من شيكسبير إلى ملتن
(١) الشعر
كان للشعر في عصر اليصابات نغمةٌ غنائيةٌ حلوة الإيقاع، وكان يجري في سلاسةٍ طبيعية لا صنعة فيها ولا تكلف، فجاء رشيقًا خفيفًا تقرؤه فتحسب الشاعر قد أرسله من فوره إرسالًا لا عناء فيه.
وكان من الطبيعي إذا ما انقضى ذلك العصر الزاهر أن تنهض جماعة من شباب الشعراء، فتزعم أنها قد سئمت ذلك الضرب من الشعر الذي يجري في يد الشاعر في هوادة ورفق، لذلك قام «دَنْ» وأتباعه فغيروا أوضاع الشعر في عصر اليصابات، رأوا في الشعر الأليصاباتي إفاضة في القول، فاستبدلوا بها في شعرهم إيجازًا واقتضابًا، ورأوا في الشعر الأليصاباتي صورًا واستعاراتٍ مستقيمةً لا عوج فيها ولا التواء، فاستبدلوا بها مقارنات بين الأشياء فيها عنصر الغرابة والمباغتة والدقة، ورأوه شعرًا وصفيًّا فاستبدلوا به شعرًا يحلِّل، وأَلْفوا شعراء عصر اليصابات يسودهم الفرح بالدنيا والإقبال عليها في تفاؤل، فآثروا هم صبغة الجد والتشاؤم والإغراق في التفكير الديني، وكان الشعراء في عهد اليصابات متشابهين في الروح والأسلوب، حتى ليتعذر أن يُميَّز شاعرٌ من شاعر، أما هذه الطائفة الجديدة التي أعقبتهم فَنَمَتْ في أفرادها الروح الفردية، وأصبح لكلٍّ منها طابعٌ خاصٌّ يتميز به.
تلك هي الجماعة من الشعراء التي أطلق عليها «الدكتور جونْسُن» اسم «الشعراء الميتافيزيقيين» (شعراء ما وراء الطبيعة)، فأصبح هذا الاسم دالًّا عليها في تاريخ الأدب. ولعل السبب في إطلاق هذا الاسم على «دَنْ» وأتباعه الذين عاشوا في النصف الأول من القرن السابع عشر هو أنهم كانوا ينشدون المعاني الغريبة، ويستخدمون عقولهم ويؤثرون الفكرة العميقة، ويتجهون بمجهودهم العقلي والخيالي نحو التأمل في ذات الله، وفي علاقة الإنسان به، فكان شعرهم مما يصح أن يسمى شعرًا دينيًّا.
ولنتناول هذه الجماعة الميتافيزيقية بشيءٍ من التفصيل:
(١-١) جون دن John Donne (١٥٧٣–١٦٣١م)
هو مؤسس «المدرسة الميتافيزيقية» في الشعر الإنجليزي وأعظم شعرائها. ويمكن تقسيم شعره إلى شعرٍ غزلي يمتد منذ بدأ ينشئ الشعر، وهو في عامه العشرين، حتى بلغ من عمره الثامنة والعشرين، وشعرٍ ديني سبقته بعض القصائد التي يسودها عمق التفكير.
أما قصائده الغزلية، فكانت قبل زواجه تختلف عنها بعده، فهي قبل الزواج تنم عن الشاب الذي غلبته الحواس، فأرخى لنفسه العنان في شهواته وعواطفه، دون أن يكون له من ضميره رادعٌ زاجر، ثم أصبح غزله بعد الزواج أعفَّ وأطهر، ولئن كان بين المرحلتين صفةٌ مشتركة، فهي الإخلاص في التعبير.
وتجيء بعد ذلك مرحلة شعره الديني الذي يسجل فيه خطرات حياته الروحية، فتراه يسبح بفكره الدقيق النافذ وخياله القوي المشتعل في مشكلات الكفر والإيمان، فهو آنًا خاضع لله العلي خضوعًا لا ثورة فيه:
•••
وهو آنًا يقف ليتساءل: «إذا لم تكن الأفاعي الحاقدة حقيقة بلعنة الله، فماذا أكون؟»
ويتميز شعر «دَنْ» في هذه المرحلة الدينية — فضلًا عن خصائصه العقلية والعاطفية والخيالية التي أشرنا إليها — بالغموض والمفارقة والعنف، فغموضه راجع إلى أن أفكاره أعمق مما تستطيع الألفاظ أن تعبر عنه في يسرٍ وطلاقة، أضف إلى ذلك محاولته الإيجاز وعدم الإسراف في استخدام الكلمات مما يزيده غموضًا، والمفارقة في قصائده كثيرًا ما تبلغ حدًّا ينبو بها عن الذوق، فتبدأ القصيدة رخيَّةً جميلة لتنتهي وعرةً غامضة. أما عنف عباراته فكثيرًا ما يكون حسنة في شعره، وذلك حين يكون انسجامٌ بين تلك العبارة القوية المفاجئة الشاذة وبين فكره القوي وعاطفته المحتدمة.
وهاك بعض أمثلة من شعره:
الرسالة
•••
ومن شعره:
ومن شعره الديني:
ترنيمة إلى الله
•••
•••
•••
•••
•••
•••
ومن شعره:
العَبْرة
•••
اقرأ له هذه الأبيات التي تدل على نزعته الميتافيزيقية القوية التي تتعلق بالمقارنات العجيبة والتشبيهات التي تستوقف القارئ بغرابتها:
الحب في عينَيها المشمستَين
ومن لطيف شعره:
النفس
•••
وبينما كانت «المدرسة الميتافيزيقية» بمثابة رد فعل أعقب عصر اليصابات، فحلَّ فيها التصنُّع وغرابة المقارنة والتشبيه محل النغمة الطبيعية في عصر اليصابات، وأنشأت قصائدها في الدين بعد أن كان الشاعر الأليصاباتي وثني النزعة، يسترعي انتباهَه الشيءُ الجميل؛ نقول بينما كانت «المدرسة الميتافيزيقية» سائرة في طريقها الذي أوضحنا، نشأت في إنجلترا طائفةٌ أخرى من أصحاب الشعر الغنائي في النصف الأول من القرن السابع عشر، تحتفظ بالروح الشعرية الغنائية التي عهدناها في عصر اليصابات من حيث الطلاوة والطلاقة والتدفق، لكنها تختلف عن عصر اليصابات في شدة عنايتها بالصقل والتجويد، فكأنما كان الشعر الغنائي في عصر اليصابات ينبوعًا يتفجُّر منه الماء بطبيعته. وشعر هذه الطائفة آلةٌ صناعيةٌ مركبة تستخرج الماء، كلاهما ينساب منه الشعر سلسًا رشيقًا، لكن الشاعر الأليصاباتي ينشده بغير نَصَبٍ أو عناء، والشاعر من هؤلاء يبذل في إخراجه مجهودًا مضنيًا.
وكان على رأس هذه الطائفة «بن جونْسُنْ» الذي قدمناه في ختام الفصل السابق، ومن شعره:
إلى سيليا
•••
ومن أغانيه الرائعة التي وردت في روايته «إبكين، أو المرأة الصامتة» هذه الأغنية:
إلى أزهار النرجس
•••
وسُجِنَ الشاعر في سبيل الملك، فكتب إلى حبيبته من السجن يقول:
(٢) النثر
لئن بلغت آيات العصر الأليصاباتي في الشعر والمسرحية من الروعة ما لا يكاد يدنو منها منافس في سائر العصور، فقد كان النثر في ذلك العصر معيبًا لا يؤدي رسالته على الوجه الأكمل. ولعلك تذكر خصائص الأسلوب «اليوفيوزي» الذي ساد عندئذٍ، والذي ينمق العبارة ويزخرفها، كأنما نسي معه الكاتب أنه ناثر؛ فراح يثقل عبارته بخصائص الشعر، أو ما خيل إليه أنه من خصائص الشعر، فجاءت كتابته لا هي بالشعر الصحيح ولا هي بالنثر الصحيح.
ونحن نصور لك في إيجاز أعلام النثر في الفترة التي نؤرخها من شيكسبير إلى مِلْتنْ، أي النصف الأول من القرن السابع عشر.
(٢-١) فرانس بيكن Francis Bacon (١٥٦١–١٦٢٦م)
ولد «بيكُنْ» في الثاني والعشرين من شهر يناير سنة ١٥٦١م في مدينة لندن، من كريمةٍ مجيدة، فقد كان أبوه السير نكولاس بيكُنْ يتربع في منصبٍ من أسمى مناصب الدولة، وكان نابغًا نابهًا ذائع الصيت واسع الشهرة، فإن يكن قد خَفَتَ اسمه فما ذاك إلا لأن ذكر ابنه قد طغى عليه فبدده في ظلاله، فكأنما كانت أسرة بيكُنْ تسير نحو العبقرية صاعدة جيلًا بعد جيل، حتى بلغت الذروة في فرانسس بيكُنْ. وكانت أمه سليلة بيتٍ عريق، حصَّلَتْ من العلم وأصول الدين قدرًا محمودًا، فأخذت ترضع ابنها من علمها الواسع، ولم تدخر وسعًا في تنشيئه وتكوينه منذ نعومة أظفاره لتخرج منه رجلًا قويًّا. ولما بلغت سنُّه الثانية عشرة أرسل إلى جامعة كيمبردج، حيث لبث أعوامًا ثلاثة ترك الجامعة بعدها ساخطًا ناقمًا على مادة التدريس وطريقته على السواء، فقد كره ذلك الجدل الفارغ العقيم، الذي لا ينتهي في أغلب الحالات إلى شيءٍ ذي غناء.
وما بلغ السادسة عشرة من عمره، حتى انخرط في سلك الوظائف السياسية، فعين في السفارة الإنجليزية في فرنسا، ولبث هناك عامَين، ثم باغته القدر بموت أبيه، فعاد مسرعًا إلى لندن. وما هو إلا أن أخذت مواهبه الأدبية في الظهور والذيوع، فانتخب عضوًا في مجلس النواب، وسرعان ما جذب إليه الأنظار لبلاغته الساحرة وبيانه الخلاب.
واتُّهم بيكن في أخريات حياته بالرشوة، واستدان وعجز عن الوفاء بدينه. وهكذا خالطت تلك العظمة عناصر الضعف والضَّعة، وحقَّ لبوب أن يقول عنه بيته المشهور:
ولكن آيته الأدبية التي استحق من أجلها أن يذكر علمًا من أعلام الأدب هي مجموعة «مقالاته»؛ فإليه يرجع الفضل في إدخال «المقالة» في الأدب الإنجليزي، فلقد ذكرنا فيما سلف عن «مونتيْنيْ» أنه أول من كتب «المقالة» بالمعنى الأدبي الذي تواضع عليه الناقدون، وقد أخرج «مونتيني» الجزأين الأولين من مقالاته سنة ١٥٨٠م، فترجمهما إلى الإنجليزية «فلوريو» سنة ١٦٠٣م كما ذكرنا من قبلُ. وعن «مونتيني» أخذ بيكُن اسم «المقالة» وروحها، والمقالة عند بيكُنْ مجموعة من الخواطر يسوقها حول موضوعٍ معين بغير أن يعنى بترتيبها، فليس لها فاتحة يستهلُّ بها الحديث، وليس لها ختام يُشْعرك بنهايته. إنما هي — كما قلنا — سلسلة من الخواطر يسوق بعضها بعضًا، ويتخلَّلها أقوالٌ مقتبسة وحكايات يذكرها لتوضيح المعنى ولتأييد وجهة نظره، وليس بين هذه الخواطر من رباطٍ إلا أنها تقع تحت عنوانٍ واحد. ومما يميز أسلوب بيكُنْ في «مقالاته» التركيز الشديد، فمعنًى ضخم في لفظ قليل. على أن بيكُن لم ينتهِ بكتابة «المقالة» كما بدأها، فقد نشر من المقالات أول ما نشر عَشْرًا، وكان ذلك سنة ١٥٩٧م، وكانت المقالة في هذه البداية قصيرةً مركَّزة حتى لكأنها مجموعة من الحِكَم، فلما كان عام ١٦١٢م، أعاد كتابة هذه المقالات الأولى ووسع فيها، ثم أضاف إليها تسعًا وعشرين، ثم عاد سنة ١٦٢٥م فزاد في إطالة مقالاته الأولى، وأضاف إليها مقتبساتٍ وحكايات، ونشر معها إحدى وعشرين مقالة جديدة.
ونستطيع أن نقسم هذه «المقالات» إلى مجموعاتٍ أربع، فمجموعة تدور حول الإنسان في حياته الخاصة، ومجموعةٌ ثانية تتناول الإنسان في حياته العامة، وثالثة تعالج أمور السياسة، ورابعة تبحث في موضوعاتٍ مجردة.
ومن أمثلة المجموعة الأولى «الحب» و«الآباء والأبناء» و«الزواج والعزوبة» و«الصداقة». وإنك لترى الكاتب في هذه المرحلة كأنما يكتب بغير عاطفة، ويكاد يكون عقلًا خالصًا يحتكم إلى منطق العقل ولا يأبه بالمشاعر الإنسانية التي تصدر عن القلب؛ ولهذا تراه يقيس الأمور بالنجاح المادي في الحياة.
ومن أمثلة المجموعة الثانية «المنصب الرفيع» و«الرياء والتصنع»، وهو في هذه المرحلة أسوأ ما يكون مبدأ، فبلوغ الغاية هو كل شيء، وليس للأخلاق القويمة في ذاتها وزن كبير، ولعله في ذلك قد تأثر بمكيافلي ومبادئه السياسية، ومع ذلك فلا تخلو مقالات هذه المجموعة من عباراتٍ تصادفها هنا وهناك يرجع فيها الكاتب عن هذا الشطط، ويدعو إلى الفضيلة، فتراه يقول مثلًا: «إن القدرة على فعل الخير هي الغاية الحقيقية المشروعة من الطموح إلى المنصب الرفيع.»
ومن أمثلة المجموعة الثالثة «ما للمالك من مجدٍ حقيقي» و«المستعمرات»، وهو في هذه المقالات السياسية يبسط لنا السياسة التي تنطوي على بُعد النظر والاتزان، فهو — مثلًا — يوجِّه مُرَّ النقد إلى سياسة حَصْر الثروة القومية في أيدٍ قليلة؛ لأن «المال كالسحاب لا يجود إلا إذا انتشر.» لكنه مع ذلك لم يكن يرمي إلى ديمقراطية صحيحة؛ لأنه لا يؤمن بمقدرة الدهماء، فهو لا يريد أن تسود المساواة بين الناس جميعًا، ويتقرح أن يُمنح المزارعون ملكية أرضهم، ثم تقوم على رأسهم أرستقراطية تدبِّر أمرهم، ثم يحكم هؤلاء وأولئك جميعًا ملكٌ فيلسوف، ولعله تمنى أن يكونه.
وأما في المجموعة الرابعة التي تعالج موضوعاتٍ مجردة، فتجد مقالات «الموت» و«الحق» و«الجمال» وما إليها، وهو في هذه المجموعة أعمق ما يكون علمًا، وأبعد ما يكون عن التحزب لوجهة نظرٍ بعينها.
وهاك أمثلةً من مقالاته:
لقد قيل إن الفرنسيين أحكم مما يبدو عليهم، والإسبانيين يبدو عليهم من الحكمة أكثر مما لهم، ومهما يكن أمر هذه الفوارق بين الأمم، فلا ريب في أن هذا موجود بين الأفراد، فكما يقول «الرسول» عن التقوى بأن من الناس «من يتظاهرون بالتقوى ولا حظَّ لهم منها.» فكذلك لست أشك في أن من الناس من لا يعملون شيئًا، أو قل يعملون قليلًا ويتظاهرون بعمل الكثير. إنه لمن المضحك الذي يصلح لسخرية أصحاب الرأي الصائب أن يروا ما يصطنعه هؤلاء المتصنعون للحكمة ليجعلوا معلوماتهم السطحية تبدو كأنما هي ذات عمقٍ وعظمة؛ فبعضهم كتومٌ متحفظ كأنهم معرضون عن إخراج سلعهم إلا في الظلام، وهم يحرصون دائمًا على أن يتظاهروا بأنهم أفصحوا عن شيءٍ واحتفظوا في أنفسهم بشيء، وهم حين يوقنون بينهم وبين أنفسهم أنهم إنما يتحدثون فيما لا يحسنون الحديث فيه، تراهم مع ذلك يظهرون للناس بمظهر العارف لشيءٍ هم في الحقيقة يجهلونه، وبعضهم يستعين على تصنع الحكمة بالملامح والحركات، فهم حكماء بما يبدون من إشاراتٍ، وذلك كالذي قاله شيشرون عن «بيزو» أنه حين أجابه رفع أحد حاجبَيه إلى جبهته، وأنزل الآخر إلى ذقنه …
القراءة تملأ الإنسان بالعلم، والنقاش يجعله مستعدًّا بعلمه، والكتاب تجعل منه إنسانًا دقيقًا، ولذلك لو كان الرجل قليل الكتابة وجب أن يكون قويَّ الذاكرة، ولو كان قليل النقاش وجب أن يكون حاضر البديهة، ولو كان قليل القراءة لزم أن يكون شديد الدهاء ليظهر العلم بما لا يعلم. إن دراسة التاريخ تزيد الإنسان حكمةً، ودراسة الشعر تزيده فطنة، ودراسة الرياضة تزيده دقةً، وتزيده الفلسفة الطبيعية عمقًا، والأخلاق رصانة، والمنطق والبلاغة قدرةً على الجدل.
ولبيكُنْ عدا «مقالاته» كتاب «تاريخ هنري السابع» الذي كتبه بأسلوبٍ نقديٍّ موضوعي، فكان بذلك من طلائع المؤرخين بالمعنى الذي نفهمه اليوم من كتابة التاريخ، فقد كان المؤرخون في العصور الوسطى يستخدمون الشعر أداةً للتعبير، ويؤرخون لفتراتٍ طويلة من الزمن، ولم تكن لهم القدرة على تصوير الشخصيات التي يؤرخون لها تصويرًا واضحًا. كما لم يكن في مقدورهم أن يميزوا بين الحقيقة والخيال، فلما جاءت النهضة لم يستطع مؤرخوها أن يتخلَّصوا دفعةً واحدة من ذلك الأسلوب القديم، فظل تاريخهم أقرب — في مجموعه — إلى الحكايات المستطردة منه إلى التاريخ الصحيح، ثم أخذت كتابة التاريخ تتحول بحيث تعنى بتسجيل الحقائق دون الأساطير والخرافة، وبهذا الأسلوب التاريخي الجديد كتب بيكُنْ كتابه عن «هنري السابع»، لقد تناول فيه الموضوع كما تناول أي علمٍ من العلوم، مطبِّقًا في دراسته الطريقة الاستقرائية التي ابتكرها، فكانت آية عظمته في تاريخ الفكر، فهو يجمع الحقائق ويرتب النتائج، فتستطيع أن تعد «تاريخ هنري السابع» أول كتابٍ تاريخي كُتب بالأسلوب العلمي الحديث، وقد برع فيه الكاتب براعةً تستوقف النظر من حيث تصويره الناصع لشخصية الملك، وإرجاعه الحوادث إلى أسبابها، وحسبه في ذلك فخرًا أن البحث الحديث لم يجد في كتابه شيئًا يحتاج إلى تصويبٍ وتصحيح.
(٢-٢) روبرت بيرتن Robert Burton (١٥٧٧–١٦٤٠م)
ولا نستطيع أن نترك الحديث عن بيرتن وكتابه هذا، دون أن نذكر ما صادفه عند طائفةٍ من أكبر الأدباء من إعجابٍ شديد، فقد أعجب به «الدكتور جونْسُنْ» وافتتن بجماله «تشارلز لام» الذي قال في إحدى رسائله: «إني أمعن النظر للمرة المتممة للألف في إحدى عبارات بيرتُنْ.» وهنالك بعض عباراتٍ ابتكرها هذا الكاتب، فشاعت ولا تزال شائعةً لما فيها من طلاوة التفكير وقوة التعبير، نذكر منها: «القَزم الواقف على كتف العملاق يستطيع أن يرى أبعد مما يرى العملاق نفسه.» «إن صانع الأحذية حافي القدمَين.» «يبني قصورًا في الهواء.» «إن الطيور على أشكالها تقع.»
(٢-٣) سير تومس براون Sir Thomas Browne (١٦٠٥–١٦٨٢م)
ليست حياتي سوى معجزةٍ تمت في ثلاثين عامًا، فإن رويتُ قصتها فلست بذلك أروي تاريخًا، وإنما أقدم قصيدةً من الشعر، وستتلقاها المسامع كما تتلقى خرافة من خلق الخيال. أما هذا العالم فلست أراه فندقًا بقدر ما أراه بمثابة المستشفى، فليس هو بالمكان الذي نحيا فيه، إنما هو مكان نلفظ فيه الروح ونموت. وما العالم الذي أراه إلا نفسي، فلست بمستطيعٍ أن أرسل البصر إلا ليشهد جِرْمي الضئيل الذي ينطوي فيه العالم الأكبر.
ليست الأرض نقطةً صغيرة بالنسبة إلى أجواز السماء التي فوقنا فحسب، بل هي كذلك بالنسبة إلى الجوهر السماوي الإلهي الذي فينا، إن هذه الكتلة اللحمية التي تحيط بي لا تحدُّ من عقلي، إن هذا السطح الجسدي الذي ينبئ أن لي حدودًا لا يحملني على الظن بأنني كائن محدود … لستُ أشك في أننا ننطوي على شعلة من الله، إنها شعلةٌ وجدت قبل أن توجد السماء، ولم تستمد ضوءها من الشمس. إن الطبيعة لتنبئني أنني صورة لله كما أن الكتاب المنزل صورةٌ أخرى، وإن من لا يعلم هذا لا يعلم المقدمة ولا الدرس الأول، وعليه أن يعيد دراسته للإنسان مبتدئًا بأحرف الهجاء.