الأدب الإنجليزي في عصر اليصابات
(١) الشعر في عهد اليصابات
(١-١) سير تومس ويت Sir Thomas Wyatt (١٥٠٣–١٥٤٢م)
ويتألف إنتاجه الأدبي من مقطوعاتٍ شعرية وقصائدَ غنائية وحكمٍ منظومة ومواويل، وهو متأثر فيها جميعًا بالشعراء الإيطاليين بصفةٍ عامة، وبيتراك على وجهٍ أخصَّ. وروح الشاعر في شعره إنما تجلو روح النهضة بأسرها، في العودة إلى نماذج الأقدمين يحتذيها، وفي اتساق الأنغام والعناية ببناء القالب الأدبي الذي يصبُّ فيه مادة شعره، وهو فوق ذلك يمتاز بالوضوح وطلاقة التعبير وإحكام الوزن.
وفيما يلي نموذج من شعره:
المحب يشكو لقيثارته قسوة حبيبه
•••
(١-٢) سري Surrey (١٥١٧–١٥٤٧م)
كان «سري» جنديًّا محاربًا ورجلًا من حاشية القصر، وقد أنفق في البلاط الفرنسي عامًا، وساهم في كثيرٍ من الحروب. وفي عامه الثامن والعشرين كان حاكمًا على بولونيا، لكن وساوس هنري الثامن امتدت إليه بلهبها كما فعلت بزميله «وَيَتْ»، فظن الملك أن أبا الشاعر يعمل في الخفاء ليعتلي العرش بعد هنري، فأمر بالوالد والولد جميعًا أن يزجَّا في برج لندن، وما هو إلا أن أعدم الشاعر الشاب، وهو في الثلاثين من عمره.
ولم يكد «سري» ينشد من الشعر إلا القصائد الغنائية والمقطوعات الشعرية، وكذلك ترجم الجزأين الثاني والرابع من إنياذة فيرجيل إلى شعر إنجليزي مرسل، فكان بذلك أول كاتبٍ إنجليزي يستخدم هذا الضرب من الشعر، الذي كُتِبَ له أن يكون فيما بعدُ أداةً قوية في أيدي الشعراء الفحول، ويتصف شعره بالصفاء والرشاقة والحيوية، ونصوع الصورة، واتساق الأنغام، وطلاقة العبارة.
وهاك مثالًا من شعره:
أمسكوا أيها العاشقون
•••
•••
أما قصيدة «شكوى هنري ستافورد» فتصور سقطة العظيم من أوْجِه، مبينةً أن المنصب العظيم إنما يتكئ على دعامةٍ واهية، إذ يرتكز على ابتسامةٍ واحدة، فليس أيسر من هويِّ صاحب المنصب الرفيع إلى هاوية البؤس والشقاء.
وأما في قصيدة «المقدمة» فينبئنا الشاعر كيف هبط إلى العالم الأسفل الذي يخضع لحكم «بلوتو» — إله الجحيم — وهنالك أخذت أرواح الموتى تقصُّ عليه أنباء سقوطها في الحياة الدنيا من الأوج إلى الحضيض الأسفل، وكان «الأسى» مشخصًا مجسدًا هو الذي يهدي الشاعر في رحلته، وهاك مثالًا قصيرًا من «المقدمة»:
والمقطوعة الآتية من قصيدة «شكوى هنري ستافورد»:
وللشاعر غير ذلك مجهودات يسجلها له تاريخ الأدب، فهو أول من كتب ملهاة في النثر الإنجليزي، وقد ترجمها عن أريوستو الشاعر الإيطالي؛ وهو أول من أنشأ قصيدةً ساخرة في الشعر المرسل، وهي قصيدة «مرآة الصلب» التي أشرنا إليها، وهو أول من ترجم عن الأدب اليوناني روايةً تمثيلية، إذ نقل إحدى روايات يوريبيد، وهو أول من كتب مقالًا في النقد الأدبي إذ كتب في «صناعة الشعر»، فهذه كلها محاولات أولى في ألوانٍ مختلفة من الأدب.
(١-٣) سير فلب سدني Sir Philip Sidney (١٥٥٤–١٥٨٦م)
على أنك تستطيع أن تضع «سير فلب سدني» في طليعة المنشدين للشعر الغنائي الجديد.
كان «فلب سدني» شاعرًا وناقدًا وعالمًا وجنديًّا ورجلًا من رجال السياسة، فكان يصور بشخصه ما يصبو إليه الناس في عصر النهضة من مثلٍ أعلى، ولم يكد يتمم دراسته في أكسفورد، حتى غادر بلاده مرتحلًا في أنحاء القارة الأوروبية، وشاءت له المصادفة أن يكون في باريس في اليوم الذي وقعت فيه «مذبحة بارثلوميو»، وهو الرابع والعشرون من شهر أغسطس سنة ١٥٧٢م، ولم ينجُ من الموت إلا بأن لاذ بدار السفير الإنجليزي هناك، ولم يلبث أن غادر باريس إلى فيينا، حيث أنفق فراغه كله في ركوب الجياد والمبارزة بالسيف والتدرب على استخدام آلات القتال المختلفة، ثم غادر فيينا إلى البندقية وبادوا حيث تعلم الهندسة والفلك، وبعدئذٍ عاد إلى وطنه، فكان للبلاط الملكي فخرًا. ولما بلغ عامه السابع والعشرين انتخب عضوًا في البرلمان عن مقاطعة كِنْت، وأرسل بعد ذلك بعامٍ واحدٍ ليقاتل الإسبانيين، وهناك لقي حتفه، فحمل جثمانه إلى أرض الوطن، ودفن في كنيسة «القديس بولس» الشهيرة بين مظاهر الحزن التي شملت الأمة كلها.
وإنما أفضنا بعض الإفاضة في ذكر جوانبه المختلفة؛ لأنه خالد في التاريخ بشخصه وبأدبه معًا، ففي عصر النهضة تغير في تقدير الناس مثلهم الأعلى، ولم يعد — كما كان في العصور الوسطى — يتمثل لهم في المسيحي المتبتل الزاهد، بل أصبح مثلهم المنشود عالمًا يدرس ظواهر الطبيعة، أو مغامرًا يركب الصعاب، أو رجلًا يستمتع بلذات الحياة، فإن اجتمعت لرجلٍ واحدٍ هذه الصفات؛ فكان محبًّا للعلم والأدب، مقاتلًا باسلًا، ممعنًا في ألوان الرياضة والصيد، عاشقًا توافرت فيه شروط الحب الصحيح؛ فذلك هو المثل الأعلى. وقد جاهد الأدباء في عصر النهضة أن يصوروا ذلك المثل. ورأى الناس أن هذه الصفات قد تجسدت في «السير فِلِبْ سدني» فخلدوه نموذجًا يحتذى.
إلى القمر
(١-٤) أدمند سبنسر Edmund Spenser (١٥٥٢–١٥٩٩م)
وهكذا كلما جاء شاعر في إنجلترا، وتلفَّت فوجد هذا المعين الدافق الفياض، لم يسعه إلا أن ينطق معترفًا بالجميل.
ولم تكن «حكاية الأم هبرد» أول ما أنتج، فقد كان أنشأ وهو في عامه السابع عشر — أيام أن كان طالبًا — خمس عشرة مقطوعةً شعرية قدمها إلى أديب جاء هاربًا من هولنده ومعه مجموعة من شعره كتبها بالهولندية، ونشر لها ترجمةً إنجليزية، فأراد شاعرنا سبنسر أن يضيف مقطوعاته إلى هذا الكتاب، ومعها قصائدُ أخرى ترجمها عن «بترارك» الشاعر الإيطالي، و«دي بلاي» الشاعر الفرنسي، وفي صدر شبابه أيضًا كتب سبنسر تسع ملاهٍ فُقدت كلها، فكانت خسارةً جسيمة على الأدب.
كتب سبنسر «تقويم الراعي» بلغة تعمَّد أن ينتقي ألفاظها من المهجور؛ ليعيد إلى الحياة ألفاظًا جميلة بادت، وكان سبنسر قد درس سلفه العظيم «شوسر» ودرس تراثه دراسةً دقيقة، فاستمد منه كثيرًا من ألفاظه، وجمع طائفةً أخرى من الألفاظ المهجورة إبان إقامته في ربوع الشمال، أو من دراسته لشعراء تلك الأصقاع الشمالية، بل ذهب به حُبُّه لحوشيِّ اللفظ وغريبه أن خلق بعضه خلقًا. وإذن فقد كانت اللغة التي قرض بها شعره على كثيرٍ من التكلف والصناعة — وهو في هذا شبيه بهومر — إذ نسج ديباجتها من لهجاتٍ كثيرةٍ مختلفة، واستعمل جملًا وعباراتٍ يرجع تاريخها إلى عصورٍ مختلفة، وسواءٌ أكانت هذه اللغة المصنوعة حسنة من حسناته أم لم تكن، فلم تصادف قبولًا عند معاصريه، ولكن ما لشاعرنا ولرأي معاصريه، فقد كان يقصد بشعره هذا أن يصور «أغاني الرعاة»، فلم يسعه إلا أن ينطق بألفاظ الرعاة، وأن يتحدث فيما يتحدثون فيه، وأن يطلق على رعاة قصيدته أسماء الرعاة في حياتهم الواقعة أو أسماءهم كما وردت في أدب الأقدمين والمعاصرين.
واختلاف الأوزان في قصيدة «تقويم الراعي» نقطةٌ هامة جدًّا، فكأننا بالشاعر قد اتخذ من هذه القصيدة حقلًا لتجاربه ليرى أين يقع نبوغه من أبحر الشعر. والقصيدة في بعض أجزائها تبعث الملل في نفس القارئ الحديث، لكنها على وجه الجملة آية من آيات الأدب الإنجليزي. ولا بد لنا إذ نزنها بميزان النقد أن نتغافل عن حالة اللغة الإنجليزية حينئذٍ، وأن نتذكر كيف استطاع الشاعر أن يذلل صعابها، حتى تسلس في يده، فلك أن تعد «تقويم الراعي» بمثابة الطليعة التي استكشفت الطريق وعبدتها لسائر الشعراء من بعدُ، ولو لم يكتب سبنسر غير قصيدته تلك لسلكانه في الصف الأول من الشعراء الإنجليز.
•••
… الغرض العام من هذا الكتاب بأجمعه هو أن أصوغ سيدًا، أو إنسانًا نبيلًا، في قالبٍ من الفضيلة والرقة … وقد اخترتُ لذلك تاريخ الملك أرثر … واقتفيتُ آثار الشعراء القدامى جميعًا؛ فأولًا هومر الذي ضرب مثالًا في شخص أجاممنون ويوليسيز، للحاكم الصالح والرجل الفاضل، أما الأول ففي الإلياذة، وأما الثاني ففي الأوذيسية، وثانيًا فيرجيل الذي كان يرمي إلى نفس الغاية في شخص إنياس، ثم جاء بعد ذلك أريوستو الذي ضَمَّ الجانبَين معًا في شخص «أورلاندو»، وأخيرًا جاء تاسو ففصلهما من جديد، وصاغ الجانبين في شخصَين، وأعني بذينك الجانبين ذلك الذي يسمونه في الفلسفة ﺑ «الأخلاق» أو فضائل الرجل من عامة الناس، وقد صوَّر ذلك الجانب في شخص «رنالدو». وأما الجانب الثاني فما يسمونه ﺑ «السياسة»، وقد صوره في شخص جودفرد، ونَسْجًا على منوال هؤلاء الشعراء الأفذاذ تراني أجاهد أن أصور في أرثر — قبل أن يصبح ملكًا — صورة الفارس الباسل، وقد تحلَّى بالفضائل الخلقية الاثني عشر كما رسمها لنا أرسطو، وذلك هو ما أقصد إليه من هذه الأجزاء الاثني عشر التي أبدأ بها كتابي، والتي إن صادفَتْ حسن القبول، فربما شجعني ذلك أن أمضي في صياغة الجزء الثاني الذي يصور الفضائل السياسية ممثلة في شخصه بعد أن تولى المُلْك …
وإنما قصدت ﺑ «ملكة الجن» أن أصور بها المجد، تمشيًا مع الغرض العام الذي أرمي إليه، على أن لي غرضًا خاصًّا بعد ذلك الغرض العام، وهو أن أصوِّر بها مليكتنا التي بلغت بشخصها أوج العلا والمجد، وأن أصور مملكتها في بلاد الجن، … وكذلك في شخص الأمير أرثر أصور سمو الروح بصفةٍ خاصة، وهي الفضيلة التي يتمثل فيها كمال سائر الفضائل جميعًا (كما ورد في أرسطو وغيره)، وهي تشملها كلها؛ ولهذا تراني في الكتاب كله أذكر أفعال أرثر كما تقتضي تلك الفضيلة التي أكتب عنها في هذا الكتاب.
وكل جزء من هذه الأجزاء الستة التي تم إنشاؤها مقسَّم إلى اثني عشر فصلًا، في كل فصل ما يزيد على خمسين مقطوعة من ذوات الأبيات التسعة، فانظر إلى هذا البناء الشامخ الجبار! إن الجزء الأول وحده، «أسطورة فارس الصليب الأحمر، أو القداسة» يشتمل على خمسة آلاف وخمسمائة بيت، فلو تمت القصيدة لبلغت أبياتها ستة وستين ألفًا!
ولعل أعظم ما أبدعه الشاعر في هذه الآية الخالدة هو البحر الذي أجرى فيه مقطوعاته، فقد وُفِّق في ابتكاره توفيقًا كبيرًا؛ لأنه جاء ملائمًا أتم الملاءمة لأنغامه الموسيقية التي امتاز بها ونبغ فيها، حتى ليقال إن الأدب الإنجليزي كله لا يعرف لسبنسر ضريبًا في اتساق الأوزان والألفاظ والأنغام. وجد سبنسر عند سلفه شوسر بحرًا استخدمه ذلك الشاعر في «حكاية الراهب»، وهو أن تنقسم القصيدة مقطوعات قوام الواحدة منها ثمانية أبيات، تجري قوافيها هكذا: أ ب – أ ب – ب ﺟ – ب ﺟ، فأضاف سبنسر سطرًا تاسعًا يتحد في القافية مع البيتين السادس والثامن، على أن يكون هذا البيت التاسع من الوزن الإسكندري — والبيت الإسكندري يشتمل على ست تفعيلات في كل تفعيلة جزآن لا يكون في أولهما ضغطٌ صوتي عند النطق، ويقع على ثانيهما ضغطٌ صوتي عند النطق — فكان له بذلك مقطوعة قوامها تسعة أبيات تاسعها طويلٌ بطيء يكون للقارئ بمثابة الخاتمة الموسيقية الهينة الهادئة، فيرى نفسه مضطرًا أن يقف عندها وقفةً قصيرة قبل أن يبدأ في تلاوة المقطوعة التالية.
لكن القصيدة — إلى جانب حسناتها — جاءت معيبة من بعض الوجوه، فهي أجزاءٌ مفككة لا يصل بينها رباطٌ متين كأنما هي خرزاتٌ متناثرة لا تنتظم في عقد، فلولا هذا الخطاب الذي قَدَّمَ به الشاعر كتابه إلى «سير وولتر رالي» — وقد أسفلنا بعضه — لما أدرك قارئ القصيدة إلا حكاياتٍ منظومة يتبع بعضها بعضًا، هذه تقص قصة عن فارسٍ متعبد، وهذه تقص عن فارس غلب عليه الاعتدال، وهكذا. أضف إلى هذا عجز الشاعر عن تمييز الشخصيات التي يصورها تمييزًا يجعل لكل منها فرديةً مستقلةً قائمة بذاتها، فكل من حاول تصويرهم من الفرسان والسيدات متشابهون في الملامح والقسمات، حتى الفرسان الذين أراد بهم أن يكونوا نماذج تمثل فضائلَ معينة، لم يستطع أن يُبْرز فيهم تلك الفضائل، بحيث تميزهم من سواهم، فقد لا يكون الفارس الذي جاء ليمثل فضيلة الاعتدال أكثر اعتدالًا من سواه. وكذلك المغامرات التي جعل الفرسان يخوضونها، متشابهة كلها، فلا بد للفارس أن يصادف أفعوانًا يصارعه ويصرعه، وعملاقًا يقاتله ويقتله، وغانيات اشتد بهن الكرب فيتقدم إليهن بالنجدة.
ويؤخذ على سبنسر إغراقه في الخيال وبعده عن الواقع، ثم قدرته على التدفق اللفظي العجيب — فهي قدرة وامتياز، ولكنها انقلبت نقيصة ومأخذًا في بعض المواضع — لأنك تراه إذا ما بدأ وصف شيء راح يطنب ويطيل ويهلل إلى حدٍّ لا يحتمله القارئ العادي؛ فلا يكاد مثل هذا القارئ يخطو في قصيدة من قصائد الكتاب، حتى يشعر كأنما هو في متاحة لا يعرف لنفسه مخرجًا منها، فالشاعر لا يفتأ ينعرج به في الحنايا والمسالك، حتى يضل عن معالم الطريق. ولهذا قلَّما يصبر على قراءة سبنسر إلا شاعر لا يضنيه أن يماشي زميله الشاعر في حناياه ومسالكه؛ لأن الشعراء يطيب لهم المقام حيث الجمال، ليس لديهم سوى هذه الغاية غاية يتعجلونها؛ من هنا كانت تسمية سبنسر بشاعر الشعراء، ومن هنا أيضًا قيل عن «ملكة الجن» إنها ليست قصيدة بالمعنى المألوف، وإنما هي جبلٌ شامخ من الشعر ليس له إطارٌ محدود المعالم.
ولكي نقدم للقارئ صورة من هذه الآية الأدبية سنكتفي بعرضٍ موجز للجزء الأول الذي أراد به أن يصور القداسة ممثلةً في «فارس الصليب» الأحمر، ولا تكمل الصورة للقارئ إلا إن قدمنا بين يديه شذرةً مما اعتزم الشاعر أن يورده في الكتاب الثاني عشر، إذ مما هو جديرٌ بالذكر عن «ملكة الجن» أن مقدمته أرجئت لتوضع في آخره، فلما وجد الشاعر أن القراء تعذر عليهم الفهم، اضطر أن يقدم كتابه بخطابٍ وجَّهه إلى «سير وولتر رالي» — وقد أسلفنا ذكره — يشرح فيه غايته.
فقد كان المفروض في الكتاب الثاني عشر أن تقيم «ملكة الجن» حفلًا اعتادت أن تقيمه كل عام، يدوم اثني عشر يومًا، تقابل فيها الفرسان الاثني عشر، تخليدًا لمغامراتهم الاثنتي عشرة، التي بسطها الشاعر في أجزاء كتابه الاثني عشر، فإذا بدأ الاحتفال يتقدم شابٌ ممشوق إلى الملكة، ويجثو بين يديها ملتمسًا أن تخلع عليه من نعمها، وما أراد من نعمة سوى أن توكل إليه مغامرةً جديدة.
ولم يكد يفرغ الفارس الشاب من حديثه، حتى أقبلت فتاة رائعة الجمال اسمها «يونا» ترتدي ثوب الحداد، وتمتطي حمارًا أبيض، وخلفها قزم يقود جوادًا حربيًّا أُعِدَّ بشكة الفرسان، وقدمت الفتاة شكاتها بأن أفعوانًا ضخمًا قد أمسك بأبيها وأمها، فألقاهما في سجنه، وتضرَّعت إلى ملكة الجن أن تبعث بفارس من فرسانها ليفتك بالأفعوان ويطلق سراح أبويها، وهنا وثب الفارس الشاب ملتمسًا أن يُعهَد إليه بهذه المغامرة الجديدة. ولم يعجب الفتاة أن يكون فارسها ذلك الشاب الناشئ، لكنها عجزت عن ردِّه، واشترطت لقبوله أن تلائمهُ الشِّكة التي جاءت بها، فتناولها الشاب ولبسها، فإذا هي عليه أتمُّ ما تكون اتساقًا، فراق الشاب عندئذٍ للفتاة واستصحبته. وهنا يبدأ الجزء الأول فيقصُّ أنباء المغامرة، وإنما سُمِّي الفارس بفارس الصليب الأحمر؛ لأن علامة الصليب كانت منقوشة على الدرع:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
واستطاع الفارس بعد لأي أن يتخلص من هذا المسخ القبيح، وخرج تصاحبه «يونا» من جوف الغابة إلى حيث السهل الطليق، لكن ساحرًا خبيثًا — يدعى «أَرْ كماجو» — تنكر لهما في هيئة الراهب وباعد بينهما، فأخذت «يونا» من جديد تضرب وحدها في الغابة:
•••
•••
ولكن شاء حظها المنكود أن يفتك بالأسد فارسٌ همجيٌّ أرعن نقش على درعه حكمة «خارج على القانون»، واختطفها على ظهر جواده وفرَّ بها هاربًا، وكان «فارس الصليب الأحمر» قد التقى حينئذٍ بامرأةٍ خادعةٍ زائفة تسمى «دُوِسَّا» سارت به إلى بيت يدعى «دار الكبرياء» حيث زُجَّ فيه سجينًا.
أما «يونا» فقد أنقذها من براثن الفارس الخارج على القانون جماعة من آلهة الغاب. ولما نمى إليها سجن فارسها، أسرعت في سبيله، وصحبها الملك أرثر ليعاونها، وكان أن أُخرج الفارسُ من سجنه، وأخيرًا أوت «يونا» وحاميها الفارس إلى مكانٍ يطلق عليه «دار القداسة»، حيث علم فارس الصليب الأحمر أنه أميرٌ إنجليزي اختطفه الجنُّ من مهده رضيعًا، وأنبأه راهب أن اسمه الحقيقي هو «جورج»، ثم تنبأ له أنه سوف يكون بين عباد الله الصالحين قديسًا، وأن إنجلترا ستتخذ منه شعار النصر.
واستأنفت «يونا» سيرها من «دار القداسة» يصحبها الفارس، فقصدا معًا إلى برجٍ نحاسيٍّ يسكن فيه الأفعوان، ووقعت بين الفارس والأفعوان معركةٌ مخيفةٌ عنيفة ارتجَّتْ لها الأرض ارتجاجًا، وانتهت بموت الأفعوان، فأُطلق والد «يونا» من سجنهما، وكان ختام القصة زواجًا سعيدًا بين الفارس والفتاة.
•••
ذلك موجز للجزء الأول من «ملكة الجن» يبين كيف كان الشاعر يحلم في خياله، وكيف كان يسوق القصة في مقطوعاته الشعرية. على أن «ملكة الجن» لم تكن وحدها مجال نبوغه، فله قصيدتان أشرنا إليهما فيما سلف، هما «بروثالاميون» و«إبثالاميون» وهما من أناشيد العرس قيلتا في مناسبات زواج كما سبق القول، ولئن كان الشاعر في القصيدة الأولى قد سطا على إنتاج غيره سَطْوًا جريئًا، فقد مسَّ المادة المستعارة بسحر عبقريته، كما هي الحال دائمًا حينما يسطو أديبٌ نابغ على أديب. ومهما يكن من أمر، فالقصيدة الثانية تفضل الأولى، ومحال أن نقتبس شيئًا ونترك شيئًا بغير إجحافٍ بالشاعر؛ لأنك لن تجد بيتًا أجمل من بيت، وقوة القصيدة في مجموعها، وروعتها في اتصال أنغامها من بدايتها إلى ختامها، وهاك مطلع إبثالاميون (نشيد عرس):
•••
ومن «بروثالاميون» (نشيد تمهيدي لعرس) نقتبس ما يلي:
•••
أما «الترانيم الأربع» فكان الشاعر قد أنشد منهما اثنتين أول الأمر، وكانت الأولى منهما تمجيدًا «للحب»، والثانية تمجيدًا «للجمال»، لكنه عاد فاعتذر عنهما؛ لأنه كتبهما — كما يقول في مقدمة «الترانيم الأربع» عند نشرها سنة ١٥٩٦م بعد تمامها — «في أيام الشباب الغضة»، ثم شعر فيما بعدُ كأنما صوت الوحي يدفعه دفعًا أن يكتب ترنيمتَين أُخْرَيَينِ عن الحب الإلهي والجمال السماوي ليصلح بهما أولئك الذين ضللتهما الترنيمتان الأوليان اللتان امتدح بهما حب الإنسان وجمال الطبيعة، ولسنا ندري فيمَ هذا الاعتذار كله؟ إنه في «ترنيمة الحب» يصرح أن الحب هو الدعامة التي تمسك اتساق الكون فلا يتهافت أو ينهار، فالحب:
والإنسان الذي لا يزال يحتفظ في دخيلته بقبسٍ سماوي من أصله الإلهي، يستطيع مستعينًا بالحب أن يسمو عن القدرة المفطورة في تراب الأرض الكثيف، حتى يصعد إلى ذروة السماء. وكذلك في «ترنيمة الجمال» ترى الشاعر يعلن أن الجمال ليس في ظواهر الأشياء كما تبدو للعين، إنما هو سلطانٌ خالد، هو سراج «لن يخمد ولن يخبو … لأنه وليد الآلهة ويستحيل عليه الفناء.» وذلك لأنه «نموذج مثالي» وضعه الخالق العظيم نُصْب عينيه حين شرع يصوغ الكائنات، فلما صَفَتْ روح الإنسان لطفت مادة جسده؛ لأن «النفس صورة وهي التي تصوغ البدن.»
ومهما يكن من أمر، فلم يقتصر الشاعر في ترنيمتَيه الأخريين «في الحب الإلهي» و«في الجمال الإلهي» على النزعة الأفلاطونية، إنما أضاف إليها شيئًا من الفلسفة المسيحية، فأصبحت عاطفة الحب روحيةً خالصة، يتمثلها في التضحية بالمسيح، وأصبح جمال العالم صورة لله، وصفحة نطالع فيها ما لله من خيرٍ وجمال؛ لأن كل ما هو خيِّر جميل.
(١-٥) ميخائيل درايتن Michael Drayton (١٥٦٣–١٦٣١م)
كانت مجموعة المقطوعات الشعرية «آسْتروفِلْ وسْتِلَّا» التي لم تنشر إلا سنة ١٥٩١م، أي بعد موت صاحبها «سدني» بخمس سنوات، هي كل ما شهده الناس، حتى ذلك الحين من هذا الضرب من ضروب الشعر، منذ أدخله «وَيَتْ» و«سَرِي» في الأدب الإنجليزي، لكن لم تكد هذه المجموعة تجد سبيلها إلى النشر، حتى أعقبها سيلٌ دافق من المقطوعات، فبلغ ما كتبه الشعراء منها بين عامي ١٥٩١ و١٩٥٧م ما يزيد على ألفين، كان بينها المجموعة التي أخرجها «إدمند سبنسر»، والتي أشرنا إليها عند الحديث عن هذا الشاعر، بل كان شيكسبير نفسه ينشد مقطوعاته في تلك السنين، وكذلك كان بينها مجموعة أخرجها «درايتن» الذي نتحدث الآن عنه.
مثال من مقطوعاته الشعرية:
وهذا مثال من «رسائل تاريخية»، وهي رسالة بعث بها الملك هنري إلى روزامند ردًّا على خطابها:
•••
(١-٦) جورج تشابمان George Chapman (١٥٥٩–١٦٣٤م)
(٢) النثر في عصر اليصابات
(٢-١) القصة
ظهر في عصر اليصابات نوعان من القصة: نوع يريد به كاتبه تسلية العظماء من رجال القصر، فيجعل أبطاله وأشخاصه من الأشراف والسادة، ونوعٌ يدور حول الطبقتين الوسطى والدنيا من طبقات المجتمع، يخوض فيه الكاتب في صميم الحياة الواقعة، ويقصد به إلى قرَّاء الطبقة الوسطى.
أما النوع الأول فمن أبرز أعلامه «لِلِي» و«سيرفلب سدني» و«جرين» و«لُدْج»، وأما النوع الثاني فأهم من كتب فيه «تومس دِلُوني».
(أ) جون للي Gohn Lyly (١٥٥٤–١٦٠٦م)
لسنا ندري عن حياته إلا قليلًا؛ فقد تخرج في عامه التاسع عشر في جامعة أكسفورد، وأنفق معظم سنيه متصلًا بالقصر، ومن أجل القصر أخرج ما أخرج من رواياتٍ مسرحيةٍ سنعرض لها حين نعرض لرجال المسرحية في ذلك العصر.
على أن ما يستوقف النظر في هذا الكتاب هو أسلوبه الذي كانت له خصائصُ واضحة جعلت النسبة إلى «يوفيوز» صفةً تشير إلى لونٍ معينٍ من الكتابة، فالأسلوب اليوفيوزي هو الذي يكثر فيه التقابل بين أجزاء الجملة، فترى الصدر نقيضًا للعَجُز أو مقابلًا له على نحوٍ ما، بحيث يتم للجملة توازن في السمع وهو ما يسمى بالمزاوجة، وكذلك ترى الأسلوب اليوفيوزي مسرفًا في الشواهد يسوقها من الأساطير ومن تراجم العظماء، بل يستمدها من الحقائق العلمية عن ظواهر الطبيعة، وتراه أيضًا يكرر الكلمة الواحدة تكرارًا يريد به المقابلة بين أجزاء الجملة، ويحاول جهده أن يدل جرس اللفظ على المعنى. وبعبارةٍ أخرى أراد «لِلِي» — منشئ هذا الأسلوب — أن يكتب نثرًا فيه كل ما يستوقف السمع من خصائص النظم، لكننا لا نستطيع — رغم ذلك — أن نَعُدَّ كتابته قصيدة من الشعر المنثور؛ لأنه إن وفِّق في محاكاة النظم في أيسر جوانبه، فقد فاته لبُّ الشعر وصميمه، وهو ذلك الروح الحساس المرهف الذي يجعل الشعر شعرًا، فهو يعلم أنه يكتب قصة فيها الخيال وفيها الغرام، ويعلم أن مثل هذه القصة لا بد لها — فيما جرى به العرف حتى ذلك الحين — أن تتخذ النظم أداة للتعبير، فلا مناص له إذن عن اصطناع أدوات النظم، لكنه في الوقت نفسه يريد أن يكون في كتابه واعظًا يبشر بالأخلاق الفاضلة، وليس الوعظ مجال الشعر. وهكذا تجاذب الكاتب محوران، فسقط صريعًا بين المحورَين، فلا هو الشاعر الحق في روحه، ولا هو الناثر الحق في أسلوبه، لكن عصر اليصابات لم يكن يفرق بين قصة تطير بجناح الخيال وبين موعظةٍ خلقية، فلم يَرَ في أسلوب «لِلِي» شيئًا مما نأخذه عليه اليوم، بل ذاع اسمه في الطبقة العليا ذيوعًا بعيد المدى، فكان «البِدْعُ» بين سيدات الطبقة الرفيعة أن يجري الحديث بالأسلوب اليوفيوزي المنمق المزخرف، وجرى في إثرهن من كان يبغي رضاءهن من العاشقين.
أراك قد ثَقُلَ على نفسك أن تُتَّهم في غير إثم، وأن تُنْفى بغير علة، لكني أعدُّك سعيدًا لخلاصك من حاشية القصر، ولطهارة ذيلك من الجُرم. إنك تزعم أن النفي مرير لمن ولد حرًّا، لكني أظنه أجدى عليك إذا برئت من مواضع اللوم، هنالك أطعمةٌ كثيرة مذاقها مر في فم الإنسان ووقعها أليم في معدته، لكنك إن مزجتها بألوان المرق السائغ جعلت مذاقها شهيًّا وغذاءها صحيًّا في آنٍ معًا. وهنالك ألوانٌ كثيرة هي للعين أذًى، فإن خلطت بها اللون الأخضر أصبحت للبصر شاحذة. وإنما قصدتُ بهذا القول أن نَفيَكَ وإن بدا لك محزنًا، ففي وسعك أن تهتدي بهدْي الفلسفة فتهوِّن من كربه. إن من يُحِس البرد لا يُدثِّر نفسه بالهم، بل بالثياب يلبسها، وإن من تبلله الأمطار لا يجفف نفسه بخياله، بل بالنار يصطليها. وأنت يا من أصابك نَفْيٌ لا ينبغي أن ترثي لحالك بالدموع، بل عليك بالحكمة فهي بلسم جرحك.
(ب) سير فلب سدني
وأما الأسلوب فشبيه بالأسلوب اليوفيوزي الذي حدثناك عنه عند الكلام على «جون للي». ووجه الشبه بينهما هو الزخرفة والتزويق، إلا أن سدني كان أقل من زميله «للي» في اصطناع فنون البيان والبديع، فكان في بعض المواضع أطلق روحًا وأقرب إلى النثر الشعري الصحيح.
وللكاتب أثرٌ نثريٌّ آخر هو «دفاع عن الشعر» سنحدثك عنه بعد قليل حين نستعرض أدب النقد في عصر اليصابات.
(ﺟ) روبرت جرين Robert Greene (١٥٦٠ تقريبًا – ١٥٩٢م)
هو أيضًا من كتَّاب القصة للطبقة الراقية، كما كان «جون للي» و«فلب سدني»، وهو في قصصه يتأثر خَطْوَ «يوفيوز» في أسلوبه، وينسج على منوال «أركاديا» في سياق القصة.
عاش «جرين» — كما عاش كثير من أدباء العصر — حياةً مستهترة، وانتهى به الأمر إلى فقرٍ وإفلاس، فمات في بيتٍ حقير لحذَّاءٍ فقير، ويقال إن زوجة الحذَّاء توجت رأس الأديب عند موته بإكليلٍ من الغار.
وا أسفاه أيها الرضيع الوديع البائس! إنك لم تكد تشهد النور، حتى حَسَدَك الدهر، فيا ليت يوم ميلادك كان ختامًا لحياتك؛ إذن لختمت بذلك هموم أبيك، وحُلت دون مرارة نفسه. ومهما يكن لك من وزر فلست تستحق كل هذه النقمة المضطرمة؛ فقد كانت أيامك أقصر من أن تستوجب هذه الضربة الحامية. لكن موتك هذا الذي جاء وشيكًا لا بد أن يشفع لأمك آثامها … أفأُسلِمَك للدهر أيها الرضيع الوديع، والدهر قد صبَّ عليك نقمته؟ أتكون أمواه البحر مثواك، والقاربُ الصُّلْبُ مهدك أتعصف بثغرك الرفيق هوج العواصف بدل أن تلثمه القُبَلُ الحنون؟ أتكون الرياح الصافرات أنشودة مهدك، ترقد على أنغامها، ويكون رغاء البحر الأجاج في مكانٍ اللُّبان المستساغ؟
وا أسفاه، أي المقادير قد أرادت لك هذه النازلة الفادحة؟ دعني ألثم شفتَيك أيها الرضيع الوديع وأُبلِّل بدمعي وجنتَيك الرقيقتَين، دعني أطوق جيدك بهذه السلسلة، حتى إذا ما أنجاك «الدهر» ساعدتْك على النجاة. لئن كان محتومًا عليك أن تغوص في اليمِّ المخيف، فها أنا ذا أودعك بقبلةٍ حزينة، وأضرع إلى الآلهة أن تحالفك في رحلتك.
لكن «روبرت جرين» كان أعظم في المسرحية منه في كتابة النثر، فلنا إليه عودة حين نعرض كتَّاب المسرحية في عصر اليصابات.
(د) تومس دلوني Thomas Deloney (١٥٤٣ تقريبًا – ١٦٠٠م)
(٢-٢) الترجمة
(٢-٣) النقد الأدبي
… نعم إن الكثرة العظمى من الشعراء قد ألبسوا إنتاجهم الشعري ثوبًا من الإنشاء الموزون الذي نطلق عليه اسم النظم، لكن ليس النظم الموزون إلا زخرفًا لا يبرر أن يجعل من الكتابة شعرًا. وحسبك أن تعلم أن كثيرين من أنبغ الشعراء لم ينظموا، وإننا نشهد اليوم حشدًا من الناظمين يستحيل أن نسلكهم في زمرة الشعراء … إن القافية والوزن لا يجعلان من الرجل شاعرًا، كما لا تجعل العباءة الطويلة الواسعة من لابسها محاميًا، وليس المحامي الذي يرافع في شكةٍ حربية جنديًّا محاربًا، إنما العلامة التي تميز الشاعر هي تلك الصور الخيالية الرائعة، التي يرسمها الشاعر للفضائل والرذائل وما إليها، فيكوِّن منها درسًا تتلقاه النفس في ارتياح. نعم إن قادة الشعراء قد رأوا في النظم أجمل ثوب يلبسونه إنشاءهم؛ وذلك لأنهم يريدون أن يمتازوا عن سواهم في طريقة الأداء كما يمتازون في المعاني سواء بسواء، فهم لا يرسلون الحديث كما يرسله المحدِّثون، ولا يلقون الألفاظ من أفواههم كما اتفق كأنما هم يحلمون، بل تراهم يقدُّون كل مقطع في كل لفظة بنسبٍ مضبوطةٍ تتناسب مع جلال الموضوع.
… إنها أخطأت في المكان والزمان معًا، وهما لازمان ضروريان لكل ما يؤديه الناس من أعمال، فالواجب أن يمثل المسرح مكانًا واحدًا، وأن يكون الحد الأقصى للزمن المفروض للرواية يومًا واحدًا، تبعًا للمبدأ الذي وضعه أرسطو ولما تُمليه الفطرة السليمة، لكنك ترى في هذه الرواية أيامًا عدة وأماكنَ عدة لا تتفق في تصورها مع قواعد الفن.
ولئن كان ذلك كذلك في رواية جور بودك، فلقد أسرفت سائر المسرحيات في ذلك إسرافًا شديدًا، فقد تشهد آسيا على جانبٍ من المسرح، وأفريقيا على جانبٍ آخر، وقد يكون هنالك أيضًا من الأقطار عددٌ كثير، بحيث لا يجد الممثل عند دخوله على المسرح مناصًا من افتتاح حديثه بإيضاح يدل على مكانه، وإلا تعذر فهم الرواية! فقد ترى حينًا ثلاث نساء سائرات يجمعن الزهور، وإذن فلا بد لك أن تتخيل حديقة على المسرح، ولكنك لن تلبث قليلًا حتى تجيئك الأنباء بأن سفينةً تحطمت في هذا المكان بعينه، وإذن فلنا الويل إذا لم نصوِّر لأنفسنا ذاك المكان صخرة، ثم ما هو إلا أن يتبدَّى لك وحشٌ مخيف يبعث الدخان واللهب، وإذن فعلى النظارة المنكودة أن تتخيل هنالك كهفًا، وما هي إلا لحظة حتى يندفع في المسرح جيشان تمثلهما أربعة سيوف؛ وإذن فأين هذا القلب الغليظ الذي لا يتصور المسرح حومة للقتال العنيف؟
وهم في وحدة الزمان أكثر تحلُّلًا من قيودهم، فليس بمستغربٍ عندهم أن تلتقي أميرةٌ شابة وأمير فيقعا في شراك الحب، وما هي إلا مرات تغدو فيها الأميرة على المسرح وتروح حتى تلد طفلًا، وإذا بالطفل يافعٌ جميل، ثم يضل اليافع ويشب رجلًا ويقع هو كذلك في شراك الحب، ويتأهب لإنسال طفلٍ جديد، وكل هذا في زمنٍ طوله ساعتان …
هكذا كتب «سدني» رسالة «دفاع عن الشعر»، وتستطيع أن تلمح خلال النماذج المترجمة استقامة تعبيره ووضوح معانيه، فهو في هذه الرسالة لا يثقل نفسه بالتكلف الذي التزمه في قصته «أركاديا» فأفسد عليه كتابته بعض الشيء.
(٣) المسرحية قبيل شيكسبير
(٣-١) جون للي (١٥٥٤–١٦٠٦م)
وكان «للي» يكثر في رواياته تلك من القصائد الغنائية وأروعها القصيدة الآتية التي وردت في «إسكندر وكامباسبي»:
وجدير بنا أن نذكر فضلًا ﻟ «للي» على شيكسبير؛ فقد ترسم شيخُ المسرحية خَطْوَه في روايتَين من رواياته، هما «جهد الحب ضائع» و«حلم ليلة في منتصف الصيف». ولعل أبقى أثر ﻟ «للي» في تاريخ المسرحية استخدامه النثر في تأليفها، وقد برع في إدارة الحوار براعة كانت لشيكسبير بمثابة النموذج فاحتذاه، وكان مما أخذه عنه شيكسبير كذلك إدخالُ القصائد الغنائية في مواضعَ مختلفة من الرواية التمثيلية، وتنكُّرُ البطلة الأنثى في هيئة الغلام، واستغلالُ هذه الحيلة المسرحية في وقتٍ كان يمثل الغلمانُ فيه أدوار النساء، ولو أن حيلة التنكُّر هذه كانت شائعة لم تقتصر على «للي» دون سواه.
(٣-٢) جورج بيل George Peele (١٥٥٨ تقريبًا – ١٥٩٧م)
وترى الشاعر في رواية «محاكمة بارس» يستخدم أوزانًا منوَّعة؛ فهو يستخدم حينًا طوال الأبيات المقفَّاة، وحينًا آخر القافية المزدوجة، وحينًا ثالثًا يكتب شعرًا مرسلًا وهكذا. وهو يجعل الأشخاص الذين يمثلون «القَدَر» — جريًا على طريقة القدامى — يتكلمون اللاتينية، ثم هو يجري أغنية باللغة الإيطالية على لسان «هِلِنْ»، ولعله التزم كل هذا ليدل على دراسته الجامعية العلمية التي كانت مصدر زهو لتلك الطائفة جميعًا.
وأما «تاريخ إدورد الأول» فجديرة بالذكر؛ لأنها تحدد مرحلة التطور التي بلغتها طريقة الكتابة التاريخية، فهي حلقة وسطى بين أنباء التاريخ كما كانت تكتب قديمًا وبين التاريخ كما أجراه شيكسبير في رواياته التاريخية الخالدة.
و«حكاية الزوجات العجائز» ملهاةٌ ممتعة قصد بها الكاتب فيما قصد إليه أن يسخر من الناقد المعاصر له «جبريل هارفي»، ولهذه الرواية فوق ذلك أهمية في تاريخ الأدب؛ لأنها أوحت بقطعةٍ أدبيةٍ عظيمة جادت بها قريحة مِلْتُنْ فيما بعدُ، وأعني بها «كومَسْ» التي سنحدثك عنها في فصلٍ تالٍ سنعقده لهذا الشاعر العظيم. ومما يزيد في أهمية هذه الرواية من الوجهة التاريخية أيضًا أنها كانت أول مسرحية تقصد إلى السخرية.
على أن أروع ما خلَّفه لنا «بيل» رواية «داود وباتشيبع» التي كتبها في شعرٍ مرسلٍ سلسٍ جميل.
وهاك بضعة أسطر منها تجري على لسان «داود» لتلم بقبسٍ من طريقته في التعبير والخيال:
(٣-٣) روبرت جرين Robert Green (١٥٦٠ تقريبًا – ١٥٩٢م)
(٣-٤) كرستفر مارلو Christopher Marlowe (١٥٦٤–١٥٩٣م)
هو أعظم «فُطَناء الجامعة» إطلاقًا، وأفحل من شهدهم الأدب الإنجليزي قبل شيكسبير من كتَّاب المسرحية، ولد في نفس العام الذي ولد فيه شيكسبير من أبٍ حذَّاء، وتلقى تعليمه بالمجان في المدرسة الثانوية في بلده «كانتر بري»، ومنها قصد إلى كيمبردج، حيث تخرج عام ١٥٨٣م. وهنالك في تلك الجامعة توشجت أواصر الود بينه وبين «جرين» و«ناش» من كتَّاب المسرحية. وقد عاش «مارلو» مستهترًا ماجنًا حتى ختم حياته قبل أن يبلغ الثلاثين بطعنةٍ من خادمٍ في حانة.
كتب «مارلو» سبع رواياتٍ مسرحيةٍ أهمها «السيرة المفجعة للدكتور فاوست» و«يهودي مالطة» و«تيمور لنك» و«إدورد الثاني» التي تعد أولى المسرحيات التاريخية العظيمة التي ظهرت في عهد اليصابات.
لم تكن رواية «تيمور لنك» رائعة في فنها وشعرها فحسب، بل جاءت فاتحةً قوية للمسرحية تُكتب بالشعر المرسل ليستمتع بها الشعب على اختلاف طوائفه، فلئن سبقتها «جور بودك» في الشعر المرسل، فلم تكن هذه شعبية إنما قُصِدَ بها إلى الخاصة المستنيرة. وتقع «تيمور لنك» في جزأين قوام كلٍّ منهما خمسة فصول، وهي تتميز بفخامة أسلوبها وبما فيها من مواقف تستثير العاطفة، ويؤخذ على الشاعر فيها إغراقه في اختيار اللفظ الرنان وإطنابه فيما كان يكفي فيه الإيجاز. وهاك أسطرًا منها:
أما رواية «الدكتور فاوست» فهي قصة الساحر والشيطان التي تناول «جيته» فيما بعدُ وجلَّاها في آيته الخالدة، وهي بغير شك أعظم مسرحية شهدها الأدب الإنجليزي قبل شيكسبير، وقد ظهر فيها «مارلو» شاعرًا مجيدًا كما ظهر مسرحيًّا من الطراز الأول. اقرأ له هذه الأسطر الممتازة التي قالها «فاوست» مخاطبًا بها شبحًا لِهِلنْ — بطلة طروادة — أتى له به الساحر:
ويختتم الشاعر رواية «الدكتور فاوست» بخاتمة هي من أروع ما نصادفه في الأدب المسرحي على إطلاقه، يقولها البطل «فاوست»، وهو ينتظر قضاءه المحتوم، وها نحن ننقلها إليك:
•••
(الساعة تدق نصف الساعة.)
(تدق الساعة الثانية عشرة.)
(رعد وبرق.)
(تدخل الشياطين.)
(يخرج فاوست في صحبة الشياطين.)
وله غير ذلك — كما أسلفنا — «يهودي مالطة»، التي ربما أوحت بشيءٍ لشيكسبير في روايته «تاجر البندقية»، ثم «مذبحة باريس» التي عبر فيها عن روح المقت للعقيدة الكاثوليكية، وهي روح سادت عصره، وله فوق ذلك «إدورد الثاني» التي هي بحق أول روايةٍ تاريخيةٍ عظيمة في تاريخ الأدب الإنجليزي، وبدأ روايةً أخرى عنوانها «ديدو ملكة قرطاجنة»، لكنه لم يتمها وأكملها «ناش».
«مهما قيل في مكانة «كرستفر مارلو» وقيمته كزعيم في زمرة الشعراء الإنجليز، فلن يتجاوز حدود الإنصاف، إذ لَسْتَ تجد بين هؤلاء الشعراء شاعرًا سواه كان له مثل ما لمارلو من أثرٍ عميقٍ مباشر، كان مارلو — وحده دون سواه — أول من هدى شيكسبير في العمل الأدبي سواء السبيل، وليس في موسيقاه نغمةٌ واحدة جاءت مرددة لشاعرٍ سابق، بيد أن أصداءه أخذت تتردد في أنغام «مِلْتُن» الإنجليزي، التي كانت أطول نَفسًا، لكنها ليست بحالٍ أعلى قدرًا، ومارلو أعظم مستكشف في الشعر كله، فهو في هذا المجال رائد لا يُشَقُّ له غبار في الجرأة وصدق الوحي، فما سبقه في اللغة الإنجليزية شعرٌ مرسل بمعناه الصحيح، ولا سبقته مأساة بالمعنى الدقيق، ثم تَمهَّد الطريق من بعده واستقامت المسالك أمام شيكسبير.»
فبماذا يمتاز مارلو؟
يمتاز بمذهبه في المأساة، فهو فيها يعتنق مذهب اليونان القدماء، وقد دخلته روح النهضة، ففي مأساته بطلٌ عظيمٌ عملاق يعلو برأسه فوق سائر الشخوص، ويزدري سلطان الآلهة، ثم يسقط سقطةً قاضية لا حياة له بعدها، لكنه إلى جانب ذلك لا يجعل أبطاله أنصاف آلهة أو رجالًا أريد بهم أن يتبوءوا مكانةً عالية، فهذا هو «تيمورلنك» يصعد من أصلٍ وضيع، ثم هذا «باراباس» اليهودي و«فاوست» لم يبلغا في الحياة شأوًا بعيدًا.
وتستطيع أن تلمس أثر النهضة واضحًا بارزًا في هذا التعديل الذي أدخله «مارلو» على المأساة القديمة؛ إذ كان من آثار النهضة أن ضاعفت شعور الإنسان بفرديته، فلم يَعُدْ يجوز للمسرحي بعدئذٍ أن يجعل أساس مأساته سقطة العظيم؛ لأنه عظيم سقط، بل ها أنت ترى «مارلو» يقيم مأساته على شخصيةٍ ضخمةٍ تتجسد فيها عاطفةٌ مضطرمة تطمح إلى المجد، وقد يكون هذا المجد سلطانًا كما في «تيمور لنك»، وقد يكون ثراءً عريضًا كما في «يهودي مالطة»، وقد يكون علمًا ومعرفة كما في «الدكتور فاوست»، ثم يجعل هذه الشخصية الطامحة مندفعة بعاطفتها القوية، حتى تلاقي حتفها في سبيل تحقيقها. فليس سر المأساة إذن عند مارلو هو مجرد السقوط، بل سرها في الصراع العنيف بين دوافع الطموح وبين عقبات الحياة وعوائقها، ثم هو يضيف في «فاوست» صراعًا آخر يحتدم أواره في دخيلة نفس البطل.
الغاية من المسرحية عند مارلو أن يصور بها بطلًا عملاقًا يصارع الظروف التي تعترض سبيله إلى ما يريد لنفسه من عظمة؛ ولذا ترى سائر الشخصيات في الرواية أعراضًا عابرة تتجمع حول الشخصية الرئيسية التي هي قطب الرحى، وليس لها قيمة في مجرى الحوادث إلا بمقدار ما تتصل بحياة ذلك القطب العظيم. وللنساء عنده جانبٌ ثانوي؛ ولذلك لا يقيم الرواية على الحب. لكنه حين كتب روايته «إدورد الثاني» غيَّر من طريقته لتلائم موضوعًا تاريخيًّا، فقد جعل بطله محورًا رئيسيًّا لحوادث الرواية، غير أنه اضطر أن يصوِّر أعداء الملك على شيء من القوة ليستطيع أن يمهد لسقوطه، ولكيلا يعدو الحقيقة التاريخية التي تشير إلى ما كان عليه إدورد من ضعف وتهافت. ومما هو جديرُ بالذكر أن شيكسبير جرى على منواله في الطريقَتين جميعًا، ففي رواية «رتشرد الثالث» طغتْ شخصية رتشرد على كل مَنْ عداها، بحيث لم تكن هذه سوى أشياءَ تافهة، وفي رواية «رتشرد الثاني» نفخ في شخصياتٍ أخرى شيئًا من القوة تنافس به الشخصية المحورية.
من ذلك ترى أن المأساة عند مارلو نوعان: نوع نسج فيه على منوال المسرحية اليونانية مع تعديل اقتضته النهضة، وآخر كان فيه بعيد الشبه عن آثار اليونان. فأما في النوع الأول فقد جعل في الرواية محورًا واحدًا جبارًا تدور حوله الحوادث كلها، وأما في النوع الثاني فقد عني بعض العناية بشخصيات الرواية الأخرى؛ لأن حبكة الرواية تقتضيها. وقد يجمل بنا في هذا الصدد أن نقول إن شيكسبير قاس على مارلو حينًا، وتقدم عليه حينًا، وخرج عليه حينًا ثالثًا. فأما خروجه عليه ففي إيثاره أن تكون أبطاله دائمًا من ذوي المكانة العالية، وأما تقدمه عليه ففي أنه في الكثرة الغالبة من رواياته عُني بتصوير طائفةٍ من الشخصيات إلى جانب الشخصية الرئيسية، وذهب في ذلك إلى حدٍّ جاوز ما ذهب إليه مارلو في «إدورد الثاني». وأما قياسه عليه ففي أنه جرى على غرار «فاوست» في أنه جعل أمسَّ المأساة ما يضطرم في دخيلة نفس البطل من صراع.
كانت روح المأساة عند مارلو يونانية إلى حدٍّ كبيرٍ في موضوعها، أما في صورتها فقد اتخذت وضعًا مبتدعًا جديدًا، فشقَّت بذلك الطريق أمام المسرحية بعده. فالمأساة اليونانية تتوخى «الوحدات الثلاث»، إذ هي تركز زمن المأساة فلا يجاوز يومًا واحدً، ثم هي لا تكاد تغير مكان الحوادث، وهي فوق ذلك تربط الحوادث كلها في سلكٍ واحد. أما عند مارلو فيجوز أن تقع حوادث الرواية في أعوامٍ كثيرة، ويجوز أن يتغير موضع الحوادث من بلدٍ إلى بلد، ثم يجوز ألا ترتبط حوادث الرواية إلا بكونها متصلةً بشخصية البطل الواحد، وسواء بعد ذلك أكان في الرواية حبكةٌ واحدة أم حبكتان. وكذلك كان مما أدخله مارلو فانحرف به عن المسرحية اليونانية أنه أجاز القتل والقسوة والعنف على مشهدٍ من النظارة؛ وذلك لأن أهل عصره قد مالت بهم العاطفة القوية الجارفة إلى استساغة مثل هذه المناظر، أما النظارة في عصر اليونان فلم يجيزوا قط أن يروا على المسرح فتكًا ولا تعذيبًا.
ولا بد لنا قبل ختام الحديث عن مارلو أن نذكر كلمةً قصيرة عن تجديدٍ عظيمٍ في الشعر الإنجليزي كان له فيه أكبر الفضل، وذلك أنه استخدم الشعر المرسل، فمهد بذلك الطريق سوية أما شيكسبير. ولقد قلنا إن «ساكفيل» سبقه إلى الشعر المرسل في رواية «بُورْبُودَكْ»، لكن لم تكن تلك البدايةُ إلا باكورةً ضئيلة لهذا الشعر المرسل القوي الذي كتب به «مارلو» حتى سمِّي البيت من شعر مارلو «بالبيت الجبار»، وأصبحت هذه كنيةً تطلق على البيت ذي المقاطع العشرة الذي تدوِّي تفعيلاته في الأذن كما تدوي ضربات الطبل، وهو الوزن الذي استخدمه مارلو. وتبع شيكسبير زميله في الشعر المرسل، وأدخل عليه تعديلًا ليس هنا موضع تفصيله. ولسنا ندري ماذا كان شيخ الشعراء ليصنع لولا هذه الأداة الطيِّعة التي خلقها له «مارلو» فأحسن استخدامها.
(٣-٥) تومس كد Thomas Kyd (١٥٥٨–١٥٩٥م تقريبًا)
هؤلاء هم «فطناء الجامعة»، وما أدَّوْه للأدب المسرحي قبل شيكسبير، وسنضيف إليهم الآن كاتبًا آخر نكاد نجهل عنه كل شيء، إلا أنه أخرج روايتَين أو ثلاثًا، وذلك هو «تومس كِدْ»، الذي ولد عام ١٥٥٨م، وزامل سبنسر في الدراسة، ومات سنة ١٥٩٥م تقريبًا.
وإنما نذكره في قصة الأدب؛ لأنه كان أول كاتبٍ مسرحي أنشأ في الأدب الإنجليزي ما يسمى «بمأساة الدم»، التي لا تدور حوادثها إلا على سفك الدماء، ولا تكاد تنتقي من الحوادث إلا الطعن والضرب والفتك والمنازلة والجنون. وقد استمد «تومس كِدْ» مأساته هذه من «سنكا» كاتب المأساة في الأدب اللاتيني القديم، وأشهر ما خلَّفه لنا هذا المسرحي «المأساة الإسبانية».
لكن «كِدْ» لم يكن مقلدًا «لسِنِكا» بغير تجديد، فلئن أخذ عنه فكرة أن يكون للمسرحية مقدمة تمهد لها، كما أخذ عنه فكرة أن يكون في الرواية «شبح» لأحد الموتى يَعِدُ ويتوعد، فقد حاول أن ينزل من جفاف العلماء وتكلُّفهم إلى ما يثير العاطفة في عامة الشعب، ونبذ من روايته «الجوقة» التي كان يستخدمها المسرحيُّ القديم لتستخلص العظة والعبرة من الحوادث.
وجدير بنا في هذا الصدد أن نذكر أوجه الشبه بين مأساة كِدْ وبين رواية هاملت لشيكسبير، لنرى في جلاء أن شيخ المسرحية قد اهتدى بزميله «كِدْ» في أثر من أعظم ما جادت به قريحته من آثار؛ فالمسرحيتان كلتاهما تقومان على الثأر، وفي كلٍّ منهما «شبح» يؤثر في مجرى الحوادث، وفي كلٍّ منهما تُسفَح على خشبة المسرح دماء القتلى، وفي كلٍّ منهما رواية تمثل ليكون تمثيلها عاملًا هامًّا في سير الأمور إلى غايةٍ منشودة، وفي كلٍّ منهما جنونٌ حقيقي وجنونٌ مُفْتَعل، ثم في كلٍّ منهما بطل متردد يقدِّم رجْلًا ويؤخر أخرى! فكأنما كانت «المأساة الإسبانية» نصب عينَي شيكسبير وهو يكتب هاملت.
بهؤلاء الكتَّاب عُبِّد طريق المسرحية حتى انتهت إلى جبَّارها العظيم وليم شيكسبير.
(٤) وليم شيكسبير (١٥٦٤–١٦١٦م)
على نهر آفُن الذي ينساب خلال المروج، تقع مدينة ستراتفورد عندما ينعطف مجراه في قوسٍ جميل. وهنالك على ضفة النهر ترى كنيسةً بُنيت على غرار الفن القوطي الجميل، وعلى مقربة منها حديقةٌ غنَّاء فسيحة الأرجاء، ويحيط بستراتفورد ريفٌ فاتنٌ رائع، تعلو فيه الأرض هضابًا وتهبط وهادًا، تكسوها الخضرة في كل أرجائها، فإن ارتفعت على السفوح وجدت قطعان الضأن ترعى، وإن هبطت إلى بطون الوديان رأيت الماشية زرافات. والحياة الريفية في تلك المنطقة زاخرة بصنوف النشاط، ففيها الرعي، وفيها الزراعة، وفيها صيد الحيوان.
في هذه المدينة ولد الشاعر العظيم «وليم شيكسبير»، وفي كنيستها القوطية عُمِّد، وفي ريفها الجميل نشأ وتربى، وعرف ما الرعيُ والرعاةُ وما الأرض وزارعوها، وكيف يكون صيد الحيوان، وفي حديقتها الفسيحة كان يقضي أماسيه إن صفا الجو وعَذُبَ الهواء.
أبوه «جون شيكسبير» لم يكن من أبناء ستراتفورد، إنما هبط إليها سليلًا لأسرة كانت من مُلَّاك الأرض يوم كانت الأرض عَصَبَ الحياة. جاء أبو الشاعر إلى هذا البلد وهو ما يزال في شرخ الشباب، ولم يلبث أن اختار شريكة حياته «ماري آرْدِنْ» وهي ابنة تاجرٍ غني كان يقيم في بلدٍ قريبٍ من ستراتفورد، وهو سليل أسرة من أمجد الأسر في إنجلترا وأعرقها أصولًا، فورث الأرض والحدائق، ولم يكن له ابن يئول إليه ماله، إنما كانت له بناتٌ كثيرات، صغراهن هذه الفتاة التي كتب لها أن تنجب أعظم الشعراء، وكانت أحبَّ البنات إلى أبيها، فأوصى لها بما يملك من فسيح الضياع، ولولا أن هذا الإرث قد ضاع في سداد دين لانتهى أمره إلى شاعرنا وليم شيكسبير.
استهلَّ «جون شيكسبير» حياته العملية في يُسْرٍ وتوفيق، وسرعان ما أصبح عَلَمًا بين أبناء ستراتفورد، ومن بين عقار كان يملكه بيتُ لا يزال قائمًا يحجُّ إليه الزائرون ألوفًا كل عام.
ففي تلك الدار ولد «وليم شيكسبير» في الثالث والعشرين من أبريل عام ١٥٦٤م، ولما بلغ عامه السابع، أرسله أبوه إلى المدرسة في ستراتفورد، حيث تعلَّم اللاتينية وطالع أجزاء من الأدب اللاتيني كان لها أثر أبلغ الأثر في تكوينه الأدبي. ولبث «وليم» في مدرسته ما يقرب من ثمانية أعوام، ثم غادرها وله من العمر أربعة عشر عامًا ونيفًا، وأخذ يتقلب في أحضان الطبيعة بين أترابه من الشباب، يعبُّ من خضمها عَبًّا حتى امتلأت بها نفسه. فإذا ما آن أوان الكتابة أخذ ينثر علمه الواسع بأجزائها هنا وهناك. ويختلف الرواة في الصناعة التي امتهنها في سني شبابه، فقال منهم قائل إنه اشتغل بالتدريس في مدرسةٍ ريفية، وزعم لنا آخر أنه مارس صناعة أبيه فكان قصابًا، ولما كان النقد الحديث قد نفى عن أبيه هذه الصناعة، فالأرجح أنها تسقط كذلك عن ابنه.
وتزوَّج «وليم شيكسبير» عام ١٥٨٢م من «آن هاثاواي»، وهي ابنة مزارعٍ غني كان يقيم على مقربة من المدينة، وكان بين أبويهما صداقةٌ قديمة، وكانت الفتاة تكبره بما يدنو من ثمانية أعوام، وأنجب منها «سوزانا» وتوأمَين هما ولد أسماه «هامْنِتْ» وبنت أطلق عليها «جُودثْ».
ولما بلغ الفتى عامه الحادي والعشرين، كان لا يزال متصلًا بصحبة الشباب المستهتر الماجن، وشاءت لهم ميعة شبابهم ذات ليلة أن يتسوَّروا حديقة يملكها عظيم المنطقة «السير تومس لوسي» على مقربة من ستراتفورد؛ ليسرقوا من غزلانه، فكان وليم شيكسبير بين مَنْ أمسك بهم الحراس، ووُضع في محبس الاتهام حينًا، وهنا أزهرت الباكورة الأولى من شعره، فأنشأ «حكاية منظومة» يهجو بها السير لوسي انتقامًا لما أصابه. وقد ضاعت هذه الباكورة الأولى، التي أثارت الغضب في نفس المهجوِّ، فشدد عليه النكير، حتى لم يجد شاعرنا بُدًّا من الفرار إلى لندن.
ويقول بعض الرواة: إنه لما وصل إلى لندن أخذ يرتزق من إمساك الجياد لأثرياء القوم الذين كانوا يقصدون إلى المسارح على ظهور جيادهم، لكنها رواية يميل النقد الحديث إلى نفيها، وسواء صَحَّت الرواية أو كذبت، فسرعان ما وجد شاعرنا سبيله إلى جوف المسرح، وكان أول عمله به أن يعاون الملقِّن، فيعلن الممثلين أن يستعدوا للظهور على المسرح كلما اقترب دور أحدهم، ثم ما لبث بعد ذلك أن علا شأنه ممثلًا وكاتبًا، فدرَّ عليه التمثيل والكتابة مالًا وفيرًا، مكَّنه من شراء عقار في بلده الذي أوى إليه عام ١٦١٢م بعد أن أفرغ جعبته في لندن. ولم تمضِ عليه سنواتٌ أربع حتى أسلم الروح عام ١٦١٦م في الثالث والعشرين من أبريل، وهو نفس اليوم الذي شهد مولده.
ولما كانت رواياته تقع في ثلاثة أقسام، فهي إما أن تكون رواياتٍ تاريخية، أو ملاهي، أو مآسي، فسنتناول كل مرحلةٍ من مراحل إنتاجه الأربعة، لنعرض فيها ما أنتجه الشاعر من تلك الأنواع الثلاثة في شيءٍ من التفصيل.
(٤-١) المرحلة الأولى (١٥٨٨–١٥٩٤م)
(أ) الروايات التاريخية
يظهر أن الشاعر في هذه المرحلة من حياته الأدبية لم يكد يصنع في رواياته أكثر من تنقيح الموجود مما أنتجه سواه، وهو هنا في شبابه المرح الطليق المضطرم بحدَّة العاطفة؛ ولذلك تراه يعنى بالعبارة الجزلة الرنانة، ويصوغ الفكرة الواحدة في عباراتٍ كثيرةٍ مختلفة، ويستخدم ألوان البديع ليزيد عبارته قوة على قوة.
لكن الشاعر في رواية «رتشرد الثاني» يخفف من هذه الحدَّة في تصوير البطل، فترى ألوان الصورة أقل نصوعًا وبهرجة، وترى ريشة الفنان أخفَّ وقعًا وأدقَّ وضعًا وأبرع لفتة، حتى لتُعَدُّ هذه الرواية فاتحة لرواياته التاريخية الأصلية، وإن يكن قد تأثر فيها خَطْوَ «مارلو» إلى حدٍّ كبيرٍ في رواية «إدورد الثاني» التي أسلفنا الحديث عنها.
(ب) الملاهي
تبدأ ملاهي شيكسبير براوية «جهد الحب ضائع»، وهي ملهاةٌ ضاحكةٌ طروب مليئة بالنكات والعبارة المرحة، التي تفصح عن فؤادٍ خليٍّ فرح. وخلاصة قصتها أن فردناند ملك نافار قد اعتزم أن ينتبذ من العالم مكانًا معزولًا عن الدنيا وصخبها، بحيث لا يصاحبه من الناس إلا ثلاثة أصدقاء، وكان بين ما قرره هؤلاء المعتزلون ألا تكون صلةٌ بينهم وبين النساء، لكن الخطة لم تلبث أن انهارت من أساسها، إذ قُدِّمت لهم أميرة فرنسا ووصيفاتها الثلاث، فلم يكد يراهُنَّ المعتزلون المترهبون، حتى وقعوا في فخاخ الحب صرعى، ولبث كلٌّ منهم يخفي عن زملائه ما اعتراه من ضعفٍ ووهن، ثم لم يَطُلْ بهم هذا الموقف الشاذ، إذ تفاهموا جميعًا على سخف سلوكهم، وقرروا أن يسلكوا مسلك الناس، فيعملوا ما تُمليه طبائع البشر، لكن شاء لهم سوء الطالع أن تسمع الأميرة بموت أبيها، فتعود مع وصيفاتها قبل أن يكاشفهن المحبون رغبتهم في الزواج.
والرواية كلها حملةٌ شعواء على التكلف والتصنع في كل أوضاعه، فهي كذلك تسخر من رجل يتكلف في اختيار ألفاظه، وتسخر من قسيس ومدرس يتعالمان بما يدخلانه في حديثهما من عباراتٍ لاتينية وإشاراتٍ تدل على حذلقةٍ علمية. ولما كنا لا نملك ما يدل على أن شيكسبير قد استعار قصة الرواية من سواه، فالأرجح أنها من خلقه وابتكاره.
انطلق بَكْ بزهرة الحب يبحث عن الشاب الأثيني الذي أنبأه بأمره الملك أوبرن، لكنه لسوء الحظ صادف في طريقه «ليسندر» و«هرميا» نائمَين فظنهما «ديمتريوس» و«هلنا»، فمسح جفني «ليسندر» بعصير الحب، ولما استيقظ «ليسندر» كانت «هلنا» على مقربةٍ منه هائمة على وجهها في جوف الغابة تبحث عن حبيبها الغادر، فما إن وقعت عينا ليسندر عليها عقب يقظته، حتى شغف بحبها بفعل الزهرة العجيبة وامَّحى من قلبه كل حبٍّ نحو «هرميا»، ولما علم أوبرن بالخطأ الذي وقع فيه بَكْ، أسرع بنفسه يبحث عن «دمتريوس» حتى ألفاه نائمًا، فعصر وردة الحب على جفنيه، وصحا «دمتريوس» وإذا بهلنا على مقربةٍ منه، فأخذ يناجيها بعبارات الحب والهيام، وبهذا أصبحت «هلنا» محبوبة الشابَّين معًا، و«هرميا» حيرى لا تدري لهذا التحول العجيب سببًا.
أما تيتانيا ففتحت عينَيها على مهرجٍ ضالٍّ كان أوبرن قد ألبسه رأس حمار، وجاء به على مقربةٍ من مخدع زوجته لتقع عليه عيناها حين تستيقظ، فتهيم بحبه وتكون أضحوكة الساخرين، وتم ذلك كله، وكان إشباعًا لنقمة «أوبرن» على زوجته.
وأخيرًا أزيلت الرُّقَى فعادت القلوب إلى قديم حبها، فديمتريوس عاشق لهلنا، وليسندر هائم بهرميا، وأوبرن على صفاءٍ مع تيتانيا.
(ﺟ) المآسي
وتستطيع أن تعدَّ رواية «روميو وجوليت» قصيدةً غراميةً طويلة، فالحبيبان هما أهم أشخاصها، وعاطفة الحب العنيفة التي يتبادلانها هي ما يستوقف انتباه القارئ، والعجيب أن شيكسبير لم يحاول قط بعد «روميو وجوليت» أن يكتب مأساةً غنائيةً أخرى، فلعله أحسَّ أنه قد بلغ بها الأوج في هذا الفن، ولم يُرِدْ أن ينتج ما عساه أن يقع دونها من المآسي الغنائية، فيكاد يجمع رجال النقد الأدبي على أن هذه الرواية أعظم ما عرفت آداب العالم أجمع من قصائد الحب الذي يشتغل في قلوب الشباب، ثم يحطمه القدر.
قصيدتا «فينوس وآدونس» و«لوكريس»
لا بد لنا قبل أن نختم الحديث عن إنتاج شاعرنا في المرحلة الأولى من مراحل نتاجه الأدبي أن نذكر له هاتين القصيدتَين الرائعتَين اللتين أنشأهما في نفس الوقت الذي كان ينشئ فيه رواية «روميو وجوليت» — أو في وقتٍ قريبٍ منه — أي أنه أنشأهما حين كان خياله مشتغلًا بخلقٍ مآسٍ تصلح أن تُصَبَّ في قالب الشعر، فروميو وجوليت — كما أسلفنا — هي في جوهرها قصيدةٌ غرامية تنتهي بالأسى، وكذلك قل في قصيدتَيه هاتين.
كتب الشاعر قصيدته الأولى «فينوس وآدونس» بين عامي ١٨٥٥ و١٥٨٧م لكنها لم تنشر حتى سنة ١٥٩٣م، وهي تقصُّ غرام فينوس بشابٍّ جميلٍ لقي حتفه، حين كان يطارد خنزيرًا بريًّا. وأسلوب القصيدة مزخرف بألوان البيان والبديع، فتراه لا يدخر وسعًا عند كل معنًى من المعاني في أن يحشد العبارات حشدًا يتلو بعضها بعضًا بكل ما وسعه من قدرة على التعبير والخيال! وهي مليئة بالاستعارات والإشارات. والقصيدة مقسَّمة إلى مقطوعاتٍ من ذوات الستة الأبيات، في كل بيتٍ منها خمس تفعيلاتٍ أيامبية (تتألف كل تفعيلة من جزأين ليس على أولهما ضغطٌ صوتي ويقع الضغط على ثانيهما. أما الأسطر الأربعة الأولى فتجري فيها القافية هكذا: أ – ب – أ – ب أي يتفق الأول والثالث في قافيةٍ واحدة، والثاني والرابع في قافيةٍ أخرى. ثم يتلوها بيتان منتهيان بقافيةٍ ثالثة).
أما قصيدة «لوكريس» فقد نشرت سنة ١٥٩٤م حين كان الشاعر في سن الثلاثين، وهو في هذه القصيدة أكثر احتفالًا بالأسلوب منه في قصيدة «فينوس وآدونس» وأشد عناية بألوان البيان والبديع. وهي أيضًا مقسمة إلى مقطوعاتٍ تجري على غرار المقطوعة التي اشتهر بها «شوسر»؛ أي التي تتألف من سبعة أبيات تجري قافيتها هكذا: أ – ب – أ – ب – ب – ﺣ – ﺣ.
وقصة لوكريس مأخوذة من الأساطير الرومانية القديمة، فقد قيل إنها كانت زوجةً جميلةً طاهرة، لكن فتًى من أبناء «تاركوين» ملك روما اغتصب عفافها في ساعةٍ من ساعات الإثم، فجزعت السيدة وأفضت إلى زوجها وأبيها بما حدث، ودعتهما إلى الأخذ بثأرها، ثم قتلت نفسها.
وهاك مثالًا من «فينوس وآدونس»:
(فينوس عند جثمان آدونس.)
•••
•••
هذا عرضٌ سريعٌ لما أنتجه الشاعر العظيم في مرحلته الأولى من مسرحياتٍ وقصائد. ويجمل بنا أن نذكر في ختام الحديث عن هذه المرحلة أنها تتميز بكثرة الشعر المقفى، إذ لم يكن الشعر المرسل قد رسخت قدمه بعدُ، ففي رواية «جهد الحب ضائع» — مثلًا — ترى ما يقرب من ثلثي الرواية شعرًا مقفًّى، والثلث الثالث شعرًا مرسلًا (هذا إذا استثنينا الأجزاء النثرية في الرواية)، ثم يأخذ الشاعر في إهمال القافية شيئًا فشيئًا إذا ما كانت مرحلة إنتاجه الثانية التي سنحدثك عنها بعد قليل، وأخيرًا تختفي القافية من شعره أو تكاد، إلا في الأغاني التي يستلزمها سياق الرواية.
وكما أن القافية تظهر في إنتاجه الأول وتختفي في إنتاجه الأخير، كذلك نلاحظ تطورًا آخر، هو أنه في شعر المرحلة الأولى يغلب عليه أن يختم المعنى عند نهاية البيت؛ أعني أنه يجعل كل سطر وحدةً معينةً قائمة بذاتها، فلما ازداد مهارة ورشاقة في الكتابة بالشعر المرسل أخذت تقل هذه الظاهرة، فيجري المعنى من البيت إلى الذي يليه، ولا يحرص الشاعر على أن ينتهي المعنى بنهاية البيت. وقد عُدَّتِ الأسطر المستقلة المعنى في إحدى روايات المرحلة الأولى فوجدت تسعة عشر سطرًا في كل عشرين، وعُدَّت أمثال هذه الأبيات المستقلة في إحدى رواياته الأخيرة، فوجد أنها لا تزيد على الثلثين.
وهذان تطوران يدلان بغير شك على أن التحلل من القيود من علامات النبوغ عند الشاعر العظيم.
(٤-٢) المرحلة الثانية (١٥٩٥–١٦٠١م)
(أ) الروايات التاريخية
لم يزل شيكسبير في هذه المرحلة مشتغلًا بتاريخ بلاده ممثَّلًا في ملوكها، فكان ما أنتجه من الروايات التاريخية «الملك جون» و«هنري الرابع» بجزأيها، ثم «هنري الخامس». وسنلاحظ أن الشاعر بعد ختام هذه المرحلة لم يعد يتخذ من التاريخ الإنجليزي موضوعًا لمسرحياته (لا نستثني إلا رواية هنري الثامن التي كانت آخر ما أنشأه). ولقد كانت هذه المسرحيات التاريخية التي ظهرت في المرحلة الثانية مجالًا مكَّن الشاعر من التعبير عن العاطفة الوطنية القوية التي سادت أوروبا كلها في عصر النهضة، وسادت إنجلترا على وجهٍ أخص عقب انهزام «الأرمادا» الأسطول الإسباني العظيم الذي حاول غزو إنجلترا في عهد الملكة اليصابات.
ولا يحسبن القارئ أن شاعرنا حين كان ينشئ روايةً تاريخية لم يكن يعبر عن أحاسيس نفسه، فانظر مثلًا إلى هذه الأسطر التي جاءت في رواية «الملك جون» — وقد كتبها في نفس العام الذي مات فيه وحيده «هامنت» — وذلك حين قيل لأمٍّ حزينة فقدت ولدها فلازمها الحزن: «إنك مشغوفة بالحزن شغفك بوليدك!» فقالت:
أفلا ترى الشاعر ينفث في هذه الأبيات لوعته على فقيده متخفيًا وراء الحادثة التي يرويها في سياق التاريخ؟
ولا بد لنا في هذا الموضع أن نشير إلى شخصية «فولستاف» التي وردت في «هنري الرابع» — وسترد مرةً أخرى، وفي صورةٍ أخرى في رواية «زوجات وندسور المرحات» — فلعلها بين الشخصيات الفكهة التي رسمتها ريشة الشاعر أروعها وأبدعها.
(ب) الملاهي
أول ما نلاحظه على إنتاج هذه الفترة أنه يكاد يتجه كله نحو الملهاة، حتى رواياته التاريخية مثل «هنري الرابع» و«هنري الخامس» فهي ملاهٍ إلى جانب كونها تاريخًا. وقد ذكرنا أن شخصية من أكبر شخصيات شيكسبير الهزلية — نعني فولستاف — وردت في «هنري الرابع»، ثم استأنفها الشاعر في ملهاةٍ أخرى من ملاهي هذه المرحلة الثانية، وهي «زوجات وندسور المرحات»؛ وذلك لأن الملكة أعجبت بتلك الشخصية في «هنري الرابع»، واستوقف نظرها إسراف أنانيته، فطلبت إلى الشاعر أن يصوِّر لها هذا الرجل الأناني في مواقف المحب العاشق؛ لترى كيف يلتقي الحب والأنانية، ومعلوم أن الحب يتطلب التضحية؛ فاستجاب لها الشاعر في رواية «الزوجات المرحات».
وفي اليوم المحدد اجتمع المدعوون لحفلة الزفاف، وطال انتظارهم لبتروشيو، حتى تحرج موقف «كاترين» بين أهلها وصواحبها، فبكت لجرح كبريائها. وأخيرًا جاء الزوج في هيئةٍ زرية تثير السخرية والضحك، فكان ذلك إذلالًا جديدًا للفتاة الشموس، ولم يستطع أحد أن يحمل بتروشيو على تغيير ملبسه، وقال حين خوطب في ذلك: إن «كاترين» ستتزوج منه لا من ملابسه، ثم ذهب الجميع إلى الكنيسة فسلك بتروشيو هناك مسلكًا شاذًّا أيضًا؛ إذ أخذ يصخب في ذلك المكان المقدس، وفي تلك الساعة الرهيبة، وضرب القسيس وأسقط من يده الإنجيل، حتى ارتاعت «كاترين» رغم ما لها من جرأةٍ وسلاطة.
وكان والد الفتاة قد أعد للزواج حفلةً فخمة، ولكنهم عندما عادوا من الكنيسة أعلن بتروشيو أنه يعتزم أخذ زوجته إلى داره من فوره، ولم يفلح الوالد باحتجاجه ولا الزوجة الغاضبة بصخبها في أن يُثنياه عن عزمه، قائلًا: إن من حق الزوج أن يتصرف في زوجته كما يشاء. وخرج بها وأركبها على جوادٍ ضئيلٍ هزيل، وسار بها نحو بلده في طريقٍ وعرةٍ مضنية، ووصل الركب أخيرًا إلى بيت بتروشيو بعد سفرٍ طويلٍ شاق لم تسمع «كاترين» في أثنائه إلا صخبًا ولعنات يصبها بتروشيو على الخادم تارةً، وعلى الخيل طورا. ورحب بتروشيو بزوجته عندما دخلت داره، ولكنه اعتزم ألا يسمح لها في تلك الليلة بشيءٍ من الطعام أو الراحة. وهُيئِّت المائدة، ووضع عليها العشاء، ولكن بتروشيو ادَّعى أن الطعام معيب؛ فألقى باللحم أرضًا، وقال إنه يفعل ذلك حبًّا في «كاترين». وما زال معها على هذا النحو حتى اضطرت — وهي الشامخة بأنفها — أن تتوسل إلى الخدم أن يأتوها بشيءٍ من الطعام خفية، لكنهم أجابوها إن أمر سيدهم يحول دون ذلك.
واعتزم الزوج أن يستصحب زوجته في زيارةٍ لأبيها، وفرحت كاترين لهذه الزيارة، ثم أمر أن تسرج الخيل، وأكد أنه لا بد من الوصول إلى بلدٍ أبيها قبل موعد الغداء؛ لأن الساعة كانت وقتئذٍ السابعة صباحًا، وكان الوقت في الحقيقة ظهرًا لا صباحًا باكرًا كما يزعم، لذلك لاحظت كاترين أن الوصول قبل الغداء مستحيل؛ لأن الساعة كانت الثانية بعد الظهر، فقال الزوج العنيد إنه لن يبرح مكانه إلا إذا وافقت على أن الوقت هو ما يريده هو أن يكون. ومن هذا القبيل أيضًا أنهما أثناء الطريق اختلفا على الشمس أهي الشمس حقًّا أم القمر! قالت الزوجة إن الشمس طالعة، فعارضها بأنه القمر الذي يسطع وقت الظهيرة. وتظاهر بإلغاء الرحلة وبالعودة إلى بلده إذا هي لم توافق على قوله، فقالت كاترين مطيعة: «أرجو أن نواصل السير بعد أن قطعنا هذه المرحلة، وليكن هذا هو القمر أو الشمس أو ما تريد أنت أن يكون، وإذا شئت أن تسميه شمعة، فإني أقسم لك أنه سيكون كذلك بالنسبة لي.»
بهذا وبأمثاله استطاع الزوج أن يذل كبرياء زوجته، حتى أخرج منها في النهاية امرأةً وديعةً طيعة، حتى بلغت من الطاعة والوداعة مبلغًا حسده عليه سائر الأزواج.
ولم يكد يجلس هؤلاء الأضياف وتقدم إليهم الفتاتان، حتى نشبت معركةٌ عنيفة من النكات اللاذعة بين «بِنِدِكْ» و«بياتْرِسْ» وكلاهما طروبٌ لعوبٌ ساخر، أما «هيرو» فقد ظلت صامتة لحيائها، فأعجب بها «كلوديو» وصمم على الزواج منها، وتم الاتفاق مع أبيها على يومٍ قريبٍ يحتفل فيه بذلك الزواج.
ثم نشأت فكرةٌ لطيفة في أذهان بعضهم أن يتفكَّهوا بمؤامرة يدبرونها، وتلك أن يحتالوا بالخديعة على إشعال نار الحب في نفس «بِنِدِكْ» و«بياتْرِسْ» رغم ما كان بينهما من كرهٍ ظاهر، فحاولوا أن يُدخلوا في روع «بِنِدِكْ» أن «بياتْرِسْ» هائمة بحبه، وأن يقنعوا «بياترس» بأن «بِنِدِكْ» صريع غرامها. وتحقق لهم ما يريدون بأن أسمعوا كلًّا منهما حديثًا من وراء ستار، يُفهمونه به ذلك الحب المجهول. ولقد كان منظر «بِنِدِكْ» و«بياترس» ممتعًا بعد أن تبدلت عداوتهما حبًّا، فما كان أجمل لقاءهما بعد أن خدع كلاهما، وأدخل في وهمه أن زميله يحبه!
وبينما كانت الجماعة تلهو على هذا النحو وتمرح انتظارًا ليوم زفاف «كلوديو» «بهيرو»، إذا بأخٍ غير شقيق للأمير، هو «دُنْ جون» يعكر عليها ذلك الصفو بما طبعت عليه نفسه من شرٍّ وسوء؛ وذلك أنه دبر مكيدة ليوقع الشقاق بين «كلوديو» و«هيرو»، حتى لا يتم الزواج، فأوصى خادمة هيرو أن ترتدي ثياب سيدتها في منتصف الليل، وتغازل خطيبًا لها، ثم جاء بكلوديو ليستمع إلى خطيبته الفاجرة تغازل غيره من الرجال. وتمت الخديعة وأعلن كلوديو الأمر، فكانت فضيحة ارتاع لها الأمير، وارتاعت لها «هيرو» الطاهرة البريئة وارتجَّت لها المدينة كلها، لكن ما هي إلا أيام حتى عرفت حقيقة الأمر، وعقد الزواج بين «كلوديو» و«هيرو»، ثم بين «بِنِدِكْ» و«بياتْرِسْ».
وحدث ذات يوم أن شهدت الفتاتان مبارزة بين شابَّين، فظنَّتا أنها سوف تفضي إلى مأساةٍ مروعة، إذ رأتا رجلًا قويًّا مارس فن المصارعة يوشك أن ينازل شابًّا صغير السن قليل التجارب في هذا اللون من الصراع، فتقدمتا واحدةً بعد الأخرى تنصحان الفتى ألا يلقي بنفسه إلى هذه التهلكة المحتومة، لكن الشاب أبى إلا أن يمضي في القتال قائلًا: «… وإذا قُتلت فقد مات شخصٌ راغب في الموت، ولن أسيء بموتي إلى أصدقائي؛ لأنه ليس لي أصدقاء يبكونني، ولن أضر العالم في شيءٍ؛ لأنه ليس لي في العالم شيء.» فزاد هذا القول من إشفاق الفتاتَين عليه، وبخاصة روزالند. ولعل عطف الفتاتَين استثار الحماسة في نفس الشاب، فأبدى من البسالة ما كان خليقًا بكل إعجاب، وتغلب على خصمه القوي آخر الأمر.
تنكرت «روزالند» في ثوب راع وتَخَفت «سليا» في ملابس راعية، وأخذتا تضربان في فجاج الأرض، حتى بلغتا غابة «أَرْدِنْ»، وكان قد هَدَّهما الجوع، ونال منهما التعب، فأوتا إلى كوخٍ أقامتا فيه، وشاءت المصادفة أيضًا أن ينتهي الفتى أورلاندو إلى هذه الغابة، وكان حبه لروزالند قد اشتعل في فؤاده، فأخذ يكتب اسمها على جذوع الشجر، ويرسل فيها الأغاني. فلما صادفته روزالند في الغابة جاذبته أطراف الحديث، وهي لم تزل متخفية في ثوب الراعي، وهو بذلك الحديث سعيد إذ رأى شبهًا قويًّا بين الراعي وحبيبته روزالند.
أخذ «أورلاندو» يتردد على الراعي في كوخه كل يوم، فعرض عليه الراعي — روزالند في حقيقته — أن يأتيه بفعل السحر بحبيبته روزالند ليتزوج منها إن كان حبه إياها على ذلك النحو العنيف الذي كان يبديه، فقبل ما عرض عليه وهو في عجبٍ من الأمر. وكان «أورلاندو» قد التقى بالدوق المنفي في الغابة — والد روزالند — فأنبأه الخبر. ولبث الدوق في قلقٍ لما سمع أن ابنته سيؤتى بها إلى الغابة بهذه الطريقة العجيبة، ولم يكن في الأمر عجب، فما هو إلا أن خلعت روزالند ثياب الراعي وبدت على حقيقتها، فشاع في النفوس مرح وطرب وتم الزواج. وشاءت العدالة الإلهية أن يتم سرور القوم، فجاء عندئذٍ رسول ينبئ الدوق أن أخاه قد تاب عما أساء ونزل لأخيه عما اغتصب.
وبملهاتَين أخريَين «الليلة الثانية عشرة» و«خير كل ما ينتهي بخير» ينتهي إنتاج المرحلة الثانية في المسرحيات. ولقد أخرج في هذه الفترة من حياته الأدبية «مقطوعاته الشعرية» التي كان قد أنشأ معظمها في عامي ١٥٩٣ و١٥٩٤م، وهو بين الثلاثين والحادية والثلاثين، وهي تنقسم إلى قسمَين؛ القسم الأول وقوامه ست وعشرون ومائة مقطوعةٍ مُوَجَّهٌ إلى نبيلٍ صغير السن، والقسم الثاني وعدده ثماني عشرة مقطوعةً موجَّهٌ إلى سيدةٍ حسناء، ففي القسم الأول من هذه المقطوعات يتقدم الشاعر إلى نبيلٍ مجهول الاسم، فيعبر له عما يكنُّه له من الحب، ويذكر ما يلقاه في البعد من الوجد والألم، ثم هو يريد أن يصف جمال الربيع، وأن يحسَّ بهجة الصيف، لكنه لا يجد إلى ذلك سبيلًا حينما يخلو إلى عاطفته المشبوبة، إنه يعشق هذا الفتى، ويكاد يقتله الشوق إليه، وهو يعتب على الفتى أنه خان الأمانة فسلبه عشيقته، وهو يغفر له تلك الإساءة ويجزيه عنها إحسانًا، ثم يطغى الحزن والألم أحيانًا على الشاعر، فيدبُّ في نفسه اليأس، ويثور على الرذيلة التي فشت في أيامه، ويضيق بصناعة التمثيل التي اتخذها حرفةً، هذه المعاني تشيع في مقطوعات القسم الأول.
أما في القسم الثاني فيلتفت الشاعر إلى حبيبةٍ ذات شعرٍ أسود وإهابٍ أسمر، وهذه الغانية التي يستعطفها تتجاهله وتتعالى عليه وتدعه فريسة للأمل الخائب والألم المبرح، بل هي تعشق الفتى النبيل، وتبذل له من النفس والجسد ما كان يبتغيه الشاعر، ثم هو في محنةٍ نفسيةٍ حادة؛ إنه موزَّع بين الفتى والفتاة، فهو يحب هذا ويعشق هذه، وهو يخرج من هذه المحنة خروجًا فلسفيًّا؛ لأنه يدرك أن الحب لا بد أن ينتهي إلى البوار، وأن الشعراء من أمثاله ينبغي ألا يسرفوا في عشق الغانيات.
وبعدُ، فالمقطوعة عند شيكسبير تتألف من ثلاث رباعيات، ثم بيتين مقفَّيَين، فتجري القافية فيها هكذا:
«أ – ب – أ – ب» «ﺟ – د – ﺟ – د» «ﻫ – و – ﻫ – و» «ز – ز».
(٤-٣) المرحلة الثالثة (١٦٠١–١٦٠٧م)
(أ) الملاهي
هنا ذهبت عن شيكسبير فرحته بالحياة، وعلمته الحوادث أن ينظر إلى الدنيا من جانبها المظلم القاتم، فهو حتى في ملاهيه ينقصه الجذل والمرح اللذان عهدناهما في ملاهي المرحلتَين الأوليَين. فها هي ملهاته «كيْلٌ بكَيْلٍ» يسيء فيها الظن بالطبيعة البشرية، ويكاد ييئس من فضيلة الإنسان، فقد كان يحكم مدينة فيينا دوق بلغ من حِلْمه أن كان يسمح لرعاياه أن يخرجوا على شريعة البلاد دون أن يخشوا عقابًا، وكان من قوانين الدولة قانون كاد ينساه الناس؛ لأن الدوق لم ينفذه قط أثناء حكمه، وكان هذا القانون يقضي بالإعدام على كل شخص يعيش مع امرأةٍ غير زوجته، فتتابعت الشكاوى في كل يوم من آباء الفتيات يقولون فيها إن بناتهم قد أُغرين بالخروج عن طاعتهم ليصاحبن الرجال الأغراب.
وكان الراهب — وهو في حقيقته دوق فيينا المتنكر — يتسمَّع إلى هذا الحديث، فدخل عليهما وأشارَ على الفتاة الطاهرة أن تتظاهر بالرضا لما طلبه «أنجلو»، حتى إذا ما كان الليل بعثت له «ماريانا» متخفية في ثيابها، وماريانا هذه زوجة أنجلو، إلا أنه لم يَبْنِ بها؛ لأن السفينة التي كانت تقلُّ مالها غاصت في اليمِّ، وأصبحت فقيرة بغير مال … وهكذا أخذ الدوق المتخفي يحبك الخطط ليكشف للناس «أنجلو» على حقيقته، ثم أعلن نفسه، وختم الرواية بأن زوج كلوديو من حبيبته، وأنجلو من زوجته، وتزوج هو إزابل الطاهرة.
(ب) المآسي
وما هي إلا فترةٌ وجيزة بعد ذاك، حتى جاء إلى «ماكبث» رسول من الملك يُنبئه أنه قد خلع عليه لقب «شريف كودر»، فأخذت الآمال تجيش في صدره بأن تتحقق النبوءة الثانية، فيصبح ملكًا على البلاد كما تنبأت الساحرات.
وأصبح الصباح وكُشفت الجريمة، فتظاهر ماكبث وزوجته بالحزن الشديد واتَّهما بالقتل حراسَ الملك. فلما خلا العرش بموت الملك وفرار ابنيْه، آل الملك إلى ماكبث فتحققت نبوءة الساحرات، وبلغ ماكبث وزوجته ما كانا يبغيان من مجد، ولكن أين لهما طمأنينة النفس وهما يعلمان مما قالته الساحرات لبانكو أن الملك من بعدهما سيئول إلى أولاده، إذن فليقتلا بانكو وابنه ليبطلا هذا الشطر من نبوءة الساحرات.
وأقاما لهذا الغرض وليمةً كبرى كان بانكو ممن دعي إليها، غير أنهما رصدا له في الطريق من يقتله فكان ذلك، قُتِل بانكو ولاذ ابنه بالفرار، ومن نسل هذا الابن تعاقب الملوك على عرش اسكتلنده، وشاء الله بعد أن تم ذلك الاغتيال المخيف أن خيل لماكبث وهو في الحفل كأنما دخل الحجرةَ طيفُ بانكو، وكأنما جلس الطيف على المقعد الذي أوشك ماكبث أن يجلس عليه، وارتاع لذلك ودهش المدعوون لارتياعه وهم لا يرون شيئًا يدعو إلى الفزع، فأسرعت زوجته إلى فَضِّ الحفل خشية أن يؤدي اضطراب زوجها إلى افتضاح الأمر.
•••
ولكن ما هي إلا أيام حتى أخذت «جُنَرِل» تضيق صدرًا بأبيها وحاشيته، وأساءت إليه إساءة لم يجد معها بدًّا من الانتقال إلى ابنته الأخرى «ريجَنْ»، لكنه كان بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقد أخطأ حين ظن أن «ريجن» ستكون أحنى عليه من «جنرل»، فضاق الرجل بنفسه لما لقيه من عقوقٍ ذميم، وخرج إلى العراء في الليل وقد عصفت بالبلاد عاصفة هوجاء فيها رعد وبرق ومطر، ولكنه كان يرى ذلك كله أرحم من عقوق ابنتَيه، وسرعان ما انتهى به الأمر إلى جنون وشرع يغني لنفسه بصوتٍ عالٍ وعلى رأسه تاج من القش.
وترامت الأنباء إلى ابنته الصغرى في فرنسا، فجاءت على رأس جيش لتنتقم لأبيها من أختَيها الجاحدتَين، وشاءت الأقدار أن تُجزَيا السوء بالسوء، فتنازعت الأختان على حب رجلٍ واحدٍ، فقتلت إحداهما الأخرى، ثم زُجَّت القاتلة في السجن، حيث أزهقت روحها بيدها، ولكن لما كانت الفضيلة لا تلقى جزاءها في هذا العالم دائمًا، فقد هزمت «كورديليا» المخلصة، وقضت حياتها في السجن حيث ماتت، ولم تطل حياة أبيها بعدها.
على هذا النحو أخذ الشاعر يخرج المأساة في إثر المأساة، فأنشأ في هذه المرحلة عدا ما ذكرنا «هاملت» و«يوليوس قيصر» و«تَيْمُن الأثيني» و«أنطون وكليوبطره» و«كوريولانس».
(٤-٤) المرحلة الرابعة (١٦٠٨–١٦١٣م)
ها نحن قد بلغنا بشاعرنا مرحلته الرابعة والأخيرة من تاريخ إنتاجه الأدبي، وهي مرحلة ينتقل فيها انتقالًا مفاجئًا من المآسي المفجعة التي انبثقت من نفسه المكروبة الحزينة في الفترة الثالثة، إلى ملاهٍ رائعة يسودها الوئام والسلام والدعة؛ فهو في هذه المجموعة من الملاهي يربط ما انفصم بين الناس من أواصر، ويلاقي بين من شتَّت الدهر من أهلٍ وأحباب، ويجعل العدو يصفح ويعفو عن عدوه، والآثم يكفر عن إثمه بالتوبة لا بالموت، في هذه الملاهي ترى الزوجين يتصافحان بعد خصومة والولد يستغفر الوالد بعد عقوق.
وتنتقل إلى ملهاةٍ أخرى وهي «قصة الشتاء» فتراها — مثل «بركليس» — تحوي انفصالًا بين زوج وزوجته وأب وابنته، وعاصفة في البحر وسفينة تتحطم، ثم التئام للشمل بعد افتراق.
تلك لمحةٌ خاطفة عن الصرح الباذخ الذي أقام شيكسبير أركانه في عالم الأدب. فمن أين جاء بمادة هذه المجموعة الزاخرة من المسرحيات؟ لقد كفى الشاعر العظيم نَفْسَه مئونة العناء في خلق موضوعاته، وربما أخذك العجب حين تعلم أن شيكسبير قد أخذ عن غيره موضوعات رواياته كلها إلا اثنتَين: «جهد الحب ضائع» و«العاصفة»، ونستثني هاتين؛ لأن النقاد لم يجدوا حتى اليوم دليلًا على أنهما مستعارتان، أي قد تكونان مستعارتَين والدليل مفقود. ومصادره التي استقى منها ثلاثة: (١) فقد استمد بعضها من أساطير الأقدمين وأغانيهم وأشعارهم. (٢) كما استمد بعضها الآخر من كتب التاريخ. (٣) على أن أهم مصدر اعتمد عليه في استخراج موضوعات لرواياته هو كتاب «حياة المشهورين من الرجال» لبلوتارك، وقد ترجمه إلى الإنجليزية «نورث» في عهد اليصابات، وكانت هذه الترجمة من الروعة والجمال، بحيث لم يتحرج الشاعر من أن ينقل عنه أجزاءً كما هي، وجديرٌ بنا في هذا الموضع أن نثبت لفتةً طريفةً لأحد النقاد؛ إذ لاحظ أن شيكسبير ربما كانت خسارته من وروده حوض المؤرخ العظيم أرجح من كسبه؛ لأن الشاعر أضعف في الروايات الرومانية التي استقاها من بلوتارك (مثل يوليوس قيصر) منه في الروايات الأخرى مثل هاملت ولير وعطيل وماكبث، كأنما عطلت عبقرية المؤرخ العظيم قدرة الشاعر العظيم.
•••
لئن كان النقاد يقرون اليوم لشيكسبير بزعامة الشعر، فلا تحسبنَّ أن ذلك التقدير للشاعر قد سبق القرن التاسع عشر، أما قبل ذلك فلم يكن شيكسبير في حساب النقَّاد أعظم من بعض معاصريه «بِنْ جونسن» و«بُومْنَت» و«فِلِتْشَرْ» وسيرد لك ذكرهم بعد قليل. ولعل شاعرنا لم تهبط قيمته عند قومٍ بقدر ما هبطت عند الأدباء الإنجليز في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فقد كان المثل الأعلى في الأدب إذ ذاك فنًّا يُعنى بالصقل، ويلتزم القواعد التزامًا لا يحيد عنها قيد أنملة، فليس عجيبًا ألا تجد الحرية التي أباحها شيخ الشعراء لنفسه عند أولئك القوم قبولًا حسنًا.
فلما أشرقت شمس الحركة الابتداعية (الرومانتيكية) في أول القرن التاسع عشر، عاد الأدباء فأقبلوا على شيكسبير يدرسونه ويقدسونه، ومنذ ذلك العهد حتى اليوم حلَّ شيكسبير في مكانة الزعامة بإجماعٍ شمل أطراف العالم، بحيث لا تجد له شذوذًا، فليس شيكسبير في ألمانيا بأقلَّ شيوعًا منه في إنجلترا ذاتها، وقد أصبح في فرنسا بفضل عبقرية «فكتور هيجو» كأنما هو نتاجٌ أدبيٌّ وطني أنبتته فرنسا، وترجم شيكسبير إلى اللغات الروسية والبولندية والإيطالية والإسبانية ترجمة يقال إنها بلغت من الروعة حدًّا يدنيها من أصلها الإنجليزي، ولقد نُقلت إلى العربية طائفة من رواياته، ولا نزال نطمع في أن يُنقل سائرها لنضيف إلى لغتنا هذا الكنز الثمين، فتزداد به ثراء. وإنه لمما يلفت النظر في ترجمة شيكسبير إلى أية لغة من اللغات أنه يحتفظ في الترجمة بقبساتٍ من جمال الأصل، مع أن احتفاظ النص الأدبي بجماله في الترجمة أمرٌ عسير.
أصبح شيكسبير شاعر العالم غير منازع؛ لأنه أضخم من أن تستأثر به أمةٌ واحدة، فقد سئل طالبٌ ياباني عقب قراءته لإحدى روايات الشاعر العظيم: «أتستطيع بحق أن تشارك أشخاص هذه الرواية جميعًا وجدانهم؟» فأجاب: «نعم؛ لأنهم يابانيون.»
ولقد كتب في نقد شيكسبير وفي شرحه والتعليق عليه ألوف وألوف من الكتب، حتى غصَّت بها رفوف المكاتب، تخرج منها كلها بهذه النتيجة التي عبر عنها الطالب الياباني في بساطةٍ وقوة، فشيكسبير شاعر العالم؛ لأن رجاله ونساءه يصوِّرون الطبيعة البشرية على اختلاف الأمم، إنه لم يصوِّر عصره وحده، بل صوَّر الزمان كله، فلا عجب إن كان القراء يطالعونه في كل مكان وفي كل زمان، فيجدون أشخاصه أحياءً بينهم. اقرأ شيكسبير فلن يسعك إلا أن تحب هذا النفر من أشخاصه وأن تكره ذاك، كما تحب فريقًا من جيرتك وتمقت فريقًا، نعم إن كل روائي له هذه القدرة على تصوير الأشخاص، لكن قدراتهم في ذلك تتفاوت، ولشيكسبير من هذه القدرة أكبر نصيب.
أضف إلى عالمية هذا الشاعر الفحل تعدد جوانبه وتنوع نتاجه، فقد خلف لنا أروع المآسي وأمتع الملاهي، وخلف لنا طائفة من أجود المقطوعات الشعرية، وعددًا من ألطف الأغاني وأحلاها، وخلف لنا شذرات من النثر هي في الذروة من الكتابة النثرية جمالًا وقوة، يستشهد بأقواله في الحياة والموت رجال الفلسفة وعلماء الأخلاق، ويرجع إليه العاشقون ليستمدوا من آياته إذا ما أرادوا التعبير عن عواطفهم، بل نستقي منه في أحاديثنا اليومية مأثور القول في مواقف الجد ومواقف الهزل على السواء.
(٥) معاصرو شيكسبير
(٥-١) بن جونسن Ben Gonson (١٥٧٣–١٦٣٧م)
كان «بِنْ جونْسُنْ» من أصدقاء شيكسبير المعجبين بنبوغه، وكان يصغره بما يقرب من تسع سنوات، مات أبوه — وكان واعظًا دينيًّا — قبل ولادته بشهرٍ واحد، فتزوجت أمه من بَنَّاء، ويقال إن «بِنْ» قد اتخذ حرفة زوج أمه فترة من الزمن، ثم تركها ليحترف الجندية، فاشترك في قتالٍ دارت رحاه في الأراضي المنخفضة، على أن «بِنْ» لم تُهْمَلْ دراسته، فقد أرسل إلى المدرسة وتلقى الآداب الكلاسيكية فأجادها.
في عام ١٦١٦م — وهو العام الذي مات فيه شيكسبير — نشر «بن جونسن» أول ما نشر من نتاجه الأدبي، فكان كتابًا ضَمَّنه مسرحيات وأشعارًا مختلفة، ولم تمضِ سنواتٍ ثلاث بعد ذلك، حتى منحته جامعة أكسفورد درجة الأستاذية، ونُصِّب أميرًا للشعراء، وأجريت عليه الرواتب، لكنه أخذ منذ ذلك الحين يتقلب بين يُسْرِ وعُسْرٍ، يهجر الكتابة حينًا، ويلجأ إليها حينًا، حتى وافته منيته في شهر أغسطس سنة ١٦٣٧م، وقد ترك تراثًا من مسرحيات ومُقَنَّعات وقصائد من الشعر الغنائي وقليل من النثر.
هذه ملاهٍ ثلاث مما أخرجه «جونْسُنْ»، وهي من أروع الملاهي في الأدب الإنجليزي إطلاقًا، وتفوق في حبكاتها الروائية ملاهي شيكسبير، لكن شيكسبير يعود فيفوقه في كل شيءٍ بعد هذا.
وحقيق بنا في هذا الموضع أن نوازن في لمحةٍ سريعة بين شيكسبير وجونْسُنْ، فكلاهما عرف المسرح ممثلًا وكاتبًا، وكلاهما بدأ حياته الأدبية بتهذيب رواياتٍ قديمة، وكلاهما تأثر بمارلو من ناحية، ثم شق لنفسه طريقةً جديدة من ناحيةٍ أخرى، غير أن شيكسبير يعتمد على خياله وابتكاره، وجونسن يرتكز على علمه بأصول الفن القديم، وشيكسبير يصور الإنسانية أينما كان الإنسان وأَنَّى كان، أما جونسن فيصور شذوذ السلوك في رجال عصره؛ فكانت نتيجة هذا أن أصبح شيكسبير شاعر العصور كلها، وبات جونسن ذكرى تتردد على صفحات التاريخ الأدبي، ولئن كنا نذكر «جونسن» اليوم، فإنما نذكره بقصائده الغنائية أكثر مما نذكره لمسرحياته.
ولا ينافس «بن جونسن» في هذا اللون الأدبي منافس لا في القدر ولا في المقدار، ومن مقنَّعاته المشهورة «عودة العصر الذهبي» و«مقنعة البُوم» و«مقنعة الملكات». وفي تمثيل هذه الأخيرة اشتركت زوجة الملك جيمس الأول.
أما في الشعر الغنائي فقد تجد من يساويه جودةً، ولكنك لا تكاد تجد من يفوقه في الأدب الإنجليزي كله، وأشعاره الغنائية منثورة هنا وهناك في رواياته ومقنعاته، وفي دواوين شعره.
ومن آثار جونْسُنْ قليل من النثر أهمه كتاب عنوانه «مستكشفات في الإنسان والمادة» وأسلوبه فيه واضحٌ محكم يشبه نثر «بيكُنْ» من بعض الوجوه.
(٥-٢) فرانسز بومنت Francis Beaumont (١٥٨٤–١٦١٦م) وجون فلتشر John Fletcher (١٥٧٩–١٦٢٥م)
«بومُنْت» و«فِلِتْشَرْ» صديقان تعاونا في تأليف المسرحيات معًا على نحوٍ يندر وجوده في تاريخ الأدب، بحيث لا تستطيع أن تذكر أحدهما غير مقرون بزميله، وقد مزجا نفسيهما مزجًا يعسر معه — أو قل يستحيل في كثيرٍ من المواضع — أن تفصل إنتاج الواحد عن إنتاج أخيه.
أما «جون فلتشر» فسليل أسرة عرفت بميلها إلى الأدب، وقد تلقَّى تعليمه في إحدى كليات كيمبردج، كان أبوه عميدًا لها، وبدأ يكتب للمسرح وهو في عامه السابع والعشرين، وكان حتى في محاولاته الأولى شريكًا لزميله «بومنت».
وكذلك نشأ بومنت — كزميله — في أسرةٍ طيبة عرفت بنزعة أفرادها إلى الدراسة الأدبية، وتعلم «بومنت» في أكسفورد، وكان ذا مال موروث، وهنا يختلف عن أكثر زملائه من كتَّاب المسرحية، فلم يكن — مثلهم — مضطرًّا إلى الكتابة ليكسب القوت.
عاش الصديقان متلازمَين متحابَّين متعاونَين، والرأي السائد بين مؤرخي الأدب الإنجليزي هو أن «بومنت» كان صاحب النقد والتوجيه، وكان «فلتشر» صاحب الخَلْق والإبداع، ذلك يرسم الخطة ويصلح فيها، وهذا يبتكر لها وينشئ.
وصدَّق فيلاستر الوشاية وغضب لحبه الجريح، فطعن «أرثيوزا» وغلامها «بلاريو» في آنٍ معًا، وعندئذٍ تقدم «بلاريو»، فأعلن أنه هو الذي كان يريد اغتيال مولاته أرثيوزا، وإنما فعل ذلك — أو على الأصح فعلتْ ذلك — ليدرأ الخطر عن الحبيب فيلاستر، الذي في سبيل حبه تنكَّر وانخرط في زمرة الخدم، لكن ذلك أضره ولم ينفع الحبيب؛ إذ قُدِّم كلاهما إلى الجلاد ليحزَّ رأسيهما، الأول لاعترافه بالجريمة، والثاني للريبة القوية التي حامت حوله، وهنا التمست «أرثيوزا» أن تقام سَجَّانة عليهما ما دامت الجريمة كانت موجهة إليها، ثم ما هي إلا أن أعلنت «أرثيوزا» أباها الملك الغاصب أن سجينها فيلاستر هو زوجها، فاستشاط الملك غضبًا، وأراد أن يسرع إلى قتله، فثار الشعب لينقذ ولي عهده الشرعي، ولم يجد الغاصب بُدًّا من إطلاق سراح فيلاستر لتهدأ ثائرة الشعب، وتزوج من الأميرة أرثيوزا، وطرد خطيبها فارامُنْد من القصر، أما «بلاريو» — الفتاة المتنكرة — فقد أصرَّ الملك على أن ينتقم منه لما قيل عن علاقته بابنته، وأمر به أن تُنْضَى عنه ثيابه ليلقى عذابه، وهنا لم تجد الفتاة بُدًّا من إعلان سرِّها، فاهتز الجميع من فرح لكذب الوشاة، وقال فيلاستر: خبِّريني فيم التنكر في زي الرجال؟
فأجابته: «لطالما تحدث أبي عن نبلك وفضلك، فلما ازددت دراية وفهمًا تمنيت أن أرى رجلًا موضع هذا الثناء، لكن تلك الأماني لم تكن حينئذٍ إلا اشتياق فتاة لم يكد ينشأ حتى يزول، ثم كان أن جلستُ يومًا إلى النافذة أسرح الفكر في المروج، فأبصرت من ظننتُ إلهًا — لكنه أنت — يدخل بابنا، عندئذٍ طار مني دمي، ثم عاد إليَّ، كأنما نفثته من بدني، ثم امتصصته في عروق بسرعة الشهيق والزفير، وهنا نوديتُ في سرعة لأحييك، فما أظن إنسانًا ارتفع من حظيرة الأغنام إلى حيث الصولجان قد أحسَّ بنفسه يصعد في فكره كما أحسستُ عندئذٍ، وسمعتك تتكلم فأين من كلامك الغناء! فلما مضيتَ عنا عدتُ إلى قلبي أُسائله: ماذا أثاره وحرَّكه؟ فوجدته الحب وا أسفا! لكنه الحب الذي لا تشوبه من الشهوة شائبة؛ لأنني لو استطعت أن أعيش إلى جوارك لكان في ذلك بغيتي، ولهذا أوهمت أبي النبيل برحلةٍ مزعومة، وارتديت ثوب غلام …»
على أن أشهر ملاهيهما وأجودها هي ملهاة «فارس المدقِّ المحترق» التي يسخران فيها من حب أهل لندن لأوضاع الفروسية وتقاليدها.
•••
إن كل حركةٍ أدبية تسير في طريقٍ مرسوم منذ نشأتها حتى نهايتها، فتبدأ بتمهيد يتلوه اطراد في الصعود يتلوه نضج وازدهار، ثم تأخذ في تدهورٍ وانحلال، وهكذا كانت المسرحية في إنجلترا في عهد اليصابات وما بعده، بدأت تمهد لنفسها في كتَّاب المسرحية في عصر النهضة من أمثال «ساكفيل» و«نورتُنْ»، ثم اطرد صعودها على أيدي «فطناء الجامعة»، ثم بلغت نضجها وازدهارها عند شيكسبير، وبعدئذٍ شرعت عوامل الضعف تدبُّ فيها عند «جونْسُنْ» و«بومُنْت وفلِتْشَرْ»، وكان انحلالها بطيء الخُطى أول الأمر، حتى إذا ما انتصف القرن السابع عشر كان الفساد قد تطرق إلى المسرحية من نواحيها كلها، بحيث لم يكن ثمة منها ما يستحق أن يُمَثَّل حين امتدت يد «المتزمِّتين» الدينيين إلى المسرح بالإغلاق.