النهضة في ألمانيا
للألمان أدبٌ قويٌّ غزير، لكنه لا يستمد قوته — كغيره من الآداب — من طائفةٍ من الأعلام البارزين، بل يستمدها مما بينه وبين الشعب الألماني من صلةٍ وثيقةٍ لا تجد لها مثيلًا في سائر الشعوب، فللأمة — عادةً — تراثٌ ضخم من الشعر الشعبي والقصص الشعبي، يُعبِّر بها العوام عن أمانيهم وآلامهم الفطرية التي لم تصقلها المدنية، ولم تشذبها يد التهذيب، ولكن كلما سارت المدنية شوطًا إلى الأمام، وكبحت جماح الدوافع والنوازع الغريزية الفطرية، ازداد الناس نفورًا من أدبهم الشعبي ليلتمسوا التعبير عن عواطفهم عند الأدباء المحترفين، وفي ذلك بالطبع تكلف وتصنُّع. ولهذا ترى في تاريخ الأدب حينًا بعد حين جماعة من المصلحين تضيق صدورهم بهذا النفاق المصطنع، فتنادي بضرورة العودة إلى الأدب الشعبي، أو ما يماثله بساطة وصدقًا، كما حدث في أول القرن التاسع عشر في إنجلترا.
أما في ألمانيا فلم تنفصم قط تلك الروابط الوثيقة التي تصل قلوب الناس بالشعر الشعبي والأساطير القومية. ومن هنا كان الشعر في ألمانيا عاملًا قويًّا في تكوين عواطف الشعب ونزعاته العقلية، ومن هنا أيضًا كاد الأدب الألماني قبل نهاية القرن الثامن عشر لا يسترعي أنظار العالم لشعبيته الصميمة، وكان البحث في تطور الأدب الألماني أمرًا شاقًّا عسيرًا على مؤرخي الأدب من غير الألمان.
ولا شك أن مشكلة اللغة كانت قوية الأثر في هذه الظاهرة التي بسطناها؛ فقد جاء القرن السادس عشر، ولما ترجح إحدى اللهجات الألمانية على سواها، فتصبح لغةً قوميةً معترفًا بها، ولعلك تذكر أن الدويلات الألمانية لم تنصهر في وحدةٍ سياسيةٍ إلا منذ عهدٍ قريب، فكان من الطبيعي أن تتنافس الدويلات في السيادة اللغوية كما تتنافس في السيادة السياسية، ولم يكن يسيرًا على دويلةٍ منها أن تفرض لسانها على سائر الأجزاء.
(١) مارتن لوثر
جاء لوثر (١٤٨٣–١٥٤٦م) والحالة كما رأيت، فلما همَّ بترجمة الإنجيل إلى الألمانية، وجد اللغة السكسونية أوسع اللهجات انتشارًا في المخاطبات الرسمية بين الدويلات، فاستخدمها في الترجمة، وبذلك أصبحت لغة ألمانيا الوسطى لغةً قوميةً أدبية.
ولعلك لا تجد في التاريخ كله رجلًا اجتمع في شخصه ما اجتمع في شخص لوثر من قوة في توجيه أمته في السياسة والأدب والدين في آنٍ معًا، ولسنا ندري هل استطاع لوثر أن يكون قوة دافعة في الدين والسياسة بسبب براعته الأدبية، أم كان في مقدوره أن يبلغ ما بلغ من الزعامة بغيرها. وكذلك لا ندري إن كانت اللهجة الألمانية في مقاطعة سكسونيا قد بسطت سيادتها، وأصبحت لغةً أدبيةً قومية بسبب زعامة لوثر الوطنية، أم تلك نهاية كان لا بد منها، ولم يكن لوثر إلا معجلًا بها؟ ومهما يكن من أمرٍ فقد شاء القدر أن يظهر في ألمانيا المفككة في القرن السادس عشر بطلٌ قومي وزعيمٌ ديني وأديبٌ ممتاز هو «مارتن لوثر». ثم شاءت الظروف القائمة أن يكتب «لوثر» بلهجةٍ معينة دون سائر اللهجات الألمانية، فلم تلبث أن أصبحت لغة البلاد الأدبية القومية، وإن هذا ليذكرنا بما صنعه دانتي حين كتب باللهجة «التسكانية»، ففرضها بذلك على سائر اللهجات، وأصبحت بفضله لغة إيطاليا الأدبية، كما يذكرنا كذلك بما تم على يدي «شوسر» في إنجلترا حين أنشد شعره باللغة الشائعة في جنوبي إنجلترا بالقرب من لندن، فسرعان ما طغت على سائر اللهجات في البلاد، واعترف بها الجميع لسانًا قوميًّا.
استحق «لوثر» مكانته في الأدب لترجمته الإنجيل، إذ أراد بهذا الصنيع أن يقرِّب بين الناس وبين كتابهم المقدس، حتى تتزعزع سلطة رجال الدين الذين تفردوا عندئذٍ بقراءة الإنجيل في لغته العبرية، فلم يكن في وسع الشعب إلا أن يستعين بهم في فهم الكتاب وأحكامه، أما وقد نُقل الإنجيل إلى لغة يفهمها الناس، فقد بات يسيرًا على الزارع أن يتغنى بآياته وهو يفلح الأرض، وأن يترنم بأنغامه الصانع وهو إلى جانب مغزله. ورُبَّ معترضٍ يقول: وهل عرف الدهماء في ذلك العهد القراءة، حتى يقتنوا الإنجيل ويطالعوه؟ والجواب على ذلك: أنهم إن لم يقرءوا هم أنفسهم، فحسبهم أن يفهموا ما يسمعون. والعجيب في أمر لوثر أنه استطاع أن يكتب نثرًا سلسًا مستساغًا، برغم ما عرف عن النثر الألماني، حتى في العهود التالية له من غموض وتعقيد.
ومما نذكره للوثر في عالم الفن أنه كمعظم معاصريه، من أميرهم إلى حقيرهم، قد ألمَّ بقواعد الموسيقى واشتهر ببراعته في العزف على «العود»، وقد أنشد طائفة من الترانيم تميزت بقوة إنشائها، ولعله لحَّنها بعد الإنشاء، وأشهر هذه الترانيم ترنيمة عنوانها «إلهنا حصن منيع».
إلهنا حصنٌ منيع، درعٌ متين، سيف ماضٍ، إنه سينقذنا من كافة الآلام التي تطوقنا. إن شيطان الشر العتيق يتربص بنا اليوم الدوائر، فتحيك قوته العاتية، ومكره الشديد دروعه المخفية. إن العالم لم يشهد له مثيلًا.
إن قوتنا لا تجدي، فسرعان ما تنزل بنا الهزيمة، ولكنه يحارب من أجلنا، ذلك البطل الذي اختاره الإله نفسه. أتريد أن تعرف اسمه؟ إنه اليسوع عيسى، سيد الجيوش، الذي ستظل له الغلبة دائمًا.
إذا امتلأ العالم بالشياطين، وأرادت أن تبتلعنا، لم نستشعر أي خوف؛ لأننا واثقون من النصر. فسيد هذا العالم (الشيطان) بالرغم من جهامة وجهه لن يمسنا بسوء، لماذا؟ لأن الأمر قد بُتَّ فيه، فكلمةٌ واحدة تقصمه.
و«الكلمة» بمنأى عن أيدي الشياطين، ونحن نتحداهم أن يمسوها ﻓ «هو» الذي معنا بروحه ونعمه. فإذا سلبونا أجسامنا وأموالنا وسعادتنا وأطفالنا ونساءنا لم نكترث لشيء. إنهم لن يجنوا من ذلك شيئًا، وأما نحن فسيبقى لنا الملكوت.
(٢) «شعراء الغناء» Meistersinger
(٢-١) هنس سخس Hans Sachs
وأشهر تلك الطائفة من الشعراء هو «هَنْس سَخْس» (١٤٩٤–١٥٧٦م)، وهو من أهل نورنبرج، وكان معاصرًا للوثر وتابعًا من أتباعه، كان سَخْس إسكافًا شاعرًا، لكن لا يذهب بنا الظن أن مثل تلك الصناعة في ذلك العهد كان مما يزري بصاحبه، فقد كان الصانع عندئذٍ صاحب عمل مستقل وعضوًا في نقابةٍ قوية تكسبه في الناس مكانة واحترامًا.
كان سَخْس خصب الإنتاج في الشعر والنثر على السواء، فقد أنشد ما يُربي على أربعة آلاف أغنية، وأنشأ ما يزيد على سبعمائة وألف حكاية وقصة استقى بعضها من الإنجيل، لكن سَخْس برغم هذا كله لم يكن شاعرًا أو كاتبًا من الطراز الأول، بل أسره في نقده ناقدٌ ألماني، فقال إنه كاد يجعل من كل شيءٍ حوله قصيدة، ولكنه مع ذلك لم ينشئ قصيدةً واحدة! فلم يكن سَخْس إلى جانب معاصريه النوابغ أمثال «رابليه» في فرنسا و«أريوستو» في إيطاليا سوى أديبٍ متواضع.
(٢-٢) سباستيان برانت Sebastian Brant
ولا نستطيع أن نستعرض النهضة الأدبية في ألمانيا دون أن نذكر سباستيان برانت (١٤٥٧–١٥٢١م) لشهرة كتابه «سفينة الحمقى». وفيه يعرض المؤلف أكثر من مائة صورة للحماقة البشرية، تشيع فيها السخرية، وكلها ترمي إلى غايةٍ خلقية. وقد كان لهذا الكتاب أثرٌ بليغ في الأدب الذي يعرض سخف الإنسان وغفلته، فلم يمض على إخراجه خمسة عشر عامًا، حتى نشر إرزم سنة ١٥٠٩م كتابه «امتداح الجنون»، الذي أهداه إلى زميله الأديب الإنجليزي المشهور «السير توماس مور» — وسيأتي ذكره في النهضة الإنجليزية — وقد ترجم الكتاب إلى الإنجليزية إسكندر باركلي (١٤٧٥–١٥٥٢م تقريبًا) الأديب الأسكتلندي.
(٢-٣) آثار من الأدب الشعبي
فإذا أردت أن تلتمس النهضة الأدبية في ألمانيا، فلا تلتمسها عند أفرادٍ نوابغ، بل أدر بصرك إلى الحركة الشعبية التي كان أثرها ظاهرًا في طبقات الناس جميعًا، فألوف وألوف من الأدباء الهواة بين صفوف الشعب ومن غمار الصناع أخذوا ينشئون الأغاني ويتغنون بها، وقد يكون تعليل هذه الظاهرة الأدبية في ألمانيا تغلغل الموسيقى في نفوس الشعب، حتى إنك لترى الألمان يفرضون على صغارهم فرضًا أن يتعلموا في طفولتهم أصول الشعر والموسيقى.
وأيًّا ما كانت الحال، فإن العبقرية الأدبية عند الألمان لم تظهر إلا في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، أما القرن السابع عشر الذي ازدهر فيه الأدب في فرنسا وإنجلترا، فكان عهدًا مظلمًا في ألمانيا، ولعل حرب الثلاثين سنة التي امتدت حتى ١٦٤٨م أن تكون قد أصابت ألمانيا بالجدب والعقم، وأي غرابة في هذا الزعم، وهي حربٌ أطاحت برءوس الشباب وأثقلت نفوس الشيوخ؟
فسراج النهضة الذي اشتعل وتوهج في سائر الدول الأوروبية كان ضوءه خامدًا في ألمانيا، فلم تنتج إلا أدبًا هزيلًا ضعيفًا.