النهضة في إنجلترا
(١) الشعر في القرن الرابع عشر
(١-١) جوفري شوسر Geoffrey Chaucer
لبثت إنجلترا قرونًا طوالًا مجدبة عقيمًا في قريحتها الأدبية، فكادت لا تنجب أديبًا واحدًا نابغًا قبل القرن الرابع عشر، ثم شاءت الأيام بغتة أن تلد لها شاعرًا عظيمًا هو في الطليعة بين شعراء العالم، وذلك هو «شوسر» الذي جاء في التاريخ الأدبي لإنجلترا كالواحة الخضراء في البيداء القاحلة، أو كالدوحة السامقة ارتفعت بفرعها إلى السماء، وكل ما حولها كلأ ضئيل.
وفي عام ١٣٨٩م تولى الملك بنفسه زمام الأمور في الدولة، فأعاد شوسر إلى مناصبه، وعيَّنه كاتبًا خاصًّا له، ثم عبس له الدهر من جديد، وعُزل مرةً أخرى، وعانى ما عانى من الفقر والعوز، حتى ولي العرش هنري الرابع في آخر عام من حياة الشاعر، فأرسل له شوسر قصيدة عنوانها «شكاة إلى كيس نقودي الفارغ» فاستجاب الملك دعاءه، ومات شوسر عام ١٤٠٠م، ودفن في مقبرة العظماء في «دير وستمنستر».
وفي عام ١٣٦٩م أنشأ شوسر «كتاب الدُّوقة»، ينعى به موت زوجة الدوق لانكستر. وإن هذه القصيدة لتوضح في جلاء خصائص شعره في صدر حياته، وتبين إلى أي حدٍ كان تأثره بالأدب الفرنسي إذ ذاك، فتراه ينسج فيها على منوال العصر في أوضاع الشعر، فيجسد الأفكار المجردة، ويتحدث عنها كأنما هي أشخاص حية من لحمٍ ودم، وهو في تلك المرحلة الأولى من حياته الأدبية لم يمزج شعره بالفكاهة إلا قليلا، مع أن روح الفكاهة أصبحت فيما بعدُ طابعًا يميزه.
أ – ب – أ – ب – ب – ﺟ – ﺟ.
ولم يمضِ عامان على إخراج «برلمان الطير»، حتى أنشأ شوسر قصيدةً جديدة عنوانها «دار الشهرة»، وهي مزدوجة القافية، أعني أن كل سطرين متتاليين يشتركان في قافيةٍ واحدة، وفي كل سطرٍ منها ثمانية مقاطع، وتتألف من ثلاثة فصول، لكن الشاعر لم يتمها على ما أراد لها، وطول ما كتبه منها ألفا بيتٍ ومائة، وهي أيضًا تتخذ الصورة المألوفة، صورة الحلم، فيرى الشاعر في رؤياه أنه في معبد من زجاجٍ امتلأ بالتماثيل الذهبية والتصاوير التي تمثل أشخاصًا ومناظر من الأدب القديم، وقد حمله نَسرٌ إلى «دار الشهرة» بأمر من الإله «جوبتر» جزاءً وفاقًا بما أسدى من يدٍ بيضاء في سبيل الحب، فوجد تلك الدار العجيبة قائمة على ذروة صخرةٍ عالية من الثلج، وهي — كما يقول الشاعر — «أساس ضعيف لقصرٍ شامخ»، ويستعرض الشاعر في قصيدته ما يشاهد من تماثيل وصور تمثل الآداب القديمة، فيعرض لقارئه اطلاعًا واسعًا على تلك الآداب، ثم هو ينتهز فرصة الرمز والتلميح، فيبيح لنفسه التعليق على ما كان في عصره من أحداثٍ وأشخاص.
وأهم أجزاء القصيدة «مقدمتها» التي يمهد بها لحلمه، ويقطع فيها على نفسه عهدًا أن يقص هذه القصص عن طيبات النساء، ليعتذر بها عن كفرانه بالحب الذي أبداه في ترجمته لأنشودة الوردة، وفي تصويره لكرسدا التي لم تخلص في حبها لترويتس، وكذلك يبين في المقدمة مقدار حبه للكتب ولزهور الأقحوان، ويثبت فيها قائمة بقصائده، منها أسماء لقصائد لم تهبط إلينا، ومما هو جدير بالذكر عن «مقدمة» هذه القصيدة أن لها صورتَين باقيتَين، تختلفان في اللفظ وصياغة بعض الأبيات، والمفروض في إحداهما أن تكون قد كتبت أولًا، وفي الأخرى أن تكون إصلاحًا للأولى، فمن هاتين الصورتَين يتبين كم كان «شوسر» يُعنى بتجويد شعره.
وأروع آية أبدعتها عبقرية شوسر «حكايات كانتر بري» التي لم يكن إنتاجه السابق بالقياس إليها سوى إرهاص وتمهيد، وقد تابع فيها «بوكاتشو» في كتابه «ديكامرون» الذي روى فيه عددًا من حكايات أجراها على ألسنة عشرة من الرجال والسيدات فروا من الوباء المتفشي في مدينة فلورنسه، إلى منزل بالريف النقي الخالص.
وكان شاعرنا أشد طموحًا في قصصه من «بوكاتشو» لأن الشخصيات التي صوَّرها «بوكاتشو» كانت كلها تمثل طبقةً واحدة من الناس، فسرعان ما تبعث القصص المتشابهة مللًا في نفس قارئها على الرغم من كل ما فيها من براعةٍ وفن، أما «شوسر» فقد اختار «حجاجه» من طبقات المجتمع المختلفة ليجعل كلًّا منهم يصور بقصته وبشخصيته طبقة معينة من الناس، فإذا استثنيت طبقة النبلاء الرفيعة، وطبقة السفلة الوضيعة، وجدت كل طوائف المجتمع الإنجليزي مرسومة مصوَّرة في قصص شوسر أدق رسم وأبرع تصوير. وقد أعمل الشاعر فنه في تتابع القصص ليكون بينها شيء من التباين يزيل ما عساه أن يحدث في نفس القارئ من ملل، وقدم الشاعر لقصصه «بمقدمة» هي آية آياته على الإطلاق، إذ عرض فيها شخصياته عرضًا سريعًا قبل أن يبدءوا رحلتهم ويقصوا قصصهم، فعرف كيف يقدم لك كلًّا منهم في صورةٍ ناطقةٍ ساطعة، حتى لكأنك حين تقرأ «المقدمة» تنظر إلى معرض للصور علقت على حوائطه صورة كل مسافر في إطارٍ خاص. فمن أشخاصه «فارس» و«محارب» و«حامل السلاح للفارس»؛ فهؤلاء يمثلون الطبقة المحاربة في تلك العصور، ومنهم «رئيسة دير» تمثل البساطة والطهر، وامرأة أخرى يسميها «زوجة باث» تصور المرأة التي انغمست في شئون الدنيا، ومنهم «قسيس» فقير متقشِّف لا يزن للدنيا وحطامها وزنًا، تراه طيلة اليوم ضاربًا في الأرض وعكازته في يده يعظ الناس من قلبٍ مخلص، وإلى جانبه ترى صورة «راهب» تريك كم كان له من الجياد والثياب الجميلة! وكم كان يلهو بالصيد ويكره العمل! فعباءته من فاخر النسج، يحلي أطرافها جميل الفراء، ويشبك غطاء رأسه بمشبكٍ من ذهبٍ تدلَّت منه شارة الحب، هكذا يصور لك «الراهب» ساخرًا هازئًا. وفيمن يصورهم كذلك «طالب علم في أكسفورد»، و«رجل قانون» و«طباخ»، و«ملاح»، و«طحان»، و«فلاح»، و«تاجر» إلخ إلخ. وهكذا يصور كل طبقات المجتمع؛ رجال الدين ورجال الأعمال والصناع والزراع والفرسان والمحاربين وغيرهم. ولا يقتصر الشاعر في تصوير إنجلترا في القرن الرابع عشر على الحكايات التي يحكيها الحجاج في رحلتهم، بل يزيد على ذلك تعليقات بين كل حكايتَين وأوصافًا لمناظر مما يجعل الصورة أشد وضوحًا.
وسنقدم لك فيما يلي نموذجًا من تصويره للشخصيات في «المقدمة»، فهاك وصفًا «لرئيسة دير»:
•••
فإذا ما فرغ الشاعر من استعراض أشخاصه في «المقدمة» واحدًا فواحدًا، بدأ بحجاجه المسير، وأخذوا يحكون، وكان أول من روى «الفارس» فقصَّ قصة من بوكاتشو خلاصتها أن «بالامون» و«أرسيتي» كانا صديقَين، ثم تنازعا على فتاةٍ تسمى «إِمِلي»، فكان لا بد لهما من مبارزةٍ لتكون الفتاة للظافر، وفي اللحظة التي كاد يكتب النصر فيها لأرسيتي تدخل «بلوتو» في الأمر وأنزل «أرسيتي» عن جواده، فخرج «بالامون» من المبارزة ظافرًا، وتزوَّج من «إِمِلي». هذه خلاصة لا قيمة لها إلى جانب ما حكاه شوسر في قصته؛ لأنه إنما يرمي قبل كل شيءٍ إلى تصوير الفرسان في ذلك الزمان حين يقتتلون، فكل القيمة الفنية إنما هي في تفصيلات الوصف، وفي نصوع الصورة التي ترتسم في ذهن القارئ، وهكذا قُلْ فيما نعرضه من ملخصاتٍ لبعض حكاياته.
«فرجل القانون» يروي قصة عن فتاة اسمها «كونستانس» ابنة الإمبراطور الروماني تزوجت من سلطان الشام، على شرط أن يعتنق هذا السلطان العقيدة المسيحية، لكن أم السلطان لا تحتمل رِدَّة ابنها عن دينه فتقتله وتُطْلِقُ الفتاة هائمةً في سفينةٍ على وجه البحر، وتبلغ «كونستانس» بسفينتها «نورْ ثَمْبِرْيا» وتتزوج ملكها، لكن أم الملك في هذه المرة أيضًا يغضبها هذا الزواج، فتنتهز فرصة غياب ابنها، وتبعد الفتاة عن المدينة، فلا يسع الفتاة إلا أن تعود إلى روما. ويعود الملك فلا يجد زوجته «كونستانس» فيقتل الأم الآثمة، ويرحل إلى روما؛ ليكفِّر عما اقترف، وهنالك يصادف زوجته.
ويأتي دور «رئيسة الدير» فتحكي حكاية ولدٍ مسيحيٍّ صغير قتله اليهود في بلدٍ أسيوي، إذ كان يرتل آياتٍ من الإنجيل.
ويأتي دور «المحارب» فيروي قصةً جميلة عن قمبيز ملك التتار، وابنته «كاناس». فبينما كان قمبيز ذات عام يُحيي عيد تتويجه في قصره العظيم، إذا بهذا «المحارب» يجيئه راكبًا جوادًا سحريًّا، ويحمل معه خاتمًا ومرآة فيهما كذلك قوة السحر، فأما الخاتم فيمكِّن لابسه من فهم لغة الطير والحيوان، ومن معرفة خصائص العشب في معالجة المرضى، وأما المرآة فتبدي لمن ينظر فيها أوجه الأصدقاء والأعداء منزوعًا عنها أقنعة الرياء والنفاق، وأما الجواد فيطير براكبه في الجو أنَّى شاء، وبأية سرعةٍ أراد، وقصة الجواد هذه مأخوذة — على الأرجح — من قصص ألف ليلة وليلة بكل تفصيلاتها، ولم يتمم الشاعر «قصة المحارب» لسببٍ لا ندريه.
ويحكي «طالب العلم في أكسفورد» حكايةً مأخوذة من بوكاتشو، وتحكي «القسيسة الراهبة» حكاية «الديك والثعلب». وهكذا مما لا يغني التلخيص عن قراءته شيئًا لترى إلى أي أوجٍ ارتفعت عبقرية شوسر في خصوبة الإنتاج، وفي رشاقة الأسلوب وقوَّته.
ومما هو جديرٌ بالملاحظة أن شوسر، على الرغم من أنه عاش في عهدٍ امتلأت أيامه بالقلاقل والاضطراب، وعلى الرغم من أنه غاص في تلك الحياة جنديًّا وسفيرًا ورجلًا من رجال الأعمال، وعضوًا في بلاط الملك، وقاضيًا وعضوًا في البرلمان وشاعرًا، فإنه لم يذكر في شعره حادثةً واحدة من كبريات الحوادث التي وقعت في زمانه، وذلك دليل على إيمانه بأن أحداث الحياة المادية مؤقتة عابرة ليست جديرة بالشعر الخالد مهما بلغت جسامتها، وإنما عُني شوسر بتصوير الإنسان؛ لأنه كان قبل كل شيءٍ شاعرًا.
بقي لنا أن نقول كلمةً موجزة في تأثيره في اللغة الإنجليزية نفسها، فقد كان له أثرٌ عميق في توحيد اللغة القومية في البلاد؛ إذ كان ثمت لهجات مختلفة، فلما كتب شوسر بلغة الوسط الشرقي لإنجلترا — وكانت أكثر اللهجات طلاقة وأبسطها في القواعد — لم تلبث أن أصبحت اللغة الأدبية في البلاد كلها، وهذا يذكرنا من جديد بدانتي حين كتب باللهجة التسكانية، فأصبحت بفضله لغة بلاده، كما يذكرنا بسرفانتيز حين كتب باللهجة الكاستيلية (القشتالية)، فجعلها أداة التعبير الأدبي في إسبانيا.
(١-٢) وليم لانجلاند William Langland (١٣٣٢–١٤٠٠م)
عاش لانجلاند معاصرًا لشوسر، فشهد عهدًا ملأته الحوادث الكبرى؛ إذ عصفت به عواصف الانقلاب في السياسة والاجتماع والدين، ودارت فيه أعنف المعارك وأبشع الحروب، وتفشَّى به الطاعون، ففتك بالناس فتكًا ذريعًا.
وأهم شعره قصيدتان؛ «بيرز الحرَّاث» وقصيدة «أحْسِن صنيعًا»، وكلتا القصيدتين في صورة الحلم، كمألوف ذلك العهد، فتأخذ الشاعر سِنَةٌ من النوم إذ هو على سفح تل ذات صباحٍ جميلٍ من شهر مايو، فيرى حلمًا رائعًا «رأيتني أدثر نفسي باللفائف، في يوم صائف، حين كانت الشمس رخيَّة، فكنت في هيئة الراعي، أرتدي ثوبًا شبيهًا بمسرح الراهب، ولست أعني الراهب القابع في صومعته، بل الذي يجوس خلال الأرض باحثًا عن الأخطار يركبها.»
ويرى «بيرز» في حلمه حقلًا جميلًا يموج بالناس، وما هو إلا أن تتقدم «الرشوة» لتتزوج من «الزيف»، لكن اللاهوت يتدخل ليمنع الزواج، فتعرض القضية أمام الملك في لندن، وهنا يصف الشاعر مناظر لندن ومناظر الريف. والقصيدة كلها رمزية تشير حوادثها وأشخاصها إلى غير معانيها المباشرة.
وكذلك تتألف قصيدة «أَحْسِنْ صنيعًا» من سلسلة من الأحلام الرمزية.
وأما عن اللغة التي استخدمها «لانجلاند» في شعره، فلم تكن لهجة الوسط الشرقي لإنجلترا «صافية» خالصة — كما هي الحال مع شوسر — إنما هي خليط بين لهجتَي الوسط والجنوب. وقد أجرى بعض العلماء مقارنةً دقيقة بين شوسر ولانجلاند من حيث الألفاظ، فوجد أن ثمانية وثمانين في كل مائة من ألفاظٍ مقدمة «بيرز الحرَّاث»، وفي ألفاظ الأربعمائة والعشرين سطرًا الأولى من «مقدمة» شوسر، كلمات أنجلوسكسونية أصيلة، وأن عدد الكلمات الفرنسية عند «لانجلاند» كبير نسبيًّا. والحقيقة هي أنه قبل أن يبلغ القرن الرابع عشر ختامه، كانت الألفاظ الفرنسية قد شاعت في اللغة الإنجليزية، فلم يستطع شوسر أو لانجلاند، أو أي كاتبٍ آخر اجتنابها إذا أراد أن يعبر عما في نفسه تعبيرًا كاملًا تامًّا؛ فقد كانت الفرنسية عندئذٍ لغة المحاكم والسياسة ولسان الملك وحاشيته، ولم يبطل استخدامها بصفةٍ قاطعة إلا في منتصف القرن الخامس عشر، أي بعد موت شوسر ولانجلاند بخمسين عامًا.
وخلاصة القول أن الشاعرين كليهما استخدما نسبةً واحدة من الألفاظ الإنجليزية الأصيلة والألفاظ الفرنسية الدخيلة، غير أنهما يعودان فيختلفان في الاتجاه والصبغة؛ فشوسر يصطبغ باللون النورماندي، ولانجلاند تسوده النزعة السكسونية. ويصف شوسر طبقة الموسرين والمحاربين الذين يعيشون في شيءٍ من البذخ، فيتناول بقلمه قصور النبلاء وحصون الفرسان ومدن التجارة والصناعة. أما لانجلاند فيتجه ببصره نحو الفقراء فيصف لنا من ساء غذاؤهم وشقَّ عليهم العمل، ويصوِّر حياة الريف التي أبهظها وأضناها الظالمون من الطبقات العالية، بل التي أرهقها وأذواها قانون الدولة. وكذلك يختلف الشاعران في الاتجاه الأول نفسه، فشوسر يصور بقلمه أفرادًا ذوي معالم محدودة وألوانٍ ناصعة، حتى إنك لتصادف في أدبه كل أنماط الناس في العصور الوسطى، أما لانجلاند فيعنى بجموع الدهماء، وينصت لأنينهم وشكواهم، وكان شعره أول صيحة بعثها الأدب الإنجليزي في سبيل الديمقراطية. وشوسر أشمل نظرًا من لانجلاند، فبينا تراه يجيل البصر في العناصر الإنسانية المشتركة بين شعوب العالم أجمع، ترى لانجلاند يقصر نظره على بلاده، حتى قيل عنه إنه بحق الإنجليزي الصميم. يعرض لنا شوسر أشخاصًا ضاحكين يمرحون ويرفلون في فاخر الثياب، ويعرض لانجلاند الطبقات العاملة منهوكة القوى في أداء واجبها بأمانة وبسالة، لكنهم صُفر الوجوه، يرتدون الأسمال.
(١-٣) جور Gower (١٣٢٧–١٤٠٨م)
لبث «جور» طوال حياته تقيًّا ورعًا، ولما أدركته الشيخوخة اعتزل مع زوجته في أحد الأديرة، وقد أجزل الإحسان للكنيسة التي دفن فيها، والتي لا نزال نرى فيها قبره الجميل، حيث رقد جثمانه واستند رأسه على مجلدات ثلاثة اشتملت على قصائده الثلاث. وكان «جور» موسرًا نبت في أسرةٍ مجيدة، وقد اتصل بالقصر وصادق الملك رتشارد الثاني، وكان لهذا الملك سيئات وآثام لم يشأن جور أن يسجلها له في قصيدته «صوت إنسان يصيح» مع أنه استعرض في القصيدة كافة سيئات العصر. وإلى «جور» أهدى شوسر قصته العظيمة «ترويتس وكرسدا».
ولسنا نزعم أن شعر «جور» قد بلغ حدًّا بعيدًا من الجودة والروعة، بل إن الأمر على نقيض ذلك؛ فقصائده باردة الشعور، ضعيفة التركيب، رتيبة النغم، ولا يقرؤها إلا قلة من الناس، لكنه برغم ذلك كله جدير بمكانةٍ عالية في تاريخ الأدب الإنجليزي؛ لأنه يمثل في أدبه التقاء اللغات الثلاث التي كانت مستعملة في إنجلترا مدى قرونٍ متتابعة، فكتب قصائده الثلاث بتلك اللغات المختلفة كما أسلفنا، أما اللاتينية فقد كانت أداة الكتابة عند العلماء جميعًا منذ القرن السابع حتى القرن السادس عشر. وأما الفرنسية النورماندية فقد لبثت أمدًا طويلًا سدًّا منيعًا في وجه اللغة الإنجليزية، فلا تسمح لأصحاب العبقرية والمواهب أن يدفعوا بلغتهم الأصيلة إلى مكان السيادة. وها نحن أولاء بصدد أديب يقف في مفترق الطرق مترددًا بين اللغات الثلاث، ولعله لم يكتب بعض شعره بالإنجليزية إلا بعد أن ضرب له شوسر المثال فاحتذاه، وقد أنشأ «جور» قصيدته الإنجليزية «اعتراف المحب» في أبياتٍ مثمَّنة المقاطع مزدوجة القافية، وهي تتألف من عددٍ يزيد على خمسة عشر ألفًا من الأبيات، وتقع في خمسة أجزاء. وهذه القصيدة إنما كتبت بدعوة من الملك الشاب رتشارد الثاني؛ ولذلك أهداها عند أول إخراجها إليه، لكنه عاد بعد ذلك فأهدى طبعتها الثانية لدوق لنكستر الذي أصبح فيما بعدُ الملك هنري الرابع.
وأما قصيدته الفرنسية «مرآة المفكر» فتتألف من ثلاثين ألفًا من الأبيات على وجه التقريب، تدور كلها حول الفضائل والرذائل.
ثم قصيدته اللاتينية «صوت إنسان يصيح»، وقد أوحى له بها ثورة الفلاحين في مقاطعة «كنت» عام ١٣٨١م بسبب فداحة الضرائب، وكان «جور» صاحب أرض في تلك المقاطعة، ولا بد أن يكون قد لحقه الأذى.
(٢) كتاب النثر في القرن الرابع عشر
أمسك بزمام النثر في القرن الرابع عشر ثلاثة كُتاب، هم «السير جون ماندفيل» و«جون ويكلف» و«جوفري شوسر»، ولم تكن براعة هؤلاء الكتَّاب في أدبٍ مبتكر، بل بدت قدرتهم على الكتابة النثرية فيما ترجموه عن اللغات الأخرى. وسنعرض موجزًا قصيرًا لكل منهم.
(٢-١) السير جون ماندفيل Sir John Mandeville
وشاع الكتاب في القرنين الرابع عشر، والخامس عشر شيوعًا عظيمًا، يدلُّك على مقداره أن بين أيدينا اليوم ثلاثمائة نسخةٍ مخطوطة بقيت منذ ذلك العهد. وقد تواضع بعض النقاد على تسمية «ماندفيل» «أبا النثر الإنجليزي» — كما عُدَّ شوسر أبًا للشعر — لكن هذا اللقب يتنازعه أيضًا «جون ويكلف» و«السير تومس مور»، على أن النثر الإنجليزي كانت له بداياتٌ عدة، ولا يجوز أن ننسب ابتداءه لكاتبٍ واحدٍ كائنًا من كان.
(٢-٢) جون ويكلف Gohn Wyclif (١٣٢٤–١٣٨٤م)
كان «ويكلف» يمقت البابوية مقتًا شديدًا، فحفزه ذلك إلى الكتابة ضدها، ولكنه لم يلبث أن اتُّهم بخروجه على الدين وحوكم على زندقته سنة ١٣٧٧م، فأرسل في حمايته دوق لانكستر قوةً مسلحة تصحبه إلى دار المحكمة، ثم حدث أثناء المحاكمة أن نهض هذا الدوق — وقد أرهقته المناقشات الطويلة — وأعلن أنه لو أدانت المحكمة صديقه «ويكلف»، فلن يتردد في أن يَجُرَّ الأسقف من شعره، حتى يخرجه من الكنيسة التي كانت تجري المحاكمة في حرمها، وعندئذٍ انفضت الهيئة الدينية التي كانت منعقدة لمحاكمته، ثم حوكم «ويكلف» مرةً أخرى لخروجه على الدين أيضًا، ونجا من العقاب بفضل «أميرة ويلز».
(٢-٣) شوسر Chaucer
(٣) الشعر في القرن الخامس عشر
وجدير بنا في هذا المقام أن نحدد على وجه الدقة ما يراد «بالحكاية المنظومة» في الآداب الأوروبية، فهي قصيدةٌ قصصيةٌ قصيرة، لقارئها أن يتلوها تلاوة أو يتغنى بها، وهي مزيج من «شعر الملاحم» و«الشعر الغنائي». وقد تتخذ بعض الحكايات المنظومة قالبًا تمثيليًّا فيه حوار بين أشخاص، وأما موضوع «الحكاية المنظومة» فقد يكون بطولة المحاربين أو مغامرة المحبين أو عجائب بلاد الجن، والخيال فيها ساذجٌ جامح، والشعور عميق يصور عواطف الإنسانية بأسرها، وكثيرًا ما تتخير المواقف والمناظر التي تثير في السامعين الحزن والشجن. تلك هي المميزات العامة للحكاية المنظومة، على أن بعضها يقوم على أساس من التاريخ مع تغيير في الحوادث من حيث الزمان والمكان والأسماء، بحيث لا تكاد تتبين فيها من الحقيقة التاريخية شيئًا.
وهنا قد يسأل سائل: ومن نظم تلك الحكايات؟ والجواب أن تاريخ الأدب لا يسمي من شعرائها أحدًا. فقد كان في إنجلترا قبل شوسر بقرونٍ عدة طائفة من هذه الحكايات المنظومة، وأخذت تنتقل من جيلٍ إلى جيل، ومن بلدٍ إلى بلد، ويطرأ عليها أثناء انتقالها ما تحدثنا عنه من ألوان التغيير التي تقتضيها مشاعر الناقل أو ظروف المكان المنقولة إليه، فهي حكايات «نظمها الشعب للشعب» كما يقولون، وشاعت أمثال هذه الحكايات المنظومة الشعبية في ألمانيا والدنمركة وغيرهما من أقطار أوروبا. ومما يلفت النظر أن معظم الأقاصيص التي ترويها تلك المنظومات الشعبية مشتركة في مختلف البلاد، وكلما وجد النقاد هذا الأساس المشترك جزموا بقدم المنظومة إلى ما قبل عهد الكتابة، وكان الناس يتغنون ببعض هذه المنظومات عند الحرث والبذر والحصاد، ويتغنون ببعضها الآخر عند الزواج، ويرتلون طائفة منها عند دفن الموتى، ولبثوا كذلك طوال القرون الثلاثة: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، ومع ذلك فلم تجد سبيلها إلى الطباعة حتى جاء القرن الثامن عشر.
ومن أشهر الحكايات المنظومة مثلًا:
•••
وفي منظومة «الفتاة السمراء» يجري الحوار بين العاشق ومعشوقته على نحوٍ جميل، وقد قال عنها ناقد إنها أبدع قصيدة التقى فيها الشعر الشعبي والشعر الفني، والبطل في هذه المنظومة من أتباع «رُوبِنْ هُودْ» [وهو رئيس عصبة مشهور في الأساطير] يحاول أن يسبر غور معشوقته ليرى مقدار ثباتها على حبه، فيقول (ونعتذر للقارئ عما يفقده الأصل في الترجمة من نغمٍ حلو ولفظٍ سلس جميل):
فينبئها أنه قد أتى أمرًا وقع به تحت طائلة القانون، وأنه لا مندوحة له عن الفرار إلى جوف الغابة، فتعرض عليه أن ترافقه إلى مخبئه من الغابة، لكنه يبين لها ما عساها أن تواجهه من مشاقَّ وصعاب، فتصرُّ على أن تشقى في رفقته، فيذكر لها احتمال أن تجده الشرطة، وأن يكون مصيره الشنق، فلا يكون جوابها سوى أن تكرر «لست أحب إلاك بين البشر.» فيعترض عليها بأنه لا يطمح في اختطاف ابنة رجل من عِلْية القوم، لكنها تجيبه بأنها لا تستطيع الحياة بعد فراقه، ثم يلقي بآخر سهم عنده فيعلنها بأنه يحب امرأةً سواها أروع منها جمالًا، فلا تتحول الفتاة عن ثباتها، وعندئذٍ يفصح لها عن جلية الأمر قائلًا: إن ذلك كله لم يكن سوى اختبار يمتحن به حبها له، ثم يختتم اعترافه قائلًا:
ومن هذا المثال تستطيع أن ترى أوضح ما يميز «الحكاية المنظومة» من بساطة الفكرة واستقامة التعبير.
وما دمنا قد ذكرنا «روبن هود»، فجديرٌ بنا أن نتحدث عنه قليلًا في هذا الموضع؛ إذ كان شخصية دارت حولها «الحكايات المنظومة»، حتى بلغ ما كتب عنه عددًا يقرب من الخمسين، ولسنا ندري هل كان «روبن هود» شخصًا حقيقيًّا أو وهميًّا، فيقال إنه عاش في عهد هنري الثاني، وإنه كريم المحتد، غير أنه شرد بحكم القانون لسببٍ لا ندريه، وصحبه في تشريده صحبة من الإخوان، وأووا جميعًا إلى «الغابة الخضراء»، حيث يصيدون غزلان الملك، ويسطون على الأغنياء، ويعاونون الفقراء، كصعاليك العرب، واشتهروا برقتهم وعطفهم على الأطفال والنساء، ولم يلبث «روبن هود» أن أصبح رمزًا يشير به الناس إلى كراهيتهم لما كان سائدًا عندئذٍ من قوانين حددت بها الحكومة حق الصيد في الغابات.
هكذا كان للحكايات المنظومة شأنٌ أي شأن في القرن الخامس عشر. تصدر من قلوب الناس في غير تكلف ولا تصنع، تتحدَّر على الشفاه جيلًا بعد جيل، لكن نشأت المطبعة وشاعت الطباعة، فزالت «الحكاية المنظومة» شيئًا فشيئًا؛ ذلك لأن أصحاب المطابع شرعوا ينشرونها مطبوعة، فاستأجروا لها الشعراء يصلحونها فأفسدوها، وزال عنها ما كان طابعًا مميزًا لها، وهو السذاجة والبعد عن التكلف.
•••
وأول من استخدم اللهجة الاسكتلندية في قرض الشعر ملك اسكتلندي شاعر هو جيمس الأول (١٣٩٤–١٤٣٦م)، وقد اعترضته في حياته مأساةٌ أليمة، ذلك أن عمه حبس عن أخيه القوت حتى مات، فخشي أبوه أن يصيب ابنه جيمس ما أصاب أخاه، فأرسله إلى فرنسا في طي الخفاء لينجو به من براثن عمه، لكن سفينةً إنجليزية وجدته في طريقه إلى الفرار. فقبضت عليه وعادت به إلى لندن، حيث زُجَّ به في «البرج» وفي غيره سجينًا مدى ثمانية عشر عامًا، غير أنه لم يلقَ عنتًا في سجنه. وجاء له ساجنوه بمن يتعهده بالتعليم والتثقيف، فشجعه هؤلاء على دراسة آيات الفن والأدب، وقد أعجب الطالب السجين بشوسر وجور ولِدْجِت، حتى أطلق عليهم «القادة»، وأنشد وهو في سجنه قصيدة عنوانها «كتاب الملك» تكريمًا لسيدة تزوج منها فيما بعدُ، وقد اغتيل في قلعته بعد زواجه بثلاثة عشر عامًا، وكان جيمس في قصيدته تلك متأثرًا بشوسر. وبفضل تلك القصيدة نشأت في اسكتلنده طائفة من الشعراء تنسج على المنوال نفسه في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، فبحر القصيدة هو نفس البحر الذي آثره شوسر، وهو الذي يقسم القصيدة مقطوعات كلٌّ منها تتألف من سبعة أسطر تجري قوافيها على هذا النحو: أ – ب – أ – ب – ب ﺟ – ﺟ.
وقيل عن جيمس إنه «خير من أنشد الشعر بين الملوك وخير من تولى الملك بين الشعراء.»
(٣-١) روبرت هنريسن Robert Henryson (١٤٣٠–١٥٠٠م)
وتبدأ مقدمة «الخرافات» بحلم يظهر فيه «المستر إيزوب أمير الشعراء» وينبئ «هنريسن» أنه (أي إيزوب) من أسرةٍ نبيلة، وأن موطنه الأصلي مدينة روما، ثم يأخذ في رواية حكاياته الخرافية.
(٣-٢) وليم دنبار William Dunbar (١٤٦٠–١٥١٣م)
أراد له ذووه منذ نعومة أظفاره أن يكون للكنيسة، حتى اعتادت مربيته أن تطلق عليه «الأسقف الصغير»، فلما فرغ من دراسته الجامعية وظفر بالأستاذية في الآداب عام ١٤٧٩م، اتصل بطائفةٍ دينيةٍ معينةٍ تحتم على عضوها أن يجوب البلاد سائلًا. فأخذ يرتحل من بلدٍ إلى بلد يعظ ويطلب الإحسان، لكنه لم يلبث أن ضاق ذرعًا بهذه الحياة، وانسلخ عن تلك الطائفة، بعد أن أفاد خبرةً واسعة من تجواله، وخالط أفرادًا من أعلام القوم، وجمع بملاحظته الدقيقة تجارب عن دقائق الحياة وبواطن النفوس، كانت خير عون له حين شرع في إنشاء شعره.
وأجود قصائده: «الحسك والوردة» و«الدرع الذهبية» و«رثاء الشعراء»، و«رقصة الخطايا السبع الفاتكة»، وتعد هذه الأخيرة آية شعره، ففيها قوة في التعبير، وروعة في التصوير، فضلًا عما تمتاز به من رشاقة وتنوع وفكاهة ودراسة دقيقة لطبائع البشر. وكان «دنبار» في معظم شعره متأثرًا بشوسر، واختار لبعض قصائده البحر الذي كان كثيرًا ما يستخدمه شوسر، وقد تقدم وصفه، وهاك نموذجًا نقتطفه من قصيدة «الحسك والوردة»:
•••
•••
(٣-٣) جاون دوجلاس Gawain Douglas (١٤٧٤–١٥٢٢م)
ظفر «دوجلاس» بدرجة الأستاذية في الآداب من جامعة «سنت أندروز» — وهي الجامعة التي تخرَّج فيها عددٌ كبير من أعلام اسكتلنده — وهو في العشرين من عمره، ثم عيِّن في منصب ديني، لكن طوائف الدين وأحزاب السياسة لم تلبث أن نشب بينها نزاعٌ عنيف، ففر شاعرنا هاربًا إلى إنجلترا قاصدًا لندن، وما أقام طويلًا في تلك المدينة، حتى تفشى بها الطاعون فقضى عليه.
وله في الأدب ثلاثة آثار تستحق الذكر، وهي «قصر الشرف» و«القلب الملك» وترجمة «الإنياذة»؛ أما القصيدتان الأوليان فتتخذان أسلوب الرمز وتتبعان الطريقة التي سادت في الأدب الإنجليزي، بل في معظم الأدب الوسيط في أوروبا كلها، منذ القرن الثاني عشر، وأعني بها طريقة الحلم، فيأخذ الشاعر نعاسٌ ذات صباح من شهر مايو الجميل إذ هو سائر في حديقة غناء، ويرى في حلمه آلهة ينبئونه كيت وكيت.
وقصيدة «القلب الملك» قصة الصراع بين البدن والروح، وأما آيته الكبرى التي استحق بها الذكر في تاريخ الأدب، فهي ترجمته للإنياذة؛ إذ أبدى براعةً عظيمة في نظمها، ولقد قَدَّم لكل جزءٍ من الملحمة بقصيدةٍ مبتكرة، وفي هذه المقدمات الشعرية أظهر الشاعر نبوغه، ومما هو جديرٌ بالذكر — في هذا الصدد — أن هذه الترجمة لإنياذة فيرجيل كانت أول ما نقل إلى الإنجليزية من الأدب اللاتيني، وقد استخدم «دوجلاس» في ترجمته القافية المزدوجة.
وهذه أبيات — في الشمس — مأخوذة من مقدمته للأغنية الثانية عشرة من الإنياذة:
(٤) النثر الإنجليزي في القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر
الشعر أسبق من النثر ظهورًا في آداب العالم كلها، لكن النثر لم يبطئ في بلدٍ مثلما أبطأ في إنجلترا؛ فقد لبث الشعر قائمًا وحده قرونًا عدة قبل أن تبدأ الكتابة النثرية، لهذا قد يسارع القارئ إلى الحكم بأن القرن الخامس عشر الذي أجدب في الشعر الإنجليزي، لا بد أن يكون أشد إجدابًا في النثر؛ لأنه إذا تلكأت حركة النهوض بالشعر، فالأرجح أن تتلكأ معها نهضة النثر، لكن عاملًا جديدًا نشأ في القرن الخامس عشر كان من جرائه أن تغيرت أوضاع الأمور؛ ذلك أن بدأت المطبعة حياتها في إنجلترا في القرن الخامس عشر على يدي «وليم كاكِسْتُن». والطباعة أفعل أثرًا في نشر النثر منها في استنهاض الشعر؛ لأنها تعمل على بذر بذور العلم والعرفان، وما أداة العلم سوى الكتابة النثرية، أضف إلى ذلك أن صاحب المطبعة إن أراد لبضاعته رواجًا عمد إلى نشر ما يصادف الهوى عند عامة الناس كالقصص، أما الشعر فأدبٌ أرستقراطي إلى حدٍّ ما، لا يُقبل على قراءته إلا فئةٌ قليلة، فالأرجح — إذن — أن تبدأ المطبعة بنشر المنثور قبل المنظوم، وفي هذا ما فيه من تشجيع الأدباء على الكتابة نثرًا.
شهد القرن الخامس عشر بدايةً قوية في النثر تمثلت في كتاب «سير تومس مالوري» «موت آرثر»، إلا أن النثر برغم هذه البداية الجيدة لم يقنع، فأخذ يجود ويجود حتى إذا ما شرع بيكن في ختام القرن السادس عشر يكتب «مقالاته» كان قد انتقل النثر من العبارة الفضفاضة القصصية المنحلة المفكَّكة إلى الجمل القصيرة الواضحة المركَّزة المصقولة.
وسنعرض فيما يلي أنبغ الناثرين في ذلك العهد:
(٤-١) سير تومس مالوري Sir Thomas Malory (١٤٣٠–١٤٨٠م)
لسنا ندري من حياته إلا قليلًا، وحسبنا علمًا به أنه كاتب الآية الخالدة «موت أرثر»، وهذا الكتاب المشهور مقتبس من الحكايات الفرنسية القديمة التي رويت عن «الملك أرثر» الذي اتخذه سكان إنجلترا وشمال فرنسا معًا بطلًا في أساطيرهم، وتكوِّن قصصه في مجموعها شيئًا أقرب ما يكون إلى الملحمة التي تدور حول حياة ذلك الملك وموته، وتروي الأعاجيب عن بطولة فرسانه الذي يطلق عليهم «فرسان المائدة المستديرة»، وفرغ الكاتب من كتابه هذا عام ١٤٧٠م وطبعه «كاكستن» سنة ١٤٨٥م، ونثر الكتاب يتميز بالأسلوب القصصي والبساطة القوية، ولم يلقَ كتاب من الرواج بين قراء القرن السادس عشر ما لقيه هذا الكتاب، ثم أصبح فيما بعدُ مصدرًا استقى منه كثير من الكتاب الإنجليز مادة أدبهم.
كيف حصل «أرثر» بمعونة «مرلين» على سيفه «إكسكالبتره» من «سيدة البحيرة» «رحل الملك يرافقه زميله، وبلغا راهبًا في صومعته، وكان رجلًا صالحًا، فأخذ الراهب يفحص للملك جروحه، ثم أعطاه لها بلسمًا شافيًا، ومكث الملك عنده ثلاثة أيام التأمت فيها جروحه التئامًا يمكنه من الركوب والسفر، فاستأنف السير، وبينما هما في الطريق راكبين، قال أرثر: «لست أحمل سيفًا.» فأجاب «مرلين»: «على مقربةٍ منا سيف سيكون سيفك لو استطعت إلى ذلك سبيلا.» ولبثا راكبَين حتى أقبلا على بحيرة نقية الماء فسيحة الأرجاء، ورأى أرثر في وسطها ذراعًا حولها كساءٌ أبيض، وفي قبضتها سيفٌ جميل، قال «مرلين»: «انظر! ذلك هو السيف الذي حدثتُك عنه.» ثم ما لبثا أن شاهدا فتاة تسير فوق ماء البحيرة، فسأل أرثر: «من تلك الفتاة؟» فقال «مرلين»: «تلك سيدة البحيرة، وإن في جوف البحيرة لصخرة، وإلى جوارها مكان كأجمل ما ترى فوق الأرض من مكان، وستأتيك تلك الفتاة بعد حينٍ قصير، فلاطفها في الحديث تمنحك ذلك السيف.» وما عتمت الفتاة أن أقبلت نحو أرثر وحيَّته. فردَّ لها التحية، ثم قال: «أيتها الفتاة! ما ذلك السيف الذي ارتفعت به تلك الذراع فوق سطح الماء؟ وددت لو كان سيفي؛ لأنني لا أحمل سيفًا.» فأجابت الفتاة: «أيها الملك أرثر، إن السيف سيفي، وهو لك إن وهبتني هبة حين أطلبها.» فقال أرثر: «أقسم لك بشرفي إني معطيك تلك الهبة التي تطلبين.» فردت الفتاة: «اذهب إذن في ذلك الفلك وادفعه بالمجداف، حتى تبلغ مكان السيف، فخذه مصحوبًا بغمده، وسأطلب هبتي حين تسنح لي فرصة لذلك.» فترجل سير أرثر ومرلين وربطا جوادَيهما إلى شجرتَين، وأقلعا بالسفينة، حتى إذا ما بلغا مكان السيف الذي ارتفعت به اليد أمسكه السير أرثر بمقابضه وعاد به، وعندئذٍ غاصت الذراع وغاصت اليد في جوف الماء، ثم بلغ الرجلان الشاطئ، وامتطيا الجوادَين وأخذا في المسير.»
ذلك هو الكتاب وهذا مثال منه، ولسنا نذكره إلا ذكرنا معه القصيدة الرائعة التي كتبها «تنسن» — الشاعر الإنجليزي في القرن التاسع عشر — وعنوانها «أناشيد الملك»، وهي مستمدة من هذا الكتاب، بل لم يفعل «تنسن» في بعض أجزائها سوى أن حول نثرها إلى نظمٍ جميل.
(٤-٢) السير تومس مور Sir Thomas More (١٤٧٨–١٥٣٥م)
ولد في لندن، وتعلم في أكسفورد، وهنالك تملكته رغبةٌ شديدة في دراسة اليونانية، ولما كان في عامه العشرين ربطته أواصر الصداقة بالعالم الهولندي الذائع الصيت «إرزم»، وأخذا يتراسلان ما بقيا على قيد الحياة. وقد اختير «مور» عضوًا في البرلمان سنة ١٥٠٤م نائبًا عن جزءٍ من مدينة لندن، واتصل فيما بعدُ بالملك هنري الثامن، ثم أخذ يعلو في مناصب الدولة صعدا، حتى إذا ما سقط «ولزي» — كبير الوزراء في عهد هنري الثامن — تولى مكانه «تومس مور»، لكنه لم يلبث أن لمح في الجو السياسي مشكلاتٍ معضلات تنشأ من طلاق الملك لزوجته كاترين، فاعتزل منصبه وأوى إلى الريف. غير أن الملك هنري الثامن حمل البرلمان على أن يدعو كل من تولى الوزارة في الماضي إلى جانب من كانوا يتولونها عندئذٍ، ليقسم الجميع يمين الإخلاص لقانون أصدره إذ ذاك يعلن فيه أن زواجه من الملكة كاترين لم يكن زواجًا شرعيًّا، وأن رئاسة البابا أصبحت منسوخة ملغاة في البلاد، فرفض «مور» أن يقسم كما طلب إليه، فلم يتردد الملك في إعدامه.
ويتحدث «مور» في كتابه «يوتوبيا» على لسان رحالة جاب البلاد وطوف، ثم ألقى مراسيه في تلك الجزيرة الخيالية، وأخذ يصف لنا أوضاع الحياة الصميمة فيها، فاستطاع في سياق قصته أن يعرض صورةً واضحة لأوجه الإصلاح التي كانت بلاده في أمسِّ الحاجة إليها.
لا ريب في أن «مور» استوحى في كتاب «يوتوبيا» جمهورية أفلاطون، كما أوحى بدوره لبيكُنْ أن يكتب «أطلنطس الجديدة» ولغيره من الكتَّاب أن يكتبوا أحلامهم في مستقبل الإنسانية على هذا النحو من الخيال.
إنه ليتعذر عليك أن تفهم روح النهضة بمعناها الصحيح، إلا إذا ذكرت أن العصر كان عصر كشف عن قارةٍ جديدة كما كان عصر استكشاف للتراث الأدبي القديم، وما عساه أن يحدث في النفوس المستنيرة من لذة ومتاع، فشهدت النهضة أعظم الرحَّالة، وأنبغ الشعراء في آنٍ معًا، فكان من الطبيعي لأديب أنقضت ظهره سيئات عصره، وأخذ يُجيل البصر لعله واجد للمجتمع الإنساني أملًا جديدًا. من الطبيعي لأديب النهضة — وتلك حاله — أن يطير على جناح الخيال إلى إحدى تلك الجزائر القصية التي كشف عنها المغامرون، فهنالك إذن في جزيرة جديدة وقع الشاعر بخياله فوجد مجتمعًا سعيدًا، وواجبه أن يصفه لبني قومه لعلهم يصلحون ما في أنفسهم من فساد.
(٥) المؤرخون
كان التاريخ مجال الناثرين منذ نشأ النثر في الأدب الإنجليزي، وقد بدأ مزيجًا من الحقيقة والأساطير، ثم تطور وسار نحو الدقة شيئًا فشيئًا، حتى بلغ في ذلك شأوًا بعيدًا في القرن الخامس عشر والنصف الأول من السادس عشر، وهو العهد الذي نتحدث الآن عنه، وتولت كتابته جماعة من المؤرخين لا نرى المقام يتسع لذكرهم.
(٥-١) هيو لاتمر Hugh Latimer٢١ (١٤٩١–١٥٥٥م)
ومن الناثرين في ذلك العهد «هيو لاتِمَرْ» الذي تخرج في جامعة كمبردج عام ١٥١٠م، والتحق بمناصب الكنيسة قسيسًا فأسقفًا، وقد جاهد في سبيل الإصلاح الديني في عهد الملك إدورد السادس، فلما وليت العرش الملكة ماري زُجَّ في برج لندن، ثم أحرق.
ويتألف إنتاجه الأدبي من «عظاتٍ دينية» كتبها في أسلوب ينبض بالحياة ولا تشوبه شائبةٌ من حذلقةٍ علمية، فهي أقرب إلى الحديث وأدنى إلى السمر الخفيف، فأسلوبه في «عظاته» على نقيض الأسلوب اللاتيني القديم؛ إذ هو يميل دائمًا إلى البساطة، واستقامة التعبير والجدة، ويؤثر قصار الجمل على طوالها.
والعبارة الآتية مثال نسوقه دليلًا على وضوح أسلوبه واستقامة عبارته، وبُعدها عن التواء التركيب:
كان أبي مزارعًا لا يملك أرضًا، فكل ما لديه مزرعة تدر عليه ثلاثة جنيهات أو أربعة كل عام على أكثر تقدير، وكان يجيد فلاحتها، بحيث تكفي غلتها طعامًا لستة رجال، وكان يملك حظيرةً تسع من الأغنام مائة، وكانت أمي تحلب ثلاثين بقرة … لقد بعث بي إلى المدرسة وإلا ما استطعت أن أعظ الآن بين يدي جلالة الملك.
(٥-٢) روجر أسكام Roger Ascham (١٥١٥–١٥٦٨م)
ومن كتَّاب النثر أيضًا في النصف الأول من القرن السادس عشر «أسكام» وهو مشهور بكتابته في الرمي بالسهام وفي التربية، تخرج في جامعة كمبردج؛ حيث انكبَّ على دراسة اليونانية وتدريسها لصغار الطلاب، وقد أغرم برمي السهام منذ صدر شبابه، وألَّف فيه كتابًا قدمه إلى الملك هنري الثامن وله من العمر ثلاثون عامًا، فصادف الكتاب عند الملك قبولًا حسنًا، وقرر لكاتبه راتبًا سنويًّا لا بأس به، وبعد ذلك بثلاثة أعوام عُين مربيًا للأميرة اليصابات، التي كانت في دراستها ذكيةً جادة، وخصصت لقراءة اليونانية على أستاذها بضع ساعات كل يوم. وأما كتابه الثاني فموضوعه التربية، وعنوانه «المعلم»، ولم ينشر إلا بعد موت كاتبه. وعلى الرغم من تعمق أسكام في دراسة اليونانية، كان يؤثر في كتابته الألفاظ الإنجليزية الخالصة، على الكلمات المزوقة الثقيلة المشتقة من اللاتينية واليونانية، وكان يسمي مثل هذه الألفاظ «ألفاظ المحبرة» يريد بذلك أنها نتيجة الدراسة العلمية لا ثمرة للحياة الشعبية. وقد كتب في مؤلفه عن رمي السهام يقول: «أنا أكتب في هذا الموضوع الإنجليزي باللغة الإنجليزية ليقرأه الإنجليز.»
(٦) المسرحية وكتَّابها في عصر النهضة
تستمد المسرحية أصولها من الطبيعة البشرية ذاتها، فالأطفال يحبون «التمثيل» بطبعهم، فيمثلون في لعبهم ألوانًا من الحياة المحيطة بهم، تراهم مرة يلعبون دور البائع والشاري، ومرةً أخرى يلعبون دور الجنود المحاربين يتقاذفون الأحجار وهكذا، فالفعل والحديث والضحك عناصر الملهاة، والفعل والحديث والبكاء عناصر المأساة.
أما «رواية المعجزة» فقد بدأت في أوائل عهد الملك إدورد الثالث (١٣٢٧–١٣٧٧م) تُمثَّل بالإنجليزية، واختاروا لتمثيلها أعياد الكنيسة التي كانت أيام عطلة للسادة والدهماء والأغنياء والفقراء على السواء، وموضوعها — كما قدمنا — أبناء القديسين ومعجزاتهم، والقائمون بتمثيلها رجال الكنيسة أنفسهم، لكنها أخذت — على مر الزمن — تنتقل من أيدي رجال الدين إلى «نقابات العمال في المدن»، فكانت كل نقابة تُعِدُّ لنفسها مركباتٍ تسير الواحدة منها على أربع عجلاتٍ أو ست، وتقيم فوق كل عربة بناءً من طابقَين، في أسفلهما يرتدي الممثلون ثيابهم ويصبغون وجوههم، وفي أعلاهما يمثلون الرواية التي أعدوها، وما نظَّارتهم إلا جمهور الناس في الطريق. فإذا ما فرغوا من تمثيلها في مكان، انتقلت بهم العربة إلى مكانٍ آخر، حيث يعيدون تمثيلها وهكذا، فكأنما كانت المدينة كلها مسرحًا واحدًا عظيمًا في العراء. وكان الناس يُقبلون على رؤية التمثيل مؤْثرين هذه المتعة على أعمالهم. وكثيرًا ما كانت تشترك عدة مركباتٍ في تمثيل روايةٍ واحدة، فتقف متباعدة بعضها عن بعض ليمثل كلٌّ منها مكانًا معينًا من الأمكنة التي وقعت فيها أحداث الرواية. فإن كانت القصة طويلة ذات حلقاتٍ متتابعة كان الأغلب أن تشترك في تمثيلها عدة نقابات، فتقوم كل نقابة بتمثيل حلقةٍ واحدة، فمثلًا جرى العرف في أحد الأعياد أن يقوم «دباغو الجلد» بتمثيل «سقوط الشيطان»، ثم يقوم «البزَّازون» بتمثيل «خلق العالم وسقوط الشيطان»، ثم يمثل «السقَّاءون» قصة «الفيضان ونوح». وكان على كل نقابة أن تعد الأثاث والثياب وغير ذلك مما يطلب لتمثيل الحلقة الخاصة بها، مثال ذلك، أن يعدَّ الذين يمثلون أرواح الصالحين (في رواية «يوم الحساب») جلودًا بيضاء يكتسون بها رمزًا للطهر والنقاء، وأن يعد الذين يمثلون أصحاب النار ثيابًا من التيل يلونونها بأصباغٍ سوداء وصفراء وحمراء لتوحي إلى الناظرين بنار الجحيم.
وكذلك لدينا من «روايات المعجزة» في طورها الثاني — أي حين انتقلت إلى أيدي نقابات العمال تمثلها في الطرق بدل الكنائس — مجموعاتٌ أربع سُمِّيت بأسماء المدن التي كانت تنتجها وتمثلها، وهي:
مجموعة «يورك» وقوامها ثمانٍ وأربعون رواية كتبت في منتصف القرن الرابع عشر، ومجموعة «ويكفيلد»، وتشتمل على اثنتين وثلاثين روايةً كتبت في منتصف القرن الخامس عشر، ومجموعة «كفنتري» وتحتوي على اثنتين وأربعين روايةً كتبت في القرن الخامس عشر، واخيرًا مجموعة «تشستر» وفيها أربع وعشرون روايةً كتبت في ختام القرن الخامس عشر.
وقد كتبت هذه الروايات في أبحرٍ متباينة أشد ما يكون التباين، تلتزم القافية أحيانًا والجناس أحيانًا، وترى فيها مقطوعاتٍ غنائية ترد في السياق آنًا بعد آن. وكانت هذه المدن الأربع تستعير الروايات بعضها من بعض، لكننا نستطيع القول بوجهٍ عام إن كل مدينة منها استقلَّت بمجموعاتها وتميزت بها.
كانت الأعياد الدينية — كما أسلفنا — أهم المناسبات لتمثيل هذه الروايات التي توضح مناظر الكتاب المقدس، وتبين معجزات القديسين، لكنهم لم يقتصروا على تلك الأعياد، بل كانوا ينتهزون غيرها من المناسبات كحفلات الزواج، وزيارات الملوك وسفر الحجاج إلى فلسطين وغير ذلك من أيام يحتشد فيها الناس، وكانت العادة أن تُكنس الشوارع في أمثال تلك الأيام وتُزيَّن بالأعلام وأكاليل الزهر والشموع والمصابيح وغير ذلك. وإن يومًا من هذه الأيام ليُضْرب مثالًا لما امتاز به من زينة، وذلك أن أهل لندن كانوا قد أساءوا إلى رتشارد الثاني، فأرسل إليهم الملك أنه قد عفا عنهم، وأنه معتزم زيارة لندن في موعدٍ حدده لهم (٢٩ أغسطس سنة ١٣٩٣م)، فبذل أهل لندن كل ما في وسعهم لتمجيد ذلك اليوم استرضاءً لمليكهم، فأخذت نقابات العمال واحدةً بعد أخرى تسير في شوارع المدينة مرتديةً أفخر الثياب، ويحيط بها الأقزام والعمالقة، وتحمل معها أمساخًا وصنوفًا من غريب الحيوان اجتلبتها من البلاد النائية، بل أعدَّ الناس لذلك اليوم غابةً صناعية وضعوا فيها أنواعًا من الحيوان، فأطلقوا فيها الثعابين والأُسود، ووضعوا بها دبًّا ونمرًا وفيلًا وقردة، وتركوها تعدو وتقفز ويقاتل بعضها بعضًا، هذه صورة ليوم تُبين كيف كان يحتفل القوم ببعض أيامهم، وفي مثل تلك الأيام كانت تمثَّل الروايات في الميادين، وعند تقاطع الطرق لتشهدها جموع الناس.
لكن «روايات المعجزات» كانت بالطبع تتميز بالجد والرصانة ما دامت تمثل حوادث الإنجيل وأبناء القديسين، فلا بد للقوم، في فتراتٍ تقع حينًا بعد حين، من لون مرح يخفف عن أنفسهم كربها، ولهذا أعدت بعض المناظر المضحكة تتخلل المشاهد الجادة، وهكذا دخلت عناصر الملهاة. ومن الموضوعات التي وقع عليها المنظمون لتلك المناظر المضحكة في كثيرٍ من الأحيان، النزاع بين الرجل وزوجته، فذلك — فيما يظهر — ميدانٌ خصيب للملهاة منذ نشأتها، فكنت تراهم يصورون نزاعًا يقع بين نوح وزوجته، في صورٍ مختلفة، لكن زوجة نوح كانت في كل حين امرأةً جموحًا تأبى أن تركب الفلك مع زوجها، وفيما يلي نموذج للحوار الذي كان يدور في مثل هذا المنظر، فيُعجب السامعين:
(وهنا تلطم زوجها فوق أذنه.)
(وتدخل الزوجة في نهاية الأمر سفينة زوجها، لكنهما يواصلان النزاع أثناء الرحلة حينًا بعد حين.)
ونلاحظ أن «رواية الفترة» ضرب من «الرواية الخلقية» إلا أنه يتميز بالقِصَر، فضلًا عن إهماله للرمز وبعده نوعًا ما عن قصد التعليم والتلقين، و«رواية الفترة» من ناحيةٍ أخرى تسير بالمسرحية خطوة في طريق التطور؛ لأنها كانت تمثل داخل الدور لا في العراء، وكانت تمثَّل للطبقة الممتازة لا للطبقة الوسطى والدنيا من الدهماء.
وكما شهد أوائل عهد هنري الثامن «رواية الفترة»، شهد لونًا آخر من المسرحية يطلق عليه «رواية القناع» ورد إلى إنجلترا في ذلك الحين من إيطاليا. ورواية القناع قصيرة وتصاحبها الموسيقى ويشترط فيها أن تكون مناظرها زاهية الألوان، وأن يلبس الممثلون فيها ثيابًا مزخرفة، وأن يسايرها رقص. ولا يمثل «رواية القناع» ممثلون محترفون، بل يقوم بتمثيلها السادة والسيدات أنفسهم، كلٌّ يضع على وجهه قناعًا يتنكر به. وقد بقي هذا النوع من التأليف المسرحي في إنجلترا حتى القرن السابع عشر، فكان من كتابه الأعلام «بن جونْسُنْ» و«بومُنْت» و«فلتشر» و«مِلْتُنْ» كما سيأتي بعدُ، حين نتحدث عن هؤلاء الأدباء في القرن السابع عشر.
•••
كانت «روايات المعجزات» — كما رأيت — يؤلفها ويمثلها رجال النقابات، كما كان يمثلها قبلُ شمامسة الكنيسة، فلما أخذت الروايات التمثيلية تبعد عن موضوعات الدين شيئًا فشيئًا، وتخوض في أمورٍ دنيوية، بدأ اتجاهٌ جديد نحو تدريب فئةٍ خاصة من الناس على صناعة التمثيل، ومن هنا سار التمثيل في طريقه إلى الاستقلال عن النقابات الصناعية وعن الكنائس ورجالها ليصبح فنًّا قائمًا بذاته، وبدأت تتكون فرق التمثيل على نحوٍ عجيب، وذلك أن تألفت لكل قصر من قصور الأشراف والنبلاء فرقةٌ خاصة به، بحيث لا تسمح الحكومة لفرقةٍ تمثيلية أن تباشر عملها إلا إذا انتسبت لواحدٍ من هؤلاء، ثم تطور الأمر خطوةً جديدة، إذ شرعت تلك الفرق تضرب في أنحاء البلاد لتعرض على الناس تمثيلها كلما مرت بإحدى المدن، ولكنها في تجوالها ظلت محتفظة بانتسابها لهذا أو ذاك من طبقة الأشراف خشية أن يطبَّقَ عليها قانون التشرد فينزل بها أليم العقاب.
وإن كان ذلك كذلك فأول المسارح التي شهدتها إنجلترا لم تكن إلا أبهاء القصور وأفنية الفنادق، فإن كانت الفرقة التمثيلية في مقر سيدها وراعيها، مثَّلت رواياتها في بهو قصره تسليةً له ولذويه، وإن كانت مرتحلة نزلت في الفنادق العامة، وأقامت تمثيلها في أفنيتها؛ إذ كان لكل فندق في إنجلترا فناء في وسط البناء أعد لمركبات النزلاء، وكان يطل على الفناء من اضلاع البناء الأربعة شرفةٌ طويلة تمتد بامتداد الجوانب الأربعة، وكانت الغاية منها أن تكون طريقًا للوصول إلى غرف الفندق. في هذا الفناء الذي تحيط به شرفة ذات أضلاعٍ أربعة كانت تمثَّل الروايات إذا ما حلَّت بالمدينة فرقةٌ تمثيلية، وكانوا يقيمون مصطبة في أحد جوانب الفناء لتكون مسرحًا للتمثيل، وكانت تلك المصطبة — بالطبع — يظللها جزء من الشرفة البارزة من جوانب البناء، فكانوا يستخدمون الجزء من الشرفة الواقع فوق المصطبة في تمثيل «الغرفة العليا» أو «الحصن» إن اقتضت ظروف الرواية حصنًا أو غرفةً عليا، ولم يكن في المسرح عندئذٍ مناظر مرسوم لتوهم المتفرج ببيئةٍ معينة، كأن يتخيل أن القوم في بحر — مثلًا — أو في غايةٍ أو غير ذلك، بل تواضع الممثلون على أن يعلقوا سبورة إلى جانب المسرح يكتبون عليها المكان الذي تقع فيه الحوادث المعروضة على المسرح، وعلى النظارة أن يتخيلوا، كأن يكتبوا عليها مثلًا «هذه غابة كذا.» أو «هذا حصن كذا.» أو «هذه مدينة كذا.» وكلما اقتضى التمثيل تغيير المكان مُحي المكتوب على السبورة، وكتب اسم المكان الجديد، وهكذا. وأما النظارة فقسمان؛ قسمٌ يقف أو يجلس في الفناء نفسه أثناء التمثيل، وقسمٌ آخر يجلس في الغرف أو في الشرفة المحيطة بالفناء في موضعٍ يمكنهم من السمع والرؤية. وجديرٌ بنا أن نلاحظ في هذا المقام أن صفوف المقصورات التي تمتد في مسارحنا اليوم ما امتد الجدار إن هي إلا تهذيب للمسرح الأول، فهي تقوم مقام غرف النوم التي كانت تحيط بفناء الفندق، وفيها كان يجلس نزلاء الفندق، ويرون ما يدور فوق المسرح.
ثم لم يلبث المسرح الحقيقي أن بدأ حياته حين أنشئ أول مسرحٍ مستقل بذاته عام ١٥٧٦م على مقربة من لندن، وإنما نشأ على غرار ما اعتاده الناس؛ فناءٌ مكشوف في الوسط تحيط به شرفة أو شرفات بعضها فوق بعض. وكان لبعض النظارة الحق في أن يجلسوا على جوانب مصطبة التمثيل ذاتها لقاء أجرٍ إضافي يدفعونه. ولم يكن في فرق التمثيل الأولى ممثلات، بل قام بأدوار النساء غلمان. وقد كان للمسرح عند أول إنشائه في لندن بعض التقاليد، منها أن يقف «مضحك» الفرقة عند نهاية كل فصل، فيغني أغنيةً يشير فيها إلى أهم الحوادث والأشخاص مما كان يشغل الأذهان. ومنها أن يجثوا الممثلون إذا ما فرغوا من تمثيل الرواية، ويرتلوا دعواتٍ معينة أن يحفظ الله مليكة البلاد (الملكة اليصابات). ومنها أن يبدأ التمثيل عصرًا حول الساعة الثالثة دائمًا، وأن يُعلن البدء بثلاث نفخات في بوق، وإذا كانت الرواية مأساة روعي في تذكرات الدخول أن تكون حمراء. ولم يكن بالمسرح الأول مناظر — شأنه في ذلك شأن التمثيل في الفندق — بل كان يكتفي في تعيين المكان بما يكتب على لوحة أو سبورةٍ معلقة إلى جانب المسرح.
•••
وما دمنا نتتبع المسرح الإنجليزي في أصوله، فجديرٌ بنا أن نختم القول بخلاصةٍ وجيزة لأول ما شهد المسرح الحقيقي من رواياتٍ بمعناها الصحيح:
وإنما أوحى بهذه البواكير من الملهاة والمأساة روايات «بلوتَسْ» و«سِنِكا» الكاتبين الرومانيين القديمَين، فعلى أساس أولهما قامت الملهاة الحديثة، وعلى أساس ثانيهما نهضت المأساة، ولكن وحيهما لم يكن إلا قَطْرًا لم يلبث أن انهمر غيثًا في شيكسبير ومعاصريه، وموضع ذلك فصلٌ قادم.