لمحة عن التاريخ المصري القديم
قبل أن نتحدث عن أدب عصر الفراعنة، وندرس نواحيه وأهدافه، يجمل بنا أن نمر سراعًا على التاريخ المصري القديم؛ لنقف على العوامل التاريخية التي أثَّرت في هذا الأدب فدفعت به إلى الأمام أو أرجعته معها إلى الوراء.
وسنسير مع التاريخ المصري من بدايته حتى عصر الفتح الفارسي، وسنتتبع ما اعتاده المؤرخون من تقسيمه إلى أسرات ودول متأثِّرين مذهبَ المؤرخ المصري «مانيتون»، آخذين أنفسنا باتِّبَاع أقرب الاحتمالات إلى الصحة حسبما توحيه إلينا دراستنا وتجاربنا، فإن تقدير العلماء لأعمار هذه الأسرات وتلك الدول وتحديد تاريخ لبدايتها ونهايتها، إنما قام على وجه تقريبي؛ لأن المعلومات التي وصلت إليهم عن هذه العهود لا تزال ناقصة مبتورة، ولم تصل بعدُ إلى حد الحقائق الثابتة التي يطمئن إليها المؤرخ، ويستخلص منها تاريخًا سليمًا يرتاح إليه؛ ولذلك اختلفوا اختلافًا كبيرًا في هذه النواحي، وأملنا أن نكون أقرب إلى السداد في كل ما نقول، وسيكون رائدنا في ذلك أحدث الآراء العلمية والكشوف الأثرية.
(١) الدولة القديمة
الأسرتان الأوليان (٣٢٠٠–٣٠٠٠ق.م)
لم تخلف لنا هاتان الأسرتان آثارًا أدبية قيِّمة غير وثيقة في اللاهوت المصري والفلسفة الدينية، عُثِر عليها في عهد الملك «شباكا» من الأسرة الخامسة والعشرين؛ أي في القرن الثامن ق.م وهو الذي أمَرَ بنسخها تخليدًا لها، وينسبها المؤرخون إلى عصر الأسرة الأولى، أو كما يسميه بعض المؤرخين عصر اتحاد البلاد الأول.
الأسرة الثالثة (٣٠٠٠–٢٩٠٠ق.م)
لقد بقي تاريخ هذه الأسرة غامضًا زمنًا كبيرًا، ولم تصل إلينا منه إلا نتف يسيرة لا تروي غلة، إلى أن كشفت لنا أعمال الحفر في السنين الأخيرة عن صفحة مجيدة في عالم الفن والنحت والعمارة، وعن تفكير محترم في العقائد الدينية؛ وبخاصة في عهد الملك «زوسر» أعظم ملوك هذه الأسرة، وباني الهرم المدرج.
الأسرة الرابعة (٢٩٠٠–٢٧٥٠ق.م)
الأسرة الخامسة (٢٧٥٠–٢٦٢٥ق.م)
لقد كان عهد هذه الأسرة عهدًا ذهبيًّا للفن والأدب والفلسفة الدينية؛ فلقد أرتنا أهم وثيقة دينية ظهرت في التاريخ، بدت تلك الوثيقة منقوشة على جدران هرم الملك «وناس»، فاتخذها رجال الدين منارة يهتدون بما فيها طوال مراحل التاريخ المصري، وأخذ عظماء القوم كذلك يكتبون صحائف حياتهم، وصلواتهم الدينية، ومعاملاتهم اليومية، على جدران مقابرهم، مما سهَّلَ علينا حلَّ ما اعتاص من نقوشهم وخفي من رموزهم. وقد برزت الناحية الأدبية لأول مرة في صورة كتابات عن الأخلاق والسير القويم والمواعظ الحسنة إذا صحَّ أن «فتاح حتب» قد دوَّن نصائحه في عهد هذه الأسرة، كما هو الراجح.
الأسرة السادسة (٢٦٢٥ق.م وما تلاها)
ترسم ملوك هذه الأسرة وعظماؤها في كتاباتهم ونقوشهم ومبانيهم خطى ملوك الأسرة الخامسة وعظمائها، بل ظهرت لهم كتب جديدة في النصائح، وتوسَّعوا في الفتح، فوصلوا الشلال الثاني، وامتدت مغازيهم حتى لبنان، ولكن الوهن كان يعمل بعزم في جسم الدولة، وكانت سلطة حكام الأقاليم تزداد في كل يوم طغيانًا، إلى أن استقلوا بمقاطعاتهم، وتمزَّقت أوصال الدولة، وفقدت وحدتها السياسية، وسارت في مزالق الفوضى والاضطراب، حتى اعتبر عصر الأسرتين السابعة والثامنة من أكثر عهود التاريخ المصري ظلمةً وخفاءً وفسادًا.
(٢) العصر الإهناسي
الأسرتان التاسعة والعاشرة (٢٤٤٥–٢١٦٠ق.م)
وقد ظلت البلاد مفكَّكَة إلى أن أسَّس «خيتي» في «هيراكليوبوليس» — إهناس المدينة الحالية — مملكة مصرية، وقد أخذت البلاد في عهده وعهد مَن خلفوه تنتعش من غشيتها، وتحس حرارة الحياة مرة أخرى، ولكن عقارب الخلاف كانت لا تزال تدب في جسمها، حتى وهبها الله ملوك الأسرة الحادية عشرة فشفوا أدواءها، وأعادوا إليها شيئًا من وحدتها بعد حروب داخلية طاحنة، واتخذوا مدينة «طيبة» عاصمة لملكهم.
وقد يبدو غريبًا أن يظهر نوع من الأدب الراقي في هذا العصر، مع ما فيه من تقاطع وتدابر وانحلال وحروب قاسية، ولكن إذا علمنا أن الأدب الصافي ما كان وليد العاطفة المتأججة، وأن الرجات السياسية والهزات العنيفة مما يثير النفوس ويطلق اللسان، أدركنا كيف قوي الأدب ونبتت فيه أنواع جديدة وسط هذا الجو الصاخب المضطرم، وأن الانفعالات النفسية التي يبعثها البؤس والشقاء أعمق أثرًا من تلك التي يبعثها الصفاء والرخاء؛ لذلك رأينا في هذا العصر أوصافًا مؤثرة لما يحتدم في النفوس ويعتلج في الصدور من سوء الحال، وشكوى الزمان، وتأملات فيما صارت إليه الأمور؛ وكأن الذين كتبوها كانوا يريدون بها إصلاح حال البلاد الاجتماعي في ظل حكومة عادلة مما سنفصِّله بعدُ.
(٣) الدولة الوسطى
الأسرة الثانية عشرة (١٩٩٥–١٧٩٠ق.م)
رأس هذه الأسرة ومؤسِّسها «أمينمحات الأول» (١٩٩٥–١٩٦٥ق.م) ولقد حكم البلاد بيدٍ من حديد، وقضى على أذيال الفوضى التي بقيت تعبث في أنحائها، وسار ابنه «سنوسرت الأول» (١٩٧٥–١٩٣٤ق.م) على غراره، ولقد عمل هو والملك «سنوسرت الثالث» (١٨٨٢–١٨٤٥ق.م) على مد رقعة البلاد، واتساع سلطانها على البلاد المجاورة، كما يعزى إلى أمينمحات الثالث من ملوك هذه الأسرة تحويل الفيوم إلى أرض زراعية منتجة، وتناول مرافق أخرى عظيمة بالإصلاح والتعمير.
ويعتبر عصر هذه الأسرة العهد الذهبي للأدب «العهد الكلاسيكي»؛ إذ ظهرت كتابة فنية خالصة عني فيها بالناحية الفنية لذاتها، تنتظم موضوعات منوَّعَة قيمة من القصص والتأملات والأناشيد الدينية والدنيوية، وكذلك أخذ الفراعنة يمدون فتوحاتهم شمالًا وجنوبًا؛ مما جعل مصر يومئذٍ تحتل مكانةً ثقافيةً وسياسيةً ساميةً، فبدأت تنشئ علاقات وثيقة، وتختلط بجيرانها من ناحية آسيا والسودان.
(٤) عهد الهكسوس (١٧٩٠–١٥٨٠ق.م)
أخذت البلاد تهوي منذ بدأت الأسرة الثالثة عشرة حكمها؛ فهيض جناحها، وغزاها قوم متوحشون يسمون الهكسوس «الرعاة» فتملكوا أمرها وحكموها عهدًا طويلًا واتخذوا حاضرتهم في «أواريس» — صا الحجر الآن — ولقد ثار عليهم أمراء طيبة وخرجوا عن طاعتهم واستقلوا بأرضهم ومرافقهم، وأخيرًا تمكَّنَ الملك «كاموز» ومن بعده «أحمس» (١٥٨٠ق.م) من طرد الهكسوس من البلاد، وبناء دولة جديدة فتية.
(٥) الدولة الحديثة
تطالعنا هذه الدولة بصفحات جديدة من الأدب المصري فيها الغناء الرائع، والغزل الطريف في تضاعيف قصائد بديعة الخيال، وربما ظهر الغزل قبل ذلك في عهد الدولة الوسطى، ولكننا لم نعثر على شيء منه، ولقد أخذ اختلاط المصريين بجيرانهم يقوى ويشتد بحكم سلطانهم وسيادتهم، فأخذ لعاب الألفاظ الأجنبية ينساب إلى مجرى اللغة المصرية، ويسير معها بشكل واضح؛ نتيجة لتلك الفتوح العظيمة التي قام بها ملوك هذه الدولة، ومن ثَمَّ ظهر تأثير الآداب المصرية والحضارة المصرية في الشعوب التي غلبها المصريون على أمرها، مما يخلع على هذا العصر مجدًا عظيمًا في الثقافة والسياسة، وقد اتَّخَذَ ملوكُه «طيبةَ» عاصمةً لهم؛ فأصبح بذلك إلهها الموضعي «آمون» كبير الآلهة المصرية.
الأسرة الثامنة عشرة (١٥٨٠–١٣٥٠ق.م)
وقد اتسعت رقعة المملكة في عهد تحتمس الأول (١٥٥٥–١٥٠١ق.م) وحفيده «تحتمس الثالث» (١٤٧٨–١٤٤٧ق.م)، حتى صارت متسعة الجوانب، مترامية الأطراف، تمتد من الشلال الرابع إلى أعالي نهر دجلة والفرات، وقد حكم «أمنحوتب الثالث» (١٤١٥–١٣٨٠ق.م) مدة طويلة موفَّقة، غير أنه قد ظهرت في خلال حكمه بوادر تلك الثورة التي اندلع لهيبها في عهد ابنه «أمنحوتب الرابع» (اخناتون) من سنة ١٣٨٠ق.م.
كان «لاخناتون» فلسفة خاصة بالعقيدة، وقد هداه تفكيره إلى أن الوحدانية صفة لازمة للإله، فأراد إحداث إصلاح ديني يهدف إلى هذه الغاية، أساسه أن يفرد المصريون قرص الشمس بالعبادة — أو بعبارة أخرى أن يعبدوا القوة الكامنة في قرص الشمس وحدها — وألَّا يتخذوا إلهًا لهم غيرها، واتخذ سبيله للقضاء على كل الآلهة الأخرى المبثوثة في البلاد، وحطم أصنامها، ولما وجد تيار المقاومة شديدًا على دينه الجديد هاجَرَ به من «طيبة» موئل المقاومة والنفار، إلى مدينة جديدة أسَّسَها تُسمَّى «اخناتون» — مكان تل بني عمران الحالي بالقرب من مَلَّوِي — وفيها نما دينه وازدهر ودخل فيه الناس أفواجًا؛ طوعًا لأخناتون لا حبًّا في دينه الجديد.
ولقد تطوَّرَ الفن في عهده كما تطوَّرَ الأدب، فدبَّتِ الحياة في الأول وصار أقرب إلى محاكاة الطبيعة بعد أن كان يسير على سَنَن واحد جامد موروث، وكذلك غلبت اللغة العامية وصارت لها الصدارة على أختها الكلاسيكية القديمة الصحيحة.
وبالجملة فإن الكشف الحديث «توت غنخ آمون» رغم أهميته، لم يرسل ضوءًا كافيًا على حال البلاد في أواخر حكم هذا الملك الزائغ عن دين أجداده.
ولكن الناس أعداء ما جهلوا، أسرى ما ألفوا، فلم يلبثوا أن حنُّوا إلى دينهم الذي وجدوا عليه آباءهم، فرجعوا إلى عبادة الآلهة المختلفة وعلى رأسها «آمون».
الأسرة التاسعة عشرة (١٣٥٠–١٢٠٠ق.م)
في عهدها أصبحت الدلتا مركز الجاذبية للدولة المصرية، وبقيت «لطيبة» مسحة القداسة والطهارة، تقبع فيها المعابد الضخمة المزينة، كمعبد «الكرنك» و«الأقصر» و«الدير البحري»، وابتدأ الكاتب يشعر بمركز ممتاز، ويدل بمكانته على أصحاب المهن الأخرى، ولقد ظهرت له بحوث ممتعة في الأدب والعلم والتعليم.
هذا وقد حارَبَ «سيتي الأول» (١٣٢٠–١٣٠٠ق.م) بدو فلسطين، وقام من بعده ابنه «رعمسيس الثاني» (١٣٠٠–١٢٩٤ق.م)، وشن الغارة على دولة «الحيثا» — الحيثيين — في آسيا الصغرى، وهدفه الاستيلاء على فلسطين وغيرها، وقد خلَّدَ انتصاراته في قصيدة نقشها على جدران المعابد، واشتهرت خطأً باسم «بنتاور»، وأسَّس حاضرة جديدة لملكه تُسمَّى بيت رعمسيس — صا الحجر — وبعده أخذ نجم الدولة الصاعد يتضاءل وقوتها تنحط. وفي عهد ابنه «مرنبتاح» قامت الحرب بينه وبين اللوبيين كما نشبت بينه وبين كثير من الأمم والقبائل — ومنها قبيلة إسرائيل — معارك كثيرة، وقد سجَّل أمرها وما ظفر به من انتصارات فيها على لوحة لا تزال محفوظة بالمتحف المصري، وقد جاء فيها عن وقعة إسرائيل: «وقد خربت إسرائيل ولم يَبْقَ وجود لبذرتها.» ومن هنا نشأ الخطأ الشائع القائل بأن «مرنبتاح» هو فرعون موسى، وبعد موته غشيت البلاد سحائب مظلمة من الفوضى والاضطراب.
الأسرة العشرون (١٢٠٠–١٠٩٠ق.م)
يعتبر «رعمسيس الثالث» رأس هذه الأسرة (١٢٠٠–١١٦٩ق.م) وقد سجل لها مجدًا حربيًّا في البر والبحر، وقد اتخذ خلفاؤه من بعده اسم «رعمسيس»، ولكن لم يكن لهم فعل «رعمسيس»، فتهاونوا فيما خلَّفه لهم من المجد، ولم يحافظوا على التراث الذي تركه لهم؛ فانزلقت البلاد إلى مهاوي الضعف، وانهارت انهيارًا تامًّا.
وقد وجدنا في قبر «رعمسيس الثالث» أكبر وثيقة جميلة كُتِبت على البردي، وقد ذكر فيها ما كانت عليه البلاد من الفوضى قبل أن يتبوَّأ عرشها، وما بذله من إصلاحات في مختلف نواحيها، وتناولت موضوعاتٍ كثيرةً، أخصها المعابد وما لها من جليل الشأن، وقد كُتِبت في عهد ابنه ووُضِعت في قبره لتكون أنيسه في وحدته، وشفيعه عند الله، كما وجدنا صحائف أدبية مختلفة من آثار هذه الأسرة، والأسرة التي سبقتها.
الأسرة الحادية والعشرون (١٠٩٠–٩٤٥ق.م)
أخذت سلطة الكهنة تعلو وتطغى في عهد الرعامسة حتى أطفئوا سراج هذه الأسرة، وقام رئيس كهنة آمون المسمَّى «حرحور» وأسَّسَ أسرة جديدة في «طيبة»، وقام في نفس الوقت أمراء آخَرون وأسَّسوا ملكًا لهم في مدن أخرى مثل «سمندس» الذي أقام مملكته في «تانس».
الأسرة الثانية والعشرون (٩٤٥–٧٤٥ق.م)
قام أحد الأمراء اللوبيين الذين طالت مدة إقامتهم في البلاد، واسمه «شيشنق» وتوَّجَ نفسه ملكًا على البلاد حوالي ٩٤٥ق.م، وكذلك حكمت أسرته عدة إمارات مختلفة في مصر.
وتلا هذا العهدَ الفتحُ الإثيوبي لمصر سنة ٧١٢ق.م وجاء بعده الفتح الآشوري عام ٦٧٠ق.م، وقد شعر المصريون بمرارة الاستعباد، وحز في نفوسهم أن يساموا الخسف والهوان، فهبوا يدافعون عن كيانهم، ويذودون الأعداء عن بلادهم، وكان «ابسماتيك الأول» (٦٦٣–٥٢٥ق.م) فارس هذا الميدان، فخلص البلاد من نير الذل والعار، وأضفى عليها نِعَم الاستقلال، وأشعرها بمجدها المؤثل؛ فهبت نسمات إصلاحية عمت البلاد طولًا وعرضًا لإحياء العلوم والفنون القديمة، كتلك التي تجاوبت في أوروبا في عصر النهضة الأوروبية الحديثة، ولكن هذه النهضة المصرية لم تثبت على قوائمها، وكانت كشهاب أضاء حينًا ثم احترق، فأخذت البلاد تهبط وتتحلل من جديد، فكان ذلك إيذانًا بفتح الفُرْس لها عام ٥٢٥ق.م.
وقد تمتعت البلاد بفترات استقلال متفرقة، كانت كالذكريات الحلوة تمر سريعة في خاطر الوالهة الثكلى، وكان آخِر عهدها بنعيم الحرية إلى يومنا هذا (سنة ٣٤١ق.م) عندما هرب «نقطانب» من عاصمة ملكة «سمنود» إلى بلاد النوبة أمام الفرس الغزاة المظفرين، ولم ينعم هؤلاء بحكم البلاد طويلًا؛ إذ فاجأهم «الإسكندر الأكبر» وطردهم من مصر واستولى عليها عام ٣٣٢ق.م.