاب. وإنك لترى الكاتب يخلط في شخصياته خلطًا عجيبًا كأنما يريد متعمدًا أن يُرْبك مَن بعده من الناقدين، فتارةً يذكر أشخاصًا حقيقين بأسمائهم الصحيحة، وتارة يستر أشخاص كتابه بقناعٍ خفيفٍ يشف عما تحته من أشخاصٍ حقيقيين، وطورًا ثالثًا يستخدم شخصياتٍ خلقها بخياله خلقًا، ثم تراه أحيانًا جادًّا رصينًا لا يهزل ولا يسخر، كما فعل في الفصول التي عقدها للكلام في تربية النشء، وأحيانًا أخرى — بل وأغلب الأحيان — يهزل ويسخر إلى حد الإسراف. ومن أوضح صفات رابليه أمران؛ أولهما: حبه الشديد لاستعمال الألفاظ المترادفة في كثرة تستوقف النظر والإفراط في التفصيل حين يُثْبت قائمةً بأشياء، وثانيهما إسرافه في ذكر إشاراتٍ وأوصافٍ لا يراعى فيها الذوق المهذب المرهف.
وقد اختلف النقاد في تفسير هذا الكتاب وفي تقديره، فقيل إنه هجاءٌ سياسيٌّ شخصي تستطيع أن تردَّ كل حادثةٍ فيه، وكل شخص من أشخاصه إلى مقابل في الحياة الواقعة في عصره، وقيل كذلك إنه نقد للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وقيل أيضًا إنه دفاع عن الفلسفة المادية الأبيقورية التي تنادي بالبحث عن حياةٍ لذيذةٍ ممتعة، بل زعم فريقٌ آخر أن الكاتب إنما أراد مهاجمة العقيدة المسيحية من أساسها، وأخيرًا ذهب بعض الناقدين إلى أنه مخادعةٌ ماكرة من مؤلفٍ ماهر أراد بها أن يضلل قرَّاءه، فيوهمهم أن شيئًا مقصودًا يكمن وراء هذه الألفاظ، وعليهم أن يتعقبوه ليكشفوا عنه. والواقع أن ليس وراء الستار من شيءٍ مستور، وبعدُ فليس غرضه الصحيح بعسير — كما يقول سانتسبري في كتابه عن تاريخ الأدب الفرنسي — إذا لم نفتعل إخراج المعاني مما يخلو من المعنى، فالكتاب يجري في نسقه على نمطٍ معروفٍ مشهور، وهو قصة تروي مغامرة لبطلٍ أو أبطال. وإذن فرابليه لم يبتكر من حيث الصورة شيئًا جديدًا، وإنما الجديد هو ما أخذ يحشره خلال قصة المغامرة من تعليقٍ وإشارةٍ واستطراد، وساعده على ذلك غزارة علمه، فقد كان عالمًا ضليعًا، ولم يغمض عينه عن الدنيا التي يعيش فيها، فجمع مما حوله معرفةً واسعة، وكان ذا مزاجٍ مرحٍ يميل إلى اللهو والسرور، فضلًا عن انغماسه في السياسة واتصاله بمشكلات الدين. وإذن فقد جمع رابليه عناصر النهضة في أولى مراحلها، وهي حب اللهو والسعي وراء الربح والدراسة.
نعم إن كتاب «جارجانتوا وبانتاجريل» آيةٌ أدبية برغم ما فيه من فقراتٍ طوال تبعث الملل في نفس قارئها لفتورها وخلوها من المعنى، ولكأننا بالكاتب في مثل هذه الفقرات يلهو لهوًا بريئًا بالألفاظ كما يلهو الطفل العابث بالرمل على شاطئ البحر، فالطفل لا يفحص كومة الرمل حبةً حبةً، ثم هو لا يريد أن يستخدم الرمل لشيءٍ ذي نفع أو غرضٍ مقصودٍ، وكل ما يعنيه منه أن يملأ منه وعاءه، ثم يفرغه مستمتعًا بذلك، وهكذا ترى رابليه في كثيرٍ من أجزاء كتابه يكيل الألفاظ بقلمه كيلًا لغير ما غايةٍ منشودة سوى أن يملأ الوعاء فرحًا مرحًا مسرورًا.
وإذا وجدت رابليه في هذا الكتاب قد خرج على حدود اللياقة، وأفحش القول، وأرخى للشهوة الجسدية عنانها، فمرجعه أنه رجل ضاق صدره بقيود العصور الوسطى، ومحنة السلطة الدينية. وإذا كنت ممن لا يطيقون قراءة الكلام الفارغ من المعنى، وإن كنت ذا عقلٍ صارمٍ يريد أن يقرأ ما يفيد، وإذا كنت ممن يقرءون ليجدوا حلًّا حاسمًا مباشرًا لمشكلات الحياة، فليس رابليه بالكاتب الذي تريد؛ لأنه كاتبٌ مارق خرج على كل هذه الأوضاع ازدراءً لها، واحتجاجًا على الدوافع التي بعثت عليها. إن الكثرة الغالبة من الناس تؤثر الحزن على المرح، واليقين على الشك، هم يحبون الحزن، حتى ولو لم يكن ثمت ما يحزن، وهم يحبون اليقين والتمسك بما يعتقدون، حتى ولو كانت عقائدهم أوهامًا في أوهام ينكرها الواقع إنكارًا صريحًا، وهم كذلك يحبون اطِّراد الفكر غير عالمين أن صاحب الفكر المطرد هو المجنون الذي لا يتردد قطعًا في أنه قيصر ذو السلطان والجبروت.
لقد أخذ رابليه يقذف بمادة كتابه قذفًا لا ينشد غاية ولا يترسم خطة، بل لعله لم يقرأ ما كَتب ولم يُعْنَ بالصقل والتجديد، وليس في كتابه قصةٌ مطردة، وإنما يسوق الحديث سَوْقًا، فتتساقط الشخصيات في السياق بغير تمهيدٍ لظهورها، ثم تختفي فجأة إلى أن يتذكرها الكاتب بالمصادفة العابرة. ففي الكتاب محادثات ونكات وقصص وسخرية ولعب بالألفاظ، وصور مختلفة للحياة الممتعة اللذيذة، وتصوير للأصدقاء ونقدٌ أدبي، وترى كل هذا يتدفق من عقل رابليه كأنما هي أنغامٌ مختلفة تخرجها آلة كبرى تعددت أوتارها، وتراها جميعًا تتسابق أمام عينَيك على صفحات الكتاب في تلاحقٍ سريع ونغمٍ وتوقيعٍ لا يضارع رابليه فيهما كاتبٌ آخر. إن تاريخ «جارجانتوا وبانتاجريل» لكالسَّيل المتدفق ينبثق من شبه الشعور بعد أن أترِعَ بالأفكار والصور والرغبات والتجارب، ثم فُكَّ إساره بعد قيدٍ طويل؛ فكأنما هو تخليط مخمورٍ أسكرته الراح.
نُشر الكتاب فقالت عنه كلية اللاهوت بجامعة باريس إنه منافٍ للدين في بعض مواضعه؛ فراجعه الكاتب وحذف منه إشاراتٍ جنسيةً صريحة، وملأ الفراغ بسخريةٍ لاذعةٍ برجال اللاهوت في تلك الكلية؛ فصدر أمرها بمصادرة الكتاب، لكن ذلك لم يكن إلا إعلانًا قويًّا عنه فازداد نجاحًا.
وقد أثارت سخريته بعض النفوس التي كانت تضيق بالنقد في عصره، فإذا أضفنا إلى سخريته خروجه على حدود العرف في لفظه، وجدناه نابيًا على الذوق السائد في عصرنا، لكن قد يشفع له في ذلك أنه بضحكاته العراض يمزق عن وجوه الناس أقنعة النفاق والتكلف، فلعله بلفظه الجارح يشفي من جسم المجتمع العليل هذا الداء إن كان لمثله دواء.
ويستخدم رابليه جزل الألفاظ ورنَّانها، وهو الذي خلق بعض ألفاظه خلقًا، وتراه فيما يكتب يكثر من الصور والتشبيهات، حتى أصبحت غزارتها وتلاحقها عيبًا يؤخذ على أسلوبه. وقد أراد رابليه بكتابه هذا أن يبشر بمذهبٍ أدبي هو أن الفكاهة والسخرية وحدهما السبيل إلى نجاة العالم، وتخليصه من شوائبه، حتى ليطلق على هذا المذهب في الأدب «المذهب البانتاجريلي»، وقد اقتفى أثره من بعده كثير من الأدباء.
كانوا ينفقون حياتهم كلها في غير حرصٍ على قانون ولا شريعة ولا نظام، إنما يسيرون فيها وفق أهوائهم وإرادتهم المطلقة من القيود؛ فهم يغادرون المخادع حينما يشاءون، ويأكلون ويشربون ويعملون وينامون، حينما يريدون وحيثما مال بهم الهوى، فليس لأحد أن يوقظهم من نعاس، وليس لأحدٍ أن يضطرهم إلى طعام أو شراب أو أي شيءٍ آخر. هكذا رسم لهم جارجانتوا طرائق العيش، وليس فيما يتبعون من قواعد وروابطَ دقيقة تضبط جماعتهم إلا عبارةٌ واحدة جديرة في رأيهم بالاتباع ألا وهي: «افعل ما بدا لك.» ذلك لأن أحرار الرجال الذين حَسُنَت بيئتهم، وصلحت تربيتهم، وعرفوا كيف يعيشون في صحبةٍ شريفة، ورثوا في جبلَّتهم غريزة أو حافزًا يستحثهم على عمل الفضائل، ويبعدهم عن الرذائل، وذلك الحافز الفطري هو ما يسمى بالشرف، ولكن هؤلاء الرجال أنفسهم لو خضعت نفوسهم خضوعًا ذليلًا، واضطرتهم القيود أن يذلوا ويخنعوا، فإنهم ينحرفون عن ذلك الحافز الشريف الذي كان قبلُ يميل بهم نحو الفضيلة، ويتجهون نحو أن يزيحوا عن أنفسهم تلك الأصفاد، ويحطموها تحطيمًا؛ لأنها أصفاد استعباد تسترقُّهم في طغيانٍ غشوم، فإن طبيعة الإنسان تملي عليه أن يسعى وراء الممنوع، وأن يشتهي ما حُرِّم عليه …
(٥) السابوع الأدبي Pléiade
شهدت فرنسا في منتصف القرن السادس عشر حركةً أدبيةً كبيرة تعرف باسم «السابوع الأدبي». ولعلنا لا نعدو الحق إذا قلنا إن رجال هذه الحركة هم الذين أثبتوا قدرة اللغة الفرنسية على أن تصبح لغة أدب وثقافة بعد أن كانت تعتبر لغةً عامية ضئيلة القدر إلى جانب اللغة اللاتينية التي ظلت إلى عصرهم لغة التأليف والأدب الرفيع. ومن البديهي أنهم لم يسلكوا في جهادهم من أجل اللغة الفرنسية طريق الدفاع النظري فحسب، بل رأوا بحقٍّ أن خير السبل لتأييد قضيتهم هي أن ينشئوا الشعر والنثر بتلك اللغة العامية. ولقد وفِّقوا في ذلك الإنشاء أكبر توفيق حتى ليُعَدون في تاريخ الأدب الفرنسي آباء ذلك الأدب وواضعي أسسه. ولا أدل على ذلك من أنه عندما ظهرت الحركة الابتداعية (الرومنتيكية) في القرن التاسع عشر، ونادى القائمون بها بوجوب ترك الآداب الإغريقية واللاتينية باعتبارها غريبة عن فرنسا، والرجوع إلى المصادر الفرنسية البحتة؛ لم يجدوا خيرًا من «السابوع» يتدارسونه ويستوحونه ويجددون مذاهبه.
هذه الحركة من الأهمية، بحيث تستحق أن نقف عندها قليلًا لنجمل بعض آرائها في تجديد الأدب، وسيرى القارئ في مبادئها ما يمكننا أن نستفيد منه في المرحلة الراهنة من حياتنا الثقافية.
(٥-١) السابوع وتكوينه
وتابع هؤلاء الشبان الخمسة دروس أستاذهم في حماسةٍ بالغة، حتى ليروون أن رونسار وباييف كانا يتناوبان في الليل مائدة المذاكرة، فيحتلها رونسار إلى الساعة الثالثة صباحًا، ثم يوقظ باييف ليحل محله. وبلغ بهم فرح النفس بالتحصيل أن صاح أحدهم يومًا بأستاذهم عندما شرح لهم لأول مرة قطعة لشاعرٍ إغريقيٍّ كبير «لِمَ أخفيت عنا — أستاذنا! — هذه الكنوز إلى اليوم؟» وطلبةٌ قلوبهم في هذه الحرارة لم يكن بد من أن تطمح نفوسهم الفتية إلى أن يكتبوا بلغتهم أدبًا يستطيع أن يثبت عند المقارنة بالآداب الإغريقية واللاتينية التي أحبوها كل هذا الحب.
(٥-٢) مبادئ السابوع
- (١)
الدفاع عن اللغة الفرنسية: وذلك لأن تلك اللغة كانت تعتبر عندئذٍ بمثابة لغةٍ عامية إلى جوار اللغة اللاتينية، وكان الأمر شديد الشبه بلغتنا العامية اليوم إزاء اللغة الفصيحة، وذلك مع ملاحظة أن اللغة الفرنسية كانت قد بعدت عن أصلها اللاتيني أكثر من بُعد لغتنا العامية الآن عن العربية الفصحى بكثير. وكان الكتاب والعلماء ينظرون إلى اللغة الفرنسية باحتقارٍ، ويرون أنها لا تستطيع أن تحلَّ محل اللاتينية. فانبرى لهم السابوع؛ ليثبت أن اللغات لا تمدح ولا تعاب في ذاتها، وإنما تمدح وتعاب بما كتب فيها، وليس غنى اللغة وفقرها إلا من عمل المتكلمين والكاتبين بها. ولقد كان فيما فعل الإيطاليون أمثال دانتي وبترارك وغيرهما خير مثلٍ يحتذى؛ فهؤلاء قد كتبوا عيون الأدب باللغة الإيطالية التي كانت تعتبر لغةً عامية كالفرنسية سواءٌ بسواء إلى جوار اللغة اللاتينية، فما على الفرنسيين إلا أن يعملوا كما عمل الإيطاليون، وسوف يكون في مؤلفات السابوع ما يثبت أن اللغة الفرنسية لا تقل صلاحية للأدب الرفيع عن اللغة الإيطالية إن لم تفُقها.
- (٢) إثراء اللغة الفرنسية وآدابها، وذلك بالطرق الأربع الآتية:
- (أ)
الاستعارة من اللغتَين القديمتَين الإغريقية واللاتينية: ولقد اتهمهم خصومهم — بغير حق — بالإسراف في هذا الاتجاه، حتى قال الناقد الفرنسي بوالو «إن رونسار وجماعته قد أنطقوا ربة الوحي الفرنسية باللغتَين الإغريقية واللاتينية.» إشارة إلى كثرة تلك الاستعارات.
- (ب) التجديد في الأوزان والقوافي: وقد كان اتجاههم العام في ذلك نحو الاطراد وإحكام الأصول، وإن لم يصلوا في ذلك إلى حدِّ التزمُّت الذي سيصل إليه فيما بعدُ الناقد ماليرب Malherbe، ونستطيع أن نضرب لذلك بعض الأمثال بقولهم بوجوب انتهاء المعنى عند مقطع الشطر في كل بيت، بحيث لا يكون هناك تدوير في المعنى، وأما القافية فيلحُّون في ضرورة إشباعها. وفي الأوزان حرصوا على أن يجعلوا الصدارة للوزن الطويل المكوَّن من اثني عشر مقطعًا، وهو الوزن المسمى بالإسكندري كما استعاروا من الإيطاليين «السونتا» البترركية.
- (جـ)
فنون الشعر: لقد عمل السابوع على التخلي عن الفنون الشعرية الصغيرة كالمواويل وما شابهها من الأنواع التي سادت في القرون الوسطى، وعادوا إلى الفنون الكبيرة التي عالجها اليونان والرومان القدماء كقصائد الهجاء والرثاء وشعر الرعاة وشعر الملاحم، بل والتراجيديا والكوميديا، وإن يكن إنتاجهم المسرحي ليس بشيءٍ إذا قيس بإنتاجهم الغنائي الذي خلدوا به.
- (د)
ضرورة العمل: وهذا مبدأ لعله من أنفع مبادئهم، فقد قالوا بأن خلق الأداة الشعرية من لغة وأوزان لا يكفي، بل لا بد من طول الجهد والمران حتى تسلس الأداة لهم، وعندهم أن العبقرية ذاتها لا تُغني، بل لا بد من مواصلة العمل، حتى تخرج العبقرية ثمراتٍ سليمة.
- (هـ)
محاكاة القدماء: وهذا هو طابع السابوع الواضح، فقد قالوا بأن المحاكاة هي خير وسيلة لتجديد الشعر الفرنسي. ولقد كان إعجابهم بقدماء الإغريق واللاتين لا حد له، وما كانوا يستنكفون من أن ينهبوا كنوزهم الأدبية نهبًا، حتى قالوا بمحاكاة الصياغة والموضوعات على السواء؛ ومن هنا كثر استخدامهم للأساطير القديمة. ولقد أثبت الزمن أنهم كانوا على حق؛ إذ أصبحت المحاكاة مدرسة للأصالة.
وكما قلدوا القدماء قلدوا كذلك الإيطاليين الذين كانوا قد سبقوهم إلى خلق أدبٍ جديد.
وسنعرض فيما يلي موجزًا لأكبر اثنين من أعلام ذلك السابوع المجيد:
- (أ)
(٦) رنسار Ronsard
وأول ما أنتج السابوع ليدلوا على مذهبهم بطريقةٍ عمليةٍ هو «أغانٍ» للشاعر رُنْسار، ثم عقب ذلك بإنتاجٍ آخر هو «غراميات كاسندرا»، ثم أتبع ذلك بديوان عنوانه «ترانيم»، ثم بطائفةٍ من المقطوعات الشعرية.
لم يلبث رُنْسار طويلًا بعد أن أخذ يقرض الشعر، حتى عظمت مكانته في القصر، وإن قصة لتروى في هذا الصدد عن «مرغريت سافوا» أخت هنري الثاني، أنها سمعت منشدًا في القصر يقرأ شعر رنسار في صوتٍ تهكمي، فجذبت منه الديوان جذبًا، وأخذت هي تنشد لأخيها الملك وحاشيته، فحكم الحضور جميعًا للشاعر بالعظمة، ثم أخذت شهرة الشاعر تزداد في القصر في أيام شارل التاسع. وقد أنفق رنسار بعدئذٍ عشر سنواتٍ ينتج للقصر قصائد الشعر في المناسبات المختلفة، كما ينتج لنفسه آنًا بعد آن. وأخيرًا ظهر في سنة ١٥٧٢م الجزء الأول من ملحمة «فرانسياد» التي كان يطمع أن يصل بها إلى ذروة الشعر، لكنه لم يوفق فيما أراد، ولعلها أن تكون أسوأ ما أنشد من شعر. ومات شارل التاسع وغادر الشاعر القصر، وقصد إلى إقليمه الريفي، وهنالك جادت قريحته بخير شعره في «قصائدَ غزلية» و«مقطوعاتٍ شعرية إلى هِلِنْ» وغيرهما.
ومهما يكن من رأي النقد في رُنْسار فلا شك في أن مجده يبدو على حقيقته حين ننظر إلى مقدار ما أثر في خلفه، فقد تمكن بفضل دراسته للآداب القديمة أن يدخل على الأدب الفرنسي أبحرًا جديدة، وقد كان من أكبر عيوب الشعر في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وفي أوائل السادس عشر أن بذل الشعراء كل عنايتهم في ترتيب القوافي والمقطوعات، وأهملوا البيت الواحد إهمالًا تامًّا، فجاء رُنسار وجعل البيت وحدة القصيدة كما هو الشأن في الشعر العربي، ولعل ذلك نتيجة دراسته لشعر هوراس الذي ترى لكل مقطع فيه أثرًا في قوة البيت، ولكل بيت أثر في قوة المقطوعة. أضف إلى ذلك أن رنسار أطلق يده في إدخال كلماتٍ جديدةٍ من اليونانية واللاتينية، وألوان من التعبير لم تألفها أسماع الفرنسيين، ثم احتفظ مع ذلك بكلماتٍ فرنسيةٍ قديمةٍ لها روعة في التصوير. وكان مما يميزه كذلك إسراف في استخدام صيغة التصغير، وكان هذان الجانبان الأخيران، الكلمات القديمة وصيغة التصغير، مما امتدت إليه يد النقاد في القرن السابع عشر بالحذف، ومع ذلك فقد بقي لما أدخله رنسار من تغيير وتعديل على الشعر الفرنسي أثرٌ عميق ولونٌ ناصع نلمسه فيه كلما نهض واستقام بعد ركودٍ وانحلال.
وهاك نماذج من شعره:
•••
•••
•••
ومن أناشيده:
إلى كاسندرا
(٧) دي بلاي Du Bellay
وكانت إقامته بإيطاليا قد أوحت إليه بخير ما أنشد من شعر، وهي قصيدة «آثار روما» التي ترجمها «سبنسر» إلى الإنجليزية، وكذلك من آياته قصيدة «الذاري» وقصيدة «رثاء على قبر كلبٍ صغير»، وقصيدة «ملاهي الريف»، وكلها من جيد الشعر. فلئن فَوَّت الأجل القصير على «دي بلاي» أن يكون غزير الإنتاج فقد عوَّضته العبقرية جودةً، حتى أُطلق عليه «أبولو السابوع» إذ كان أجودهم شعرًا، كما كان أقواهم نثرًا.
وهاك نماذج من شعره:
رثاء على قبر كلبٍ صغير
ومن شعره في حبه لوطنه:
•••
•••
•••
(٨) كلفن Calvin
لقد كان رابليه — كما أسلفنا — يمثل النهضة الأدبية في كل خصائصها، يمثلها في وجهة نظرها إلى مشكلات الدين والفلسفة، وهي نظرة يشوبها الشك والحيرة، ويمثلها في إخلاصها للعلم القديم والأدب القديم، ويمثلها في محاسنها للانغماس في الحياة وشئونها، ثم يمثلها في نزوعها إلى الاغتراف من متعة الدنيا ولذائذها.
وسنكتفي من هؤلاء الأربعة الناثرين باثنين: كلفن ومونتيني.
كان كتاب «الشرائع» أهم ما أنتج كلفن في الأدب والدين على السواء، وقد كتبه باللاتينية أول الأمر، ثم ترجمه بعد أربعة أعوام إلى الفرنسية، فكان بغير شكٍّ أول كتاب جدي كتب بالنثر الفرنسي، وكانت له قيمةٌ عظيمة في الأدب، وهو مصطبغ بالخصائص اللاتينية في الصياغة والإنشاء، فالثروة اللفظية التي يستخدمها كلفن في هذا الكتاب — على خصوبتها وتنوُّعها — هي في صميمها فرنسيةٌ خالصة، وأما الصبغة اللاتينية فظاهرة في طريقة بناء الجمل لا في اختيار الألفاظ، وكانت هذه الطريقة الجديدة في إنشاء العبارة ذات خطرٍ عظيم؛ لأن الفرنسية — كسائر اللغات الدارجة على الألسن إذ ذاك — كانت في طرق التعبير فقيرةً عاجزة، فتركيب الجملة كان تركيبًا خاليًا من أصول الفن، يصلح للحديث، ولكن لا يصلح لمعالجة موضوعٍ رصين يناقش نقطةً معينة بالدليل والبرهان؛ لهذا أخذ كلفن يصبُّ عباراته الفرنسية في قالبٍ لاتيني، وأخرجها في اطرادٍ من الصياغة لم تعهده اللغة الفرنسية من قبلُ، وبهذا أكسب اللغة سلاسة ووضوحًا لم يستعصيا على قلمه، حتى في الجمل الطويلة، وهما خاصتان لم تعرفهما بعض اللغات الأوروبية — بما في ذلك اللغة الإنجليزية — في نثرها إلا بعد ذلك التاريخ بزمانٍ طويل. ولا بد أن نضيف إلى السلاسة والوضوح صفة ثالثةً امتاز بها كلفن في نثره، وهي تخلصه من أكبر عيوب النثر الفرنسي، وأعني به الميل إلى الأسلوب الخطابي في الكتابة، ومع ذلك فهو لم ينبذ المحسنات البديعية نبذًا مطلقًا، إنما زخرف نثره بما تقتضيه أوضاع الفن والذوق السليم. فإذا عرفت أن كلفن قد فرغ من كتابه هذا قبل أن يبلغ السابعة والعشرين من عمره، استطعت أن تقدر مبلغ قدرته ونبوغه؛ إذ أمكنه برغم فورة الشباب أن يُجْري قلمه متزنًا هادئًا في موضوعٍ جادٍّ رصين.
ويتألف كتاب «الشرائع» من أربعة أجزاء؛ الأول: موضوعه «الله»، والثاني: «التكفير عن الخطيئة» أي مهمة المسيح، والثالث: في نتائج تلك المهمة الكبرى، والرابع: في إدارة الكنيسة. والغرض من الكتاب كله أن يؤيد مذهب الجبر والخطيئة الأولى، ومهاجمة بعض عقائد الكنيسة الكاثوليكية.
معرفة الله
إن حكمة الإنسان تتألف من جزأين لا ثالث لهما: معرفة الله ومعرفة أنفسنا، وإن ما بالإنسان من ضعفٍ وجهلٍ وفسادٍ ليذكره بأن أسطع أضواء الحكمة والفضيلة والخير لا تجتمع إلا في «المولى» دون سواه، وبديهي أن الإنسان يستحيل عليه أن يعرف نفسه معرفةً صحيحةً إلا إذا تأمل وجه الله، ثم هبط بعد تأمله إلى نفسه يتفكر فيها.
ليس من شكٍّ في أن العقل البشري قد جُبِل على إدراك الله على نحوٍ ما، وقد أصاب شيشرون — برغم وثنيته — في قوله إنك لا تجد أمة بلغت من الهمجية مبلغًا لا يمكنها من الاعتقاد بوجود الله، بل إن الوثنية نفسها لتنهض دليلًا على ذلك.
فالتجربة تدل على أن يد الله قد غرست العقيدة الدينية في نفوس الناس جميعًا، لكن قلَّ بين الناس من يتعهد تلك البذرة المغروسة في قلبه، فمن الناس من يهيم في الخرافات، ومنهم من تشاء له تعاسته أن يفرَّ من الله فرارًا، وطائفة منهم تفكر في الله برغم أنوفها، وهي لا تدنو من الله دون أن تُجْتذب إلى حضرته اجتذابًا.
ولما كان كمال النعمة لا يتم إلا بمعرفة الله، فقد شاء — سبحانه — ألا يكتفي بغرس بذور الدين في نفوسنا، بل أراد أن يتجلى بكمالاته في بناء الكون بأجمعه، وأن يظهر نفسه كل يوم أمام أبصارنا، حتى لا نستطيع أن نفتح الأعين دون أن نضطر اضطرارًا إلى رؤيته، نعم إن حقيقته فوق إدراك العقول، لكن جلاله منقوش على كل آية من آياته بأحرفٍ ساطعة، حتى لا يسع إنسانًا كائنًا ما كان غباءً وجهلًا، أن يتخذ الجهل ذريعة.
ولعل أقبح منظر لعقوق الإنسان أنك تراه — برغم ما يحمل في شخصه من مصنعٍ يموج بأعمال الله — قد انتفخت أوداجه كبرًا يدل أن يلهج بحمد الله. ما أقل من يفكر في الله حين يشخص ببصره نحو السماء، أو يرسله إلى الأفق البعيد! فعبثًا — بسبب غبائنا — ما يعرض الكون أمامنا من سُرُج وهاجة أضيئت لتدل على جلال خالقها!
لهذا كان لا بد لنا إلى جانب الكون من مُعين آخر يهدينا سواء السبيل، نحو الله خالقنا، فأضاف الله «كلمته» ضوءًا جديدًا يكشف لنا عن سر خلاصنا بفضله.
(٩) مونتيني Montaigne
كاتبان كان لهما التفوق في النثر الفرنسي إبان القرن السادس عشر، وهما بين أدباء العالم كله في الطليعة من حيث الإبداع والابتكار، وهما «رابليه» و«مونتيني»، وقد عاش رابليه في النصف الأول من القرن السادس عشر، وعاش مونتيني في نصفه الثاني. وكانت طبيعتاهما على أشد ما يكون التباين؛ فرابليه لعوب طروب، ومونتيني جادٌّ ساخرٌ متأمل. والأرجح أن مونتيني لم يطالع ما كتبه سلفه العظيم؛ إذ شغلته الآداب القديمة، وكان يزدري كل ما أنتجته القريحة الفرنسية الخالصة. ومع هذا الاختلاف بين الرجلَين، فقد تعاونا على خلق النثر الفرنسي، وكان لهما أثرٌ عظيم في الأدباء الإنجليز، كما كان لهما أعمق الأثر في الأدب الفرنسي.
«هيا امرحوا يا بَنيَّ، ولتفرح قلوبكم.» تلك كانت رسالة رابليه إلى الناس. أما زميله مونتيني فلم يكن يعنيه في كثيرٍ أو قليل أن يمرح الناس أو لا يمرحوا، وعكف هادئًا على نفسه يستوحي خواطره ومشاعره، وانكبَّ صامتًا على كتبه يقرأ ما خلَّف الأقدمون، وكان مونتيني هو رب المقالة الأدبية وخالقها في الأدب الأوروبي؛ ولهذا كانت «المقالة» هي القالب الأدبي الوحيد الذي نستطيع أن نتعقبه إلى مُنْشئه وإلى يوم مولده. أما الرواية التمثيلية والقصيدة الغنائية والقصة القصيرة أو الطويلة، فتضطرب أوائلها وأصولها في ظلام الماضي، بحيث لا تجد رجلًا واحدًا بعينه ينفرد بخلق هذه الصورة الأدبية أو تلك، وإذن «فالمقالة» وحدها هي التي يحدد لها التاريخ مولدًا، لم تعرفها قبله أقلام الكتَّاب، وظهرت بعده عند كثير من الأدباء.
ولد «ميشيل دي مونتيني» بين الساعة الحادية عشرة والساعة الثانية عشرة من اليوم الثامن والعشرين من فبراير عام ١٥٣٣م، وكان ثالث أبناء أبيه التسعة، لكن مات أخواه الأكبران فآلت إليه ضيعة الأسرة، وتلقى تعليمه في سنٍّ مبكرة، فدرس اللاتينية بالمحادثة في سنٍّ صغيرة، ثم درس اليونانية على سبيل التسلية، ولما بلغ السادسة عشرة دخل كلية في بوردو، حيث قضى سبع سنواتٍ أكمل فيها دراسته. ولسنا ندري إلا قليلًا عن حياته في أعوام شبابه. ثم نعود فنلتقي به في شهر مارس عام ١٥٧١م، وكان عمره ثمانية وثلاثين عامًا، إذ ضاق صدره بضجيج العالم الصخَّاب وفَر إلى قلعته يأوي إلى برجها الهادئ، وأخذ يحدث نفسه عن نفسه، وعندئذٍ ولدت «المقالة» الأدبية.
ولسنا نستطيع في هذا المقام أن نلخص ما كتبه مونتيني تلخيصًا وافيًا؛ وذلك لأن موضوعاته أشتات لا تربط بينها فكرةٌ عامة أو آصرةٌ واحدة، اللهم إلا وحدة الروح وطريقة التفكير.
قلنا إن مونتيني كان أول من كتب «المقالة» الأدبية بالمعنى الذي يفهمه الأدب الحديث من هذه الكلمة، وأعجب العجب أن أول كاتب للمقالة هو أعظم كُتَّابها، فقد حاول أن يقلده فيها كثيرون، لكن لم يُصِبْ فيها التوفيق إلا قلةٌ ضئيلة، وهنا نرى لزامًا علينا أن نقول كلمةً في أصول المقالة الأدبية كما تفهمها الآداب الأوروبية؛ لأن المقالة توشك أن تكون في مصر القالب الوحيد الذي يصب فيه الأديب خواطره ومشاعره.
يراعى في المقالة الأدبية أنها على غير نسقٍ دقيق من المنطق، أعني أن تكون أقرب إلى قطعةٍ مشعثة من الأحراج الحوشية منها إلى الحديقة المنسَّقة المنظَّمة، فكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرةٌ صغيرة مما يعجُّ به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض، دون أن يكون له أثرٌ قوي في استدعائها عن عمدٍ وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المتتابعة صورة عمد الكاتب إلى إثباتها في رزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة.
ويشترط في كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه مُحَدِّثًا لا معلمًا؛ بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يساعده لا أمام معلم يعنفه. يشترط في كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلًا مخلصًا يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره، أو موقف المؤدِّب يصطنع الوقار، حين يصب في أُذن سامعه الحكمة صبًّا ثقيلًا. يشعر القارئ وهو يطالع المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث، لا أن يحسَّ كأنما الكاتب قد دفعه دفعًا عنيفًا إلى مكتبته ليقرأ له فصلًا من كتاب.
وما دمنا نشترط في المقالة الأدبية أن تكون أقرب إلى الحديث والسمر منها إلى التعليم والتلقين، وجب أن يكون أسلوبها عذبًا سلسًا دفَّاقًا، أما إن أخذت تُجمِّل نبرات اللفظ هنا وتُزخرف تركيب العبارة هناك، كان ذلك متنافرًا مع طبيعة السمر المحبَّب إلى النفوس. هذا من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع فلا يجوز عند الناقد الأدبي أن تبحث المقالة في موضوعٍ مجرد، ولا بد أن تعبر عن تجربةٍ معينة مسَّت نفس الأديب، فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه. ومن هنا قيل إن المقالة الأدبية قريبة جدًّا من القصيدة الغنائية؛ لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه، حتى تعثر على ضميره المكنون. وكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة والإيقاع، تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تعتدل وتتناثر فتكون مقالة أدبية.
هكذا كانت مقالة مونتيني، يتخذ من موضوعها نقطة ابتداء أو يبدأ بعبارةٍ مقتبسة، ثم يطلق خواطره إطلاقًا حرًّا من القيود، فيستطرد إذا ما اعترضته نقطة أخرى في طريقه، ثم يستطرد ثانيةً فثالثة، أو يعود إلى مجرى حديثه بغير ضابط ولا نظام. ومن مميزاته في الكتابة كثرة الشواهد، التي يستقيها من الآداب القديمة. على أن أوضح ما يميزه طابعان؛ الأول: صراحةٌ جريئة في مناقشة شئونه الخاصة، وفي عرض نفسه أمام القارئ عارية لا يخفيها ستار، والثاني: نغمة من الشك الخفيف تراها شائعة في كل ما كتب.
يقول «مونتيني» إني أتحدث إلى القرطاس كما أحدث أول رجل أصادفه. ويقول أيضًا: «إن نفسي هي أساس كتابي.» فمقالات مونتيني هي نفسه أراقها على الورق، وقد أجاب هنري الثالث حين امتدح له كتابه بقوله: «إنني وكتابي شيء واحد.» فهو في «المقالات» يشرح دخائل نفسه ودقائقها، تلك الدقائق التي لا ينفذ إليها إلا كل أديبٍ ثاقب النظر، ويُميط عنها اللثام ويعرضها لنا في جلاءٍ ووضوح، لا يخشى في نقده عرفًا ولا عقيدة، وكان مونتيني يقول: «أنا الحقيقة!» يقصد بذلك أنه لا يعرف شيئًا معرفةً صحيحةً غير نفسه، ثم يقول: «لم أرَ في العالم كله ما يثير فيَّ العجب والدهشة أكثر من نفسي، إن المرء ليتعود نفسه بطول عشرتها فينسى غرابتها، ولكني كلما عرفت نفسي زاد عجبي من عيوبي وقَلَّت قدرتي على تفسيرها.»
وكان مونتيني شكاكًا يرتاب في أوضاع عصره، ولكنه في الوقت نفسه أميل إلى الإيمان بالطبيعة البشرية، فتراه يسرع إلى تصديق ما يُرْوى له عن نزوعها إلى الخير، وليس هذا التناقض في وجهتَي نظره إلا تناقضًا في الحياة نفسها، هو تناقض لا بد منه لمن يشهد الحياة في حالاتٍ نفسيةٍ مختلفة. ولعل مونتيني أول أديب غربي أدرك ما في الإنسان من تناقض، وعنه أخذ كبار الأدباء الذين درسوا الطبيعة البشرية من أمثال شيكسبير وسيرفانتيس وراسين، فكأنَّ مونتيني يقدم لهم المبادئ النفسية التي يبنون على أساسها ما يكتبون من قصص ومسرحيات، فليس العاشق عنده عاشقًا فحسب، وليس الشجاع شجاعًا خالصًا، وليس الجبان جبانًا دائمًا، وإنما قد يجمع الفرد في شخصه بين هذه الصفات جميعًا، بل قد تتألف نفسه من الأضداد والنقائض.
وكتاب «المقالات» مؤلف من ثلاثة أجزاء، وتختلف مقالات الجزء الأول عن مقالات الجزء الأخير اختلافاتٍ شتى، أوضحها الاختلاف في الطول، ففي الجزء الأول سبع وخمسون مقالة، طول الواحدة منها نحو عشر صفحات من قطعٍ متوسط، وفي الثاني ست وثلاثون مقالة طول الواحدة منها اثنتا عشرة صفحة، وقد كُتِبَ هذان الجزءان في وقتٍ واحدٍ تقريبًا، أما الجزء الثالث ففيه ثلاث عشرة مقالة طول الواحدة منها يزيد على أربعين صفحةً في المتوسط.
لقد قال «مونتيني» عن نفسه: «لست بالفيلسوف» وهذا قول صواب لو كانت الفلسفة نظامًا فكريًّا مرتَّب الحجج متساوق المقدمات والنتائج، ولكنه فيلسوف لو كانت الكلمة تعني من يحب الحكمة وينشدها. وقد جاء «مونتيني» بعد «رابليه» بنحو نصف قرن، ولم يَشُبْ أسلوبَه ما شاب أسلوب زميله من فُحْشٍ في القول، وإقذاعٍ في السخرية، لكنه أيضًا لم يكن له ما كان لزميله من فكاهةٍ لطيفةٍ وابتهاجٍ ومرحٍ بالحياة. رأى المذاهب الدينية تصطرع فوقف بينها يرقب ولا يميل هنا أو هناك، ويقول: «إنها لنقيصة ممقوتة أن يظن الرجل بعقيدته متانة الأساس، وأن يعتقد أن نقيض تلك العقيدة لا يكون موضع التصديق والإيمان أبدًا.» فقد كره مونتيني العصبية الدينية، وكره ألوان القسوة وفظائع التعذيب التي كانت شائعة في عصره، استمع إليه يقول في مقال «عن القسوة»: «أما أنا فلم أحتمل قط أن أرى — بغير عطف وأسى — حيوانًا مسكينًا بريئًا يتعقبه المتعقب ليفتك به، وقد يكون غير ذي أذًى، لم يسئ إلينا البتة، ولم يملك ما يدافع به عن نفسه، وكثيرًا ما يأخذ الأعياء وَعْلًا هاربًا، وأن تخور قواه، فلا يجد أمامه حيلةً سوى أن يستسلم ويُسْلم نفسه إلى متعقِّبيه، وكأنما يترقرق في عينه الدمع ضارعًا يطلب الرحمة.
ذلك منظر لم أشهده إلا أثار فيَّ الحزن، فقلما يقع لي الحيوان حيًّا دون أن أردَّ له حريته السلبية. وكم وَدَّ فيثاغورس أن يشتري الأسماك من صائديها، والأطيار من بائعيها ليطلقها حرة كما كانت.»
وهاك نماذج أخرى من مقالاته توضح طريقته في التفكير:
في عدم المساواة
يقول بلوتارك في بعض ما كتب إنه لا يجد بين الحيوان والحيوان مثل هذا الفارق البعيد الذي يراه بين الإنسان والإنسان، وهو في مثل ذلك يشير إلى عقل الإنسان وصفاته الذاتية. وإني لأحب أن أضيف إلى ذلك أن الفارق بين إنسان وآخر قد يكون أبعد مما بين أدناهما وبين الحيوان، وأن هنالك في التفاوت بين النفوس درجات قد تبلغ ما بين الأرض والسماء.
وأما تقويم الرجال بأقدارها، فليس أعجب من أن الإنسان وحده دون سائر الكائنات لا يقوِّم نفسه بما فيه من أهم الصفات، فبالسرعة والقوة نمتدح الجواد، لا بما في عُدَّته من زخرف وزينة، ونثني على الكلب السَّلوقي لخفَّته لا لجمال طوقه، ويعجبنا من الصقر جناحه لا أجراسه، فلماذا لا نَقْدُرُ الإنسان — على هذا النحو — بمواهبه؟ قد تكون له حاشيةٌ عريضة من الأتباع، قد يسكن قصرًا باذخًا، قد يكسب مالًا كثيرًا، قد يكون له بين الناس جاه وسلطان، ولكن وا أسفاه إن كل ذلك عنه لا فيه، إنك إذا اشتريت حصانًا، فإنك تفحصه عاريًا من سرجه وغطائه، فلماذا لا تُعنَى في حكمك على رجل إلا بلفائفه؟ إنك تقدر السيف بخصائص حدِّه لا بقيمة غمده، فيجب كذلك أن تقوِّم الإنسان بمخبره لا بمظهره.
فليتجرد الإنسان مما يملك من مالٍ وسلطانٍ مما هو خارج النفس لا داخلها، وليعرض نفسه في غلالةٍ لنرى: أَلَه جسمٌ سليم؟ كيف حال عقله؟ أهو متزن قدير لم يصبه الفساد؟ هل أُعِدَّ في كل ملكاته إعدادًا طيبًا؟
في نفع الثياب
كنت أفكر — في هذا الشتاء الذي بلغ بَرْدُهُ الزمهرير — فيما إذا كانت حياة العُري عادةً فرضتها حرارة الهواء في البلاد المستكشَفة حديثًا، أم العري حالة أصيلة في طبيعة الإنسان. ورأيي أنه كما أن كل صنوف النبات والأشجار والكائنات الحية قد أعدتها الطبيعة لحماية أنفسها بين عاديات الجو بكل أنواعها؛ فكذلك نحن، ولكننا كهؤلاء الذين يطفئون نور النهار بالضوء الصناعي؛ إذ أتلفنا ما خلعته علينا الطبيعة بما استعرناه، فهنالك من الأمم من يعيش تحت سماءٍ كسمائنا، في جوٍّ مثل جو بلادنا، بل أشد منه بردًا، ولا يعرفون الثياب، أضف إلى ذلك أن أرقَّ أجزائنا مكشوفةٌ عارية، وأعني العينَين والوجه والفم والأنف والأذنَين، ولا يزال الفلاحون في الريف — كما كان أسلافنا — يكشفون صدورهم، ولو كنا بطبيعة أجسامنا في حاجةٍ إلى الأثواب والسراويل، لحصَّنَت الطبيعة أجزاءنا التي تركتها معرضة لضربات الفصول، فكستها جلدًا كثيفًا كما فعلت في أطراف الأصابع وباطن الأقدام.
سأل رجلٌ أحد الدهماء وهو يجول في الشتاء عاريًا إلا من قميص لَفَّه حول جسده، وكان رغم ذلك مرحًا مقبلًا على الحياة كما يفعل من دثر نفسه بالفراء حتى أذنَيه، سأله عن ذلك، فأجاب الرجل العاري: «أوليس وجهك عاريًا كله يا سيدي؟ إذن فصِّور لنفسك أني وَجْهٌ كُلِّي …»
الخوف
أولئك الذين هم في خوفٍ متصل خشية أن يضيع ما يملكون، أو أن يُلْقى بهم في مطارح النفي، أو أن يذلوا خاضعين، إنما يعيشون في عذابٍ موصول وركودٍ دائم، وهم بذلك كثيرًا ما يفقدون لذة الشراب والطعام والراحة، على حين ترى الفقراء والمبعدين والخدم الخاضعين يعيشون في أغلب الأحيان كما يعيش سواهم في مرح لا يعرف الهموم.
المجد
قَلِّب النظر في حماقات العالم، تجد السعي وراء الشهرة والبحث عن المجد أوسعها انتشارًا وأكثرها عند الناس قبولًا، فترانا أمام رغبتنا في المجد نهمل ونزدري الثراء والأصدقاء والراحة والحياة والعافية (وهي أشياء لها أثرها وقدرها)، نزدري كل هذا لنتعقَّب خيالًا موهومًا، ولنتبع صوتًا أجوف ساذجًا لا يتجسد في جسم، ولا يتماسك في حقيقة …