من ملتن إلى العصر الأوغسطي أو الأدب الإنجليزي في النصف الثاني من القرن السابع عشر
(١) الشعر
(١-١) أندرو مارفل Andrew Marvell (١٦٢١–١٦٧٨م)
هو — إلى جانب ملتن — شاعر من طائفة المتزمِّتين الدينيين، ولو أنه كثيرًا ما أحسَّ العطف على الملك شارل الأول الذي كان عدوًّا لهؤلاء المتزمتين.
كان مارفل متعدد النواحي في شعره، فهو أعظم شعراء الطبيعة في القرن السابع عشر بقصيدته العصماء «أفكار في حديقة»، وهو شاعر الفكر الذي يغذِّي عقل قارئه بنبيل الأفكار، وهو في ذلك شبيه بملتن، وهو في بعض قصائده يغرق في التشبيه الغريب، وهي النزعة «الميتافيزيقية» التي عرفناها في «دَنْ»، تراه يقول أجود الشعر في زعيم المتزمِّتين الدينيين «أولفر كرمول» كما يقوله في عدو المتزمتين «شارل الأول».
اقرأ له قصيدة «أفكار في حديقة» تجدها جياشةً بحبه للطبيعة حبًّا لا تكاد تلمس نظيرًا له في شاعرٍ إنجليزي سواه، مليئة بالأفكار الطريفة واللفتات الفنية الرائعة، ففيها يقول إن الناس يحاولون أن يتوجوا عملهم المجهد بأكاليل النبات، والنبات يسخر منهم؛ لأن صنوف النبات كلها قد تعاونت في هذه الحديقة على صنع إكليل للراحة والدَّعة، فإن شئت هدوءًا وطهرًا، فسبيلهما هذه الحديقة لا مجتمع الإنسان الصاخب، وهو يلاحظ أن حمقى العاشقين قد نقشوا أسماءهم على جذوع الشجر في الحديقة، مع أن هذا الشجر أفتن جمالًا من معشوقاتهم. إن العاشقين من أرباب الأساطير قد انتهى بهم السعي وراء حبيباتهم إلى اللقاء تحت الشجر، «فأبولو» أخذ يطارد معشوقته «دافني» حتى التقى بها تحت شجرة من أشجار الغار، و«بان» تعقَّب حبيبته «سِرنْكِسْ»، حتى وجدها عند شجرة من أشجار الغاب، وبعد ذلك يتلفت الشاعر في الحديقة ويعدِّد ما يراه في جنباتها من ألوان الفاكهة، ويعبر عما يحسُّه العقل من سعادة في هذه الحديقة حين يطلق لنفسه عنان الخيال، ثم يقول إنك إن جُلْتَ في هذا الفردوس وحيدًا، فأنت تنعم بفردوسَين: فردوس العزلة، وفردوس هذا البستان. وأخيرًا يرى الشاعر في أزهار الحديقة وأعشابها «مِزْولة» تبين له أوقات العام كأنها الساعة تسجل مَرَّ الزمان.
(١-٢) جون دريدن Gohn Dryden (١٦٣١–١٧٠٠م)
ننتقل بك الآن إلى شاعرٍ عظيم يُعدُّ في طليعة الأدباء الإنجليز، هو «جون دريدن» الذي هبط من أسرة عريقة، وتلقى علومه في مدرسة وستمنستر، حيث أنشأ وهو في الثامنة عشرة من عمره قصيدة رثاء عنوانها «في موت اللورد هيستنجز» فجاءت متأثرة بالطريقة الميتافيزيقية في كتابة الشعر — وقد كانت سائدة — وهي التي ابتدأها «دَنْ» وحدثناك عنها في أكثر من موضع. وحسبنا أن نذكِّرك بخصيصةٍ تميزها وهي أنها تُغْرِب في التشبيه والاستعارة، بحيث تربط بين أشياء هي أبعد ما تكون صلةً بعضها ببعض، بهذه الطريقة في قرض الشعر بدأ «دريدن» في رثاء هيستنجز الذي نقتبس منه هذه الأبيات الآتية على سبيل المثال:
ذلك مثال من المقارنات العجيبة والتشبيهات الغريبة التي عرفت بها المدرسة الميتافيزيقية في الشعر، والتي بدأ «دريدن» متأثرًا بها. ولا بد لنا إثباتًا للحق أن نقول إنه مثال سيئ، إن دلَّ على اتجاه الشعر الميتافيزيقي فإنما يدل على أردأ ما فيه، ولعله من الخير أن نسوق مثالًا آخر لدريدن نفسه في موت هيستنجز، ينسج فيه على غرار المدرسة الميتافيزيقية أيضًا، ولكن بصورةٍ أجود، قال (لاحظ أن هيستنجز مات بالجدري):
•••
•••
وانجابت عن البلاد نكبتها، فعاد المسرح وعاد «دريدن» إلى الكتابة المسرحية التي ظل مشتغلًا بها بعد ذلك أعوامًا طوالًا، أكسبه مالًا وفيرًا، ورفع قدره في قصر الملك فنُصِّب أميرًا للشعراء. ولا شك أن هذا التوفيق أغار صدور أعدائه، لكنه استطاع بما أوتي من قدرةٍ نادرة على السخرية أن يخرسهم جميعًا.
لكن شافتسبري بُرِّئ على الرغم من هذه القصيدة الساخرة، وأصبح في أعين الشعب بطل الساعة، وضُربت أوسمة تحمل اسمه وصورته ونُقشت عليها الشمس تُبدِّد غياهب السحب، تخليدًا لذلك الحادث العظيم.
•••
وكأنما لم يَكْفِ الشاعرَ هذه القصيدة في الثأر لنفسه من «شادْولْ»، فانتهز فرصة أخرج فيها شاعر من أنصاره قصيدة تكمل «أبشالوم وأكيتوفل»، فأضاف إليها «دريدن» مائتي بيت يهجو فيها شادول مرةً أخرى.
•••
ففي أغنية القديس سيسليا يقول الشاعر إن الموسيقى قد أشاعت الاتساق والتناغم والانسجام في الذرات المتنافرة التي يتألف منها الكون، بحيث أصبح على النحو الذي نرى، وفي وسع الموسيقى أن تثير في الإنسان كل صنوف العواطف على اختلافها، فهي التي تستثير الجند للقتال، وهي التي يبث فيها المحبون أنَّاتهم، ثم يعرج الشاعر على «أورفيوس» الذي جاء في الأساطير أنه كان يحرك الجماد بأنغام موسيقاه.
وفي «وليمة الإسكندر» يصور لك «تيموذيوس» العازف جالسًا على عرشٍ رفيع، وعلى مقربةٍ منه جلس الإسكندر إلى جانب تاييس، وتبدأ الموسيقى ويبدأ الغناء بقصة زواج الإله «جوف» من «أولميبيا»، ثم ينتقل العازف إلى التغني برب الخمر «باكَسْ»، فتفعل الأنغام في نفس الإسكندر فعلها، وتأخذه الحماسة ويملؤه الغرور، ويقصُّ على الحضور قصة حروبه موقعةً بعد موقعة، وهنا يرى العازف أن يكبح هذا الغرور في نفس الإسكندر، فيحول موسيقاه وأنغامه وغناءه، بحيث يروي بها هزائم «دارا»، فتتحرك الشفقة في نفس الإسكندر، ويرقُّ لذلك البطل الكسير ويرثي. ولما كان بين الشفقة والحب وشيجةٌ قوية وصلةٌ قريبة، انتهز العازف تحرك الشفقة في قلب الملك وعرَّج من فوره على أنغام الحب فَلَانَ لها فؤاد الإسكندر، ثم ختم الموسيقار أنغامه بنغمة الثأر والانتقام. وهكذا أخذ يلعب بعواطف الإسكندر، يعلو بها آنًا ويهبط آنًا.
وبعدُ فللشاعر غير هذا كله «متفرقات» و«مترجمات»، وكان أهم من ترجم لهم «دريدن» من الأدباء القدماء «فيرجيل» إذ وفِّق في ترجمته إلى شعرٍ إنجليزي توفيقًا قلَّ أن تجد له نظيرًا في كل ما ترجم من عيون الأدب في العالم.
•••
ولم يكن دريدن شاعرًا وكفى، إنما كان إلى جانب ذلك ناثرًا وكاتبًا مسرحيًّا. ومن الخير أن نتحدث عنه ناثرًا حين نتناول الناثرين في الكلمة التالية لحديثنا عن الشعراء، ثم نتحدث عنه مسرحيًّا عند الكلام على المسرحية في هذا النصف الثاني من القرن السابع عشر.
(١-٣) صموئيل بتلر Samuel Butler (١٦١٢–١٦٨٠م)
وله حكايةٌ رمزية لطيفة عنوانها «الهر والهرة» نسوق منها هذا المثال.
(٢) النثر
(٢-١) جون دريدن
وأما مقالته النقدية الثانية «مقدمة الحكايات» ففيها نقدٌ مقارنٌ قوي، إذ يوازن الكاتب بين شوسر وبوكاتشو موازنة يرجع فيها لتأييد رأيه إلى أعلام الأدب القديم: هومر وفريجل وأوفد، فجاءت مقالة تفيد وتمتع في آنٍ معًا.
(٢-٢) جون بنين Gohn Bunyan (١٦٢٨–١٦٨٨م)
ولد «جون بَنْيَنْ» في قريةٍ قريبةٍ من بدفورد من «أبٍ شريفٍ فقيرٍ عامل»، ولما شبَّ أُرسل إلى المدرسة الثانوية في بدفورد، حيث تعلم «القراءة والكتابة بالقدر الذي يُسمح به لسائر أبناء الفقراء»، ولما غادر المدرسة درَّبه أبوه على حرفته، وهي الصِّفاحة (السمكرة) فاتخذها «جون» مهنةً يرتزق منها في قريته، وقد كان ثائر العاطفة قوي الخيال، إذا ما اجتمعت جماعة الصبيان في بلده على سوء كان هو على رأسها، وبهذا يعترف حين جاوز حد الشباب وعمر قلبه بالتقوى، فقد جرى لسانه بألفاظ السباب، وافترى كذبًا وتسوَّر الحدائق ليسرق ثمارها، لكنه إن كان قد اقترف هذه الهفوات الهينة في شبابه، فقد دفع لها ثمنًا غاليًا في رجولته من ندمٍ وفزعٍ من العقاب الذي لا بد واقعٌ به على ما فرط، وأخذت تلاحقه الرؤى المخيفة منذرةً إياه بأليم العذاب.
شبَّت في إنجلترا الحرب الأهلية بين الملك شارل الأول وأنصاره من جهة وبين البرلمان والمتزمتين الدينيين من جهةٍ أخرى، فانخرط فيها «بَنْيَنْ» جنديًّا محاربًا، ولبث يقاتل عامًا، عاد بعده إلى بلده حيث تزوج. يقول:
«صادفت زوجةً عُرف أبوها بتقواه، فتزوجنا ونحن كلانا على أشد ما نكون فقرًا وعُدْما، لا نملك من أدوات الدار طبقًا أو ملعقةً، لكن زوجتي كان معها كتابان «طريق الإنسان إلى الجنة» و«الشعائر العملية للورع» وهما ما خَلَّفه لها أبوها عند موته، وكنت أقرأ معها هذين الكتابَين حينًا بعد حين، فوجدت فيهما بعض ما سرَّني، لكني لم أصادف فيهما ما حملني على العقيدة المخلصة، وكثيرًا ما كانت تنبئني زوجتي عن تقوى أبيها، وكيف كان يؤنِّب على الرذيلة ويصلحها، سواء وقعت تلك الرذيلة في داره أو بين جيرته، وتقول إنه عاش حياةً دينيةً صارمة في قوله وعمله. إن هذين الكتابَين لم يبلغا مني القلب، لكنهما حركا في نفسي شيئًا من الرغبة في الدين.»
كان «بَنْيَنْ» في تلك الفترة من حياته يختلف إلى الكنيسة في نظام واطراد لا يتخلَّف، ولكنه إلى جانب ذلك لم يستطع أن يتخلص من نزوعه في حياته إلى بعض الشر، كان يطالع الإنجيل ويأسف على خطاياه، فكان هذا الصراع في نفسه بين عمل الرذيلة والندم عليها مصدر شقاء حرمه لذة العيش، ثم أشرق عليه شيء كأنه الإلهام:
«كنت ذات يوم أسافر في الريف، فأغرقت في التفكير في خُبْثِ نفسي، والتأمل فيما ينطوي عليه قلبي من عداوة الله، فطافت بذهني آية الإنجيل: «لقد أخرج الله السلام من الدماء التي أريقت على الصليب»، فرأيت عندئذٍ أن عدالة الله ونفسي الآثمة تستطيعان أن تلتقيا وأن تقبِّل إحداهما الأخرى، لقد أوشكتُ أن يصيبني الإغماء، لا عن غمٍّ وشقاء، بل عن غبطة عظيمة وطمأنينة نفس.»
أما كتاب «الرحمة تشمل كبير الآثمين» — وهو أحد الكتابَيْن اللذين ألفهما في السجن — ففيه تاريخ لحياته وما شهدته تلك الحياة من صراعٍ نفسيٍّ أتينا على طرفٍ منه. وكتاب «مستر بادمان: حياته وموته» يقصُّ علينا في أسلوب المحاورة قصة رجل لا يتمسك بالفضيلة، ولا يرتدع بصوت الضمير، لكنه ناجح في حياته، وفي كتاب «الحرب المقدسة» وصف لقتال يدور بين قوى الشر وقوى الخير في سبيل الحصول على مدينة «مانسول» (أي نفس الإنسان)، أو بعبارةٍ أخرى هو وصف لمعركة يقتتل فيها المسيح والشيطان للظفر بالنفس الإنسانية. وأما «رحلة الحاج» — وهو أعظم كتبه جميعًا — فهو من أشهر الكتب عند القراء الإنجليز بعد الكتاب المقدس، وقد ترجم إلى معظم اللغات الأوروبية، إذ وجد فيه العالم المسيحي كله أدبًا جميلًا ووعظًا خلقيًّا مستساغًا.
ويبدأ الكتاب بهذه العبارة: «بينما كنت سائرًا في بيداء هذا العالم أبصرت بمكانٍ فيه كهف، فأويت إليه لأنام، فلما أخذني النعاس رأيت حلمًا …» ثم يقصُّ الحلم، وهو رحلةٌ قام بها «كرستيان» (أي المسيحي) صادفته فيها مواقف وأهوال يحلل لك الكاتب فيها مشاعر المسيحي الخالص المخلص لدينه.
جَسَّدَ «بَنْيَنْ» في «رحلة الحاج» بعض المعاني المجردة لتقوم مقام الرمز، وكان في فنه من البراعة بحيث خلع على هذه المعاني المجردة لحمًا ودمًا، فتقرأ ما يجري على ألسنتها، فتحسبك مستمعًا إلى حديث يدور بين أشخاص، وفي ذلك يقول «مانولي» إن بَنْيَنْ «يكاد يكون الكاتب الوحيد الذي استطاع أن يجعل من المعاني المجردة أشخاصًا مجسدة.» فقد كان له من دقة الخيال ما استطاع معه أن يصوِّر من تلك المعاني رجالًا من لحمٍ ودم، فإذا ما أجرى حديثًا بين مَعْنَيَيْن كان الحديث أقرب إلى الواقع من كثيرٍ من الحوار الذي تراه في معظم الروايات التمثيلية، وأعجب العجب أن يُخرج هذا الكتابَ صَفَّاح بن صفاح (سمكريٌّ بن سمكري).
كان بَنْيَنْ كاتبًا عظيمًا قويَّ العبارة بسليقته، وهو ثاني اثنين في الأدب الإنجليزي — الآخر هو دِكِنْز في القرن التاسع عشر — جاءا لسانًا معبرًا عن سواد الشعب وعما يدور في رءوسهم ونفوسهم من آمال وأحلام ومخاوف، وكلاهما من طبقات الشعب الدنيا ولم يتلقَّ من التعلُّم إلا قسطًا ضئيلًا.
(٢-٣) صموئيل بيبس Samuel Pepys (١٦٣٣–١٧٠٣م)
وقد عُرف بيبس في الأدب بيومياته التي بدأها في يناير سنة ١٦٦٠م، وكان آخر عهده بها آخر يوم من شهر مايو سنة ١٦٦٩م، حيث منعته العلةُ التي أصابت عينَيه أن يستأنف تدوينها، كتب بيبس هذه اليوميات بكتابةٍ مختزلةٍ، وكان يملؤها بالكلمات الأجنبية، ولعله لجأ إلى كل هذا ليخفي معانيه عن كثرة القراء، خصوصًا وقد كان ما يكتبه ماسًّا بأخصِّ شئونه، ولما دنا بيبس من ختام حياته، أهدى يومياته تلك إلى الكلية التي تخرج فيها — وكانت تملأ ست كراسات في كل كراسةٍ خمسمائة صفحة — ولبثت تلك الأوراق حيث وضعت من الجامعة حتى سنة ١٨١٨م، ثم قيَّض الله لها من يحلُّ رموزها بين عامي ١٨١٩ و١٨٢٢م. ونشرت يوميات بيبس للمرة الأولى سنة ١٨٢٥م، أي بعد موته بما يقرب من قرن وربع قرن.
وإن مؤرخ الآداب ليحتفل بهذه اليوميات لما تفردت به من خصائص بين سائر اليوميات؛ ففيها فقراتٌ رائعة في أسلوبها قوية في تعبيرها عن العواطف الإنسانية كما يحسُّها رجل من عامة الناس، نعم شهدت الآداب رجالًا عبروا عن كوامن نفوسهم أصدق التعبير، فهذا هو القديس أوغسطين في القرون الوسطى، وهذا هو روسو في فرنسا، بل هذا هو «بَنْيَنْ» الذي حدثناك عنه منذ قليل. كل هؤلاء أفرغوا أنفسهم فيما يكتبون، لكنهم كانوا رجالًا أعلى من متوسط الرجال، فلم تكن حياتهم هي حياة الرجل العاديِّ كما يألفها كل إنسان، وإن شئت فقل كان هؤلاء وأمثالهم يمثلون النوابغ، ولا يمثلون عامة الناس، وبالطبع قد يعبر النابغ فيما يكتب عن عواطف الناس، لكنه مع ذلك ليس منهم في طريقة تفكيره وإحساسه، أما بيبس في يومياته فرجلٌ عادي يُخرج ما يدور في نفسه من الخواطر والمشاعر إخراجًا أمينًا صادقًا، ويحدثنا عن دقائق حياته، حتى ليصور لنا حياة عصره — منعكسةً فيه — تصويرًا دقيقًا، فلم يُخْفِ شيئًا من دلائل ضعته وخيانته، ولم يهمل شيئًا مما كان ينشب بينه وبين زوجته من خلافٍ وشجار، فكأنما كان «بيبس» يستمد من حياته — بكل ألوانها — متعةً ولذة، فأراد أن يزداد بها استمتاعًا بتسجيل حوادثها ما دقَّ منها وما جلَّ؛ إذ لا فرق عنده بين الحادثة الهامة والحادثة التافهة ما دام قد وجد في كل منهما لذةً ومتاعًا. ولنتصفح هذه اليوميات لنطالع فيها نُتَفًا هنا وهناك، لنرى كيف يبسط الرجل حياته أمامك كما وقعت:
أنا شديد الفرح بطعام الغداء، أفرح وقت الأكل وقبله وبعده، وإنما يزيد من فرحي أن غدائي شهي، أجادت طهيه وتقديمه خادمتنا التي لم يكن لنا سواها، أكلنا دجاجًا وأرانب قُطِّع لحمها في مرق الطماطم (الصلصة) وفخذًا من الضأن، وكان في أحد الأطباق ثلاث أسماك، وطبقٌ عظيمٌ آخر فيه ضلع الضأن، وطبق فيه حمام مشويٌّ، وآخر فيه أربعة من «الجنبري» وثلاث فطائر، ثم نوع من فطير السمك (وهو نادر جدًّا) وطبق من السمك الصغير، وشربنا ألوانًا من الخمر، وكان كل شيء على خير ما يرجى، حتى لقد وقع كل شيء من نفسي موقع الرضى العظيم.
ألا يلقي لك مثل هذا القول ضوءًا على اهتمام الناس بطعامهم في القرن السابع عشر؟ ولكنك يجب أن تذكر أن القوم في ذلك العهد كانوا يأكلون وجبةً كبيرةً واحدة في الغداء، ثم لا يأكلون في الليل إلا عشاءً خفيفًا، ومن هنا كان ازدحام مائدة بيبس بألوان الطعام!
ومن ذلك ترى مقدار حبه للموسيقى، وهي صفةٌ عُرِف بها على الرغم من قلة ثقافته؛ فقد كان لا يُعنى بالقراءة إلا قليلًا، وكان ماديًّا في نزعاته وميوله، يهمه جمع المال وادخاره أكثر مما تهمه جوانب الجمال في العالم من حوله، لكنه إلى جانب هذه المادية كان مخلصًا في عقيدته الدينية، محبًّا للموسيقى — كما رأيت — ولعل هاتين الصفتين أن تكونا كل ما اتصف به الرجل من الخلال الروحية، وأما سائر جوانب حياته فماديةٌ صميمة.
وما دمنا قد ذكرنا في اليومية السابقة ذهابه إلى المسرح، فيحسن أن نشير في هذا الموضع إلى ولعه بالمسرح، وقد شارك أهل عصره — عصر عودة الملكية — في التقليل من شأن شيكسبير، فرواية «روميو وجوليت» في رأيه أسوأ مسرحية شهدها في حياته، ورواية «عطيل» مسرحيةٌ حقيرة، و«حلم ليلة في منتصف الصيف» مسرحيةٌ باردة لا طعم لها.
وهاك بعض أمثلة أخرى تتناول شئون حياته اليومية:
«لما صحوت من نومي بغتةً هذا الصباح، صدمت زوجتي بمرفقي صدمة قوية على وجهها وعنقها، فأيقظتْها الصدمة وهي تتألم، وأبديتُ أسفي وأخذني النعاس من جديد.
عدتُ إلى الدار ووجدت كل شيءٍ على وجهه الصحيح، إلا أنني كنت منقبض النفس قليلًا لما أبدته زوجتي من إهمال؛ إذ تركت غلالتها وصدارها وملابس نومها في العربة التي أقلتنا من وستمنستر اليوم، ولو أنني أعترف أنها كانت قد أعطتها لي لأرقبها، إن خسارتنا بهذا تبلغ خمسة وعشرين شلنًا.»
يوم آخر:
«ذهبت مع زوجتي إلى غرفتها لأفحص حساب المطبخ كما أثبتَتْه، وهنالك اشتجرنا لشرائها منديلًا مطرَّزًا وقلنسوة بغير إذني، ومن ثمَّ غضبنا وواصلنا الغضب حتى ساعة النوم.»
وهكذا تقرأ في يوميات بيبس عن دقائق حياته، كما تطالع فيها آراءه في المسرح وفي الكتب القليلة التي قرأها وفي المواعظ التي سمعها في الكنيسة أيام الآحاد، وفي الحوادث السياسية الهامة، ولو أنه كان شديد الحرص فيما يمسُّ السياسة؛ لأنه عاش في عصرٍ مضطربٍ مليء بالقلاقل، هو عصر عودة الملكية، وتقرأ له أيضًا مذكراته الشائقة عن الطاعون الذي تفشى في لندن وعن حريق لندن المعروف، تقرأ كل هذا فتحسبك شاهد عيان يرى ويسمع.
إن لهذه اليوميات قيمةٌ عظيمة في الأدب الإنجليزي؛ لأنها — كما قلنا — تصور لنا عصر بيبس — النصف الثاني من القرن السابع عشر — تصويرًا فيه كل الدقائق، ولأنها تدلنا على الذوق الأدبي الذي كان سائدًا إذ ذاك، وذلك استنتاجًا من الإشارات الكثيرة التي أثبتها الكاتب عن المسرحيات التي شهدها؛ ولأنها تزيد من علمنا باللغة الإنجليزية الدارجة في ذلك العهد؛ ولأنها فوق ذلك كله خير ما شهد الأدب الإنجليزي من يومياتٍ واعترافاتٍ يصب فيها الكاتب نفسه في غير حياءٍ أو حرج، فيوميات بيبس في الأدب الإنجليزي تحتل مكانةً شبيهة بمكانة «اعترافات» روسو في الأدب الفرنسي وذكريات «بنفنوتو تشلِّيني» الذي تحدثنا عنه في أدب النهضة في إيطاليا.
(٢-٤) جون إفلن Gohn Evelyn (١٦٢٠–١٧٠٦م)
وهذا كاتبٌ آخر نعرفه بيومياته، لكن مسافة الخُلْفِ بعيدة جدًّا بينه وبين «بيبس» في هذا الفن من فنون الأدب. سافر «إفلن» في أرجاء أوروبا في وقتٍ كانت فيه إنجلترا تضطرب فيها الأحداث السياسية اضطرابًا شديدًا، وأنفق في رحلته ثلاث سنوات سجل حوادثها في الجزء الأول من يومياته.
ولما عاد إلى بلاده أنفق معظم وقته يطالع ويفلح حديقته، وعلى الرغم من أنه عاش في القرن السابع عشر، إلا أن ذوقه وأسلوبه أقرب إلى الذوق والأسلوب اللذين سنشهدهما في أدب القرن الثامن عشر، فهو كلف بالصناعة في الكتابة وفي ألوان الفن جميعًا، يكره غابة فونتِنْبِلُو — في فرنسا — لأنها على غير نظام وتنتثر فيها الصخور، ولا تعجبه جبال الألب؛ لأنها خشنة لا تستقيم فيها الجوانب والسفوح، ولكنه يحب الحديقة المنسقة التي تناولتها يد البستاني بالتشذيب. وهكذا يكره الأسلوب إذا لم تكن فيه العناية بالصقل باديةً ظاهرة، شأنه في ذلك شأن المدرسة الاتباعية (الكلاسيكية) التي استهلَّ بها الأدبُ الإنجليزي القرن الثامن عشر، كأنما كان «إفلن» — وكما كان دِرَيْدِنْ أيضًا — طليعة تبشر بقدوم عهدٍ أدبيٍّ جديد.
وإن كانت يوميات بيبس تدلنا على صورة الحياة التي كان يحياها رجلٌ ضحل الثقافة متوسط الثراء في القرن السابع عشر، فإن يوميات «إفْلِنْ» ترسم لنا حياة السيِّد من سادة الريف، كيف كان يفكر وعلى أي نحوٍ كان يعيش.
(٣) المسرح
أغلق المتزمِّتون الدينيون أبواب المسارح سنة ١٦٤٢م؛ لأنهم رأوا فيها مباءات إفساد لا تتفق مع الدين القويم، لكن هذا التحريم القانوني لصناعة التمثيل لم يمنع جماعات الممثلين أن يجوبوا في البلاد، فيمثلوا مسرحياتهم في أفنية الفنادق وساحات الأسواق. ثم حدث أن سافرت جماعة من الممثلين إلى ألمانيا لتُمثِّل هناك رواياتٍ إنجليزية، وبهذا احتفظ الممثلون بصناعتهم حتى زالت عنهم غاشية التزمُّت بعودة الملكية، أضف إلى ذلك أن بعض الكتَّاب المسرحيين لم يمتنعوا عن كتابة مسرحياتهم، وإن لم تجد سبيلها إلى المسرح، فعمل ذلك كله على بقاء التقاليد والأوضاع المسرحية على الرغم من تحريم التمثيل في عهد المتزمتين.
فلما عاد شارل الثاني إلى عرش البلاد، بعد زوال جمهورية المتزمتين، سمح للمسارح أن تفتح أبوابها من جديد، فوجدت المسرحية نفسها موصولة العلاقة بما كان سائدًا قبل إغلاق المسارح، وأخذ القوم يكتبون رواياتٍ جديدة، ويمثلون إلى جانبها رواياتٍ قديمة من إنتاج شيكسبير وبن جونسن وبومنت وفلتشر وغيرهم؛ فكان ذلك داعيًا لكتَّاب العهد الجديد أن يترسموا خُطى رجال العهد السابق، ولكنهم تأثروا إلى جانب ذلك بالأدب الفرنسي إلى حدٍّ بعيدٍ عميق، فقد طُردت الملكية من إنجلترا وأقام رجالها في فرنسا، حيث عرفت مآسي «كورني» وملاهي «موليير»، واستمد شارل الثاني ذوقه الأدبي من هذا الجو الجديد، فلما عاد إلى بلاده لم يكن بدٌّ من فرض ذوقه المكتسب على الكتَّاب الإنجليز، فأخذت الملهاة تقتفى في بعض أوضاعها آثار موليير، ودخلت القافية المزدوجة في كتابة المأساة نقلًا عن الفرنسيين، وتُرجمت عن الفرنسية مسرحياتٌ لتمثَّل على المسارح في لندن.
ولسنا نستطيع أن نصف حالة الكتابة المسرحية في النصف الثاني من القرن السابع عشر، أي في عهد عودة الملكية، دون أن نشير إلى التحلل الخلقي العجيب الذي ساد الأدب المسرحي عندئذٍ، فلئن اشتد المتزمتون في قيودهم الأخلاقية التي فرضوها على الناس وبالغوا في فرضها، فقد تطرف رجال القصر عند عودتهم من فرنسا في مجونهم واستهتارهم، ولما كان المسرح مكان متعتهم، فلم يكن مناصٌ من أن يمتعهم أدباء المسرح بما يحبون، من خلاعةٍ واستهتار ومجون، بحيث أصبحت المسارح ضربًا من اللهو يجفل منه المحافظون ويتحرجون من مشاهدته.
أما المسرح نفسه من حيث إعداده وإخراج الرواية ممثلةً عليه، فقد دخلته تغيراتٌ هامة جديرة بالذكر في هذا الموضع.
كان المسرح في عهد اليصابات غنيًّا بملابس الممثلين فقيرًا بالمناظر التي ترسم على جدران المسرح نفسه، فالممثلون يرفلون في ملابسَ مزخرفةٍ مزركشة على مسرح يكاد يكون خاليًا من كل رسم مما نعهده على مسارحنا اليوم، ويصوِّر لنا البيئة التي تجرى فيها حوادث الرواية، نعم كانت «المُقَنَّعَاتُ» تعنى برسم المناظر، لكن المقنعات — كما عرفت — كانت تمثل في قصور الملوك والأمراء ولا تمثل على المسرح، فلما عادت الملكية إلى إنجلترا وافتتح المسرح عهدًا جديدًا أخذ أصحاب المسارح يُدخلون المناظر على مسارحهم، فكان لذلك نتائجُ هامة وخطيرة في تأليف المسرحية، منها أن يقتصد الكاتب جهد طاقته في الأماكن التي تقع فيها حوادث روايته، حتى لا يضطر المخرج إلى إعداد المناظر الكثيرة التي تلائم تلك الأماكن، فشيكسبير في رواية «أنطون وكليوبطره» — مثلًا — لم يجد مانعًا من الانتقال بحوادث روايته من الإسكندرية إلى مسينا إلى روما إلى سوريا وأثينا وغيرها، إذ لم يكن على الممثلين إلا أن يعلقوا لوحة على المسرح يكتب عليها اسم المكان الذي تقع فيه الحوادث الممثَّلة، أما «دريدن» الذي تناول نفس الموضوع في إحدى رواياته التمثيلية في عهد عودة الملكية، فقد حصر حوادث روايته كلها في الإسكندرية ليسهل على المخرج أن يصوِّر منظرًا يمثل مكان الحوادث. ونتيجة أخرى ترتبت على إدخال المناظر المصورة في الفن المسرحي، وهي أن تغيير تلك المناظر من فصلٍ إلى فصل يستدعي أن يقف التمثيل برهةً قصيرة، ومن هنا لم تعد الرواية تمثل في اتصال لا ينقطع — كما كانت الحال في عصر شيكسبير — بل أخذت فترات الراحة تتخلل الفصول كما نرى اليوم، وعن هذه النتيجة تفرعت نتيجةٌ أخرى، وهي أن يقصِّر الكاتب روايته حتى يعوض بقصرها فترات الراحة فلا يطول مكث النظارة عما كان.
وكان المسرح في عهد اليصابات مصطبةً بارزة في فناءٍ مكشوف، ويجلس النظارة على جوانبه الثلاثة، بل ويجلس بعضهم فوق المسرح نفسه نظير أجرٍ إضافي يدفعونه. أما في العهد الجديد فقد تغير وضع المسرح، بحيث أصبح النظارة يواجهونه من ناحيةٍ واحدة، على هيئةٍ قريبةٍ جدًّا مما نشاهد اليوم، وأصبح المسرح الجديد مسقوفًا، ومن هنا أخذوا يضيئونه بمصابيح، ولم يعد ما يمنع أن يقع التمثيل ليلًا. أما في عصر شيكسبير فكان التمثيل في فناءٍ مكشوف، فلا مصابيح تُضاء ولا تمثيل بعد الغروب.
ولعل أهم ما دخل على المسرح من تغير، هو استخدام النساء في أدوار النساء، بعد أن كان الغلمان يلعبون هذه الأدوار، ولعلك تذكر كيف كان يلجأ شيكسبير في كثيرٍ جدًّا من رواياته إلى خدعةٍ مسرحية؛ هي أن يجعل الفتاة تدعي أنها فتًى، وتلبس ملابسه، وتتحدث بلسانه؛ وذلك لأنه يعلم أن دور الفتاة سيمثله فتًى، فالأفضل أن يُجرى على لسانه ما يتفق مع طبيعته، أضف إلى ذلك أن كتَّاب المسرحية في عصر اليصابات كانوا يقتصدون في أدوار النساء لعلمهم بصعوبة تمثيلها، أما بعد عودة الملكية فقد ظهر النساء على المسرح، وكثرت — تبعًا لذلك — أدوار النساء في المسرحيات المؤلَّفة في ذلك العهد.
وحسبنا هذه الكلمة العامة لنقدم إليك بعض كتَّاب المسرح في ذلك العهد:
(٣-١) جون دريدن
ذكرناه شاعرًا وناثرًا، وها نحن نقدمه مسرحيًّا نابغًا.
وللشاعر غير ما ذكرنا رواياتٌ أخر، إذ بلغ ما أنتجه نحو ثلاثين رواية، بينها كثير لا قيمة له في ميزان النقد، ولكن اثنتين أو ثلاثًا منها ارتفعت إلى صف المسرحية العظيمة، فلم يَدْنُ منها شيء مما كتب في عصر الشاعر. بل لم يدْنُ منها شيء مما كتب في الإنجليزية منذ عهد اليصابات العظيم.
(٣-٢) وليم كنجريف William Congreve (١٦٧٠–١٧٢٩م)
تلك هي «ملهاة السلوك» التي عنيت في عصر عودة الملكية بتصوير الواقع، والتي برع فيها «كونجريف» وأجاد.
ولد كونجريف في بلدٍ قريبٍ من ليدز عام ١٦٧٠م، وكان أبوه ضابطًا في الجيش، لكن لم يكد ولده وليم يشهد النور، حتى عُين في منصبٍ جديدٍ في أيرلنده، فانتقل إليها مصحوبًا بأسرته، وهنالك تلقَّى وليم علومه زميلًا للكاتب المشهور «سوِفْت» (صاحب رحلات جلفر).
لكن العصر الحديث بنقَّاده وقرائه يرفض أن يجعل لهذه القطعة الشعرية كل القيمة التي قوَّمها بها الدكتور جونْسُنْ.
ها قد بلغنا بالأدب الإنجليزي ختام القرن السابع عشر، وأشرفنا به على حركةٍ اتباعية (كلاسيكية) جديدة استهلَّ بها القرن الثامن عشر، فلنقف حينًا لننتقل إلى أدبٍ زاخرٍ زاهرٍ خصيب ظهر في فرنسا في القرنَين السابع عشر والثامن عشر.
وأما الزوج الذي يُركَّب البيت فيه من ثمانية مقاطع، فهو أقدم من زميله عهدًا في الأدب الإنجليزي؛ إذ نقل إليه من الأدب الفرنسي في العصور الوسطى.
ونحن إذ نقسم الشعر المزدوج القافية إلى هذين النوعَين، لسنا نقصد إلى الاستقصاء الجامع المانع؛ لأن هناك قوافيَ مزدوجة يتركب فيها البيت من اثنى عشر مقطعًا، وأخرى يتركب البيت فيها من أربعة عشر مقطعًا، كما أن هناك منها ما يتركب البيت فيها من مقطعَين أو ثلاثة، ولكن هذه كلها قلة أهملناها في التقسيم.