جون مِلْتُنْ١ (١٦٠٨–١٦٧٤م)
انقضى عصر اليصابات بأدبه المرح الجذل الطروب، فلاحت في الأفق علائم عصرٍ جديدٍ وروحٍ جديد، فها هو القرن السابع عشر قد أقبل، ثم انتصف أو كاد، وها هي روح التَّزمُّت في الحياة والأدب قد ملكت على النفوس زمامها، وإنما تجسمت تلك الروح، وبلغت ذراها في شاعر العصر: جون مِلْتُنْ.
ولقد أجمع النقاد على أن «ملتن» أحد ثلاثة هم أعظم الشعراء قاطبة في الأدب الإنجليزي. ولسنا نعني بهذا أنك لا تجد بين أدباء الإنجليز عددًا من الشعراء قد يبلغ العشرين ممن يرتفعون في بعض أدبهم إلى الأوج الذي ارتفع إليه ملتن، وإنما نعني أن ما أداه هذا الشاعر العظيم من تجسيد روح عصره في شعره، ومن الصعود بشعره إلى أوجٍ لم يهبط منه، لم يتوافر في تاريخ الأدب الإنجليزي كله إلا في ثلاثة: «شيكسبير» و«ملتن» و«وردزورث». فقد تجد من شعراء عصر اليصابات من يبلغ في أروع إنتاجه مبلغ شيكسبير، لكنك لا تجد بينهم من يضارعه في اتساع أفقه، وفي المحافظة على ما ارتفع إليه، فكل ما أنتجه شعراء عصر اليصابات تجد له نظيرًا عند شيكسبير، والعكس غير صحيح، أعني أن لشيكسبير آياتٍ لا يدنو منها شيء مما أنتجه سائر الشعراء في عصره، وهكذا قل في «ملتن» و«وردزورث».
كان «ملتن» أصدق لسان يعبر عن خواطر عصره كله، فكانت له غايةٌ واحدةٌ رئيسية ينشدها في كل ما أنشد من الشعر، وما تلك الغاية المنشودة إلا بغية عصره، وأعني بها أن يقيم للناس برهانًا على عدل الله وحكمته، تلك هي غايته التي قصد إليها تلميحًا في شعره كله، وأفصح عنها تصريحًا في مطلع «الفردوس المفقود»، ولكي نفهم روح العصر الذي عاش فيه ملتن، نعود خطوةً إلى الوراء حيث عصر اليصابات، فماذا نرى؟ نرى حيويةً جارفة تسود العصر، حيوية تدفع الإنسان إلى الانغماس في كل ما يزيده استمتاعًا بالحياة دون أن يجد من العقل أو الضمير ما يكبحه، فمغامرات في جوف المحيط، وتلقف لكل ثقافةٍ جديدة يستخرجها رجال النهضة من أسفار القدماء، فعهد اليصابات في الأمة هو مرحلة الشباب الفتي الطموح، فيه تحطيم القيود الذي نعهده في الشباب، وفيه الأمل الباسم، وفيه الجدة والنضارة، وفيه الرغبة الملحَّة في تحصيل العلم، وفيه الخروج على معايير الأخلاق، وفيه حب الاستطلاع وركوب المخاطر مما نراه كذلك في فتوة الشباب.
فلما انقضت عن العصر دوافع الشباب ونزواته، وذهبت عنه نضارة الشباب وروعته، أقبل على الناس عهد استيقظ فيه الضمير ليحاسبهم على ما قدمت أيديهم في العهد الذي أدبر، عهد لم يعد يقبل الحياة بكل ما فيها وهو بها فرحٌ مغتبط، بل أخذ يقدر خيرية العمل وشريته قبل أدائه، عهد أراد فيه القوم أن يحتكموا إلى الكتاب المقدس كما هو بحروفه وألفاظه بغير تأويل وتحريف، وذلك هو عهد التَّزمُّت الديني الذي كان له شاعرنا جون ملتن لسانه المعبر الناطق.
«جون ملتن» سليل أسرةٍ من أوساط الناس، ولد في لندن عام ١٦٠٨م، وأكمل تعليمه في كيمبردج عام ١٦٣٢م، حيث درس الآداب القديمة درسًا دقيقًا، وغادر الجامعة وهو يعرف اللغة العبرية خير معرفة، كما يجيد من الآداب الحديثة الإنجليزي والإيطالي والفرنسي، وفضلًا عن ذلك فقد برع في الموسيقى، واستمد منها لذة ومتعة.
وما لنا نطيل الوقوف عند أنباء حياته، كأنه ليس أمامنا خضم من أدبه زاخر! فلنأخذ من فورنا في استعراض هذا التراث العظيم، وسنقسمه لتيسير دراسته إلى ثلاث مراحل:
(١) المرحلة الأولى
شعره قبل سنة ١٦٣٩م (أي قبل أن يجاوز الحادية والثلاثين من عمره).
ففي القصيدتَين المتعارضتَين «لِلَجْرو» و«إلبنسروزو» أي الطروب والمتأمل يصور لنا الشاعر الحياة كما تبدو في حالتَين مختلفتَين، يصورهما كما تبدو فيمن يستبشر بالحياة، ويطرب لها، ويسترعيه منها اللذائذ والمباهج، ثم يصوِّرها كما تبدو فيمن يغرق في تفكيره وتأمله، ويأخذ الحياة من جانبها الجاد الرصين، وهاتان الحالتان على اختلاف ما بينهما إنما تصوِّران وجهَين لحياة الشخص الواحد، فليس منا مَنْ لا يطرب للحياة ساعة، ثم لا يشهد فيها إلا الجد ساعةً أخرى، ففي قصيدة الطروب تلمح الشاعر وهو فرح بمباهج الطبيعة سعيدٌ هانئ، وفي قصيدة المتأمل تراه في تفكيره الجاد مُثْقل الفؤاد، مهموم النفس. ولقد كان يُظن أن ملتن أراد بالقصيدة الأولى أن يصور لنا الرجل من حاشية الملك في عصره، وقد كان فارغ القلب لا يرى في الحياة إلا لهوًا ومرحًا، وأنه أراد بالقصيدة الثانية أن يصور الرجل من «المتزمِّتين» الدينيين الذين كان الشاعر واحدًا منهم، وقد كان لا ينشد في الحياة إلا الجد الذي لا يعرف المزاح والعبث، ولكن عاد رجال النقد فبيَّنوا أن الشاعر لا يريد بقصيدتَيه إلا أن يصور نفسه بوجهَيها، فليس من اللذائذ التي يحتفل لها في قصيدة «للجرو» ما يتنافى مع خلق التَّزمت الديني الذي عُرف به ملتن، فمباهج النفس في هذه القصيدة هي الربيع ونضارة الصباح وتغريد القُبَّرة وشروق الشمس والرجال والنساء يشتغلون في الحقول، والقَصص يُروى بجوار المدفأة في المساء، وضجة الحياة في المدينة الشامخة بأبراجها والروايات التمثيلية تجرى على المسارح.
وأما في قصيدة «إلبنسروزو» فترى الشاعر بين كتبه في برجٍ عالٍ منعزل، يقرأ الفلسفة والعلم، وتراه إذا غادر برجه ليمشي فإنما يختار المماشي المنعزلة بين الأحراش، ويقصد إلى الكنائس التي بنيت على أساس الفن القوطي الجليل، تراه يلتفت إلى غروب الشمس لا إلى شروقها، وإذا أنصت إلى تغريد الطير، فإنما ينصت إلى البلبل وهو يغني في جوف الليل، هكذا يصور لك الشاعر نفسه في حالتَيه، لكنه يختار لنفسه الحالة الثانية ويؤثرها على الأولى.
استمع إليه في قصيدة «لَلِجْرو» — أي الطروب — وهو يقول على لسان شابٍّ جذل:
•••
•••
•••
وهكذا ترى الشاعر في حالة طربه وبهجة نفسه يتخير المواضع التي يرى أنها تزيده طربًا وبهجة.
أما في «إِلْبنسروزو» — أو قصيدة المتأمل — فتراه يهيب بصنوف المباهج الفارغة الخادعة أن تنفضَّ عنه فما هو لها ولا هي له، فهو الآن يريد أن يستمع إلى البلبل في صوته الحزين لا إلى القبَّرة في تغريدها الشجي، وهو الآن يريد أن يشهد المأساة على المسرح تبدو له بجلالها الرهيب، فهي أقرب إلى نفسه من ألوان المسرحيات الأخرى التي تزدان بصنوف الزخارف، كالمقنَّعات والمواكب التي عرفتها الأعوام السوالف، والتي صادفت هوًى عند «الطروب» في قصيدة «لَلِجْرو»، وهو يؤثر أنغام الأرغن الرزينة الرصينة على ألحان الغناء العذبة الشجية، ويفضل الحياة يملؤها العمل على الحياة تُقضى في أسباب المتعة.
وبعدُ فالقصيدتان في حقيقة أمرهما وحدةٌ متصلة؛ إذ هما تبينان معًا كيف تكون الحياة المعقولة بوجهَيها.
تفقد البطلة في هذه المقنعة إخوتها في الغابة، فيأسرها الإله العربيد، ويحاول أن يعتدي على عفتها، لكنه يحاول عبثًا، فهيهات أن ينال من سيدة يصونها الطهر والفضيلة والعفاف، وكان يحرس السيدةَ روحٌ، فعمل هذا على أن يهدي إخوتها إلى مكانها، فيسرع إليها الإخوة ويطلقون سراحها، وينتزعون من الساحر جرعة السمِّ التي همَّ أن يصبَّها في أسيرته، وعندئذٍ يلوذ الساحر وأتباعه بالفرار.
اقرأ ما تقوله «السيدة» إذ ألفت نفسها في الغاب وحيدة:
وإنما أراد مِلْتُنْ في «كومَسْ» أن يهاجم الإباحية وتحلل الأخلاق الذي شاع بين حاشية الملك شارل الأول، وأحبَّ أن يرسم لهؤلاء المستهترين مثلًا خلقيًّا أعلى مما يحتذون.
ونختم الحديث عن شعر المرحلة الأولى بكلمة عن قصيدة «لِسِداس» وهي المرثية الرائعة التي بكى بها الشاعر زميله في الدراسة «إدورد كِنْج» الذي ابتلعه اليمُّ وهو يعبر البحر إلى أيرلنده.
وهو يستهل القصيدة بهذه الأبيات:
كتب مِلْتُنْ قصيدة لسداس سنة ١٦٣٧م، وهو ما يزال في بيتٍ أبيه الذي أوى إليه بعد أن غادر الجامعة، ولم يكن بعدُ قد اشتغل بالحياة العملية، بل كان يواصل الدراسة بالقراءة، وفي العام نفسه ماتت أمه، فلم يلبث أن ارتحل إلى أوروبا يجوب أقطارها، وزار إيطاليا بصفةٍ خاصة، والتقى بأعلام الأدب فيها، وهنالك كتب بعض القصائد اللاتينية والإيطالية، ثم أسرع بالعودة إلى بلاده حين جاءته الأنباء أن حَبْلَ الأمور قد اضطرب فيها، وهنا تبدأ مرحلته الأدبية الثانية.
(٢) المرحلة الثانية ١٦٤٠–١٦٦٠م
في هذه المرحلة أنتج مؤلفاته السياسية وأدبه النثري، وكان من أول ما كتبه بعد عودته إلى لندن رسالةً صغيرة «في التربية» نشرت سنة ١٦٤٤م، وفيها يقترح أن تشمل تربية الناشئ ثقافةً عريضة تقوم على أساسَين هما: الآداب القديمة والمواد التي تنفع في الحياة العملية؛ فيدرس الطالب الأدب والفلسفة والسياسة والقانون والطب وفن الحروب، إذ لا بد أن يعنى في التربية بأجسام الناشئين وعقولهم ونفوسهم على السواء، ثم هو يوصي إلى جانب ذلك بالموسيقى التي تبعث البهجة في النفوس.
لكن حماسة ملتن في هذه الرسائل الخاصة بالطلاق سرعان ما فترت حين استسلمت له زوجته بعد نفور وعصيان، وأنجبت له ثلاث بنات، وعاشرته في هدوءٍ، حتى جاءتها المنية، وهي ما تزال شابة في عامها السادس والعشرين.
إننا نعلم أن الخير والشر في هذا العالم ينموان معًا لا يكادان ينفصلان … إنه من جوف تفاحةٍ واحدةٍ أكلها آدم قفزت إلى هذا العالم معرفة الخير ومعرفة الشر اختلطت إحداهما بالأخرى، بل ربما كان ذلك هو ما قدر لآدم أن يسقط فيه، وهو معرفة الخير والشر، أعني معرفة الخير عن طريق الشر، وإن كانت هذه هي طبيعة الإنسان فأية حكمة نستطيع أن نختار وأي جهدٍ يجب أن يبذل إذا اجتنبنا معرفة الشر؟ إن الذي في وسعه أن يرى الرذيلة وأن يفهمها بكل ما تحوي من مغريات ومتعٍ ظاهرة، ثم يمتنع عنها لِيختار لنفسه ما هو في حقيقته خير منها وأفضل لَهُوَ المسيحي الصحيح الذي يسير على الهدى. إني لا أستطيع أن أثني على فضيلة لاذت بالفرار وغلقت دونها الأبواب، فضيلة ينقصها المران والجهد، فضيلة لا تقتحم الحياة باحثةً عن عدوها لتهاجمه، بل تنكص على عقبيها وتخلِّف ميدان السباق، حيث الإكليل الخالد جدير أن يُجْرَى في سبيله ليُظفَر به، ولكن بعد عناء الحر والغبار … إذن فتلك الفضيلة التي تحجم عن التأمل في الرذيلة، والتي لا تدري كل ما تَعِده الرذيلة أتباعها من جزاء، ثم تنبذها بعد هذا، إنما هي فضيلةٌ خاوية وليست مقطوعاته بالفضيلة النقية، إن بياضها بياض الروث …
ولنمضِ الآن مسرعين، فلا نقف عند سائر نثره السياسي — الذي أخذ يخرجه رسالةً بعد رسالة، والذي أفقده البصر وهو في عامه الرابع والأربعين — لنقول كلمةً قصيرة في الشعرية ننتقل بعدها إلى آيته الكبرى «الفردوس المفقود».
فقد صمت ملتن عن قول الشعر عشرين عامًا امتدت منذ عودته من إيطاليا، حتى عادت الملكية إلى إنجلترا بعد أن أبعدت عن البلاد حينًا، كان يتولى الحكم فيه «كرمول» الذي كان شاعرنا من أنصاره، نقول قد صمت ملتن عن قول الشعر خلال تلك الأعوام العشرين التي تفرَّغ خلالها إلى النثر؛ لأنه أداة أنسب للعراك السياسي الذي اشتمل البلاد، صمت شاعرنا عن قرض الشعر إلا «مقطوعاتٍ شعرية» قالها بهذه المناسبة أو تلك، وبعض هذه المقطوعات ذاتيٌّ يعبر عن حالته الشخصية كالمقطوعة المشهورة التي قالها حين فقد البصر، وبعض المقطوعات متصل بالأحداث السياسية التي شغلت أكبر جهده وانصرف إليها أكثر نبوغه.
فالمقطوعة الشعرية — كما تعلم — قوامها دائمًا أربعة عشر بيتًا، إلا أن تقسيم هذه الأبيات ومجرى القوافي فيها يختلف عند الشعراء الذين عالجوها، فملتن يقسمها إلى رباعيتَين وثلاثيتَين أحيانًا، أو إلى رباعيتَين وثلاثة أزواج أحيانًا أخرى، وفي الحالة الأولى تجري القافية هكذا:
«أ – ب – ب – أ» «أ – ب – ب – أ» «ﺟ – د – ﻫ» «ﺟ – د – ﻫ».
وفي الحالة الثانية تكون القافية على هذا النحو:
«أ – ب – ب – أ» «أ – ب – ب – أ» «ﺟ – د» «ﺟ – د» «ﺟ – د».
وهو في الرباعيتَين يحذو حذو بترارك، ثم يجدد في الستة الأبيات الأخرى.
ومن أمثلة هذه المقطوعات:
في عماه
(٣) المرحلة الثالثة ١٦٦٠–١٦٧٤م
ها قد زالت من الشاعر شواغله السياسية بعودة الملكية إلى إنجلترا، فانصرف إلى تحقيق أمنية طالما تمناها، وهي أن ينشئ في الشعر آيةً خالدة لا تعرف لها بين ما أنتج الشعراء ضريبًا، ففيم يكتب؟ أيختار «أرثر» بطلًا لآيته الكبرى التي اعتزم أن ينهض بإنشائها؟ لقد جال بنفسه هذا الخاطر، ثم لم يَطُل، ولم يلبث أن اتجه بفكره نحو موضوع قصيدتيه الكبراوين «الفردوس المفقود» و«الفردوس المردود». أما الأولى فتقصُّ ثورة الملائكة على الله، ثم كيف تم خلق الإنسان وإغراؤه وسقوطه طريدًا من الفردوس، وأما الثانية فتصف كيف حاول الشيطان أن يغري المسيح وهو في البيداء المقفرة بشتى المغريات، لكنه لم يوفق في إغرائه وخرج المسيح ظافرًا.
ونريد الآن أن نقف وقفةً طويلة عند «الفردوس المفقود»؛ لأنها في آداب العالم درةٌ فريدة.
تقع «الفردوس» في اثني عشر جزءًا، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات، فثورة الملائكة وكفاحهم ضد الإله يشغل الجزء الأول والثاني والثالث، كما يشغل الشطر الأعظم من الجزأين الخامس والسادس، وخلق الإنسان وشفاعة المسيح له يرد ذكرها في الجزأين الأول والرابع، ثم يشغل جانبًا من الخامس والسابع والثامن، وإيقاع الشيطان بالإنسان، ثم عصيان آدم وحواء وطردهما من الجنة هو موضوع الأجزاء الباقية من التاسع إلى الثاني عشر.
وهاك خلاصةً لهذه الملحمة العظيمة.
يستهل الشاعر قصيدته بدعاءٍ يوجهه إلى ربة الشعر يستلهمها الوحي:
•••
ثم يتجه الشاعر إلى المسيح:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وأخيرًا احتشد الملائكة الثائرون وتوسطهم الشيطان وخطب فيهم بعزمه على مقاتلة الله تعالى، فاجتمعوا يتداولون الرأي، فمنهم من يؤيد فكرة القتال ومنهم من يفنِّدها، وأخيرًا نهض إبليس — وهو الذي يتلو الشيطان في رفعة المقام — واقترح رأيًا كان قد سبقه إليه الشيطان، وهو أن يحاربوا الله في مخلوقه الجديد وهو الإنسان، وصادف الاقتراح قبولًا، لكن نشأت مشكلة وهي: مَنْ ذا الذي ينهض بعبء البحث عن العالم الجديد الذي فيه الإنسان، وعندئذٍ تطوَّع الشيطان نفسه أن يأخذ على نفسه هذه المهمة، وانفض اجتماع الملائكة الثائرين، وانصرف كلٌّ إلى سبيله، فهذا إلى رياضة، وذاك إلى قتال، وثالث إلى جدال، وأما الشيطان فقد شق بجناحيه الطريق إلى أبواب الجحيم التسعة، تحرسه «الخطيئة» وابنها الشائه وهو «الموت»، وفتحت «الخطيئة» أبواب الجحيم للشيطان فخرج منها طائرًا.
•••
هنا يتوجه الشاعر بالقول إلى «الضياء» ويرثي لعماه، ليتخذ من ذلك مقدمة ينتقل منها إلى صورة يصور فيها السماء ويصور حديثًا يدور بين «الأب» (الله) و«ابنه» (المسيح):
تلك خلاصة «الفردوس المفقود»، مما أخذ عليها أن الشاعر — أراد أو لم يرد — أن يكون بطله الشيطان لا آدم، وقد يكون ذلك صحيحًا في الجزأين الأوَّلين من الملحمة، اللذين اضطر فيهما الشاعر أن يجعل الشيطان شديد البأس، قوي العزيمة، ليهيئ الطريق للصراع العنيف المقبل، وليثير الإشفاق والخوف في نفس القارئ، حتى يزداد عطفه على أبوَيه الأوَّلين، ويزداد شكره لمن مهد له الخلاص، لكن لم يَفُت الشاعر بعد ذلك أن ينْقص من جبروت الشيطان شيئًا فشيئًا، حتى تضاءل وهَزُلَ في «الفردوس المردود». ألا تذكر حين كان الشيطان متنكرًا يُسِرُّ في أذن حواء وهي نائمة، كيف فزع حين لمسه «إثوريل» برمحه؟
«الإنسان» لا «الشيطان» هو بطل الملحمة، فهو يستدر عطف القارئ على الرغم من هزيمته، ثم تجيء بعد ذلك قصيدة «الفردوس المردود»، فينتصر فيها الإنسان الإلهي على مغريات الشيطان نصرًا حاسمًا.