القصص المصري
لم تصل إلينا الحياة العقلية في مصر سلسلةً متصلةَ الحلقات حتى نتبعها من أولها إلى آخرها، ونسلط عليها أشعة البحث والدرس، ونخرج منها بنتيجة نقطع بها ونؤمن بصحتها، ولكنها وصلت إلينا وبها حلقات مفقودة، فلا نستطيع إلا درس ما وصلنا وبناء أحكامنا عليه.
والمتتبع لتاريخ القصة في الأدب المصري لا يرى أمامه أي مثال للقصة في الدولة القديمة ولا ما سبقها من العهود، وإن كانت ظواهر الأحوال وإشارات «متون الأهرام» تدلنا على أنه كانت هناك أساطير وأقاصيص عن الآلهة يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ. ومَن يدري! فلعل الأرض تبوح بسرها يومًا ما، وينشق جوفها عما نلتمسه الآن فلا نجده، إن لم تكن عوادي الزمن قد طغت عليه.
والقصص التي وصلت إلينا من عهد الدولة الوسطى قصص ناضجة تدل على أن هذا الفن بلغ في عهد هذه الدولة ذروته، وإن كان قد أخذ في الهبوط بعد ذلك، كما أن سائر ألوان الأدب التي تُنسَب إلى هذه الدولة كاملة النمو أيضًا، وليس من الطبيعي أن يُولَد الشيء ناميًا كاملًا، بل من الطبيعي أن يُولَد طفلًا، ثم يصعد في معارج النمو حتى يستوي خلقه وتكمل بهجته في ربيع شبابه، فأدب الدولة الوسطى جاءنا كالشعر العربي الجاهلي محكم النسج، راقي المعنى، تام النمو؛ فلا بد أنه بدأ مثله بمحاولات ناقصة، أخذت ترقى وتتم على مر الزمان. وإذا عرفنا أن عهد الدولة القديمة بين الأسرة الرابعة والسادسة عهد ازدهار في العلم والفن، من رياضة، وطب، وعمارة، ونحت، وتلوين؛ ما تردَّدنا في أن نقطع بأنه كان للأدب أيضًا في عهد الدولة القديمة شأن؛ لأنه فن، ولما بين الفنون من تجاوبٍ وصِلَةٍ مرجعهما نضج العقل والذوق، ومما يقوي صحة هذه النتيجة أن المصريين أنفسهم في عهد الدولة الوسطى كانوا ينسبون ما اشتهر من حِكَمهم وأمثالهم إلى حكماء الأسرة الخامسة.
ولا مراء في أن الأدب التعليمي الذي وصل إلى ذروته عقب انقضاء عهد الدولة القديمة قد أثَّر تأثيرًا عظيمًا في خلق القصة القصيرة، وترى علامة ذلك في القصص الثلاث الأولى التي سندرسها في هذا الفصل، وهي: قصة «الغريق» وقد حُكِيت بطريقة سهلة ولغة عذبة، وقصة «سنوهيت» وقد خلق الكاتب لحوادثها جوًّا وقعت فيه، ونقل القارئ إليه، ولغتها عالية دخلت فيها بعض الصناعة اللفظية، وقصة «الفلاح الفصيح» وهي في مجموعها قطعة من الأدب الراقي المتكلف في كثير من نواحيه، وتشبه في صناعتها مقامات الحريري، وقد ابتدأها كاتبها بوصف البيئة التي وقعت فيها.
وبعد عهد الدولة الوسطى نرى ركودًا في فن القصة، وربما ننقض هذا الرأي في المستقبل إذا جاد جوف الأرض بما يثبت عكسه، ولكنه لم يمت جملة، فإنه ظهر في عهد الدولة الحديثة سلسلة من القصص بعضها تاريخي، وبعضها خرافي محض، ولكنها بسيطة في موضوعها، ويظهر أنها كانت تُعَدُّ لتُلقَى في قصور الملوك للتسرية عنهم في أوقات الفراغ، وربما كان الغرض منها مجرد الدعاية كما ترى في قصة «الملك خوفو والسحرة»، أو لإظهار الحق في ثوب المنتصر على الباطل بسرد أعمال عظيمة خارقة للعادة قام بها الآلهة، وتنتهي بهذه النتيجة. وقد كُتِبت كلها باللغة المصرية الحديثة أو لغة العامة، وكانت اللغة المستعملة وقتئذٍ.
ولا نريد أن نتعجل الحكم على هذه القصص الآن، بل سنتناول الكلام على كل واحدة منها، وطريقتنا في ذلك هي أن نورد ملخص القصة بلغة سهلة، ثم نتناولها بالنقد والتحليل، وفي النهاية نورد المتن المصري الأصلي كما هو مُترجَم ترجمة دقيقة حسب التعابير المصرية الأصلية، وغرضنا من ذلك أن يقف القارئ الحديث على الأساليب المصرية القديمة بدون إدخال أيَّة محسِّنات لفظية عليها، أو تعابير عربية تقابل التعابير المصرية، وهذه الطريقة هي التي سار على نهجها كل علماء الآثار عند نقل أي متن من اللغة المصرية إلى لغة أوروبية، ولا غرابة فإن نفس هذه الطريقة هي التي اتُّبِعَتْ في ترجمة التوراة.
(١) قصص الدولة الوسطى
(١-١) قصة سنوهيت
أُلِّفت هذه القصة الطريفة في أوائل الأسرة الثانية عشرة حوالي سنة ٢٠٠٠ق.م، وقد ذاع صيتها ولقيت رواجًا عظيمًا، وظلت تُنسَخ وتُقرَأ نحو ٥٠٠ سنة في المدارس المصرية.
(أ) ملخص القصة
روى «سنوهيت» هذه القصة بصيغة المتحدث عن نفسه، وملخصها: أنه كان عائدًا من غزو ضد اللوبيين بقيادة ولي العهد «سنوسرت الأول»، فحدث في تلك الأثناء أن مات الملك «أمنمحات» الأول، ونعاه الناعي إلى «سنوسرت» فترك الجيش، وخفَّ مسرعًا إلى العاصمة ليطمئن إلى عرشه الذي آلَ إليه، ولكن أمر الوفاة كان قد ذاع بين الأمراء المرافقين للحملة، وسمع به «سنوهيت» خلسة، فما كان منه إلا أن فرَّ هاربًا إلى سوريا لأسباب غامضة لم يستطع هو أن يجد لها تعليلًا مقبولًا، وقد أحسن استقباله هناك أحد رؤساء القبائل، وزوَّجه؛ فأصبح رب أسرة، وصارَعَ أحد رؤساء العشائر السورية المعادية فصرعه وجدَّ له، وبعد فترة طويلة عاوده الحنين إلى وطنه، وتاقت نفسه للرجوع إلى مصر ليكون في خدمة مولاه الملك الذي ظلَّ مخلصًا له طول حياته، وليلقى ربه، ويُدفَن في البلد الذي وُلِد فيه وترعرع، ولما سمع الملك بآلامه وأحلامه عفا عنه، وأعاده إلى منصبه في الحكومة، وسمح له أن يعود إلى وطنه معزَّزًا مكرَّمًا ليقضي ما بقي له من أيام تحت سمائه.
(ب) دراسة القصة
يرى الأستاذ «جاردنر» الذي ترجم هذه القصة وعني بدرسها، أنها تُعَدُّ من روائع القطع التي تدل على المهارة الأدبية، ورقة التعبير عن الأحاسيس الإنسانية.
ونرى أن هذه القصة قطعة من الأدب الكلاسيكي؛ لأنها تجلو لنا مرحلة من تاريخ الأدب العالمي، ولأنها تفصح لنا عن الخلق المصري القديم، وتبديه لنا في مظهر يجمع بين السذاجة والمكر، ونفاذ البصيرة، والشعور بالعظمة، والبراعة في النكتة. ولا شك أن علماء الآثار المصرية القديمة الذين اتسعت آفاقهم العلمية يجدون متاعًا ولذة في التقلبات التي مرت «بسنوهيت» في مغامراته، كما أنهم يعجبون بمراحل القصة المختلفة من وصف للملك المسن، وتصوُّر لهرب «سنوهيت»، والتعبير عن مخاوفه من الصحراء، وإطراء كرم قبائل البدو، ومديح «سنوسرت» الأول بلغة شعرية جميلة، وإلباس المبارزة التي تمت بينه وبين الرجل السوري القوي ثوبًا تلمح فيه جو التوراة، وإظهار حنين «سنوهيت» إلى وطنه المحبوب مصر في صورة صادقة للخلق المصري الذي يعتزُّ دائمًا بوطنه، ويملأ الحنين إليه فراغ قلبه، ويأتي بعد ذلك كتاب العفو من الفرعون يمثِّل أسلوب الملوك الأرستقراطي، كما يمثِّل عطف الملوك على المخلص من رعاياهم، وعفوهم عمَّن تثبت توبته، ويسبق صالح عمله، وإنعامهم عليه بما يُعلِي قدره، ويثلج صدره، كما يبدو ذلك من التأكيد الوارد بكتاب الفرعون عن موضوع شعائر الدفن التي كانت تشغل كل مصري أثناء حياته. أما رد «سنوهيت» على هذا الكتاب فكان جامعًا لمظاهر الفزع العظيم من الملك القوي، ومشاهد الملق المصطنع المتكلَّف الذي يضعه بين يدي الملك؛ ليستل بذلك سخيمته ويضمن به رضاه.
ومن الصور الحية الناطقة في القصة تلك التي رسمها «سنوهيت» بألفاظ، يصف استقباله في بلاط الملك حتى كأنك حاضر بجسمك في قصر الفرعون منذ أربعة آلاف عام تشاهد «سنوهيت» وقد قيَّد الفزعُ حركاته، فهو يلقي بنفسه عند قدمي الفرعون طالبًا الغفران، كما تلمس قلب الفرعون وهو يضفي عطفه على مولاه المغبر الملابس، ويقدمه للملكة، وتكاد تسمع صوت الملكة وهي تصيح صيحة الدهشة والغرابة مما ترى، وكأني بك بعد ذلك تتبع أقدام الأميرات الصغيرات في رقصهن، وتؤخذ بروعة شدوهن، وتشاركهن عواطفهن عندما يطلبن العفو عن هذا المحارب الغريب.
أما ختام القصة فوصف مألوف لعهد الشيخوخة الذي قضاه صاحبه في نعيم مقيم، ومقام كريم، وهو يشعرنا بالجانب المادي الذي يميل إليه المصري ميلًا شديدًا، والذي كان شعار الحضارة المصرية القديمة.
وبعدُ، فإذا كنَّا ننادي الآن بوجوب تمصير القصة في الأدب العربي، فإن المصريين القدماء قد سبقونا إلى تمصيرها بمثل قصة «سنوهيت»، الذي كان دافعه الأكبر في الرجوع إلى مصر، وترك ما كان فيه من عز وسيطرة، أن يُدفَن في بلاده كعادة المصريين، ومما نراه في جانبها أنها درس نفسي عظيم، ومما نأخذه عليها ظهور الصناعة في الصياغة والأسلوب، وإن كان ذلك يدلنا على أن الأدب المصري قد تخطَّى دوره الإنشائي الأول، فإنه من ناحية أخرى نذير بالتكلُّف الذي يؤدي إلى انحطاط الأسلوب. هذا وليست نقطة الجاذبية عند القارئ المصري القديم في وقائع القصة التي يمكننا تلخيصها في بعض جمل، بل في تعبيراتها الجذابة التي تستهوي لبه، وتجعله يعكف على قراءتها بلذة وشغف.
(ﺟ) المصادر
-
(١)
أحدث ما كُتِب عن هذه القصة دراسة الأستاذ «جاردنر» A. H. Gardiner, Notes on the Story of Sinuhe, Paris 1915. وفي هذا المؤلَّف يجد القارئ كل المراجع التي يحتاج إليها في درس هذه القصة.
-
(٢)
تكلَّمَ الأستاذ «بيت» عن هذه القصة في كتابه: A Comparative Study of the Literatures of Egypt, Palestine and Mesopotamia P. 33 ff.
-
(٣)
كتب عنها وترجمها الأستاذ «إرمان» في كتابه الأدب المصري القديم. Erman: Die Liltratur Der Aegypter. (translated) by Blackman. The Literature of The Ancient Egyptians P. 14 ff.
-
(٤)
انظر ملاحظات عن الترجمة في مجلة الآثار المصرية: Journal of Egyptian Archeology Vol. XXII P. 35 ff.
-
(٥)
انظر ماسبرو: Popular Stories of Ancient Egypt. London 1915 P. 68 ff.
وفي هذا الكتاب يجد القارئ بحثًا مستفيضًا عن المصادر والنسخ التي عثر عليها مستعمَلَة في عهد الدولة الحديثة.
-
(٦)
انظر كذلك كتاب ماكس بيبر عن الأدب المصري القديم: Die Agyptische Literatur Von Dr Max Pieper P. 38 ff.
(د) متن القصة
الأمير الوراثي، والباشا، ومدير ضياع الملك في بلاد الآسيويين، والسمير الوحيد للملك، والمحبَّب إليه القاب «سنوهيت»، الخادم «سنوهيت» يقول: كنتُ خادمًا يتبع سيده، وخادم نساء الملك يخدم الأميرة، صاحبة الثناء العظيم، زوجة «سنوسرت» الملكية في بلدة الهرم المسماة «خنم-أسوت»، والابنة الملكية «لأمنمحات» في بلد الأهرام «كانفرو» المسمَّاة «نفرو» المحترمة.
وإنه لمنتقم، محطِّم للجباه، ولا أحد يجسر على الوقوف بجواره.
وهو الواسع الخطى، المهلك للهارب، ولا نهاية لمَن يولي ظهره له (أي إن الهارب لا يصل إلى غايته سالمًا).
شجاع القلب عندما يرى الجموع، ولا يسمح لقلبه بأية راحة.
الجسور عندما ينقضُّ على الشرقيين، وسروره أن يأسر «الربدتو» — العدو (؟).
وهو يقبض على درعه، ويدوس تحت القدم «العدو»، ولا يعيد ضربته ليقتل (أي لا يضرب إلا ضربة واحدة قاتلة).
وليس هناك مَن حوَّل سهمه «عن هدفه»، وليس هناك مَن حنى قوسه «لصلابته».
وهو يحارب بدون نهاية، وهو لا يبقي ولا يذر.
وهو رب الرشاقة، غني في عذوبة، وبالمحبة قد تغلَّبَ «على قلوب الناس».
ومدينته تحبه أكثر من نفسها، وهي تبتهج به أكثر من إلهها.
وهو ملك قد فتح وهو لا يزال في البيضة (أي طفلًا) وقد كانت وجهته أن يكون ملكًا منذ ولادته.
وإن تلك الأرض التي يحكمها تبتهج به، فهو الذي يمد الحدود.
وسيفتح الأراضي الجنوبية، ولكنه إلى الآن لم يلتفت إلى الأراضي الشمالية.
ومع ذلك فقد خُلِق ليضرب «على أيدي» البدو، ويحطِّم سكان الرمال.
أرسل إليه، دعه يعرف اسمك، ولا تنطقنَّ بلعنة ضد جلالته، وهو لا يفوته أن يعمل خيرًا إلى أرض ستكون مسالمة له.»
وبعد ذلك أخذتُ متاعه، وأتلفت ماشيته، وما قد دبَّره من النكاية بي جعلته يحيق به، واستوليت على كل ما في خيمته، ونهبت معسكره، وقد أصبحت عظيمًا بهذا، واسعًا في ثروتي، غزيرًا في قطعاني.
وأنت يأيها الإله، أيًّا كنتَ، الذي أمرتَ بهذا الهرب، كُنْ رحيمًا وأعدني ثانية إلى مقر الملك، وربما تسمح لي أن أرى المكان الذي يسكن فيه قلبي، والأمر الذي هو أهم من ذلك أن تدفن جثتي في الأرض التي وُلِدت فيها، تعالَ لمساعدتي. ولقد وقع حادث سعيد، لقد جعلت الإله يرحمني، وليته يرحمني ثانية؛ حتى تحسن خاتمة مَن قد عذَّبه، وقلبه رحيم يحن لمَن حتم عليه أن يعيش في الخارج، وإذا كان رحيمًا بي اليوم فليته يصغي إلى دعوات فرد ناءٍ، وليته يعيد مَن قد نكبه إلى المكان الذي أخذ منه.
آه ليت ملك مصر يرحمني حتى أحيا برحمته، وليتني أسأل سيدة الأرض التي في قصره عن إرادتها، وليتني أسمع أوامر أولادها.
صورة من القرار الملكي الذي أُحضِر إلى الخادم المتواضع خاصًّا بعودته إلى مصر
قرار ملكي إلى التابع «سنوهيت»
تعالَ ثانية إلى مصر لترى مقر الملك الذي تموت فيه، وتقبل الأرض عند البابين العظيمين، وتنال نصيبك بين رجال القصر.
صورة من الاعتراف بهذا القرار الملكي
وقد حضر إلى هذا الخادم الرسل، وقد سمح لي أن أمضي يومًا في «ياء»، وسلمت فيه متاعي إلى أولادي، فأصبح ابني الكبير المشرف على قبيلتي، وكل ما أملك أصبح في يده: عبيدي، وكل ماشيتي، وفاكهتي، وكل شجرة لذيذة أملكها.
واستلمت الأرض بين تماثيل أبي الهول بجبهتي، ووقف أولاد الملك عند الباب، واستقبلوني، أما أمناء القصر الذين يقودون إلى القاعة فإنهم ذهبوا بي إلى الطريق المؤدية إلى الحجرة الخاصة، فوجدت جلالته على عرشه العظيم في مدخل من الذهب، فانبطحت على بطني، وذهب عني عقلي في حضرته، مع أن هذا الإله حيَّاني بفرح. وقد كنتُ كرجل أطبق عليه الظلام؛ إذ فرت روحي، وتزلزلت أعضائي، ولم يَعُدْ قلبي في جسمي، ولم أشعر إذا كنتُ حيًّا أو ميتًا.
وعندئذٍ قال جلالته لأحد هؤلاء الأمناء: «ارفعه ودعه يكلمني.» وقال جلالته: «انظر! لقد عدتَ بعد أن قطعت الصحاري، واخترقت الفيافي، والكبر قد تغلَّبَ عليك، وقد بلغت الشيخوخة، وإنه ليس بالأمر الهين أن يُدفَن جسمك في الأرض، دون أن يسير في مشهدك المتوحشون، ولكن لا تَبْقَ هكذا صامتًا باستمرار عندما ينطق باسمك.» ولكن في الحق خفت العقاب، وأجبت عن ذلك جواب الخائف: «ماذا يقول سيدي لي؟ ليت في مقدوري أن أجيب عليه، ولكن لا يمكنني. انظر! كأن ذلك يد الله؛ إذ إن الفزع الذي في جسمي كالفزع الذي سبب هذا الهرب الذي قُضِي به عليَّ. انظر إنني في حضرتك والحياة ملكك، وليت جلالتك تتصرف كما تريد.»
وقد زُيِّنْتُ بأحسن ملابس الكتان، ودُلِّكت بأحسن الزيت، وفي الليل نمت على سرير، وتركت الرمال لمَن هم فيها، وزيت الخشب لمَن يدلِّك نفسه به.
وقد أهدي لي بيت حاكم مقاطعة كما يليق بسمير ملكي، وقد بناه كثير من الصناع، وكانت كل الصناعة الخشبية فيه جديدة.
وكان يؤتى إليَّ بالطعام من القصر ثلاث مرات وأربع مرات في اليوم، هذا فضلًا عن أعطانيه أولاد الملك بدون انقطاع في أي وقت.
«كُتِبت من البداية إلى النهاية كما وُجِدت مخطوطة.»
(١-٢) قصة الغريق
(أ) ملخص القصة
في يوم أرسل الملك أميرًا من أمراء الفنتين إلى أرض الإله — بلاد الصومال — ليحضر بعض النفائس، فلم يُوفَّق في مهمته فرجع خائبًا، ولاقى في طريقه أهوالًا عظيمة وصل بعدها إلى أرض الوطن سالمًا، ولكنه كان حزينًا يتوقَّع شرًّا مستطيرًا عند مقابلته لفرعون وإخباره بما مُنِي به من الفشل، وكان له تابع أمين أحزنه ما رآه على وجه متبوعه من الحزن والألم، فأراد أن يهدئ خاطره، ويخفِّف من آلامه، فذكر له «أنه كان مسافرًا على ظهر سفينة إلى بعض الأصقاع الغنية بمعادنها، ليؤدي رسالة ملكية — ويظهر أن الأرض التي كان يقصدها هي سيناء — وحدث أن ثارت عاصفة هوجاء حطمت سفينته، وأرسلتها إلى قعر البحر، فغرق ركَّابها ولم ينجُ إلا ذلك التابع البحَّار؛ حيث حمله الموج على أجنحته إلى جزيرة رملية، فلما أفاق من غشيته رأى أمامه ثعبانًا هائلًا فكاد يطير قلبه شعاعًا، ولكن ذلك الثعبان الهائل حارس الجزيرة أحسن استقباله، وأخذ يطيب خاطره، ويسري عنه بذكر مجازفة حدثت له مثل مجازفة ذلك البحَّار، وانتهت بنجاته، ثم تنبَّأ له بأن سفينة مصرية ستمر بهذه الجزيرة، وستحمله إلى مصر سالمًا.» ويظهر أن هذه القصة، التي قصها التابع ليتأسى بها متبوعه ولتهدأ بسماعها نفسه، إذا ما رأى أن الأمور المحزنة قد تنتهي بخير وسلام؛ لم تُحدِث أثرَها المطلوب في نفس سامعها؛ إذ إن البحار ما كاد ينتهي من سردها حتى فاجأه ذلك الأمير بقوله: «إن قولك هذا كمَن يسقي طيرًا في الصباح المبكر ليذبحه بالنهار.» أي إنه مقضي عليه بالموت لا محالة، فلا فائدة من هذه المسكِّنات.
(ب) دراسة القصة
تُعَدُّ هذه القصة من القصص النادرة التي وصلت إلينا كاملة غير منقوصة؛ فقد جاء في نهايتها: «لقد كُتِبَ هذا الكتاب من البداية إلى النهاية.» على عادة الكتَّاب المصريين إذا انتهوا من كتابة مقالة — شعرًا أو نثرًا — ذيَّلوها بهذه العبارة، فلم يُفقَد إذن من نهايتها شيء، كما أن بدايتها ليست مهشمة أو ممحوة، فالقصة على ما نعتقد كاملة، ولكنا لاحظنا أن استهلالها كان نسيجَ وحدِه، وليس له نظائر سابقة في القصص؛ فقد جاء فيه: «يقول خادم حاذق: كُنْ فرحًا أيها الأمير، لقد وصلنا إلى مقر الملك، وقد أُخِذت المطرقة، ودُقَّتْ أوتاد المرسى، وأُلقِيت الحبال على البر.» ولم تُذكَر المقدمة التي تشير إلى تكليفه من الفرعون بمهمة في الأقاليم الجنوبية وفشله فيها، مما اضطر معه إلى العودة لمصر متجشمًا الأهوال، ولكن تصورها بالصيغة التي أوردناها بها أمر محتمل راجح.
وليس من البعيد أن تكون هذه القصة واحدة من سلسلة قصص متصلة الحلقات لم تصل إلينا، فكان مع الأمير أتباع كثيرون؛ كل واحد منهم يقص قصة فيها تخفيف من آلام الأمير، وتسرية عن قلبه، وطمأنته من ناحية النتيجة التي يخشاها، على مثال قصة الملك خوفو والسحرة في العهد القديم، وقصة ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة في العصر الحديث.
وإذا قرنتها بقصة «الملك خوفو والسحرة» وجدتَ تشابهًا في موقف التابع وسرده حكايته، واختلافًا في أن الملك في قصة خوفو كان يريد تسلية نفسه، وطرد الهموم عنها، وفي قصتنا كان أتباع الأمير هم الذين يريدون ذلك؛ فيتناوبون سرد القصص لهذه الغاية.
وإذا صَحَّ أن قصة الغريق سلسلة من القصص كانت التي ذكرناها هنا آخرتها؛ بدليل وجود هذه العبارة التي سبق ذكرها، والتي تدل على نهاية المطاف: «لقد أُخِذت المطرقة، ودُقَّتْ أوتاد المرسى، وأُلقِيت الحبال على البر، وكان الثناء والحمد لله، وقد عانق كل فرد زميله.»
ونلاحظ أن الكاتب هنا قد خالَفَ ما تواضَعَ عليه القاصُّون القدماء من بدء قصصهم بجمل فعلية تدل على الاستمرار، ومن وضع عنوان لها مأخوذ من مقدمتها، كما نجد في قصة «الفلاح الفصيح»، وقد يكون عنوانها: «هذه هي قصة أمير الفنتين وتابعه» والكاتب تركه سهوًا.
وقصة الغريق بهذا الوضع الذي سبق تصويره لا يمكن أن تكون قصة للعامة؛ فهي قطعة أدبية ذات أسلوب رشيق ترمي إلى أهداف سامية، وتعبِّر عن عواطف مختلفة، فنرى القاصَّ يتألَّم لغرق سفينته بركَّابها، وعدم نجاة أحد سواه، ويتألَّم لوصوله إلى جزيرة لا إنسان فيها، ويعبِّر لنا عن خوفه وهلعه عند ظهور حاكم الجزيرة الروحاني — وهو ثعبان عظيم الجسم له رأس إنسان — واطمئنانه بعد أن حادَثَه ووجد منه عطفًا عليه، فالدمعة الأولى والابتسامة الأخيرة وردتا متتابعتين في عبارة موجزة، كما نرى القاصَّ والثعبان قد تطارَحَا ما أصابهما في حياتهما، وجاءت على لسان الثعبان عظة ليس لها علاقة مباشرة بالموضوع، وهي: «ما أشد فرح الإنسان الذي يقص ما ذاقه بعد زوال الكارثة.» ثم نبأ الشهاب الذي انقض من السماء فأهلك أهله. وفي القصة إيجاز حول الغرض من هذه المطارحات، وتوضيحها أن الثعبان أراد أن يقول: «لقد حدث لي أفجع مما حدث لك، ومع ذلك فقد خرجتُ سالمًا، وما زلتُ سائرًا في حياتي.» وكأنه أراد أن يقول له: «يجب أن تنظر إلى الأمور ببسالة وثقة، فإنك لم تلاقِ من المصائب ما لاقيتُ أنا.» فنصحه قائلًا: «إذا كانت لديك شجاعة، فعليك أن تكبح جماح قلبك.» ثم طمأنه على أنه سيعود إلى وطنه بعد أربعة أشهر، وسيرى ثانية زوجته وأولاده.
أما الحالة النفسية للغريق، فيبدو لنا من القصة أنها تحسَّنت كثيرًا، فها هو الغريق يشكر الثعبان من أعماق قلبه، وتدفعه تلك الحالة النفسية الطارئة على أن يقدِّم إليه فروض العبادة والخضوع، وعلى أن يَعِده بعظيم الهدايا، ولكن الثعبان يعفيه من ذلك في سخرية مستترة فيقول: «ما الذي تريد أن ترسله إليَّ؟ إن عندي من ذلك الفيض الغزير.» ثم عقَّبَ على ذلك بما يحرِّك النفس الساكنة: «لا يمكنك أن ترسل إليَّ شيئًا بعدُ، فإن الجزيرة سيغمرها الماء.» — أي ستختفي وتزول — وكأنه أراد أن يقول له: وأنا بالتالي سأختفي وأزول معها، وينتهي أمري بالموت.
وهنا يثب إلى أذهاننا ما جاء في قصة «ألف ليلة وليلة» مشابهًا لما ذُكِر؛ إذ نسمع الرسول يقول عند خروج السلطان: «هذا هو سلطان الهند العظيم، وهذا السلطان العظيم لا بد أن يموت، لا بد أن يموت.»
وإذا كان كل حي إلى زوال، فكل شدة إلى فرج، وهذا ما كان؛ فقد عاد القاص إلى وطنه سليمًا معافًى، ولقي من الملك العطف والرضا. وإذا كان بعض الغافلين يعتقد أن القاص أورد قصته ناقصة هذه النتيجة، فإن اليقظ منهم لا بد واصل بثاقب نظره إليها، وإن مَثَل الفرعون مع الأمير كمَثَل الثعبان مع الغريق، كلاهما عطف على تابعه وأحسن إليه.
ولا نزاع في أن هذه القصة شرقية بروحها، وهي فضلًا عن ذلك تقدِّم لنا أثمن ما يقدِّمه الشرق من إيجاز، وحسن سبك، ومهارة في التعبير، وحكمة بالغة، ولقد استطاع القاص بمهارته ألَّا يجعل قصة البحار تطغى على قصة الأمير، وهي المقصودة لِذَاتها بما أورده في نهاية القصة من العبارات التي تلفت الذهن إليها.
ولقد كنَّا في شوق لأن نعرف أكثر مما عرفنا عن أول قصة وصلتنا تدور حول بحَّار مصري، ولكنها كُتِبت كما قلنا للطبقة الراقية من المتأدبين القدماء؛ فكان نصيبها الإيجاز.
والسؤال الذي يرتسم أمام الباحثين الآن: أترى قد عنيت الأساطير المصرية بالثعبان، فجعلته بطلًا يدور حوله كثير من الأقاصيص كما كان للثعبان «الدراجون» في عالم الخرافات اليونانية؟ أم اكتفت الأساطير المصرية بتقديمه لنا في قصة الغريق وحدها؟ ونحن من جهتنا لا نستطيع الجزم بأحد الأمرين؛ فقد تكون الأرض محتفظة بقصص من هذا القبيل، والتي ذكرناها هنا تثبت ميل المصريين ونزوعهم إلى هذا النوع من الخيال والسحر، وكلنا يعلم أن اليونان قد أخذوا كثيرًا عن المصريين في آدابهم وخرافاتهم، فليس ببعيد إذن أن يكون الثعبان قد لعب دورًا كبيرًا في عالم الأساطير المصرية، ولم ينفرد اليونان بذلك، كما أثبتت قصة «حور» و«ست»، أن القصص المصري جعل من الآلهة أبطالًا، ولم يكن اليونان وحدهم أصحاب الفضل في ذلك، والكلمة الآن لما سوف تجود به علينا الكشوف الحديثة.
(ﺟ) المصادر
- (1) Golenischeff, Le Conte du Naufragé (Cairo 1912).
- (2) Erman. Zeitschrift fur Agyptische Sprache X L III P. 1 ff.
- (3) Gardiner. Notes on the Tale of the Shipwrecked Sailor in Zeitschrift fur Agyptische Sprache XIV P. 60 ff.
- (4) Notes in the Journal of Egyptian Archeology Vol. XXII P. 37. by Blackman.
- (5) Peet, A Comparative Study of the Literatures of Egypt. Palestine and Mesopotamia P. 28 ff.
- (6) Maspero, Populor Stories of Ancient Egypt. P. 98 ff.
- (7) Erman. The Literature of the Ancient Egyptians P. 29 ff C translated by Blackman.
- (8) Dr. Max Pieper. Die Agyptische Literatur. P. 43 ff.
- (9) The Metrical Scheme of The Shipwrecked Sailor by Vladimir Vikenfiev in Bulletin De L’institut. Français D’Archeologie orientale T. XXXV. P. 1 etc.
(د) متن القصة
وقد هَبَّتْ عاصفة ونحن ما زلنا في البحر، وقبل أن نصل إلى الأرض، وقد قامت الريح فضاعفت من شدتها، وجاءت موجة ذرعها ثمانية ارتفاعًا، وقد حملت من على سطح السفينة مع الصاري.
وبعد ذلك أتت هذه السفينة كما تنبَّأ، وذهبت وتسلقت شجرة طويلة، ورأيت أولئك الذين كانوا فيها، وذهبت لأخبره فعلمت أنه قد عرف ذلك من قبلُ، وقال لي: «بسلام، بسلام للوطن، أيها الصغير، وشاهد أطفالك، واجعل لي اسمًا حسنًا في مدينتك. اسمع فإن هذا هو كل ما أبغي.»
وذهبت إلى الساحل حيث كانت هذه السفينة، وحييت الفرقة التي كانت في هذه السفينة، وأثنيت على رب هذه الجزيرة على الساحل، وكل مَن كان في السفينة فعل كذلك.
ثم سحنا شمالًا إلى حاضرة الملك ووصلنا إلى العاصمة في شهرين كما قال، ومثلت أمام الملك، وقدَّمت له هذه الذخائر التي أحضرتها من هذه الجزيرة، وقد شكرني أمام كل ضباط الأرض قاطبة، وعُيِّنت حاجبًا، وكافأني ببعض حشمه (؟).
(١-٣) قصة الفلاح الفصيح
(أ) ملخص القصة
ترجع حوادث هذه القصة إلى عهد الملك «خيتي» أحد ملوك هيراكليوبوليس — أهناس المدينة — في نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، والاسم الذي أطلق عليه العلماء تجوزًا «الفلاح» حقيقته في اللغة المصرية «ساكن الحقل»، أي بطل هذه القصة أحد سكان «حقل الملح» وهو «وادي النطرون» الآن، وقد أطلق عليه في العهد المسيحي «صحراء النطرون»، وكان هذا الفلاح يسكن في مجاهل هذه البقعة، وكان يسافر من حين لآخَر إلى مصر ليبيع محصول أرضه محمَّلًا على حمير له، ولما وصل في مرة إلى مصر اعترضه أحد الموظفين المسمَّى «تحوت نخت» واغتصب منه حميره وما عليها بحيلة دنيئة، فذهب الفلاح على إثر ذلك إلى عاصمة المقاطعة ليشكو أمره إلى «رنزي» رئيس «تحوت نخت» المغتصِب، فجمع «رنزي» مجلس الأشراف ليفصل في هذه القضية، غير أن أعضاءه لم يعلنوا حكمهم لأسباب لم تُذكَر في القصة، فصاغ الفلاح شكايته لرنزي في أسلوب فصيح بهره وأعجب به، فرأى أن الأمر جدير بأن يُعرَض على جلالة مولاه الملك؛ نظرًا لذلك الأسلوب الأخَّاذ، وتلك البلاغة النادرة التي لم يعهد لها مثيلًا من قبلُ، ولقد أمر جلالة الملك ألَّا يبتَّ في أمر ذلك الفلاح الفصيح حتى يكرِّر الشكوى؛ فيكون ذلك مصدرَ خطبٍ بليغة أخرى يغتني بها الأدب، ويكتسب مادة وإمتاعًا، وهذا ما كان؛ إذ ألقى الفلاح تسع خطب رائعة في موضوع هذه الشكوى.
(ب) دراسة القصة
ترجع هذه القصة إلى العهد الأهناسي، وهو عهد سادت فيه الفوضى، وعم الاضطهاد؛ فالقصة مظهر لما يحتدم في نفوس الناس، ولما يشكون منه في ذلك العهد، وهي من أبلغ وأروع ما كُتِب في الأدب المصري القديم، حتى إنها كانت تُعَدُّ نموذجًا يحتذى ويقتبس منه عهد الدولة الحديثة.
والقصة تتكون من مرحلتين أساسيتين: الأولى مقدمة قصصية، والثانية خطب تسع، فأما المقدمة القصصية فإن طريقة عرضها أبدع ما رأيناه في الأدب المصري، وهي جديرة من حيث تعبيرها عن العواطف الإنسانية بأن تُوضَع جنبًا لجنب مع أية قطعة من هذا النوع وردت في التوراة. وقد قال الأستاذ برستد عن هذه المرحلة من القصة في كتابه «فجر الضمير» ما يأتي: «وهذا المشهد يُعَدُّ من أقدم الأمثلة التي تدل على المهارة الشرقية في تصوير المبادئ المعنوية في شكل مواقف ملموسة، وهي التي صُوِّرت بشكل مدهش بعد ذلك في أقوال عيسى عليه السلام.»
وأما المرحلة الثانية فتلك الخطب التسع التي أَشْهَرَ بها ذلك الفلاحُ الحربَ على ما كان يرتكبه الموظفون من الفوضى والظلم والعبث بصغار الفلاحين، فكان بخطبه من حَمَلَة الأقلام الذين طلبوا العدالة الاجتماعية، وكانت خطبه تَلقَى رواجًا لإمتاعها، ولأنها موجَّهة إلى أغنياء هذا العصر الذين اختصوا أنفسهم دون الفقراء بالثروة والمتاع، وبالرغم من بعض الغموض الذي يبدو في أسلوبها، لجهلنا باللغة المصرية ونواحي بلاغتها، ولما احتوته من استعارات قوية وتشبيهات غريبة؛ فإنها تُعتبَر أدبًا من الطراز الأول في عصرها وفي العصور التي تلته. ومما أكسبها ذيوعًا وانتشارًا ما تضمنته في طيَّاتها من تهكُّم لاذع يميل إليه المصريون القدماء بسليقتهم، ولو أنه كان يهدف إلى غرض خلقي سامٍ. ولا ريب في أن القصة ترسم صورةً حيةً ناطقةً لميل الموظفين عن جادة العدل والحق، إذا لم يكن عليهم ملك رشيد عادل يخافون سطوته. ومن الظواهر الغريبة فيها أنها لأول مرة في تاريخ أدب العالم تشبِّه العدالة بالميزان، وتتخذ من أجزاء الميزان استعاراتٍ وأوصافًا لنواحي العدالة، ونجد هذا التشبيه الآن سائدًا كل لغات العالم، وقد ظهر بصورة واضحة في القرآن الكريم.
(ﺟ) المصادر
- (1) Vogelsang. Kommentar Zu Den Klagen des Bauern. Lepzig 1913.
- (2) Gardiner Journal of Egyptian Archeology. Vol. IX P. 1 ff.
- (3) Erman. The Literature of the Ancient Egyptians (Translated by Blackman) P. 116 ff.
- (4) The Dawn of Conscience 183 ff. (By Breasted.)
- (5) Die Agyptische Literatur P. 38 ff. (Dr. Max. Pieper.)
(د) متن القصة
ثم قال هذا الفلاح لزوجته: «انظري، لقد بقي عشرون مكيالًا من القمح لتكون طعامًا لك ولأطفالك، وعليك أن تصنعي لي ستة مكاييل القمح هذه خبزًا وجعة للأيام التي سأكون فيها على سفر.» (؟)
وقال «تحوت نخت» هذا لخادمه: «اذهب واحضر لي قطعة نسيج من داري.» فأُحضِرت إليه في الحال، فمدها على الممر بطريقة جعلت هدبها على الماء، وطرفها على سيقان القمح. ثم سار هذا الفلاح على الطريق العام.
فقال «تحوت نخت» هذا: «احترس أيها الفلاح، أتريد أن تطأ ملابسي؟»
فقال هذا الفلاح: «سأفعل ما تريد، إن طريقي طريق جيد.» وعندئذٍ سار إلى الأمام.
فقال «تحوت نخت» هذا: «أتريد أن تجعل قمحي ممرًّا؟»
فقال هذا الفلاح: «إن طريقي جيد، إن الجسر عالٍ وطريقنا الوحيد تحت القمح، ومع ذلك فإنك تجعل ملابسك عقبة في طريقنا، أفلا تريد أن تجعلنا نمر على الطريق؟»
عندئذٍ ملأ أحد الحمير فمه بحزمة من القمح، فقال «تحوت نخت» هذا: «انظر سآخذ حمارك أيها الفلاح؛ لأنه يأكل قمحي. انظر إنه سيشتغل بسبب جرمه.»
فقال هذا الفلاح: «إن طريقي حسن، ولم تُؤخَذ إلا قبضة واحدة من القمح، لقد أحضرت حماري لأنه حمول (؟) وأنت تغتصبه لأنه ملأ فمه بحزمة من القمح! بلى، ولكني أعرف رب هذه الضيعة، فهي ملك المدير العام للبيت «رنزي» بن «مرو»، وهو الذي يكبح جماح كل لص في كل البلاد قاطبة، وهل أُسرَق في «نفس» ضيعته؟»
وقال «تحوت نخت» هذا: «هل هذا هو المثل الذي على ألسنة الناس، إن اسم الرجل الفقير لا ينطق به إلا إكرامًا لسيده؟ إنني أنا الذي أتكلم إليك وليس المدير العظيم للبيت الذي أتى على ذاكرتك!»
ثم أخذ غصنًا من الأثل الأخضر وأوجعه به ضربًا في كل جسمه، وقبض على حميره وساقها إلى ضيعته.
فقال هذا الفلاح: «إنك تضربني وتسرق متاعي، وبعد ذلك تغتصب الشكاية من فمي! أنت يا «رب الصمت» أَعِدْ إليَّ ماشيتي؛ حتى أسكت عن الصياح الذي يزعجك!»
وقد مكث هذا الفلاح عشرة أيام يتضرع إلى «تحوت نخت» هذا، غير أنه لم يلتفت لشكايته، وعلى ذلك سافَرَ هذا الفلاح إلى «ننسو» ليرفع ظلامته إلى المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو»، وقد وجده وهو خارج من بيته لينزل في قاربه الخاص بقاعة العدل (أي القارب الرسمي الخاص بالمحكمة).
وعلى هذا أمر المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» خادمًا قد اختاره ليذهب أمامه، ليحمل إليه أخبارًا من هذا الفلاح خاصة بهذا الموضوع من كل وجوهه.
وعندئذٍ عمل «رنزي» بن «مرو» المدير العظيم للبيت تحقيقًا ضد «تحوت نخت» أمام الحكَّام الذين كانوا معه.
فقالوا له: «يجوز أنه أحد فلاحيه قد أتى إلى واحد آخَر خلافه، انظر تلك هي الطريقة التي كانوا يتَّبِعونها مع فلاحيهم عندما يذهبون إلى آخَرين خلافهم، وهل هذه قضية حتى يُعاقَب الإنسان «تحوت نخت» هذا بسبب مقدار تافه من النطرون، ومقدار ضئيل من الملح؟ مُرْهُ أن يُعطَى بدلًا منها، وعلى ذلك يمكنه أن يُعطَى بدلًا منها.»
غير أن المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» لزم السكينة، ولم يُجِبْ هؤلاء الحكَّام ولا هذا الفلاح أيضًا.
الشكوى الأولى
مقدمة للشكوى الثانية
وقد اتفق أن الفلاح قد ألقى هذه الخطبة في عهد الملك المرحوم «نبكاو رع».
وقد ذهب المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» أمام جلالته، وقال: «سيدي لقد عثرت على أحد هؤلاء الفلاحين، وفي الحق إنه فصيح، وهو رجل قد سُرِق متاعه. وانظر، إنه قد حضر ليتظَلَّم لي من أجل ذلك.»
وعلى ذلك أعطي عشرة أرغفة وإبريقين من الجعة كل يوم، وقد تعوَّدَ رب البيت العظيم «رنزي» بن «مرو» أن يعطي ذلك أحد أصدقائه، وكان هذا يعطيها إياه (إلى الفلاح) ثم إن المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» أرسل إلى شيخ بلدة «سخت حموت» ليصنع الطعام لزوج ذلك الفلاح، ومقداره ثلاثة مكاييل من القمح (؟) كل يوم.
الشكوى الثانية
لا تنطق كذبًا، واحترس من الحكام … إن قول الكذب عشبهم، وعلى ذلك (؟) من المحتمل أن يكون خفيفًا على قلوبهم. وأنت يا أكثر الناس تعلُّمًا، هلا تريد أن تعرف شيئًا عن أحوالي؟ وأنت يا مَن تقضي على كل حاجة (؟) للماء، تأمَّلْ، فإني أملك مجرى ماء من غير سفينة، وأنت يا مرشد كل غارق إلى البر، نجِّ مَن غرقت سفينته، نجني …»
الشكوى الثالثة
ثم حضر هذا الفلاح مرة ثالثة ليشكو، فقال: «يأيها المدير العظيم للبيت، يا سيدي، إنك «رع» رب السماء، في صحبة حاشيتك، إن قوام بني الإنسان منك لأنك كالفيضان، وأنت «حعبي» (إله النيل) الذي يجعل المراعي خضراء، ويمد الأراضي القاحلة، اكبَحْ جماح السارق، دافِعْ عن الفقير، ولا تكونن فيضانًا ضد الشاكي، واحذر من قرب الآخِرة. ارغب في أن تعيش طويلًا على حسب المثل: «إن إقامة العدل هو نفس الأنف.» وقع العقاب على مَن يستحق العقاب، ولن يكون هناك شيء يماثل استقامتك. هل الميزان يتحول؟ وهل يميل لسانه إلى جهة؟ هل يُظهِر «تحوت» تساهلًا؟
تأمَّلْ، إنك غسال يشقى، وشخص جشع لإتلاف صاحبه، وهاجر شريكه من أجل عميله، وإنه لأخ له الذي قد أتى ونفَّذَ «حيلته».
تأمل، إنك نوتي تعبر بمَن معه الأجر، ورجل مستقيم في معاملته، ولكن تلك الاستقامة مذبذبة.
تأمل، إنك رئيس مخابز لا يسمح لأحد خلو (؟) (مفلس) أن يمر وهو مدين.
تأمل، إنك صقر لعامة القوم يعيش على أحقر الطيور.
تأمل، إنك مُورِّد سروره الذبح؛ إذ لا «يوقع» عليه تشويه.
وقد تكلَّمَ هذا الفلاح هذا الكلام إلى المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» عند مدخل قاعة المحاكمة ثم أمر حاجبين أن يتعهداه بسياط، وقد أسخناه ضربًا بها في كل أجزاء جسمه.
الشكوى الرابعة
الشكوى الخامسة
الشكوى السادسة
وبعد ذلك أتى هذا الفلاح للمرة السادسة ليشكو فقال: «يأيها المدير العظيم للبيت، يا سيدي، إن كل محاكمة حقة تدحض الباطل، وتعلو بالصدق، وتشجع الحسنة، وتقضي على السيئة، كالشبع عندما يأتي يقضي على الجوع، والكساء يقضي على العري، وكالسماء تصفو بعد العاصفة الشديدة وتدفئ كل مَن شعر بالبرد، وكالنار التي تسوي النيئ، وكالماء الذي يطفئ الظمأ. انظر بعينيك؛ إن المحكم متلاف، والمصلح موجد للحزن، ومهدئ «الخلافات» خالق للألم، والمغتصب يحط من قدر العدالة، ولكن الشخص إذا قضى بالقسطاس المستقيم فإن العدالة إذن لن يحاد عنها، ولن يبالغ (؟) في إجرائها، (ولكن) إذا أخذت فأعط زميلك أيها المشداق (؟) الخلو من الصراحة.
«إنك متعلم، وإنك ماهر، وإنك عادل، ولكن ليس في النهب. (والآن؟) فإن مَثَلك مَثَل كل بني الإنسان، كل أعمالك ملتوية، ومفسد الأرض كلها يمشي مستقيمًا إلى الأمام (لا يرى أمامه اعوجاجًا)، وزارع الشكر (البستاني) يروي حقله بالأعمال الخاطئة حتى يجعل مزرعته تنمو بالكذب، وبذلك يرى المتاعب إلى الأبد (؟).»
الشكوى السابعة
إن خمولك سيضلل بك، وشراهتك ستغشك، وإن عدم اكتراثك سيولد لك أعداء، ولكن هل يمكنك أن تجد فلَّاحًا آخَر مثلي؟ وهل الشاكي يقف على باب بيت الخامل؟ على أنه لا يوجد إنسان صامت قد أنطقته، ولا نائم قد أيقظته، ولا مكتئب قد نَشَّطْتُه، ولا إنسان فمه مغلق قد فتحته، ولا جاهل قد جعلته يعرف، ولا غبي قد علمته، (ومع ذلك) فإن الحكام هم الذين يقصون السوء، وأرباب الخير هم أصحاب فن ليصنعوا أي شيء كائن، ويصلوا الرءوس التي قد فصلت «عن أجسامها».»
الشكوى الثامنة
وبعد ذلك أتى هذا الفلاح ليشكو مرة ثامنة فقال: «يأيها المدير العظيم للبيت، يا سيدي، إن الناس يتحملون السقوط البعيد بسبب الطمع، والرجل الجشع يعوزه النجاح، ولكنه ينجح في الخيبة. إنك جشع وذلك لا ينسجم معك، إنك تسرق وذلك لا يفيدك، أنت يا مَن يجب عليه أن يسمح للإنسان أن يشرف على قضيته الحقة، ذلك لأن ما يقيم أودك في بيتك، ولأن جوفك قد ملئ، ولأن مكيال القمح قد طفح، وإذا اهتز فإن الفائض منه يبعثر على الأرض.
الشكوى التاسعة
الخاتمة
وبعد ذلك أمر «رنزي» بن «مرو» المدير العظيم للبيت اثنين من الحُجَّاب ليذهبا ويحضراه ثانية، وقد خاف هذا الفلاح ظنًّا منه أن ذلك قد عُمِل لمعاقبته على الخطبة التي فاه بها.
فقال هذا الفلاح: «مَثَل اقتراب الظمآن من الماء ووصول الشفة التي تتحرق إلى اللبن، كمَثَل الموت الذي يتاق إلى رؤيته في مجيئه عندما يأتي متباطئًا.»
ولكن المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» قال: «أيها الفلاح، انظر، جهِّزْ نفسك على أن تسكن معي.»
فقال هذا الفلاح (؟): «هل سأعيش قائلًا دعني آكل من خبزك، وأشرب من «جعتك» إلى الأبد؟!»
فقال المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو»: «لا بأس، انتظر هنا حتى يمكنك أن تسمع شكاياتك.» ثم أمر بقراءتها من ملف بردي جديد، كل شكوى على حسب محتوياتها، ثم إن المدير العظيم للبيت «رنزي» بن «مرو» أمر بإرسالها إلى جلالة الملك المرحوم «بنكاورع»، وقد سُرَّ منها جلالته أكثر من أي شيء في الأرض قاطبة، وقال جلالته: «اقضِ أنتَ بنفسكَ يابن «مرو» (في هذا الأمر).»
فأمر (المدير العظيم) للبيت «رنزي» بن «مرو» اثنين من الحجاب ليذهبا ويحضرا «تحوت نخت»، فأُحضِر وأُحصِيت «كل أملاكه» … ستة أشخاص خلافًا … قمحه من الوجه القبلي وشعيره وحميره … وخنازيره وماشيته الصغيرة … وقد أُعطِي بيت «تحوت نخت» لهذا الفلاح، وكذلك كل … قال إلى «تحوت نخت» …»
لقد انتهت (بسلام كما وُجِدت مدوَّنةً).
(١-٤) قصة الراعي
(أ) مقدمة
(ب) متن القصة
… تأمل، فإني عندما ذهبت إلى المستنقع الذي يحف بهذه الأرض المنخفضة، رأيت امرأة هناك، منظرها ليس كمنظر الآدميين، فقف شعري حينما نظرت إلى ضفائرها؛ لأن لون «جسمها» كان لامعًا جدًّا، على أني لن أفعل قط ما قالت، والخوف منها في جسمي.
ولما ظهر النور على الأرض في الفجر الأول نفذ ما قال. وهذه الإلهة قابلته بينما كان يعرج في طريقه إلى البركة، وقد خلعت ملابسها ونفشت شعرها …
(١-٥) قصة هلاك الإنسانية
(أ) ملخصها
شعر الإله «رع» إله الشمس أنه صار مسنًّا، وأن رعيته من بني الإنسان يتآمرون على قتله، فاستنجد بالإلهة «حتحور» التي تُسمَّى في هذه القصة «عين رع»؛ لتقضي على بني الإنسان جملةً، ولكنها بعد أن بدأت عملها عَزَّ على الإله «رع» ذلك، فدبَّرَ طريقة ينقذ بها مَن بقي من البشر، ويخلصهم من بطش هذه الإلهة، وتم له ذلك بمعونة شراب الجعة الذي حبب إلى قلبها، فاحتست منه حتى ثملت ولم تَعِ ما كانت تريد.
(ب) دراسة القصة
تمثِّل لنا هذه القصة — أو بعبارة أدق هذه الخرافة — نوعًا من الشعر القصصي الذي يدور حول «الإلهة حتحور» إلهة السماء، والإله «رع» إله الشمس، وقد حُفِظت لنا بتوفيق غريب؛ إذ إنها كانت قد نُقِلت في كتاب تعويذات سحرية، وقد نُقِش هذا الكتاب على جدران مقبرة الملك سيتي الأول من الأسرة التاسعة عشرة، ثم على جدران مقبرة رعمسيس الثالث من الأسرة العشرين. ووردت هذه القصة فيما نُقِش باعتبارها جزءًا من هذا الكتاب كما وُجِدت مكتوبة على «ناووس» «توت عنخ آمون» الخشبي (ولم تُنشَر بعدُ)، غير أنه من النقشين الأولين — وإنْ وُجِدا مهشمين — استطعنا أن نحصل على نص كامل تقريبًا لهذه الخرافة، ويرجع تاريخ هذه الوثيقة إلى الدولة الوسطى، والمرجح أنها كُتِبت في بدايتها.
على أن أول ما يسترعي النظر في أسلوب هذه القصة هو سذاجة التعبير، والتكرار الممل، كالذي نسمعه في بيوتنا عندما تُقَصُّ علينا خرافة من الخرافات، يضاف إلى ذلك أن القصة تحتوي على اشتقاقات لغوية خاصة بأسماء الآلهة تلفت نظر المشتغلين باللغة المصرية، وكذلك نجد فيها صورة طريفة للاحتفالات والمراسيم المحلية التي كان لا بد منها في الطقوس المصرية.
(ﺟ) المصادر
- (1) Naville. Transactions of the Soc. of Bib. Arch IV P. 1–9.
- (2) Max Müller Egyptian Mythology. P. 73 ff.
- (3) Erman. The Literature of The Ancient Egyptians P. 47 etc.
- (4) Roeder Urkunden. zur Religion des Alten Agypten P. 141.
(د) متن القصة
… الإله الذي أوجد نفسه عندما كان ملكًا على الآلهة والناس جميعًا، وقد دبَّرَ له بنو البشر مؤامرة، وقد كان جلالته وقتئذٍ متقدمًا في السن، وكانت عظامه من فضة، ولحمه من ذهب، وشعره من اللازورد الحقيقي (الظاهر أن هذه كانت أمارات على كبر السن في الآلهة).
ولكن جلالته قد فطن لما يدبِّره ضده بنو البشر، وعند ذلك قال جلالته لمَن كانوا في حاشيته: تعالوا ونادوا إليَّ عيني، وكذلك «شو» و«تفنوت» و«جب» و«نوت»، ومعهم الآباء والأمهات الذين كانوا في صحبتي عندما كنتُ لا أزال في نون (المحيط الأبدي)، وكذلك نادوا إلهي «نوت» نفسه ودعوه يُحضر معه حاشيته، ويجب عليكم أن تحضروهم سرًّا حتى لا يراهم بنو الإنسان، فيأخذ قلوبهم الفزع، ويجب عليكم أن تحضروا معهم إلى القصر العظيم حتى يمدوني بنصيحتهم.
من أجل ذلك حضر هؤلاء الآلهة، وهؤلاء حضروا أمامه ولمسوا الأرض بجباههم في حضرة جلالته، لأجل أن يقول كلماته في حضرة والد أكبرهم سنًّا «نون»، ذلك الذي سوى بني البشر وملك الناس.
فقالوا لجلالته: تحدَّث إلينا حتى نسمع حديثك. فقال «رع» للإله «نون»: يا أسن إله به جئت للوجود، وأنتم أيها الآلهة الأقدمون، انظروا إلى بني البشر الذين أتوا للوجود بعيني، فقد دبَّروا مؤامرة ضدي، فأخبروني ما عساي أفعل في ذلك. تأملوا، فإني لا زلت أبحث، ولن أذبحهم حتى أسمع رأيكم في ذلك. عندئذٍ قال جلالة «نون»: يا بني «رع»، أنت أيها الإله الذي هو أعظم من الذي خلقه وأسن من الذين سووه، ابقَ حيث أنت؛ فإن الخوف منك سيكون عظيمًا، إذا التقت عينك بمَن تخيل لك سوءًا. فقال جلالة «رع»: انظر، إنهم قد هربوا إلى الصحراء لأن قلوبهم في وجل مما قالوا. وعندئذٍ قالوا لجلالته: أرسل عينك لتذبحهم لك … لتذبحهم لك عندما تنزل بصورة «حتحور».
وقال «رع»: تعالوا نادوا رسلي المسرعين في العَدْو حتى يعدوا مثل ظل الجسم. وقد أحضر هؤلاء الرسل، فقال لهم جلالة هذا الإله: أسرعوا إلى الفنتين (أسوان)، وأحضروا لي كمية عظيمة من الطَّفْل الأحمر. فأحضر له هذا الطفل الأحمر، ثم إن جلالة هذا الإله العظيم أمر الإله «ذو الذؤابة» الذي في عين الشمس أن يطحن هذا الطفل الأحمر، ثم أعدت الخادمات شعيرًا للجعة، وأضيف له هذا الطفل المطحون، فصار يشبه الدم البشري، ثم جهز ٧٠٠٠ إبريق (هنت) من الجعة، ثم حضر جلالة الملك «رع» ملك الوجهين القبلي والبحري وبصحبته هؤلاء الآلهة ليروا هذا الشراب، وانقلق صبح اليوم الذي كانت ستذبح فيه الإلهة بني الإنسان في وقت ذهابهم إلى النهر، وقال جلالة هذا الإله: إنها حسنة جدًّا، سأحمي بها بني الإنسان (؟). وقال «رع»: احملوها الآن إلى المكان الذي قالت عنه إنها ستقتل فيه بني الإنسان. وبكر جلالة «رع» ملك الوجه القبلي والوجه البحري في أعماق الليل ليصب هذا الشراب المنوم (؟) والحقول التي … قد مُلِئت بالشراب بقوة جلالة هذا الإله.
وفي الصباح ذهبت الإلهة ووجدتها غطيت بالفيضان، وكان وجهها جميلًا فيه (أي في الفيضان) فشربت، وكان الشراب لذيذًا إلى قلبها فسكرت، ولم تعِ بني الإنسان.
(١-٦) قصة الملك خوفو والسحرة
عندما تقرأ هذه القصة تلمس في أسلوبِها والغرضِ منها روحَ قصص «ألف ليلة وليلة»، فهي سلسلة من القصص تُعتبَر الأولى من نوعها، قد صيغت باللغة المصرية الحديثة التي ساد استعمالها في عهد الدولة الحديثة، وبقيت اللغة الرسمية للبلاد إلى أمد بعيد من ألف السنة الأولى قبل الميلاد، وأظهر مميزات هذه اللغة الجديدة: اختفاء الضمير المتصل الذي كنَّا نجده في اللغة القديمة يحتل آخِر الكلمة، فمثلًا كلمة «بيتي» كانت تُكتَب في اللغة القديمة كلمة واحدة، ولكنها في اللغة الحديثة أصبحت تُكتَب كلمتين: الضمير ويُوضَع في أول الكلمة، والكلمة نفسها وتأتي بعد ذلك، كما في اللغات الأوروبية. يضاف إلى ذلك اختفاء بعض صيغ قديمة، واستحداث عدد عظيم من الأدوات لم تكن موجودة من قبلُ، ولا يفوتنا أن هذه اللغة الحديثة لم تصر اللغة الرسمية للبلاد إلا بعد مائتي سنة على ظهور قصتنا، وذلك في عهد الفرعون «إخناتون»؛ حيث أخذت اللغة القديمة تتوارى وتختفي.
(أ) ملخص القصة
«خوفو» باني الهرم الأكبر جمع أولاده يومًا، وطلب أن يقصَّ عليه كلٌّ منهم قصة غريبة تتناول السحر ومعجزاته فيما مضى من الدهور، فأخذوا يتناولون الحديث، إلى أن قام أحدهم وذكر قصةً عن ساحر لم يَزَلْ على قيد الحياة يأتي بخوارقِ الأمورِ، وأحضره فعلًا أمام الملك، فبعث الحياة مرة ثانية إلى حيوانات فُصِلت رءوسها عن أجسادها، فلما رأى الملك قدرته على إحياء الموتى طلب أن يعرف منه عدد أقفال معبد الإله «تحوت»، فاعتذر بأنه لا يعرف عددها، وإن كان يعرف مكانها، وأن رجلًا واحدًا هو الذي يستطيع الإتيان بها للملك، وهذا الرجل لم يُولَد بعدُ، ولا يزال مع أخويه في بطن أمه، وهي كاهنة «رع»، وقد قدر لأولادها الثلاثة أن يحكموا ثلاثة أجيال.
فهلع قلب الملك «خوفو» لما سمع من كلام الساحر؛ خشيةً على ملكه أن يتوارثه غير أبنائه، فسأل الساحر مرة أخرى عن موعد ولادة هؤلاء الإخوة الثلاثة، فأجابه الساحر، ومن ثَمَّ شغل بأمر الكاهنة وأخذ يترقب ولادتها، وظهر أثناء ذلك بعض المعجزات السحرية سيراها القارئ في متن القصة.
(ب) دراسة القصة
- الأولى: ما سرده أولاد الملك من قصص السحرة.
- والثانية: ما حكت أمر الأطفال الثلاثة الذين سينتقل إليهم زمام الأمر في البلاد.
ووصل المؤلف بين المرحلتين بإقحام البحث عن مفاتيح الإله «تحوت» رب العلم والسحر؛ ليخلق بذلك مناسبة لذكر الأطفال الثلاثة الذين أسَّسوا — بعد أن شبوا وصلبت قناتهم — الأسرة الخامسة.
وهذه القصص تكوِّن وحدة متماسكة الأجزاء، كان الغرض منها أولًا تسلية الملك وإدخال السرور على قلبه، وانتهت في مرحلتها الأخيرة بالدعاية لملوك الأسرة الجديدة، وأنهم من نسل «رع»، ولذلك أسَّسَ كلٌّ منهم معبدًا للشمس قائمًا بذاته، وهي في جملتها تمجيد لفن السحر، وحرب على الرذائل الخلقية، فالزانية فيها قد أُحرِقت، والزاني أُلقِي طعامًا للتمساح.
ويمكننا أن نلقي ضوءًا على نهاية القصة الغامضة، فنقول بأغلب الظن: إن مساعي الملك لقتل هؤلاء الأطفال لم تنجح، فشبوا وترعرعوا ونصبوا ملوكًا متتابعين، والقصص التي من هذا النوع كثيرة، مثل قصة الحكماء الثلاثة الذين أتوا من المشرق (إنجيل متى، الإصحاح الثاني).
قلنا: إن هذه القصص تكون وحدة متماسكة الأجزاء، وبعبارة أوضح نستطيع أن نقول إنها قصة واحدة، فإن اقتطاع جزء منها، أو الاقتصار على قصة واحدة من قصصها يُظهِرها لنا ناقصة شوهاء، لا تؤدي إلى الغرض الذي سِيقَتْ من أجله.
وإذا نظرنا إلى هذه القصة باعتبارها أدبًا قصصيًّا، حكمنا بأنها ليست من النوع الراقي، وإذا نظرنا إليها باعتبارها قصصًا قوميًّا رأينا أنها في بابها قطعة فنية تستحق الذكر.
ولا تظن أن القصص القومي الذي يميل إليه جمهرة الشعب ويتفهمونه في سهولة ويسر لا صنعة فيه ولا يستلزم حذقًا ومهارة، فإنه استعداد وقدرة ومران على ما تواضَعَ عليه القُصَّاص وروَّاد مجالسهم، فتتربى عند الواحد مَلَكة يستطيع بها إذا سمع قصة أن يلحقها بشبيهة لها وردت على أذنه من قبلُ، فهي بهذا حرفة وفن وتقاليد موروثة؛ ومن هنا أتت شهرة القصاص الأذكياء الذين يدركون ذوق جمهور المستمعين، فيغذونهم بما يناسبهم، ويكافئهم هؤلاء بالتهافت على مجالسهم، والتحدث بمواهبهم.
ومع ذلك فإنه إذا صيغ هذا النوع من القصص في ثوب جميل من الأساليب، كانت له قيمته العظيمة، كما تشاهد ذلك في قصص الدولة الوسطى، وسيرى القارئ عند الكلام على شكاوى «خع – خبر – رع – نب» أن المؤلف كان يندب حظ الأسلوب الأدبي في الكتابة ويقول عنه: إنه أصبح خاليًا من كل تنميق.
وهذا النقد نراه ظاهرة في كل آداب العالم، فإذا ساد لون منه عصرًا من العصور قام مَن ينادون بتغييره؛ لأن الجدة والتغيير ترتاح إليهما النفوس كثيرًا، كما نرى الآن بين أنصار الأدب القديم وأنصار الأدب الجديد، وبين أنصار الأدب المحتشم والأدب المكشوف، وبين أنصار العربية والعامية.
(ﺟ) المصادر
- (1) Erman: The Literature of the Ancient Egyptians P. 86 ff.
- (2) Peet: A comparative Study of the Literatures of Egypt, Palestine and Mesopotamia. P. 41 ff.
- (3) Max Pieper: Die Agyptische Literatur. P. 55 ff.
- (4) Maspero: Popular stories of Ancient Egypt P. 21 ff.
- (5) A. Wiedeman: Altaegyptische Sagen und Marchen. Leipzig. 1906.
(د) متن القصة
وكان ﻟ «وباونر» هذا زوجة قد أغرمت بحب أحد سكان المدن، وقد كانت على اتصال معه بوساطة خادمة، وقد أرسلت له صندوقًا مفعمًا بالملابس هدية له، وحضر مع الخادمة.
وأرسلت زوجة «وباونر» إلى مدير البيت الذي كان مشرفًا على البحيرة قائلة: «جهِّزْ بيت النزهة الذي على البحيرة. انظر، إني سأسكن فيه.»
وعندما حان الغروب جاء المدني على حسب عادته اليومية، وألقى مدير البيت تمساح الشمع وراءه في الماء، فانقلب إلى تمساح طوله سبعة أذرع، وقبض على المدني … ولكن «وباونر» مكث مع جلالة الملك «نبكا» سبعة أيام، وفي هذه الأثناء كان المدني في الماء من غير تنفس، ولما انقضت سبعة الأيام أتى الملك «نبكا» … وحضر أمامه رئيس المرتلين «وباونر»، ثم قال «وباونر»: «… ليت جلالتك تأتي وتشاهد الأعجوبة التي حدثت في عهد جلالتك.» فذهب الملك معه، ثم نادى «وباونر» التمساح وقال: «أحضر إلى هنا المدني.» وعلى ذلك خرج التمساح وأحضره … فقال جلالة الملك «نبكا»: «أستميحك عفوًا، ولكن هذا التمساح مخيف (؟).» وعند ذلك انحنى «وباونر» وأخذه، فصار تمساحًا من شمع في يده.
وبعد ذلك قصَّ رئيس المرتلين «وباونر» على جلالة الملك «نبكا» هذا الأمر الذي فعله المدني في بيته مع زوجه، فقال جلالته للتمساح: «خذه فهو ملكك.»
وعندئذٍ غاص التمساح في أعماق البحيرة، ولم يعرف أحد المكان الذي ذهب إليه معه.
وأمر جلالة الملك «نبكا» أن تُؤخَذ زوج «وباونر» إلى الحقل الذي في شمال مقر الملك، وأُشعِلت النار فيها، وأُلقِي برمادها في النهر.
«انظر، إن هذه أعجوبة حدثت في عهد والدك «نبكا»، وهي من أعمال رئيس المرتلين «وباونر» العظيمة.»
فقال جلالة الملك «خوفو»: «فليقدم للملك «نبكا» ألف رغيف من الخبز، ومئة إناء من الجعة، وثور، وكيلان من البخور، وليُعْطَ رئيس المرتلين «وباونر» فطيرة، وإبريقًا من الجعة، وقطعة كبيرة من اللحم، وكيلًا من البخور؛ لأني رأيت مثلًا من علمه، وقد نفَّذَ كلَّ ما أمر به جلالته.
فقال له جلالته: «سأفعل هذا، عُدْ إلى منزلك (؟) وسأذهب لأجدف، فليؤتَ إليَّ بعشرين مجدافًا من الأبنوس مرصَّعة بالذهب، ومقابضها من خشب «سكب» مطعمة بخالص النضار.
فَلْيؤتَ إليَّ بعشرين امرأة ممَّن لهن أجمل الأعضاء، وصدورهن رشيقة، وشعورهن مجدولة ممَّن لم يلدن بعدُ، وفوق ذلك أحضروا لي عشرين شبكة، وأعطوها النساء بدلًا من ملابسهن.» وقد نُفِّذ كل ما أمر به جلالته، وجدفن جيئة وروحة، وكان قلب جلالته فرحًا حينما رأى كيف يجدفن.
فقال لها جلالته: «لماذا لا تجدفين؟»
عندئذٍ قال جلالته: «اذهب وأحضر إليَّ رئيس المرتلين «زازا معنخ».» فأُحضِر فورًا، وقال جلالته: «يا زازا معنخ، يا أخي، لقد فعلت كما قلت، وقد سُرَّ قلب جلالتي حينما نظرت كيف يجدفن، ولكن سمكة حلي من الملخيت الجديد لقائدة قد سقطت في الماء، فسكتت ولم تجدف، وبذلك أضرب صفها عن التجديف، وقد قلتُ لها: لماذا لا تجدفين؟ فقالت لي: إن سمكة حلي من الملخيت الجديد قد سقطت في الماء، فقلت لها: جدفي وأنا أعطيك بدلها. فقالت لي: إني أريد قعبي حتى قاعه.»
وقضى جلالته كل اليوم في سرور مع كل القصر، وكافَأَ رئيس المرتلين «زازا معنخ» بكل الأشياء الطيبة.
انظر! إنها أعجوبة حدثت في عهد والدك «سنفرو»، وهي من أعمال رئيس المرتلين ناسخ الكتاب «زازا معنخ».
وقد نفذ كل ما أمر به جلالته.
ثم نهض الأمير «حردادف» ليتكلم فقال: «إنك لم تسمع إلى الآن غير أمثلة لسحرة سبقونا، والإنسان لا يستطيع أن يتبيَّن فيها الصدق من الكذب، غير أنه في زمنك هذا يوجد ساحر.»
وعندئذٍ قال جلالته: «أنت بنفسك يا بني «حردادف» ستحضره لي.»
وأعدت سفن للأمير «حردادف» وسافر مصعدًا إلى «دد-سنفرو»، وعندما رست السفن على الشاطئ سافر برًّا جالسًا في محفة من الأبنوس، قوائمها مصنوعة من خشب «سسنم» ومطعمة بالذهب.
ولما وصل إلى «ددي» وضعت المحفة على الأرض، ووقف يسلم عليه، فوجده جالسًا على حصير على عتبة بيته، وكان رأسه قد أمسك به خادم مملسًا عليه، وكان آخَر يدلِّك قدميه.
ومدَّ الأمير «حردادف» إليه يده وساعده على القيام، وبعد ذلك ذهب معه إلى شاطئ النهر؛ آخِذًا بيده طوال الوقت.
ولما وصل الأمير «حردادف»: إلى مقر الملك دخل ليقدم تقريره للملك «خوفو»، فقال الأمير «حردادف»: «أيها الملك، سيدي، لقد أحضرت «ددي».» فقال جلالته: «اذهب وأحضره لي.»
ثم ذهب الملك إلى القاعة ذات العمد في القصر، وأحضر «ددي» إليه، وقال جلالته: «كيف كان ذلك يا «ددي»؟! إني لم أرك قطُّ من قبلُ؟»
فأُحضِرت إليه إوزة ثم فصل رأسها، ووضعت الإوزة في الجانب الغربي من القاعة، ورأسها في الجانب الشرقي منها، وتلا «ددي» تعويذة سحرية، فوقفت الإوزة ومشت، وكذلك فعل رأسها، ولما وصل أحد الجزأين إلى الآخَر وقفت الإوزة وصاحت، وأُحضِرت إليه بطة وعمل فيها بالمثل.
وبعد ذلك عاد جلالته إلى قصره، وقال جلالته: «رع … يخبر بأن يقيم «ددي» في بيت الأمير «حردادف» ليسكن معه، واجعل جرايته ألف رغيف من الخبز، ومائة إناء من الجعة، وثورًا واحدًا، ومائة حزمة من الكراث.» وقد نفذ ذلك على حسب ما أمر به جلالته.
ومنحه «خنوم» الصحة في جسمه.
(وقد قُصَّتْ ولادة الطفلين الآخَرين بنفس الألفاظ والتفاصيل، غير أن العزائم السحرية مختلفة طبعًا.)
ولما ذهبن في طريقهن من حيث أتين قالت «إيزيس» لهؤلاء الإلهات: «ما معنى أننا أتينا إليها ولم نأتِ بأية أعجوبة لهؤلاء الأطفال حتى نخبر بها والدهم الذي أرسلنا إلى هنا؟»
ووضعن الشعير في حجرة مقفلة.
وعلى ذلك ذهبت الخادمة وفتحت الحجرة وسمعت في الحجرة غناءً وموسيقا ورقصًا وفرحًا، وكل ما يفعل احتفالًا بالملك، فعادت وأخبرت «رد-ددت» بكل ما سمعت، فذهبت «رد-ددت» إلى الحجرة، ولكنها لم تَرَ المكان الذي كان يحدث فيه ذلك، ثم وضعت جبهتها على صومعة الغلال ووجدت أنه فيها، فوضعتها في صندوق، ثم وضعت هذا في خزانة أخرى، وربطتها بجلد، ووضعتها في حجرة صغيرة تحتوي على أوانيها، وأغلقت الباب عليها.
ولما عاد «رع-وسر» من الحقل قصت عليه «رد-ددت» هذا الأمر ففرح كثيرًا، وجلسا وأخذا في أسباب السرور.
وبعد أن مضت أيام معدودات غضبت «رد-ددت» على خادمتها لسبب ما وعاقبتها بالضرب، فقالت الخادمة للقوم الذين في البيت: «هل ستفعل اﻟ …؟ لقد ولدت ثلاثة ملوك، وسأذهب وأخبر جلالة الملك «خوفو» بذلك.»
وبعدئذٍ ذهبت الخادمة لتحضر لها شيئًا من الماء، فقبض عليها تمساح، وعندئذٍ ذهب أخوها ليخبر «رد-ددت» بذلك، فوجد «رد-ددت» جالسة ورأسها على ركبتها، وقلبها مكتئب جدًّا، فقال لها: «لماذا أنت مضطربة كذلك؟» فقالت له: «إن هذه البنت التي قد نمت في هذا البيت، خرجت الآن قائلةً: سأذهب لأفشي السر!»
فحنا رأسه وقال: «يا سيدتي، لقد أتت وقالت لي … بجانبي، وضربتها ضربة مؤلمة، وقد ذهبَتْ لتجلب لنفسها شيئًا من الماء، فقبض عليها تمساح.»
(وهنا كُسِرت الورقة البردية.)
(٢) قصص الدولة الحديثة
(٢-١) قصة الأخوين
مقدمة
قصة الأخوين أول قصة من نوعها في الأدب المصري القديم، ولقد جذبت أنظار العالم؛ لغرابة وقائعها، ومشابهتها قصصًا أخرى حُكِيت في الزمن الحديث، وهي بلا شك أكثر دلالة على أصلها المصري من زميلاتها التي رُوِيت لنا من عهد الفراعنة، وهي قطعة من الشعر القصصي العام ترجع إلى عهد الأسرة التاسعة عشرة، وتحلِّق بوقائعها الخيالية في عالم الخرافات، وقد نقلها الكاتب «أنانا» تلميذ كاتب الخزانة الملكية «كاجبو».
(أ) ملخص القصة
يضم بيت واحد أخوين مخلصين، كبيرهما متزوج ويُسمَّى «أنوبيس»، وصغيرهما غير متزوج ويُسمَّى «باتا»، وكان ساعد أخيه الأكبر في فلح الأرض وزراعتها وتربية أنعامها، وفي يوم كانا يزرعان في الحقل فاحتاجا إلى بعض البذر، وذهب الأخ الصغير إلى البيت ليحضره، وكانت زوجة أخيه الكبير تمشِّط شعرها، فما رأته يحمل قدرًا كبيرًا من البذور على سواعده حتى راقها جماله، وأُعجِبت بقوته، فراودته عن نفسه، وغلَّقت الأبواب، وقالت: هيت لك. قال: معاذ الله، إن أخي الكبير رب نعمتي، وقد أحسن مثواي فلا أخونه في زوجته. فأضمرت المرأة في نفسها الكيد لهذا الفتى الذي فوَّت عليها ما كانت تريد من اللذة والمتاع، وقابلت زوجها في المساء متمارضة متباكية متظاهرة بالألم، وادعت أن أخاه الصغير راودها عن نفسها، وما جزاء مَن يفعل ذلك إلا أن يُقتَل أو عذاب أليم، فصمَّم الأخ الكبير على قتله عندما يعود بالماشية، واختبأ وراء الباب لهذه الغاية، وما إن قرب الصغير من البيت حتى أخبرته بقرة من التي كان يسوقها بما دُبِّرَ له، ففرَّ «باتا» وتبعه «أنوبيس» بسلاحه، ولكن إله الشمس حجز بينهما بخلق بحيرة مملوءة بالتماسيح، فعجز «أنوبيس» عن اللحاق به، وجرت بينهما محادثة برَّأ فيها «باتا» نفسه، وَجَبَّ عضو التناسل منه، وأبَانَ عزمه على الرحيل إلى وادي الأرز، وأنه سيضع قلبه على زهرة في أعلى إحدى أشجاره، وعيَّنَ له علامة إذا حدثت كانت دليلًا على وفاته، وعلى الأخ الكبير حينئذٍ أن يذهب إلى وادي الأرز، ويبحث عن قلبه، ويضعه في الماء؛ فتعود الحياة إلى «باتا» ثانيةً، وينتقم لنفسه من القاتل.
وبعد هذه المحاورة رجع «أنوبيس» إلى قريته فقتل زوجته انتقامًا لأخيه، أما «باتا» فقد سعى إلى وادي الأرز، ولما رأته الآلهة وحيدًا في هذا الوادي أشفقت عليه وجعلت الإله «خنوم» يسوي له زوجة، وقد خالفته هذه الزوجة فخرجت إلى البحر رغم تحذيره لها من هذا العمل، فأراد البحر أن يختطفها، ولكن «باتا» أنقذها منه، وكل ما استطاع البحر أن يأخذه خصلة من شعرها طفت على وجهه حتى وصلت إلى مصر، وهناك فاح شذاها وانتشرت رياها، فشغف الفرعون بصاحبتها، وأرسل إلى وادي الأرز في طلبها، فحضرت زوجة باتا مع الرسل، وصارت حظية عند الفرعون. ولما كانت تخاف بأس زوجها أغرت الفرعون بقطع شجرة الأرز التي تحمل قلبه، فسقط قلبه بسقوطها ومات، وعندئذٍ حدثت العلامة التي كان قد ذكرها لأخيه ليعلم بها أمر موته — وهي فوران إبريق من الجعة — فسعى في الحال «أنوبيس» إلى وادي الأرز لينقذ قلب أخيه، وبعد سنتين وجده في صورة فاكهة، فأعاده إلى الحياة بوضعه في الماء، ثم صيَّر «باتا» نفسه ثورًا وحمل أخاه إلى مصر، وأفصح لزوجه عن شخصيته، فأغرت الفرعون بذبحه، فتطايرت منه نقطتان من الدم نبتتا بعدُ شجرتين من الأثل سكن فيهما «باتا»، وأسر إلى زوجته بأمره، فأغرت الفرعون بقطع الشجرتين، وصنع أثاث لها منهما ففعل، وأثناء صنع الأثاث تطايرت شظيتان من الخشب، دخلتا فم الزوجة؛ فحملت وأنجبت صبيًّا صار وليًّا للعرش، وعند وفاة الملك نصب هذا الصبي خلفًا له ملكًا على البلاد، ولم يكن ذلك الصبي إلا «باتا» نفسه، فانتقم لنفسه من زوجته الخائنة بقتلها.
(ب) دراسة القصة
أسلوب هذه القصة ركيك، وليس فيه تلك الروعة التي نلمسها في قصة «سنوهيت»، أو في قصة «الغريق»، ولقد اتبع في قصها كاتبُها أسلوبَ الدولة الحديثة المألوف، وأقحم فيها بعض العبارات التي لا حاجة إليها، ولا مناسبة لها، كما نراه من عامة المصريين الآن إذا قصوا قصة، أو حملوا إليك خبرًا، فجاءت خالية من طلاوة العبارة، ورشاقة الأسلوب، ولكن نرى من جهة أخرى أن مؤلفها قد أظهر في صناعتها مهارة وحذقًا من حيث هي قصة.
وإذا أمعنا في النظر إلى هذه القصة وجدناها ذات مرحلتين كأختها «قصة الملك خوفو والسحرة»، فالمرحلة الأولى قصة الأخوين، وإغراء زوجة الكبير أخاه الصغير بارتكاب الفاحشة، وتعفُّفه، وقلب الزوجة الحقائق للتنكيل به، وقد حاول بعض رجال الأدب إثبات أن قصتي «يوسف وزليخا» و«قمر الزمان في ألف ليلة وليلة» مأخوذتان من هذه القصة القديمة؛ لما بينهما وبينها من شبه كبير. ولكنا نرى أن في ذلك بعض التكلُّف، فإن هذه المحاولة التي رغبت فيها الزوجة، وتعفَّفَ عنها الصغير، وما تلاها من كيد وتدبير، تحصل كل يوم بين ظهرانينا، وهي تكاد تكون أمرًا طبيعيًّا يحدث في كل أمة مع اختلاف يسير في التفصيل. وليس في هذه المرحلة الأولى من القصة ما تمتاز به من نظائرها إلا ما خالف الأمر المألوف؛ كتحدُّث الحيوان، وخلق إله الشمس بحيرة مملوءة بالتماسيح للحيلولة بين الأخ وأخيه.
وأما المرحلة الثانية فكلها من خوارق العادة والمعجزات، وخلاصتها: إثبات خيانة الزوجةِ زوجَها — وإن كان الإله قد صاغها — بعدما عرفت أن عضو التذكير مبتور فيه، وتعرض علينا أثناء ذلك كثيرًا من الأمور الخارقة للطبيعة التي لا تأتي في العادة على يد إنسان؛ فنرى البحر يمتد لابتلاع زوجة «باتا»، ونرى العبير يتأرج من خصلة الشعر حتى يصل إلى الفرعون في مصر، ونرى «باتا» يعود للحياة ثانية ويتحوَّل إلى ثور، ويسافر إلى مصر ويخاطب زوجته، ونرى نقطتين من دمه تتحولان بعد ذبحه شجرتين هما «باتا» نفسه، فيسر بالأمر إلى زوجته، ونرى أخيرًا قطعتين صغيرتين من الخشب تصيران طفلًا في بطن زوجته، يئول إليه عرش مصر.
وقد ربط الكاتب بين المرحلتين بوصية «باتا» لأخيه «أنوبيس»، بأن يعيد إليه قلبه عندما يعلم أنه قد مات تكفيرًا «لأنوبيس» على اتهامه أخاه زورًا وبهتانًا.
فهذه القصة الروسية نرى من روحها أنها مأخوذة من الأصل المصري القديم بعد انقضاء ٣٠٠٠ سنة، على أننا نستطيع أن نجد في آداب العالم عناصر مختلفة تشبه عناصر هذه القصة؛ مما يحملنا على القول بأن مصر كانت مصدرًا ثابتًا يُستمَد منه مثل هذا القصص.
ولا شك أن في هذه القصة المصرية قصورًا لا يرتفع بها إلى مستوى القصص في العصر الحديث، ولكن يجب علينا أن نذكر وقتها الذي صِيغَتْ فيه أولًا، وأن نذكر أنها كُتِبت للعامة وبلغتهم ثانيًا، وإذا جادت علينا التربة المصرية بقصة من أدب الخاصة وجدنا وجهًا للموازنة والقياس والحكم. ومع كل ذلك فإنه يكفي أن يقال عن هذه القصة إنها ترسم لنا صورة صادقة عن حياة الفلاح في ذلك العصر السحيق؛ مما نراه مصوَّرًا على مقابر العظماء في كل عصور التاريخ المصري القديم.
(ﺟ) المصادر
لقد تناول معظم علماء اللغة المصرية هذه القصة بالبحث والتحليل، وترجمها الكثير منهم، وأحدث التراجم لها ترجمة الأستاذ إرمان.
- (1) Erman: The Literature of the Ancient Egyptians (translated by Blackman) P. 15 ff.
- (2) Griffith in The World’s Best Literature P. 5253.
- (3) Maspero: Popular Stories of Ancient Egypt P. 1–20).
- (4) Die Agyptische Literatur. P. 78 ff (Max Pieper).
(د) نص القصة
فإذا خلع الليل سواده وانبثق فجر اليوم الجديد، كان يهيئ لأخيه الأكبر طعامًا ويضعه أمامه، ثم يأخذ طريقه إلى الحقل ويحمل معه طعامه، ويسوق أبقاره ليرعاها في الحقل، وكان يمشي خلف ماشيته، وكانت تقول له: إن العشب والكلأ في مكان كذا جميل جدًّا، وكان يستمع إلى قولها، ويتبعها إلى حيث المرعى الخصيب والمكان الرغيب … وعلى ذلك أصبحت ماشيته التي يرعاها سمينة بدينة، وأصبح نتاجها كثيرًا صالحًا.
ولما جاء فصل الحرث قال له أخوه الأكبر: «جهِّزْ زوجًا من الثيران للحرث، فإن الأرض قد جفَّتْ من الماء، وأصبحت صالحة لأن تُحرَث، وهيِّئ البذر للأرض فإننا سنحرث بعزم عند البكور.» وهكذا كان يقول له، وكان أخوه الأصغر ينفذ كل ما يأمر به أخوه الأكبر، وعندما انبثق الفجر وطلع يوم جديد ذهَبَا إلى الحقل ومعهما … وابتدأا يحرثان بعزم، وكانت الغبطة تملأ قلبيهما؛ لأنهما بدأا يعملان في عام جديد. وبعد مضي عدة أيام على هذا اليوم كانا في الحقل ونفدت منهما البذور، فأرسل أخاه الأصغر إلى القرية قائلًا: «اذهب وأحضر لنا من القرية بذرًا.» فذهب إلى القرية (ودخل البيت على حين غفلة من أهله) فوجد امرأة أخيه جالسة تمشط شعرها، فقال: أسرعي وهيِّئِي لنا البذر لأذهب إلى الحقل، فإن أخي هناك ينتظرني، لا تتأخري. فقالت له: اذهب وافتح المخزن بنفسك، وخذ منه ما تريد، واتركني أكمل تمشيط شعري. فذهب الغلام إلى حظيرته وأخذ وعاءً كبيرًا ليأخذ فيه بذورًا كثيرة، وحمل نفسه القمح والشعير وخرج بهما، فابتدرته قائلة: ما مقدار ما تحمله على كتفك؟ فأجابها: أحمل ثلاث حقائب من القمح، واثنتين من الشعير، فتلك خمس كاملة. وهكذا كان حديثه إليها وهي … فقالت له: «إنك إذن لذو بأس عظيم، حقًّا إني أرى كل يوم عِظَم قوتك، وكان شغفها أنها تعرفه كما تعرف المرأة الشاب القوي، ثم همَّتْ به وقالت: تعالَ، سنتمتَّع سويًّا، وننام، وسيكون ذلك من حظك أيضًا؛ لأني سأصنع لك ملابس جميلة.» وإنها لقولة نكراء ثار لها الغلام كالفهد، فخافت زوجة أخيه، فأخذ يخاطبها قائلًا: «اسمعي، إنك بمثابة أم لي، وزوجك بمثابة والد، وقد ربَّاني لأنه أكبر مني، فما هذا الإثم العظيم الذي تتحدثين به إليَّ؟ لا تعيدي الحديث على سمعي، ولن أخبر به إنسانًا، ولن أدعه يخرج من فمي، ولن أفضي به إلى أي مخلوق.» ثم حمل البذر وأخذ سبيله إلى الحقل، وهناك لقي أخاه الأكبر، فأخذ كلٌّ منهما يعمل بجد.
وفي المساء عاد أخوه الأكبر إلى بيته، أما الأصغر فظل يرعى قطيعه، ويحمل نفسه بكل أنواع حاصلات الحقل، وعاد يسوق قطيعه إلى حيث ينام في حظيرته بالقرية.
وكانت زوجة أخيه الأكبر تخشى عاقبة ما قالت، فأخذت دهنًا و«سوت»؟ وتظاهرت كذبًا بأنها قد ضُرِبت، وتريد بذلك أن تقول لزوجها: «إن أخاك هو الذي ضربني.» وعاد زوجها إلى البيت عند الغروب كعادته، ودخل بيته، ووجد زوجته راقدة ومتمارضة بشدة، فلم تصبَّ الماء على يديه كما عوَّدته، ولم تشعل لأجله نورًا عند عودته، فبدا البيت في ظلام دامس وهي راقدة تقيء، فقال لها زوجها: «هل تكلَّمَ معك أحد؟» فقالت له: «لم يتكلم معي إلا أخوك الأصغر، وكان ذلك حينما أتى ليأخذ البذر من هنا، ووجدني جالسة وحدي، وقال لي: تعالي نتمتع وننم، تحلي بشعرك (المستعار؟) وهكذا قال لي، ولكنني عصيته وقلت له: انظر، ألستُ لك أمًّا، أَوَليس أخوك الأكبر لك أبًا؟» فمشى الخوف في نفسه، وضربني حتى لا أخبرك بشيء مما حدث، فإذا كنتَ إذن تتركه حيًّا فإني سأقتل نفسي؛ لأنه عندما يعود إلى البيت عند الغروب، وأقص هذه القصة الدنيئة، فإنه سيكون قد جعلها تظهر بيضاء (أي لا غبار عليه).
وعندئذٍ ثار أخوه الأكبر ثورة الفهد الغضوب، وحدَّ نصل حربته، وأمسكها في يده، واحتلَّ مكانًا خلف باب الحظيرة ليقتل أخاه حينما يعود في المساء مع أبقاره إلى حظيرته.
ولما مالت الشمس إلى الغروب حمَّل «باتا» نفسه بما اعتاد أن يحمله من أعشاب الحقل وعاد، وما كادت تدخل طليعة الأبقار حظيرتها حتى قالت لراعيها: خذ حذرك! إن أخاك الأكبر واقف أمامك بحربته ليذبحك، فِرَّ من أمامه. ففهم «باتا» ما قالته طليعة أبقاره.
وبعد ذلك بأيام عدة كان أخوه الأصغر في وادي الأرز وحيدًا، وكان يقضي يومه في صيد وحوش الصحراء، ويقضي ليله في النوم تحت شجرة الأرز التي وضع قلبه في أعلى إحدى زهراتها، وبعد أيام عدة على تلك الحياة الهادئة بنى لنفسه قصرًا في وادي الأرز، وكان مملوءًا بكل شيء حسن؛ لأنه كان يريد أن يتزوج.
وكان قد أُغرِم «باتا» بها (وقد شغفته حبًّا)، وأسكنها في بيته، وكان يقضي يومه في صيد وحوش الصحراء، فإذا جاء المساء عاد إليها محمَّلًا بصيده، فيضعه أمامها وقال لها: «لا تخرجي كي لا يحملك البحر بعيدًا؛ لأني أنثى مثلك لا أستطيع إلى تخليصك سبيلًا، وإن قلبي في أعلى زهرة إحدى شجر الأرز، فإذا عثر عليه إنسان آخَر كنتُ تحت سلطانه.» وقد فتح لها كل قلبه (أي باح لها بكل سره).
فكلَّفَ أحد أتباعه أن ينزل إلى الماء ويحضر الخصلة، فأُحضِرت إليه، فوجدها تفوح عن أريج طيب، فأخذها إلى فرعون.
وأتى بكُتَّاب فرعون وحكمائه إلى حضرته، ثم قالوا له: «إن هذه الخصلة لبنت «رع حور أختي»، وفيها من كل إله نفحة، حقًّا إنها هدية سِيقَتْ إليك من أرض أخرى. ابعث في كل أرض رسولًا ليحضروها لك، فإذا بعثتَ إلى وادي الأرز رسولًا فاشدد أزره بعدة رجال ليحضروها إلى هنا.»
فقال جلالته: «إن ما قلتموه حسن جدًّا.» وأرسلت الرسل.
وانبثق الفجر عن يوم جديد، وكانت شجرة الأرز مقطوعة، وذهب «أنوبيس» الأخ الأكبر إلى بيته، وقعد وغسل يديه (قبل الأكل) وقد أعطي قدحًا من الجعة فاختمرت، وقُدِّم إليه آخَر من النبيذ فصار رديئًا (حامضًا).
عندئذٍ أخذ عصاه وانتعل، واشتمل بملابسه، وحمل سلاحه وجدَّ في السير إلى وادي الأرز، ولما دخل قصر أخيه «باتا» وجده راقدًا على السرير وقد فارقته الحياة، فبكى عندما رأى أخاه على الفراش ميتًا، وأخذ يبحث عن قلبه تحت شجرة الأرز التي كان ينام تحتها كل مساء.
قضى «أنوبيس» … ثلاثة أعوام يبحث عنه (القلب) فلم يهتدِ إليه، ولما بدأ العام الرابع تاقَ قلبه إلى مصر فقال: «سأسافر غدًا.» وكان هذا حديثه لقلبه.
انبثق صباح يوم جديد فأخذ يمشي تحت شجرة الأرز، وقضى يومه في البحث عنه، ولما جاء المساء كفَّ عن بحثه، ثم ألقى نظره مرةً أخرى ليبحث عنه، فوجد فاكهة، فعاد بها إلى البيت، وكانت هي قلب أخيه الأصغر.
ولما كان يوم جديد أخذ «باتا» الشكل الذي تحدَّثَ به إلى أخيه، وركب «أنوبيس» على ظهره، وعند الفجر وصل إلى حيث كان الملك، وقد علم جلالته به ففحص عن حقيقته بنفسه وفرح به فرحًا شديدًا، وقدَّمَ إليه قربانين عظيمين قائلًا: «عجيبة عظمى تلك التي حدثت.» وكان لها في الأرض كلها رنة فرح، وكافئوا أخاه الأكبر على هذه العجيبة وزنها ذهبًا وفضة، ثم استقر في قريته وأهداه الواحد (أي الملك) ملابس كثيرة وعدة عظيمة، وغمره الفرعون بحبه أكثر من كل الناس الذين كانوا في البلاد جميعًا.
وبعد أيام من ذلك الحادث دخل الثور مطبخ «الواحد»، ووقف حيث كانت الأميرة، فأخذ يتحدَّثَ معها قائلًا: «اسمعي إني لا أزال حيًّا.» فقالت له: «أرجو أن تخبرني مَن أنت؟» فقال لها: «أنا (باتا) حقًّا، أتذكرين حينما أوعزتِ إلى فرعون أن يبيد شجرة الأرز حتى لا أعيش بعدها؟ ولكن انظري فأنا الآن حي وإني ثور.» وهنا وجلت الأميرة أشد الوجل للقصة التي قصَّها عليها زوجها.
وانبثق الفجر عن يوم جديد، وأعلن إقامة عيد ضحية عظيم، وسيكون الثور ضحية ذلك العيد، وجيء برئيس قصابي جلالته ليذبح الثور، وبعد ذبحه كان موضوعًا على أكتاف الناس، فهَزَّ رأسه فسالت نقطتان من الدم بجانب منكبي باب جلالته: سقطت واحدة على جانب من جانبي الباب الأعظم لفرعون، وسقطت الثانية على الجانب الآخَر، وتحوَّلت النقطتان إلى شجرتين ناميتين من السنط، وكانت كلٌّ منهما جميلة، فحمل رجل ذلك النبأ إلى جلالته قائلًا: «إن شجرتين من السنط عظيمتين قد نمتا في الليل! عجيبة عظيمة لجلالته! وهما بجانب باب جلالته الكبير.»
ثم قعد جلالته تحت إحدى شجرتي السنط، وعندئذٍ تكلَّمَ «باتا» مع زوجته: «إيه يا خائنة، أنا «باتا» وسأعيش بالرغم منك، حقًّا إنك تذكرين كيف أغريت فرعون بقطع شجرة الأرز، وكيف ذُبِحْتُ بإغرائك بعدما صرتُ ثورًا.»
وبعد أيام من هذا صبت الأميرة الماء لجلالته وكان «الواحد» متطلفًا معها، ثم قالت لجلالته: «أقسم لي بالإله قائلًا: إن كل ما تقوله الأميرة لي سأصغي إليه.» فاستمع لكل ما تقول، فقالت: «مُرْ بقطع شجرتي السنط؛ لنصنع منهما أثاثًا جميلًا.» فأصغى الواحد لكل ما قالت، وبعد عدة أيام من هذا أرسل جلالته عمَّالًا مهرة، وقطع شجرتي السنط.
ووقف الفرعون يشاهد مع زوجه (عملية القطع)، فطارت شظية ودخلت فم الأميرة فابتلعتها، وفي اللحظة عينها حملت (أي صارت حبلى)، وعمل منهما (أي الشجرتين) كل ما رغبت فيه (من الأثاث).
وبعد عدة أيام من هذا وضعت الأميرة ولدًا، فذهب رجل وبلغ جلالته قائلًا: «لقد وُلِد لك ولد.» فأحضر وعيَّن له مرضعًا، وجعل له خادمًا، وعمَّ الفرح به البلاد، وأقام جلالته له الأفراح، وقد رُبِّيَ وأحبه في الحال جلالته حبًّا شديدًا، وعيَّنه حاكمًا لإثيوبيا» (ابن الملك)، وبعد عدة أيام من هذا جعله ولي عهد للبلاد جميعًا.
وقضى ثلاثين عامًا ملكًا على مصر، ثم رحل عن هذا العالم واستولى أخوه على عرشه يوم مماته.
(٢-٢) الأمير المسحور
(أ) ملخص القصة
اشتاق ملك أن ينجب ذكرًا بعد أن حُرِم ذلك دهرًا طويلًا، فأعطاه الإله ما يتمناه، ولكن قدر على هذا المولود أن يلقى حتفه على يد تمساح، أو حية، أو كلب، وعرف والده ذلك فأفرده في بيت بناه له في الصحراء، حتى شبَّ فرأى في الطريق كلبًا يتبع صاحبه، ولم يكن له عهد بسحنة الكلاب، فسأل عنه، ثم طلب واحدًا من جنسه، فأمر له والده بجرو صغير حتى يأمن عليه من ناحية، ولا يغضبه من ناحية أخرى.
كبر الطفل، فاشتاق إلى الحرية، وطلب الخروج إلى أرض الله الواسعة، فأجيب إلى طلبه، سافر الطفل وأبعد في سفره حتى وصل إلى رئيس النهرين، وكانت له بنت جميلة، جعل صداقها استطاعة المرء أن يقفز إلى شرفة بيتها التي ترتفع عن الأرض ستة وخمسين ذراعًا، فلم يستطع أحد من أولاد رؤساء سوريا ذلك، واستطاعه ذلك الشاب الوافد إليهم من مصر، فتزوَّجَ البنت بعد لَأْيٍ وامتناع، وأحبته وأخلصت له، وسهرت على راحته وحفظ حياته، وأنقذته مرات من الموت، حتى انتهى أجله بإحدى الطرق التي كانت مقدَّرة له من قبلُ.
(ب) دراسة القصة
إن العنوان الذي اختاره «جورج إبرس» الأثري الألماني المعروف لهذه القصة لا ينطبق على موضوعها، فليس الأمير فيها مسحورًا، وليس في القصة شيء عن السحر، والعنوان الصحيح الذي أصبحت تُعرَف به القصة الآن هو: «الأمير المحتوم عليه الموت».
ومن الصعب علينا أن نرجع هذه القصة إلى عهدها بالدقة، والمرجَّح أنها كُتِبت في عهد الأسرة التاسعة عشرة، ومما يُؤسَف له أن نهاية البردية التي كُتِبت عليها قد حُطِّمت، ويقال إنه عُثِر عليها سليمة، ولكن حدث انفجار في البيت الذي كانت مُودَعة فيه في الإسكندرية، فأصابها التحطيم. ومن الممكن أن نتبيَّن خاتمتها من سياقها، فنعرف أن الأمير لا بدَّ ملاقٍ حتفه وفق ما قُدِّر له.
والقصة بادية في ثوب خرافي، وإذا حذفنا منها التمساح، وغيَّرنا الأسماء، كانت أشبه بقصصنا الخرافية الحديثة، والقصة تدور حول وحيد الأبناء المدلَّل المعنيِّ به، ووحيدة البنات التي يُبذَل كل نفيس في سبيل سعادتها. ويحدث أن يخرج الشاب في مخاطرة من مخاطرات الحياة، فيلتقي عن غير قصد بالفتاة، فيتحابَّان ويتزوجان بعد تذليل الصعوبات بإتيان المعجزات، وبعد التغلُّب على الفوارق الاجتماعية التي تكون دائمًا عقبة كبيرة بين الحبيبين المُدَلَّهين، ونقرأ الآن كثيرًا من شبيهات هذه القصص في الأمم المختلفة، ولا يبعد أن يكون مصدرها الأول مصر.
وإذا نظرنا إليها من ناحية الأسلوب رأيناها تشبه قصة الأخوين، والتكرار في عباراتها واضح؛ شأن قصص عصر الدولة الحديثة، وهي ترينا من الناحية التاريخية أن السفر من مصر إلى بلاد النهرين كان ميسورًا، وما على المسافر إلا أن يمتطي عربته، ويأكل مما يصادفه من صيد الصحراء، ويتخذ وجهته إلى هدفه فيصل إليه، وبخاصة لأن اللغة المصرية كانت معروفة هناك، كما كانت معروفة في سوريا، فإن الأمير حين قابَلَ أولاد أمرائها تحدَّثَ معهم من غير حاجة إلى وسيط يترجم قوله إلى لغتهم، أو يترجم قولهم إلى لغته، مما يشعرنا بأن أميرنا كان يعرف لغة هذه البلاد، وليس هذا بغريب، فإن مما يعاب عند الكتَّاب المصريين أن يجهل أحدهم طرق السفر، أو لغة التخاطب التي لجيرانه. وسنجد في ورقة أنستاسي الأولى أن الكاتب يلوم زميله ويعيره بأنه لا يعرف الطريق الحسنة التي يخترقها إلى سوريا …
هذا في عصر الدولة الحديثة الذي اختلط فيه المصريون بالأقوام المجاورة لهم عن طريق الفتح أو التجارة، أما في عصر الدولة الوسطى فلم تكن العلاقة قد توثَّقت بين مصر وجيرانها؛ ولذلك نجد «سنوهيت» (وقد سبقت قصته) عندما فرَّ هاربًا إلى «سوريا» قال: إنه وجد أميرًا هناك يعرف المصرية وتحادَثَ معه، مما خفَّفَ عنه بعض عنائه، ثم تعلَّمَ لغة القوم وصار منهم. وسيجد القارئ كذلك عندما نعرض عليه قصة «ونأمون» أنه لما وصل إلى جزيرة «قبرص» سأل جماعة من الحاشية التي كانت تحيط بملكتها عمَّن يعرف منهم اللغة المصرية، وقد أخبره واحد منهم أنه يعرفها.
فاللغة المصرية كانت منتشرة لدى جيران مصر انتشارًا يسايِر كثرةً وقلةً ما كان بين مصر وجاراتها من صلات، وهو أشبه بذيوع اللغة الإنجليزية في كثير من بقاع العالم التي تتبع إنجلترا أو تتصل بها. جاء في تعاليم «آني»: إن اللغة المصرية كانت منتشرةً في كل البلاد الأجنبية (انظر نصائح آني).
وبعدُ، فقصتنا ليست بسيطة في تركيبها، بل إنها تحتوي على جزأين منفصلين وصل بينهما الكاتب كما فعل في قصة الأخوين، مع اختلاف في مغزى كلٍّ من القصتين.
والقسم الأول من قصتنا يعرض القضاء المقدَّر على الوليد بأنه سيلاقي حتفه حتمًا بإحدى وسائل ثلاث: الكلب، أو التمساح، أو الثعبان.
والقسم الثاني ما شاع في عالم القصص من أن ملكًا وملكة حُرِمَا إنتاج الأبناء، فدَعَوا ربهما، أو سألا منجِّمًا عن حظَّيْهما فبشرهما بإجابتهما إلى ما يبغيان. وقد مزج الكاتب القسمين وصقلهما فكان منهما هذه القصة التي نتحدث عنها، وأهم ما يلفت النظر إليها أخلاق الأمير وزوجه؛ فالأمير يعرف نوع الميتة التي تنتظره على يدي التمساح أو الثعبان أو الكلب، ومع ذلك تأبى أخلاقه ويأبى وفاؤه أن يقتل الكلب لمَّا عُرِض عليه ذلك؛ حرصًا على حياته، حتى بعد أن أعدم التمساح والثعبان؛ لأن الكلب قد تربَّى في ظله، فلم يَرَ من الشهامة أن يزهق روحه وقد أظَلَّهما سقف واحد، والزوجة تمثِّل الإخلاص النقي الصافي، فها هي تسهر على حماية زوجها، وتحرص على حياته، وتنتظر رحمة ربه، في الوقت الذي أسلم فيه نفسه لمصيره المحتوم، وهي التي بيقظتها قتلت الثعبان الذي كان يتربص به ريب المنون، وهي التي أشارت عليه بقتل الكلب فأبى، وهي التي كانت تبعث فيه الأمل فتقول: «إن ربك قد خلصك من أحد أعدائك، وسينجيك من الآخرين.»
وإن مَن يرى ذلك الموقف الطاهر النبيل الذي وقفَتْه هذه الزوجة من زوجها، ويقرنه بموقف الخسَّة الذي وقفته الزوجة مع زوجها «باتا» في قصة الأخوين؛ ليأخذه العجب من الاختلاف الكبير بين الموقفين؛ تبعًا لاختلاف المعدنين، ولا يبعد أن يكون كاتب هذه القصة هو نفسه كاتب تلك، وقد صوَّرَ لنا النقيضين ليرينا أن المرأة لا تكون دائمًا شرًّا، ولا تكون دائمًا خيرًا، بل إنه إذا صفا جوهرها كانت مخلصة شديدة الإخلاص، وإذا خبث معدنها كانت خائنة فاجرة في الخيانة، وأن الطبائع البشرية تختلف باختلاف نفس الإنسان وجرثومته.
(ﺟ) متن القصة
يُحكَى أن ملكًا لم يُولَد له ولد ذكر، وقد دعا آلهة زمانه أن يهبوه ولدًا، فقضوا أن يُولَد له ولد، وفي تلك الليلة حملت منه زوجته، ولما أتمت أشهر الحمل وضعت ذكرًا، ثم أتت البقرات «حتحور» ليقررن مصيره، فقلن إنه سيلاقي حتفه على يد تمساح، أو حية، أو كلب، وقد سمع الناس الذين كانوا حول الطفل ذلك، ونقلوه إلى جلالته، وعندئذٍ صار الملك حزينَ القلب جدًّا، وأمر الملك أن يُبنَى له بيت من الحجر في الصحراء، مُجهَّز بالخدم وبكل شيء جميل يليق ببيت ملكي، على ألَّا يغادره الصبي إلى خارجه. ولمَّا ترعرع الطفل صعد إلى سطح البيت، ولمح كلبًا سلوقيًّا يتبع رجلًا يمشي في الطريق، فقال لخادمه الذي كان واقفًا بجانبه: «ما هذا الذي يتبع الرجل في سيره؟» فقال له: «إنه كلب.» عندئذٍ قال له الطفل: «مُرْ بإحضار واحد مثله لي.» فذهب الخادم وأخبر جلالته بذلك، فقال جلالته: «دعوا جروًا صغيرًا يُجلَب إليه لئلا يحزن قلبه.» وعلى ذلك أخذوا له جروًا.
وبعد أن مضت عدة أيام نما الطفل جسمًا وعقلًا، وأرسل إلى والده قائلًا: «ما فائدة مكثي هنا؟ انظر، إني قد صرت في يد القدر، دعني أكن طليقًا حتى أعمل حسب رغبتي، وإن الله سيفعل ما في قلبه.» فأصغوا إليه، وأمروا أن يُعطَى عربة مجهَّزَة بكل نوع من العدة، وتبعه خادمه بمثابة رفيق (حامل الدرع)، ثم عبروا به إلى الشاطئ الشرقي وقالوا له: «اذهب حيث شئتَ.»
وقد كان كلبه معه، ثم اتجه شمالًا متبعًا في ذلك ما يميل له قلبه في الصحراء، وعائشًا على أحسن لحوم صيد الصحراء، حتى وصل إلى رئيس النهرين، ولم يكن قد وُلِد لرئيس النهرين إلا بنت، وقد أقام لها بيتًا، شرفته على ارتفاع ٥٦ ذراعًا من الأرض، وقد أحضر كل أولاد رؤساء بلاد سوريا وقال لهم: «إن مَن يصل إلى شرفة بنتي سيأخذها زوجة له.»
والآن بعد انقضاء عدة أيام مَرَّ بهم الشاب وهم يقومون بعملهم اليومي، فأخذوا الشاب إلى بيتهم فاغتسل، وأعطوا جياده علفًا، وقد قاموا بكل خدمة لهذا الأمير؛ إذ دلَّكوه ولفوا قدميه، وأعطوا تابعه طعامًا، ثم قالوا له من طريق المحادثة: «من أين أتيتَ أيها الشاب الجميل؟» فقال لهم: «إني ابن ضابط من أرض مصر، وقد ماتت والدتي واتخذ والدي له زوجة أخرى، وقد بدأَتْ تمقتني، وقد وليت الفرار منها.» وعندئذٍ ضموه إلى صدورهم، وقبَّلوه مرارًا، وبعد انقضاء عدة أيام قال للشبان: «ما هذا الذي تفعلونه …؟»
فقالوا له: «لقد كنَّا هنا منذ شهور مضت ننفق وقتنا في الطيران؛ لأن مَن يصل منا إلى شرفة بنت رئيس النهرين، فإنه سيهبها له زوجة.» فقال لهم: «ليتها تكون لي، فإذا أمكنني أن أسحر ساقي فإني أذهب للطيران معكم.» ولقد ذهبوا جميعًا للطيران حسب عادتهم اليومية، ولكن الشاب وقف بعيدًا يرقب، وكانت نظرة بنت رئيس النهرين متجهة نحوه.
وبعد انقضاء عدة أيام أتى الشاب ليطير مع أولاد الرؤساء، فطار ووصل إلى شرفة بنت رئيس النهرين، فقبَّلَتْه وضمَّتْه مرارًا، فذهبوا ليخبروا والدها، وقالوا له: «إن رجلًا قد وصل إلى شرفة بنتك.» فسألهم الرئيس: «ابن مَن في الرؤساء هو؟» فقالوا له: «إنه ابن ضابط قد أتى طريدًا من أرض مصر فارًّا من وجه زوج والد.» ولكن رئيس النهرين استشاط غضبًا وقال: «هل أعطي ابنتي طريدَ مصر؟! دَعْه يبتعد من هنا ثانيةً.» فأتوا ليخبروه قائلين: «ارجع إلى المكان الذي أتيت منه.» ولكن الابنة أمسكت به وحلفت يمينًا قائلة: «بحياة «رع حور أختي» إذا أخذتموه بعيدًا عني فلن آكل ولن أشرب وسأموت في الحال.» وعندئذٍ ذهب الرسل وأخبروا والدها بكل ما قالت، فأرسل الرئيس أناسًا ليقتلوه في الحال، ولكن البنت قالت: «بحياة «رع» إذا قتلتموه فإني عند مغيب الشمس سأكون ميتة، ولن أعيش بعد ساعة واحدة.» فذهبوا ليخبروا والدها بذلك … الابنة … وعندئذٍ … الخوف منه … دخل على الرئيس، فضمَّه وقبَّله مرات، وقال له: «أخبرني عن حالك، انظر، إنك لي بمثابة ابن.» فقال له: «إني ابن ضابط من أرض مصر، قد ماتت والدتي، واتخذ والدي له زوجة أخرى، وقد أخذت تمقتني، وقد لذت بالفرار أمام وجهها.» وعندئذٍ وهبه ابنته زوجة له، وقدَّمَ له جوادًا، وكذلك ضيعة، وكل أنواع الماشية الطيبة.
وبعد انقضاء عدة أيام على ذلك، قال الشاب لزوجته: «لقد قُدِّرَ لي أن أموت بواحد من ثلاثة: التمساح، أو الحية، أو الكلب.» فقالت له: «إذن فَلْيُقتَل الكلب الذي يتبعك.» ولكنه قال لها: «… لن أقتل كلبي الذي ربَّيْتُه منذ أن كان جروًا.» وعلى ذلك أخذت تراقب زوجها بدقة، فلم تدعه يذهب إلى الخارج وحده. والآن تأمَّلْ.
… إلى أرض مصر … ليتقهقر (؟) انظر، تمساح البحيرة …
وأتى إليه في المدينة التي كان فيها الشاب … بحيرة وكان فيها عفريت ماء.
ولم يسمح عفريت الماء للتمساح أن يخرج، ولكن عندما نام التمساح (؟) خرج ملاك الماء للنزهة، فعندما أشرقت الشمس وقَفَا يتحاربان كل يوم لمدة شهرين كاملين.
والآن بعد انقضاء عدة أيام على ذلك جلس الشاب يمتِّع نفسه في بيته، وعند حلول الليل نام الشاب على سريره، وأخذه النعاس تمامًا، ولكن زوجته ملأت (كأسًا ﺑ) … وكأسًا أخرى بالجعة، وعندئذٍ خرجت (حية) من جحرها لتلدغ الشاب، ولكن تأمَّلْ! لقد كانت زوجه جالسةً بجانبه يقظةً … الحية، فشربت حتى ثملت، وذهبت لتستلقي على ظهرها، وعندئذٍ تسببت زوجه في أن تقضي عليها بفأسها، ثم أيقظت زوجها …
وقالت له: انظر، لقد وضع الله أحد ما قُدِّر حتفك به في يدك، (وسيسلم لك الآخران أيضًا)، وعلى ذلك قدم قربانًا إلى «رع» مادحًا إياه، ومعظمًا قوته كل يوم.
وبعد انقضاء عدة أيام على ذلك خرج الشاب للتنزُّه على الشواطئ في ضيعته دون أن يذهب خارجها … وقد كان كلبه يتبعه، وقد أعطي الكلب قوة الكلام … وهرب منه، فوصل إلى البحيرة، ونزل فيها (ليهرب من) كلبه، فقبض عليه التمساح (؟) وذهب به إلى المكان الذي كان يسكن فيه عفريت الماء …
وعندئذٍ قال التمساح للشاب: «إني أنا قابضك الذي كان يتبعك و… لعدة أيام مضت، إني على وشك محاربة عفريت الماء، وانظر سأطلق سراحك، ولكن إذا … لتحارب … وإنك ستصفِّق إعجابًا بي، عندما يقتل عفريت الماء (؟) … وإذا نظرت … ننظر اﻟ … والآن عندما انبثق الفجر، وحلَّ اليوم الثاني … إني … (وهنا نجد الورقة محطَّمَة — بكل أسف — ولا شك أن الكلب هو الذي سيقضي على حياة الشاب).
(د) المصادر
- (1) The Journal of Egyptian Archeology Vol. XI P. 227 etc.
- (2) Erman, The Literature of the Ancient Egyptians. P. 191 etc.
-
(3)
Griffith in The World’s Best Literature PP. 5250 ff.
-
(4)
Maspero Popular Stories of Ancient Egypt P. 185.
ويجد القارئ فهرسًا كاملًا لهذه القصة في المؤلَّف الأخير.
(٢-٣) قصة الملك «أبوفيس» و«سقننرع»
(أ) ملخص القصة
أرسل ملك الهكسوس «أبوفيس» رسلًا إلى ملك طيبة «سقننرع»، مدعيًا أن جاموس البحر الذي يعيش في بحيرة طيبة يقضُّ مضجعه، بسبب أصواته المزعجة التي تصل لقوتها إلى مقر جلالته — بصا الحجر — وأنه لذلك يأمر ملك طيبة بإبادة جاموس البحر الذي يسكن في تلك البحيرة جميعه إن أراد أن يبقى حائزًا لرضاه …
(ب) دراسة القصة
يظهر لنا أن هذه القصة، والقصة التي تليها المسماة «الاستيلاء على يافا» أشبه بقصص التاريخ وإن بدتا في ثوب خرافي، فنحن نعرف أن البلاد قد غزاها الهكسوس، وأن ملوك «طيبة» كانوا يناهضون الغزاة، ومن المحتمل جدًّا أن تكون هذه المقاومة قد بدأت في عهد «سقننرع تاعا» المعاصر لملك الهكسوس المسمَّى «أبوفيس» «عاقننرع» والذي اتخذ «أواريس» (صا الحجر الحالية) عاصمة له، وإذا صحَّ ذلك كان طلب ملك الهكسوس الغريب مجرد ذريعة اتخذها تَعِلَّة لإعلان الحرب على ملك طيبة الذي يكيد له، وتكون قصة «الذئب والحمل» التي نتناقلها ونتمثل بها في التاريخ الحديث صدى لأختها قصة «إبادة جاموس البحر» في العصر القديم. ويعزز هذا الرأي بردية من عهد الدولة الحديثة تؤيِّد ما سبق، إن لم يكن ما جاء فيها تردادًا لتلك الحوادث الدامية التي أدَّتْ إلى طرد الهكسوس من البلاد.
كما أنه ليس من البعيد أن تكون هذه القصة خرافية، وأنها من وحي الخيال جملةً، وأن دسَّ هذه الأسماء الحقيقية التي وردت في ثناياها كانت لتكسبها أهميةً، ولتذكر القارئ القديم بصفحة منسية من تاريخ بلاده؛ وحينئذٍ تكون مسألة طلب ملك الهكسوس إبادة جاموس البحر من قبيل الأحاجي التي كان يتهاداها الملوك في ذلك العصر على ما قاله «مسبرو»، ويسلطون عليها أشعة عقولهم حتى يجدوا حلًّا لما فيها من المآزق، وحينئذ يفوزون بمدح إنْ وُفِّقوا، أو يعودون بقدح إن أخفقوا، أو أن هذا الطلب الشاذ كان لغرض ديني يتبعه، فإذا رفض ملك طيبة مثلًا تنفيذ إرادة ملك الهكسوس أُجبِرَ على ترك عبادة إلهه «رع» إلى عبادة معبود الهكسوس الإله «سوتخ».
فهذه القصة التي ذكرنا لبابها صدى لقصتنا المصرية، ظهر في خرافات «أيسوب»، وقد يحتمل أن يكون بين مستشاري «سقننرع» مَن أجاب بمثل ما أجاب به «أيسوب»، أو بمثل الجواب الذي رأيناه في قصة «إعماء الصدق».
هذا، ولا يختلف أسلوب قصتنا هذه عن أسلوب قصص عصرها، اللهم إلا بكثرة ما رأينا فيها من الأخطاء، ولعل ذلك لجهل التلميذ المصري القديم الذي نقلها، وفيها تكرار لبعض جملها، وغموض في بعض نواحيها نشأ من تهشُّم بعض أجزائها.
(ﺟ) متن القصة
حدث أن أرض مصر كانت في جائحة شنعاء (؟)، ولم يكن للبلاد حاكم بمثابة ملك في هذا الوقت، وقد حدث أن الفرعون «سقننرع» كان حاكمًا على المدينة الجنوبية (يعني طيبة)، ولكن كانت الجائحة الشنعاء في بلد العامو (الهكسوس)، وكان الأمير «أبوفيس» في «أواريس»، وكانت كل البلاد خاضعة له، وكذلك كل حاصلاتها بأكملها، وكذلك كل طيبات تميرا (أي مصر، وقد بقي هذا اللفظ في كلمة دميرة).
وقد اتخذ الملك «أبوفيس» الإله «سوتخ» ربًّا له، ولم يعبد أي إله آخَر في البلاد غير «سوتخ»، وقد بنى معبدًا ليكون عملًا حسنًا خالدًا بجانب قصر «أبوفيس»، وقد كان يستيقظ كل يوم ليقرب الذبائح اليومية للإله «سوتخ»، وكان موظَّفو جلالته يحملون الأكاليل من الزهر كما كان يُفعَل تمامًا في معبد «رع حور أختي».
أما فيما يتعلق بالملك «أبوفيس» فإن رغبته كانت في إيجاد موضوع للنفار بينه وبين الملك «سقننرع» أمير المدينة الجنوبية.
والآن بعد انقضاء عدة أيام على ذلك أمر الملك «أبوفيس» بإحضار … رئيسه …
عند هذه النقطة نجد المتن غير متَّصِل لكثرة الفجوات، وقد حاول «مسبرو» مَلْأها على وجه التقريب.)
… وقال لهم (أي للمستشارين): إن رغبة جلالتي في أن أرسل رسولًا إلى المدينة الجنوبية لآتي بتهمة) ضد الملك سقننرع. و… لم يعرفوا كيف يجيبونه، وعندئذٍ أمر بإحضار كتابه والحكماء من أجل ذلك، فأجابوه قائلين: أيها الحاكم يا سيدنا … توجد بحيرة جاموس بحر (في المدينة الجنوبية …) النهر (…) وهي (جاموس البحر) لا تسمح للنوم أن يأتي لنا نهارًا ولا ليلًا؛ لأن الضجيج في أذننا، وعلى ذلك أرسل جلالتك إلى أمير المدينة الجنوبية … الملك «سقننرع»، ودَعِ الرسول يقل له: الملك أبوفيس (…) يأمرك أن تجعل جاموس البحر يترك البحيرة … وبذلك سترى جلالتك مَن يكون معه معينًا؛ لأنه لا يميل لأي إله في كل الأرض قاطبةً إلا «آمون رع» ملك الآلهة.
وبعد مرور عدة أيام على ذلك أرسَلَ الملك «أبوفيس» إلى أمير المدينة الجنوبية بشأن التهمة التي قالها له كتَّابه والحكماء؛ ووصل رسول الملك «أبوفيس» إلى أمير المدينة الجنوبية، فأخذوه إلى حضرة أمير المدينة الجنوبية، فقال الواحد (الفرعون) لرسول الملك «أبوفيس»: ما رسالتك إلى المدينة الجنوبية؟ وكيف قطعت هذه الرحلة؟ فقال له الرسول: «لقد أرسل لك الملك «أبوفيس» يقول: مُرْ بأن يَهْجُرَ جاموس البحر بحيرته التي في ينبوع المدينة الجاري (المدينة هنا طيبة)؛ لأنه (أي جاموس البحر) لا يسمح للنوم أن يغشاني ليلًا أو نهارًا؛ إذ إن أصواته المزعجة في أذني.»
وعندئذٍ بقي أمير المدينة الجنوبية صامتًا وبكى مدة طويلة، ولم يكن يعرف كيف يصوغ جوابًا لرسول الملك «أبوفيس»، فقال له أمير المدينة الجنوبية: كيف سمع سيدك عن البحيرة التي في ينبوع المدينة الجاري؟ فقال له الرسول: … الموضوع الذي من أجله قد أرسلك (؟). وأمر أمير المدينة الجنوبية أن يقدِّم لرسول الملك «أبوفيس» كل الأشياء الطيبة من لحم وخبز … وقال له أمير المدينة الجنوبية: ارجع إلى الملك «أبوفيس» سيدك! … أي شيء تقوله له سأفعله عندما تأتي (؟) (…) وعاد رسول الملك «أبوفيس» مسافرًا إلى المكان الذي فيه سيده.
وعندئذٍ أمر أمير المدينة الجنوبية بإحضار ضبَّاطه العِظَام، وكذلك كل كبار الجند الذين كانوا عنده، وأعاد عليهم التهمة التي بعث بها إليه الملك «أبوفيس»، وقد ظلوا صامتين جميعًا لمدة طويلة، ولم يعرفوا أن يجاوبوا بأي شيء قطُّ، حسنًا كان أو سيئًا، وأرسل الملك «أبوفيس» إلى …
(وهنا تنقطع القصة في الورقة التي استُعمِلَتْ بقيتها في خطابات نموذجية، وهي أسلوب إنشائي كان بلا شك في ذلك الوقت أكثر فائدة، ولكنها ليست بذات أهمية لنا الآن؛ لأننا كنَّا نود أن نعرف نهاية القصة.)
(د) المصادر
- (1) Gunn & Gardiner in The Journal of Egyptian Archeology Vol. V. P. 40 ff.
- (2) Erman The Literature of the Ancient Egyptians Translated by Blackman P. 165 ff.
- (3) Maspero Papular stories of Ancient Egypt P. 298 ff.
(٢-٤) قصة الاستيلاء على يافا
(أ) ملخص القصة
الملك تحتمس قاهر الأعداء يرسل قائده ليستولي على يافا، ذلك الثغر العظيم الواقع جنوب فلسطين، فيحاصر القائدُ المدينةَ، وتمتنع عليه، فيعجز عن اقتحامها فيلجأ إلى الحيلة، ويغري أمير المدينة بالخروج إليه لمحادثته، ولما تقابَلَا أكرمه واحتفى به، وأدخل في روعه أنه سينضم بجنوده إليه، وأنه سيسلمه زوجه وأطفاله، وباشتراكه مع عصا تحتمس التي كانت تشبه عصا موسى تغلَّبَ على العدو، وفتح بلاده بعد خدعة حربية رائعة.
(ب) دراسة القصة
لقد دوَّنَ تحتمس الثالث كل حروبه على جدران معبد الكرنك، وعلى صحائف أثرية أخرى، ولم يَرِدْ فيما دُوِّنَ من ذلك إشارة إلى حوادث هذه القصة.
والذي رواه لنا التاريخ أن تحتمس الأول قد فتح يافا، ونرى اسم حاكمها في قائمة غزوات هذا الملك باسم «مقهور يافا» (وكان لقب «مقهور» يُطلَق على كل أمير مغلوب في هذا العصر، فكان يُقَال «مقهور» قادش، مثلًا).
غير أننا نرى من جهة أخرى أن «تحوتي» الذي جاء في القصة أنه استولى على تلك البلدة كان شخصية معروفة في عهد تحتمس الثالث، ومن عظماء رجاله البارزين، ولا بد أنه كان من أعظم قوَّاده وأمهرهم في السياسة، ومقبرته قد كشف عنها في مقابر طيبة، ولقد تكلَّمَ عن نفسه، فأرانا أنه كان موضع ثقة الملك في كل الأصقاع الأجنبية، وفي جزر البحر الأبيض المتوسط، وأنه كان المشرف على الممالك الشمالية، وأنه كان أول قائد صاحَبَ الملك في كل الأراضي الأجنبية، والظاهر من كل هذا أنه كان ذا شخصية عظيمة، ولهذا كان اسمه يتردد على الشفاه أمدًا طويلًا بعد انقضاء عصره. ويوجد الآن في متحف «دارمستاد» خنجر «تحوتي»، وفي متحف «اللوفر» طبق من الذهب أهداه إليه الملك تحتمس أيضًا.
ويبدو أن الشخصيات التي مثَّلت أدوارًا في هذه القصة لها أصل تاريخي، أما ما نُسِب إليها من الأعمال، فغالب الظن أنه من نسج الخيال. هذا، وأرجو ألَّا تفوتنا الإشادة بذكر ما لتحتمس الثالث — الذي وقعت في عهده هذه القصة — من مجد حربي فاقَ كل أنداده من ذوي التيجان الفرعونية، وقد ظل اسمه يقذف الرعب في قلوب الأمم المقهورة التي ضرستها غزواته حتى بعد موته بعدة أجيال، وقد كانت التعويذات تحصن باسمه، ولم ينقطع أمرها بعد أن لحق بخالقه، بل ظل الناس على ذلك قرونًا عديدة، وكان اسمه تميمة سحرية يُهزَم عند ذكرها الأعداءُ؛ وما ذلك إلا من آثار ما خلَّفه في النفوس من الذعر والهلع اللذين غرسهما بطشه وجبروته، فلا غرابة إذن في أن يؤلِّف المصريون القصص عن عهده، وأن ينسبوا إليه القدرة على هزيمة الأعداء — وإن لم يبرح بلاده — وأن يجعلوا لعصاه ما لعصا موسى من السحر والغلبة، فتقتل عدوه، وتيسِّر له السبيل إلى فتح يافا.
(ﺟ) متن القصة
والآن بعد ساعة سكرهم قال «تحوتي» ﻟ … (سأحضر) ومعي زوجتي وأطفالي إلى مدينتك، فمُرِ المحاربين ليحضروا (الجياد) ويعطوها العلف، أو مُرْ أحد «العبر» يمر … فأمسكوا بالجياد وأعطوها علفًا و… الفرعون «منخبر رع» فأتوا ليقصُّوا ذلك على «تحوتي»، وبعدئذٍ قال أمير يافا «لتحوتي»: إن رغبتي هي في أن أرى عصا الملك تحتمس المسماة «الجميلة»، وإني أستحلفك بحياة الملك «منخبر رع» أن تكون في يدك هذا اليوم … «الجميلة» وأحضرها، ففعل ذلك وأحضر عصا الملك «منخبر رع» وأخفاها تحت عباءته، ثم وقف من فوقه (؟) قائلًا: انظر إليَّ يا أمير يافا! هذه هي عصا الملك «منخبر رع» الأسد الهصور ابن «سخمت»، وقد أعطاه «آمون» والده الطيب القوة ليستعملها؛ وعندئذٍ ضرب جبهة أمير يافا فسقط مطروحًا أمامه، فوضعه في … جلد … هو … قطعة النحاس التي … ضرب أمير يافا ووضعوا قطعة النحاس التي تزن أربعة أرطال على قدميه، وبعد ذلك أمر بإحضار خمسمائة سلة كان قد أعَدَّها لهذا الغرض، ووضع فيها مائتي جندي، وقد كبلوا أذرعتهم بالأغلال والسلاسل عليها أقفالها (؟) وأعطوهم نعالهم وعصيهم (اترر)، وجعلوا كل خيرة الجند يحملونها، وكان عددهم خمسمائة رجل، وقالوا لهم: «عندما تدخلون المدينة يجب عليكم أن تطلقوا سراح رفاقكم (الذين في السلال) وتقبضوا على كل رجل في المدينة وتضعوهم في الأغلال.» وعندئذٍ خرجوا وقالوا لسائس أمير «يافا»: إن سيدك يقول: اذهب وأخبر سيدتك: افرحي؛ لأن الإله «سوتخ» قد أسلم إلينا «تحوتي» وزوجه وأطفاله. انظري، لقد أسرتهم يدي. وتشير إلى هذه السلال المائتين المملوءة بالرجال المكبلين بالسلاسل والأغلال. وذهب أمامهم ليخبر سيدته قائلًا: لقد أسرنا «تحوتي» وعندئذٍ فُتِحت حصون «يافا» أمام الجند ودخلوا المدينة فخلصوا رفاقهم، وقبضوا على كل رجل كان في المدينة — صغيرًا كان أو كبيرًا — ووضعوهم في السلاسل والأغلال في الحال، وهكذا استولت قوة فرعون الظافرة على المدينة، وأرسل «تحوتي» ليلًا إلى مصر لسيده «منخبر رع» قائلًا: انظر إن «آمون» والدك الطيب قد أسلم إليك أمير يافا مع كل رجاله ومدينته أيضًا؛ فأرسل لنا رجالًا ليأخذوهم أسرى حتى تملأ معبد والدك «آمون» ملك الآلهة بالعبيد من الرجال والنساء الذين سقطوا تحت قدميك إلى الأبد. لقد انتهت القصة بسرور بيد الكاتب الماهر بأنامله كاتب الجيش …
ولسنا في حاجة إلى أن نلفت نظر القارئ هنا إلى أن هذه القصة تشبه في بعض النقط ما جاء في «ألف ليلة وليلة» عن «علي بابا والأربعين حرامي». أما الحيل الأخرى فنجدها في قصص أخرى عند الإغريق والرومان. وأما لغة القصة فهي لا تختلف عن لغة هذا العصر وأسلوبه، بل نجد فيها التكرار الممل للأعلام والجمل المألوف تكرارها.
(د) المصادر
- (1) Peet: Journal of Egyptian Archeology Vol. XI P. 225 ff.
- (2) Maspero Papular Stories of Ancient Egypt P. 108.
- (3) Erman. The Literature of the Ancient Egyptians P. 197 ff.
- (4) Grifrith The World’s Best Literature P. 5250 ff.
(٢-٥) قصة «إزيس» وإله الشمس «رع»
(أ) دراسة القصة
هذه القصة تُعتبَر من الأمثلة الطريفة في الشعر القصصي عند المصريين، وبخاصة إذا علمنا أنه لم يصلنا إلى الآن مجموعة عظيمة من هذا النوع من الشعر، كما نجد ذلك في «بابل» و«فلسطين»، ولا شك أنه كان موجودًا، وربما تجود تربة مصر بشيء منه في القريب العاجل، ولدينا في الكتابات المصرية إشارات صريحة تدل على وجوده، فنعلم مثلًا أنه كان يوجد مجموعة من الخرافات خاصة بإله الشمس، وقد بقي منها نتف في «متون الأهرام»، وكذلك قصة «هلاك الإنسانية» التي أوردناها في هذا الكتاب، يضاف إلى ذلك قصة المخاصمة بين «حور» و«ست» التي سنفصِّل الكلام عنها. ولا نشك في أن «بلوتارخ» عندما بدأ الكتابة عن «إزيس وأزير» كانت أمامه معلومات طريفة عن هذا الموضوع.
وعلى أية حال فإن الحظ لم يواتنا في موضوع الخرافات المصرية؛ إذ لم يَبْقَ لنا منها إلا النزر اليسير، ولا بد أن مقدارها كان عظيمًا جدًّا، غير أننا لسنا في مركز يسمح لنا بأن نقول إنها كانت تشتمل على تلك الصفات العالية التي يمتاز بها الشعر القصصي في «بابل» و«فلسطين».
والقصة التي نحن بصددها الآن مثال من هذا الشعر، وهي تُرِينَا كيف أن «إزيس» خدعت الإله «رع» حتى أخبرها باسمه الخفي، ولا بد أن نفسِّر ذلك هنا بأن معرفة اسم الشخص تعطي مَن يعرفه قوة يسيطر بها عليه حسب اعتقادهم في الأمور السحرية؛ ومن ذلك نفهم السر في أن «رع» كان يحرص على إخفاء اسمه، وسبب خداع «إزيس» له حتى وصلت إلى معرفته.
(ب) متن القصة
كانت «إزيس» امرأة حكيمة الكلام، وكان عقلها أكثر مكرًا من ملايين الرجال، وكانت أعقل من ملايين الآلهة، وكانت تعادل (؟) ملايين الأرواح، وكانت تعرف كل ما في السموات وما في الأرض مثل «رع» الذي يعمل كل ما تحتاج إليه الأرض.
وقد كان «رع» يدخل السماء كل يوم على رأس نواتيه ويجلس على «عرش الأفقين»، غير أن الشيخوخة المقدَّسة جعلت لعاب فمه يسيل (؟)، وعلى ذلك بصق على الأرض، وسقط لعابه عليها، فجمعته (كشطته) إزيس في يدها بالتراب الذي كان عليه، وسوَّته في صورة ثعبان فخم، وصوَّرته في شكل … غير أنه لم يَتحرَّك كأنه حي أمامها، ولكنه امتد على الطريق الذي كان من عادة الإله العظيم أن يمر به حسب رغبته في طريقه. وخرج الإله المتعالي في بهاء، وفي معيته الآلهة الذين في القصر، ليمشي في الخارج كما كان يفعل كل يوم، وعندئذٍ لدغه الثعبان الفخم حتى نفث فيه النار المتقدة التي خرجت منه … فصاح الإله المقدس بصوته، فوصل صوت جلالته إلى السماء؛ حتى إن تاسوعه صاحوا: «ما هذا؟ ما هذا؟» وآلهته: «ماذا؟ ماذا؟» على أنه لم يجد صوتًا ليجيب، وارتعدت شفتاه، وزُلزِلت كل أعضائه؛ لأن السم كان قد أمسك بجسمه كما يمسك النيل ﺑ …
وعندما استرد الإله قلبه ثانيةً نادى أتباعه: «تعالوا إليَّ أنتم يا مَن أتيتم إلى الوجود من جسمي، أنتم أيها الآلهة الذين خرجوا مني، وذلك لأخبركم بما حدث لي. لقد لدغني شيء رديء، وقلبي لا يعرفه، وعيني لم تره، ويدي لم تسوه، ولا أعرفه من بين كل الذين خلقتهم، ولم أشعر بألم مثله، ولا شيء أكثر ألمًا منه. وإني أمير وابن أمير، وإني بذرة إله اتخذت وجودها من إله، وإني عظيم وابن عظيم، اخترع والدي اسمي، وإني واحد له عدة أسماء وعدة أشكال، وصورتى في كل إله. «أتوم»، و«حور-حكنو» يُلتمسان فيَّ، وقد أعطاني والدي ووالدتي اسمي، وقد بقي مخفيًّا في جسمي منذ وُلِدت حتى لا يكون لساحر أو ساحرة سلطان عليَّ. والآن عندما خرجت لأشاهد ما صنعت، ولأسير في الأرضين اللتين خلقتهما لدغنى شيء لا أعرفه، فلم يكن نارًا، ولم يكن ماءً، ومع ذلك كان قلبي يحترق، وجسمي يرتعد، وتجمَّدَتْ كل أعضائي. أرسِلوا إليَّ الأولاد المقدسين الذين لهم كلام ناجع، حكماء اللسان والذين يصل مكرهم إلى السماء.»
عندئذٍ أتى إليه الأولاد المقدسون كلٌّ منهم بعويله (؟)، وكذلك أتت «إزيس» بخدماتها، ونصيحتها نَفَس الحياة، وأقوالها تطرد المرض، وكلمتها تعطي الحياةَ مَن أخطَأَه النفس. فقالت: «ما الذي حدث؟ ما الذي حدث؟ أيها الوالد المقدَّس، ماذا؟ إذا كان قد ألحق بك ثعبان ضررًا (؟) أو أي مخلوق من مخلوقاتك قد رفع رأسه ضدك، فإني سألقي به أرضًا بالسحر الفعَّال وأمنعه مشاهدة أشعتك.»
وعندئذٍ فتح الإله الجليل فاه وقال: «لقد كنتُ ذاهبًا على الطريق، سائرًا في الأرضين وفي الصحراء؛ لأن نفسي كانت تتوق إلى رؤية ما خلقته، ولكن تأمَّلِي، لقد لُدِغت من ثعبان لم أره، وإنها ليست نارًا وليست ماءً، ومع ذلك فإني كنت أبردَ من الماء وأحَرَّ من النار، وقد تصبَّب كل جسمي عرقًا، وإني أرتعد، وعيناي ليستا قويتين، ولذلك لا يمكنني أن أرى؛ لأن الماء يتصبَّب على وجهي كما يحدث في قيظ الصيف.»
وبعد ذلك قالت «إزيس» «لرع»: «أخبرني عن اسمك أيها الوالد المقدَّس؛ لأن الرجل الذي تُتلَى باسمه تعويذة سيبقى حيًّا.» فأجابها «رع»: «إني أنا الذي خلقت السماء والأرض، وأرسيت الجبال معًا وسويت ما عليها، أنا الذي خلق الماء، ومن ثَمَّ وجدت «محورت»، وأنا الذي خلقت الثور للبقرة، وعلى ذلك جاء الأب إلى عالم الوجود، وأنا الذي كوَّنت السماء وأسرار الأفقين، ووضعت أرواح الآلهة فيها، وأنا الذي فتح عينيه ومن ثَمَّ جاء النور إلى الوجود، والذي أغمض عينيه فجاء الظلام إلى الوجود، والذي بأمره يجري النيل، والآلهة لا يعرفون اسمه، وأنا الذي خلقت الساعات، ومن ثَمَّ جاءت الأيام إلى الوجود، وأنا الذي افتتح الأعياد السنوية، وأنشأ النهر، وأنا الذي خلقت نار الحياة لأجل أن توجد أعمال … وأنا الإله «خبري» في الصباح، و«رع» في الظهيرة، و«آتوم» في المساء.»
ومع كل فإن السم لم يكف عن مجراه، ولا خفف ألم الإله العظيم، وعندئذٍ قالت «إزيس» للإله «رع»: إن اسمك لا يوجد بين الأسماء التي تلوتها عليَّ، فأخبرني به لأجل أن يخرج السم؛ وذلك لأن الرجل الذي ينطق باسمه سيعيش. ثم أخذ السم يحرقه بفظاعة، وأصبح أقوى من اللهيب أو النار، فقال جلالة «رع»: أعيريني أذنك أيتها البنت «إزيس»، وسينتقل اسمي من جسمي إلى جسمك.
•••
ويرى القارئ أن هذه القصة لم تُكتَب بطريقة شائقة؛ وذلك لكثرة ما فيها من التفصيلات الخرافية، حتى إن النقطة التي تدور حولها القصة قد صارت غامضة لكثرة ما في القصة من الصفات التي يتحلَّى بها «رع». وقد كان في مقدور الكاتب أن يكتبها في سطور قليلة، ولكنه أراد أن يُظهِر كل صفات رع، أو بعبارة أخرى يكتب حسب الطريقة المصرية، ويرخي لنفسه العِنان في المترادفات.
وإذا أراد القارئ أن يرى الفرق في الاقتصاد في التعبير بين المصرية والعبرية مثلًا، فما عليه إلا أن يقرن قصتنا هذه بقصة تشبهها سطحيًّا في التوراة، وأعني بذلك قصة موسى والثعبان (كتاب العدد، الإصحاح الحادي والعشرون، الآيات ٤–٩)، فالأولى قد كُتِبت في صفحات، والثانية في سطور، والأولى على الطريقة المصرية، والثانية على الطريقة العبرية، وكلتاهما طريفة في بيئتها.
(ﺟ) المصادر
- (1) Eric Peet. A comparative study of the Literatures of Egypt, Palestine and Mesopotamia P. 19 ff.
- (2) Müller Egyptian Mythology P. 80 ff.
(٢-٦) عن ملك وإلهة
مقدمة
(أ) القصة
وكل أنواع الهدايا قد أحضرت إلى الملك، وعند الغروب أتت (؟) على رأس القوم الذين كانوا محملين بالهدايا … بيتها، وقالت لجلالته … احضر له القدح، هو … على السطح، ونادى … ضابط الجنود الاحتياطي للجيش … أحضِرْ لي سلات فيها فضة وذهب، وفعل … وبعد أيام مضت على ذلك … نظرتها، وأخذت له … هذه ثلاث السنوات فيها، وقد انبطحوا أمام (الملك) (؟) …
… «سأفعل ما» يمليه قلبي … خمسون إناء من الشهد … قمح، وجعل جلالته … وأمر أن يحضر الحمل أمامه … تعال (؟) إلى «منف»، وحينئذٍ سيعمل لك … وبعد أيام عدة مضت على ذلك جاء جلالته «منف» إلى «حورمين» المشرف على خدر النساء، وأمضوا عشرة أيام، وبعد انقضاء عدة أيام على ذلك … وحولت نفسها إلى عذراء جميلة … وبعد أيام عدة مضت على ذلك … لا تخف (؟) اصعد أنت … وبعد أيام عدة مضت على ذلك ركب جلالته (عربة) (؟) ووصلوا إلى المملكة الشمالية … وقال القوم لفرعون ما أنت فاعل (؟) … لا يرجع أحد ثانية؛ فإن الإلهة (تذبح) الناس … وبعد عدة أيام مضت على ذلك …
(ب) المصادر
(٢-٧) قصة عن عشتارت
وقال: … ماذا أصنع ضده؟ وسمعت «عشتارت» اﻟ … البحر، فذهبت ودخلت في حضرة «تاسوع الآلهة» حيث كانوا … فرآها (الآلهة) العظام ووقفوا أمامها، ونظرها (الآلهة) الصغار وانبطحوا على بطونهم، وهناك قدم لها عرشها وجلست عليه، ثم أحضر إليها …
… وذهب رسول «بتاح» قائلًا: «قدموا الخضوع «لبتاح» و«لنوت». و«نوت» … اﻟ … التي كانت حول عنقها ووضعتها في الميزان …
ويجب أن نوافق كاشف هذه القطع قائلين: إن ما حفظ كافٍ ليجعلنا نأسف على فقدِ ما ذهب.
(أ) المصادر
- (1) Birch, Zeitschrift für Agyptische sprache 1871 P. 119.
- (2) The Amherst Papyri Pls. XIX–XXI.
- (3) Erman, The Literature of the Ancient Egyptians P. 169-170.
(٢-٨) قصة عفريت
وكان العفريت مغضبًا وقال له: لأي غرض ذلك الذي تفعله (؟) أليس الخشب معرضًا (؟) للشمس … والحجر الذي أصبح باليًا لا يمكث زمنًا أطول (؟) إنه يتداعى …
وبعد ذكر إرسال أناس للقبر نقرأ: ثم قال له العفريت: «وعليه كذلك أن يخلد اسم والد والدي، واسم والدتي.» فقال رئيس الكهنة: «سأجعله يفعل ذلك لك، وسأجعله يبني مدفنًا لك … وسأجعله يعمل لك ما يعمل لرجل في مركزك.» ومن المحتمل أنه يعده أيضًا أنه لن يبرد في الشتاء، ثم بعد جملة غير مفهومة يقول: ثم إن رئيس الكهنة «خنس امحب» قعد وبكى … ولم يأكل ولم يشرب … «لعل ذلك بسبب أنه لم يجد القبر الذي يجب أن يرممه.»
ولما كان من المحتمل أن المتوفى كان موظفًا للملك «رع حتب»، جاز أنه قد دفن بجواره.
وقد أرسل هناك اﻟ … «لآمون رع» ملك الآلهة ثلاثة رجال … فعبر النيل وتسلَّق إلى قبر بجانب قبر الملك «رع حتب»، السامي … هذا هو القبر الذي كان يبحث عنه، ثم نزلوا إلى شاطئ النهر وعبروا إلى رئيس كهنة «آمون رع» رب الآلهة ووجدوه، بينما كان يقوم بتأدية وظيفته في المعبد.
وقابلهم بكلام يحتمل أن يعبر عن بعض الشك فيما إذا كانوا قد وجدوا المكان المقصود، وعندئذٍ تكلَّمَ ثلاثة الرجال بفم واحد: «لقد وجدنا المكان الطيب.» ثم قعدوا أمامه وفرحوا، وكذلك استولى السرور على قلبه حينما قالوا له: «… الشمس طلعت من الأفق.» ونادى هو ممثل بيت «آمون» المسمى «منتوكا» (وكلفه) القيام بعمله.
وفي المساء عاد لينام في المدينة وهو …
(أ) المصادر
- (1) Recuiel De Travaux Vol. III 3 ff. & ibid XVI P. 31.
- (2) Bergmann Hierat. Dem Texte, Vienna 1886 Pl. IV.
- (3) Maspero. Papular Stories of Ancient Egypt P. 275 ff.
(٢-٩) الشجار بين الجسم والرأس
مقدمة
هذه قصة قد يرجع تاريخها إلى الأسرة الثانية والعشرين، وفيها مناظرة بين أجزاء الجسم، تدور حول مَن يفضل منها بقية الأعضاء، وقد كتبها تلميذ قديم، ووقع في أغلاط كثيرة في كتابتها، وقد لاحظ «مسبرو» أنها شبيهة بخرافة «شجار البطن والأمعاء»، ولا نستطيع معرفة مدى وجه الشبه بينهما؛ لأن القصة لم ترد كاملة.
(أ) القصة
تشاجر البطن والرأس لحل … متكلمين بصوت مرتفع أمام الثلاثين، وكان لا بد لهؤلاء من أن يكشفوا عن حقيقة الإهانة التي بكت من أجلها عين الرأس، وأن يقرر الصدق أمام الإله الذي يمقت الظلم. ولما نطق البطن باتهامه صاح الرأس عاليًا قائلًا بفمه: أنا، أنا ذلكم الشعاع الذي في كل البيت، والذي يحتمل الأشعة، ويخضع الأشعة معًا.
(ويظهر بعد ذلك أن الموضوع خاص برجل متكبر، يرى أن الأشراف منحطون، ولا نعرف بالضبط مَن يقصد بكلامه) ثم يعود الرأس إلى الكلام: إني سيدك، أنا الرأس الذي يريد إخوته أن يتهموه (؟).
وهذا ما قاله الفم له: «أليس هذا خطأ؟ دَعِ الرأس يكلمني، إني ذلك الذي يحفظ حيًّا …»
(ب) المصادر
- (1) Maspero Etudes Egyptiennes I, P. 260 ff.
- (2) Erman. The Literature of the Ancient Egyptians P. 173 ff.
(٢-١٠) قصة إعماء الصدق ثم الانتقام له
(أ) ملخصها
اتهم الكذب الصدق بتهمة كانت نتيجتها أن حُكِم على الصدق بالعمى، ووافق «تاسوع الآلهة» على ذلك الحكم، ويظهر أن هذه التهمة كانت تنحصر في أن الكذب أودع عند أخيه الصدق مدية يحتفظ بها أمانة عنده، ولكنها لسبب ما فُقِدت أو تلفت، وأراد الصدق أن يعوض أخاه عنها بأخرى مثلها، ولكن أخاه الكذب كان يتعلل بعلل مختلفة، وكان يخلع على مديته أوصافًا تضخِّم من شأنها، وتُعجِز الصدق عن الإتيان بمثلها، فقال عنها: إن جبال «إيل» سلاحها، وأشجار «قفط» مقبضها، وقبر «الإله» قرابها، وماشية «كار» رباطها. فعجز الصدق طبعًا عن رد مثل هذه المدية، فحكم عليه «تاسوع الآلهة» بالعمى كما أراد الكذب. وبعد ذلك رغب الكذب في أن يقضي على حياة أخيه، ولكنه نجا من حبائله وأخذ الصدق مكانه تحت سفح جبل، فرأته خادم وأعجبت بجماله وأشفقت عليه، فأخبرت سيدتها بأمره وأحضرته إليها، فأعجبت به، واتصل بها اتصال الرجل بامرأته، فأنجبت طفلًا جميلًا اقتصَّ لأبيه بعد أن نما وأيفع، وأوقع به بمثل المكيدة التي دبَّرَها الكذبُ لأبيه، وانتهى الأمر بإعماء الكذب وانتصار الصدق عليه.
(ب) دراسة القصة
ومغزى القصة في إظهار الفوارق الأخلاقية بين الصدق والكذب.
ومن التفاصيل الساذجة فيها استعمال القَسَم التقليدي الذي كان يُستعمَل دائمًا من بداية الأسرة الثامنة عشرة حتى نهاية الأسرة العشرين، وهو القَسَم «بحياة آمون وبحياة الأمير»، وهذا مما يقفنا على تاريخ هذه الورقة على وجه التقريب.
(ﺟ) المصادر
-
(1)
A. H. Gardiner, Late Egyptian Stories, Brussels 1932 P. 30–6.
-
(2)
Erman. Forschungen und Forschnitte eighth year no. 4 (Feb., 1932) P. 43-4.
-
(3)
Gardiner, Hieratic Papyri in the British Museum Vol. I Text P. 2 ff.
(د) متن القصة
وعندئذٍ قال «الكذب» للتاسوع: دعوا «الصدق» (يحضر) ثم تعمى عيناه الاثنتان، ثم اجعلوه حارس باب منزلي، ولقد فعل التاسوع وفق كل ما قاله.
وبعد أن انقضت عدة أيام على ذلك رفع «الكذب» عينه ليشاهد، فرأى فضيلة «الصدق»، أخاه الأكبر.
وعندئذٍ قال «الكذب» لعبدين من عبيد «الصدق»: خَذَا سيدكما واقذفا به إلى أسد شرير معه عدة لبؤات رفيقات له، ودعاها (تلتهمه).
(وعندئذٍ أخذه العبدان)، وبينما هما يصعدان معه إذ قال «الصدق» لخادميه: لا تأخذاني لأجل أن تضعا آخر …
وبعد مضي عدة أيام على هذه الأشياء خرجت السيدة … من بيتها … وشاهدته نائمًا تحت سفح التل، وقد رأت جماله ولم يكن له مثيل في الأرض قاطبةً، وقد ذهبوا (؟) إلى المكان الذي فيه اﻟ … وكانت السيدة (تقول) تعالَ معنا وانظر … نائمًا تحت سفح التل، ودعهم يأخذوه ويجعلوه حارس باب بيتنا.
(وعندئذٍ) قالت السيدة لها (أي للخادمة): اذهبي وأحضريه حتى أراه. فذهبت وأحضرته، ولما رأته السيدة رغبت فيه كثيرًا؛ لأنها رأت جمال جسمه (؟)، ونام معها في الليل، وعرفها معرفة الذكر لأنثاه، فحملت منه على أثر ذلك في هذه الليلة في طفل صغير.
وبعد مضي عدة أيام على هذه الأشياء وضعت غلامًا، ولم يكن له مثيل في الأرض قاطبةً، وقد كان أكبر من … وقد كان يشبه الإله الفتى، وقد وضعوه في المدرسة، وتعلَّمَ الكتابة بتفوق كما تعلَّم كل فنون الحرب، وتفوَّقَ على أقرانه ممَّن هم أكبر منه سنًّا في المدرسة.
وعندئذٍ قال له زملاؤه: ابنُ مَن أنت؟ إنك بدون أب. ثم سبُّوه وضايقوه قائلين: حقًّا إنك بدون أب.
وعندئذٍ قال الولد لأمه: ما اسم والدي حتى يمكنني أن أقوله لزملائي؛ لأنهم يضايقونني كثيرًا بقولهم: أين والدك؟ وهكذا يقولون لي ويؤلمونني.
عندئذٍ قالت والدته له: هل ترى ذلك الأعمى الذي يجلس بجوار الباب؟ هذا هو والدك، وهكذا قالت له.
عندئذٍ قال لها: كان خيرًا لكِ أن تجمعي أقاربك حتى يطلبوا تمساحًا ليحاسبك (ليلتهمك). ثم أخذ الولد والده وأجلسه على كرسي، ووضع مسندًا تحت قدميه، ووضع أمامه خبزًا، وجعله يأكل ويشرب.
وعندئذٍ قال الولد لأبيه: مَن أعماك حتى أنتقم لك؟ فقال له: إن أخي الصغير أعماني. ثم أخبره بكل ما حدث له.
فذهب الولد لينتقم لأبيه، ثم أخذ عشرة أرغفة وعصا، وحذاء، وقربة ماء، وسيفًا، ثم أحضر ثورًا جميل المنظر وذهب إلى المكان الذي فيه راعي «الكذب» وقال له: خُذْ هذه الأرغفة العشرة وهذه العصا وتلك القربة وهذا السيف وهذا الحذاء، وارعَ هذا الثور لي حتى أعود من المدينة.
وبعد مضي عدة أيام على هذه الأشياء كان ثوره قد أمضى عدة شهور مع قطيع ثيران «الكذب».
وعندئذٍ ذهب «الكذب» إلى الريف ليرى ماشيته، فرأى ثور الولد هذا، وقد كان جميلًا جمالًا فائقًا.
وعندئذٍ قال لراعيه: أعطني هذا الثور لآكله. فقال له الراعي: إنه ليس ملكي … وليس في مقدوري أن أعطيك إياه.
وعندئذٍ قال له «الكذب»: انظر، إن ماشيتي كلها معك، أعطِ واحدة منها صاحبه.
وعندئذٍ سمع الولد أن «الكذب» قد أخذ ثوره، فحضر إلى المكان الذي فيه راعي «الكذب» وقال له: أين ثوري؟ إني لا أراه بين الماشية.
عندئذٍ قال له الراعي: إن الماشية كلها هنا أمامك، خُذْ منها ما يحلو لك.
عندئذٍ قال له الراعي: هل هناك ثور بالحجم الذي قلته؟ فأمسك به الولد، وذهب به إلى المكان الذي فيه «الكذب»، ثم أخذ «الكذب» إلى المحكمة في حضرة التاسوع.
عندئذٍ قالوا للولد: إنك على خطأ، إننا لم نرَ قطُّ ثورًا بالحجم الذي ذكرته.
عندئذٍ قال الولد للتاسوع: وهل هناك سكينة بالحجم الذي ذكرتموه، سلاحها جبل «إيل»، ومقبضها أشجار «قفط»، وقرابها قبر «الإله»، ورباطها ماشية «كار»؟
وعندئذٍ قال للتاسوع: احكموا بين «الصدق» و«الكذب»؛ لأني أنا ابن «الصدق» وسأنتقم له.
وعندئذٍ حلف «الكذب» يمينًا بالملك قائلًا: بحياة «آمون» وبحياة الأمير إنه إذا وجد الصدق حيًّا فَلْتُعْمَ عيناي الاثنتان، ولأصبح حارس بيت «الصدق».
ثم إنه … وبذلك انتقَمَ الولد لأبيه، ليحسم النزاع القائم بين «الصدق» والكذب … اﻟ … لقد أتت النهاية (طيبة).
(٢-١١) قصة المخاصمة بين «حور» و«ست»
(أ) ملخص القصة٢٤٩
اشتد النزاع بين الأخوين «أوزير» و«ست» على عرش مصر، فاغتال «ست» «أوزير»، ولكن الحياة دَبَّتْ ثانيةً في جسمه، بفضل أخته «إزيس»، فترك دنيا الغدر وما فيها، وهبط يحكم في العالم السفلي بعد أن نزل عن عرش مصر لابنه «حور». ولقد كان من الطبيعي أن يبدأ النزاع من جديد بين «ست» و«حور» على العرش مرةً ثانيةً، فتشاحنا وتخاصما إلى محكمة الآلهة التي كان يرأسها الإله «رع»، وكان «حور» يعتزُّ في عراكه بعدالة قضيته، وبإرثه الشرعي، وبمساعدة «إزيس». وكان «ست» يعتد بقوته وجبروته، ومعاضدة الإله «رع» له، ومن ثَمَّ كانت الأحكام الأولية في هذه القضية في جانبه خشية بأسه، وفرارًا من أذاه؛ حتى إذا ضاقَتِ الحلقة، وتضافرت الأدلة كلها ضده، بعد تهديد «أوزير» «لرع» ومجلسه، ولم يجد القضاة من الآلهة فرجة ينفذون منها إلى مناصرته، أصدروا حكمهم في جانب الحق، فآلَ ملك مصر إلى وارثه الشرعي «حور».
(ب) دراسة القصة
مقدمة
في عام ١٩٢٨ اشترى المستر «شستر بيتي» مجموعة من الأوراق البردية، عثر عليها في «دير المدينة» الواقع في الجهة الغربية من النيل بالأقصر، ويرجع تاريخها إلى الأسرة العشرين والحادية والعشرين، أي في عهد الرعامسة، وتُعَدُّ من أكبر ذخائر الأدب المصري القديم التي عُثِر عليها حتى الآن، والمرجح أن بعضًا من هذه الأوراق لا يزال مخبَّأ عند بعض تجار العاديات بالأقصر. ولقد أهدى المستر «شستر بيتي» ما اشتراه من هذه الأوراق إلى المتحف البريطاني، وقام بترجمتها ونشرها في كتابٍ خاصٍّ الأستاذُ «جاردنر»، فرأينا من بينها وثيقة لها أهميتها الأدبية لما بدا لنا فيها من تجديد في عالم الأدب المصري القديم؛ ولذلك رأينا أن نعطيها مزيدًا من عنايتنا، وأن نتناول عناصرها بشيء من الإطناب والتفسير.
فقر الأدب المصري في الأساطير الدينية
إن كل مشتغل باللغة المصرية القديمة يدرك أن القصص الخرافية التي ينحصر أبطالها في محيط الآلهة وحدهم قليلة أو نادرة؛ فهذه متون الدولة القديمة والوسطى خالية من هذا النوع خلوًّا يثير دهشتنا، على حين أن كل إله مهما كان مغمورًا نرى لاسمه ذكرًا في متون الأهرام، أو في متون الدولة الوسطى التي كتبت على توابيت علية القوم بالمداد. وقد كان معروفًا ما علق بكل إله من الخرافات، وما أُذِيع عنه من المعجزات، فكان في تسطير اسمه ما يكفي لتذكير القوم بقصصه ووقائعه من غير حاجة إلى تطويل، أو مزيد تفصيل وإيضاح، ولم يكن يخلو الأمر بين آونة وأخرى من ظهور ومضة تجلو بعض ما غمض من هذه الدنيا المليئة بالإبهام والإلغاز.
وكان أول ما وصَلَ إلينا من قصص الآلهة ما وجدناه في كتب السحر وكتب الطب، التي تحمل في تضاعيفها تعويذات سحرية، ومن تلك: قصة شفاء «رع» على يد «إزيس»، وقصة إطفاء «إزيس» النار التي انغمس فيها ابنها «حور» (وقد وجدناها على لوحة «ماترنخ» الشهيرة)، وقصة هلاك الإنسانية، التي يحتمل أنها مقال عن أصل نشوء العالم والطوفان (وقد أوردناها في هذا الكتاب)، وقصة غزوات «حور» (وقد وجدناها منقوشة على جدران معبد «إدفو»)، وقصة أعمال «شو» بن «رع» الحربية العظيمة (وقد عُثِر على بعضها منقوشًا على مقصورة في وادي العريش).
والقصتان الأخيرتان وصلتا إلينا من نقوش عهد البطالسة أيام كانت الخرافات أحاديث السمار في المجالس، ينسبونها إلى عهدها القديم، ويتفكَّهون بها، ويتندرون بوقائعها. أما قصة مأساة «أوزير» — ولها علاقة وثيقة بقصتنا — فقد كان مصدرها الذي يشفي الغُلَّة ما ورد عنها في كتابة «ديدور» الصقلي و«بلوتارخ» من مشهوري كتَّاب اليونان، لولا ما دُسَّ فيها من العناصر الدخيلة التي شوَّهتها، وإذًا فليس لنا مرجع لهذه القصة إلا نتف يسيرة مبعثرة في المتون المصرية، وبخاصة الدينية منها والسحرية، تبدو كالشعرات البيض في الفرس الأشهب، وهي مع ذلك لا تخلو من تناقض واضطراب.
- أولًا: أن هذا النوع من القصص الأدبية كان مألوفًا منتشرًا بدرجة عظيمة بين طبقات الأمة في كل مراحل النمو الإنساني، من الطفولة والصبا والفتوة والرجولة والكهولة والشيخوخة، بحيث أصبحت لا تحتاج إلى تدوين؛ لأنها على كل لسان، وفي كل قلب.
- ثانيًا: أنه كان في نفوس القوم ميل غرزي إلى حب الكتمان، فيحسون أن الألفاظ تكون أدلَّ على الهيبة، وأكسبَ للاحترام إذا كانت رمزًا أو إشارة، أو كان مدلولها غامضًا.
ومهما يكن من الأسباب التي دعت إلى هذا الفقر في هذا النوع من الأدب، فإن العثور على هذه القصة بهذا التفصيل كان كسبًا للأدب المصري، ولونًا جديدًا منه بدا لعلماء الآثار. وقد تكون هناك أساطير إلهية أخرى خاصة كهذه بالآلهة وحدهم، وليس للإنسان دور ولو صغير في مسرحيتهم، مخبَّأة في جوف الأرض ولم يُرفَع عنها الغطاء بعدُ.
ومما يضفي على قصتنا أهميةً خاصةً غير التي كسبتها من موضوعها وأبطالها وممثليها، أنها صوَّرت لنا حياة البلاط الفرعوني وسياسته في عصر خاص من عصور التاريخ المصري كما سنورده بعدُ.
قصتنا ملحمة أدبية
يقسم الفرنج الآن الشعر عادةً إلى شعر غنائي، وهو الذي يعبِّر به الشاعر عما يضطرب في قلبه من عواطف. وشعر تمثيلي، وهو الذي يصوِّر حادثة ويتصوَّر لها أشخاصًا ينطق كلٌّ منهم بما يتفق وشخصيته وموقفه. وشعر الملاحم أو الشعر القصصي، وهو الذي يقال في الوقائع الحربية والمناقب القومية في شكل قصة طويلة «كإلياذة هوميروس» و«شاهنامة الفردوسي»، ولكن الشعر عند قدماء المصريين في بادئ الأمر غير ذاك، فهناك المتون السحرية التي تتضمن تعويذات لها أثرها النافذ في نفوس القوم، وتأثيرها القوي على عقولهم؛ لما يُظَنُّ من قدرتها على الإتيان بالمعجزات وخوارق الأمور، وأحسن مثال لها ما جاء في «متون الأهرام» والنقوش المكتوبة بالمداد على توابيت الدولة الوسطى، وغيرها من المتون التي ظهرت بعد هذا العهد.
على أن المصريين من ناحيتهم كانوا ينظرون إلى الحوادث الخرافية كأنها حقائق ثابتة واقعة؛ لاعتقادهم بأن الوقت الذي سبق ظهور الإنسان كان عصرًا حكمت فيه الآلهة، وعاشت فيه بمفردها في دنياها، فلا فرق عندهم من هذه الناحية بين الحقائق التاريخية والخرافات الإلهية؛ فتعد من الملاحم أمثال هذه القصص التي امتزجت فيها الخرافة والحقيقة وانصهرتا معًا، وصبَّتَا في قالب واحد، فنيت فيه شخصية كلٍّ من المزيجين؛ فظهرا في صورة واحدة لا يتميز فيها أحدهما. ومن هذا النوع قصة المخاصمة بين «حور» و«ست»؛ إذ بينما نجد الحوادث فيها تجري على يد الآلهة وحدهم، نرى ظل هذه الحوادث نفسها ينطبق على حادث تاريخي معين وقع في مصر في وقت معين، فإذا أبدلنا بالإله «رع» ومَن مثل معه من الآلهة في هذه القصة، ملكًا جاء في بداية الأسرة الثانية عشرة ومعه حكَّام الإقطاع، رأينا أن هذه الرواية التي مثل الملك وحكام الإقطاع فصولها، تنطبق تمام الانطباق على أختها التي كان «رع» وأتباعه من الآلهة أبطالها ونجومها.
موقف «أوزير» في القصة
كنَّا ننتظر من هذه القصة أن تعرض علينا في إسهاب أمر العداوة والنزاع بين «أوزير» و«ست»، واغتيال ثانيهما لأولهما، وعودة الحياة إلى «أوزير» بفضل أخته «إزيس» التي جمعت أشلاءه من مظانها، ونزول «أوزير» إلى العالم السفلي حاكمًا فيه بعد أن نزل لابنه عن عرش مصر، ولكن القصة أغفلت كل ذلك، وجاء استهلالها مطالبة «حور» بعرش والده الذي كان ينازعه فيه «ست» عمه. ومما يسترعي النظر أننا نجد في صلب القصة «ست» يدَّعِي مرة أنه الأخ الأكبر للإله «حور»، وأخرى يظهر في ثوب العم، وقد اختفى «أوزير» في طول مراحل القصة، وتناوَبَ أهمَّ الأدوار فيها «رع» و«إزيس»، ولم يظهر «أوزير» إلا في نهاية المطاف عندما كتب إليه «رع» سائلًا أن يمده برأيه القاطع في هذا النزاع المحتدم بين ابنه وأخيه، فيجيب «أوزير» بصفته حاكمًا للعالم السفلي بأن يُعطَى ابنُه العرش، معدِّدًا للإله «رع» الذي كان ظهيرًا «لست» في كل أدوار النزاع فَضْلَه على العالم الذي خلق له القمح غذاءً. ولكن «رع» لكون هواه في جانب «ست» يسخر منه في الرد عليه، وعندئذٍ يبدي له «أوزير» ناجذيه مهدِّدًا «رع» وحاشيته بأشد أنواع العقاب، وأنه سيصليهم نار جهنم خالدين فيها أبدًا؛ لأنه حاكِم العالم السفلي، والمسيطر على كل قواه، وسيُحشَر الناس إليه أجمعون. وإذا تكلمت الأسياف أنصتت العقول والقلوب، فهذا «رع» وأتباعه يصدعون لرأي «أوزير» ويحكمون بما قال.
وفي اعتقادي أن هذه الخاتمة دعاية للإله «أوزير» وديانته، ضد الإله «رع» وديانته التي بلغت أوجها في عهد الرعامسة.
موقف الإله «رع»
لقد كان موضوع النزاع أمرًا مفهومًا، لا يختلف اثنان في أن الحق والعدل يقضي «لحور» على «ست»، فيُمتَّع بميراثه الشرعي، ويجلس على عرش أبيه، ولكن «رع» ذلك الإله العظيم كان في جانب «ست» دائمًا، ولم يكن يحد من غربه أحيانًا إلا ذلك المجلس الذي كان يعاونه على نصرة العدالة وهو مجلس الآلهة، فكان هوى هؤلاء المستشارين في جانب الحق غالبًا مما غاظ «رع»، وكان أقواهم وأصلبهم في نصرة الحق ومعارضة «رع» في موقفه الإله «تحوت»، مع أنه معتبر في الأساطير الدينية وزيره. ولا يمكننا أن نفسِّر موقف «رع» في هذا النزاع إلا أنه موقف سياسي أملته عليه الضرورة، وإذا تدخَّلت السياسة في أمر أفسدته، أو في قضية حجبت الحق والعدالة والقانون، وحكمت للقوة والسلطان، وليس من علاج لمثل هذه الحال إلا المكر والخداع، وهذا ما كان في هذه القصة؛ إذ إن «إزيس» والدة «حور» عندما رأت العرش يوشك أن يفلت من يد ابنها، أخذت تستعمل حيلة المرأة ودهاءها وخداعها، باذلةً ما تستطيع برًّا بابنها وحَدَبًا عليه.
وإن «رع» الذي كان يحكم العالم ويحمل كل الألقاب الملكية الفرعونية، كان بين أمرين أحلاهما مُرٌّ، فإما أن يجعل «ست» يفوز بالملك؛ لأنه أثير عنده، أو اتقاءً لشره، وهذا ظلم سيلتصق باسمه، فهو يخافه كما يخاف معارضة مجلس الآلهة الذي كان ينظر معه في أمر هذا الخصام، وإما أن يجعل الأمر «لحور» وهذا لا يطاوعه عليه هواه، وقد يتعرَّض بسببه لغضب «ست» البطاش الجبَّار؛ فكان لذلك دائم التردد لا يحسم النزاع ولا يتخذ فيه رأيًا قاطعًا، فيعقد مجلس الآلهة ثم يفضه بعد مناقشة قصيرة لا تصل إلى حد الحكم الفاصل. وإذا قضى المجلس «لحور» رفض «ست» ما قرَّره وبدأ المناقشة من جديد، كما حدث في أول جلسة، ومع كل هذه التيارات النفسية فإنه كان يضطر في بعض الأحيان إلى تجاهُلها إذا كانت الحجج دامغة تأخذ بتلابيبه، ولا يستطيع أن يجد فيها منفذًا لتحقيق رغبته، كما حدث عندما احتالت «إزيس» على «ست» وجعلته يحكم على نفسه من غير أن يدري حقيقة مراميها، فلم يجد الإله «رع» حينئذٍ بدًّا من أن يقول له: «لقد حكمت على نفسك بنفسك، ولا مفرَّ من أن يُسلَّمَ التاج لصاحبه.»
ولكن «ست» لم يقتنع، وطلب مبارزة «حور» ليهرب من حكم «رع»، واضطرت السياسة «رع» أن يخضع لطلب «ست» مرة أخرى. ومع موقف «رع» هذا الذي وقفه في هذه المخاصمة كانت مكانته محفوظة، وكان احترامه مفروضًا، حتى إن الإله «بابي» عندما تطاوَلَ عليه أمام التاسوع وقال له: «إن محرابك خلو من المتعبدين.» ويكني بذلك عن ضعف شوكته، وأنه لا أنصار له ولا أتباع؛ لم يطق التاسوع أن يسمع هذا القذف، وطرد الإله «بابي» من المجلس عقابًا له وترضية للإله «رع». وتصف المتون المصرية «رع» بأنه الإله الأعلى لا ينازعه في سلطانه منازع، وأن قوله القول الفصل، وأنه المنتصر على كل عدو، ولا تقف أمامه أي عقبة؛ ومن أجل ذلك نعتقد أن الدور الذي لعبه في قصة المخاصمة بين «حور» و«ست» إن هو إلا دور رمزي، أو بعبارة أوضح أن «رع» هنا في هذه القصة كان يمثِّل شخصية تاريخية، وأن القصة نفسها صدى لحادثة تاريخية بعينها، ولا غرابة في هذا؛ فإن الدور الذي مثَّله «رع» وأعانه عليه مَن حوله من الآلهة، يحكي قصة رمزية لبلاط ملكي على رأسه ملك توجِّهه حاشيته ومجلس إدارة بلاده حسبما يريدون.
موقف «إزيس»
قلنا فيما سبق إن هذه القصة اختلطت فيها الحقيقة بالخرافة، وكان من هذا المزيج وحدة متماسكة الأطراف، وإنها تعتمد على أصل تاريخي، ومن هنا نستعرض فيها حوادث خرافية ممتعة تعطيها حلاوة وقوة، فتبرز فيها النواحي الإنسانية سائرة في إخاء تام مع خوارق الأعمال التي تأتيها الآلهة فتساعد على الوصول إلى الهدف المقصود.
وقد قام بتمثيل الدور الخرافي في معظم نواحي القصة الإلهة «إزيس»، وبذلك لم تحرم قصتنا أن تقوم المرأة بدور ممتع فيها، يمثل القدرة والمهارة والمكر والخداع وإحكام الأحابيل، حتى وصلت بهذه العدة إلى ما لم يصل إليه مجلس الآلهة والقانون والشرع. ومبدأ ظهورها في هذا الدور العظيم حينما خاف بَأْسَها «ست» وأحجم عن الاشتراك في مجلس الآلهة؛ لأنها عضو فيه وتحضر اجتماعاته، وقد انصاع المجلس لأمره، وانتقل إلى «جزيرة الوسط» ليستأنف النظر في موضوع (وظيفة الملك)، وحظر على النوتي «عنتي» أن يعبر بها إلى تلك الجزيرة التي اختاروها مكانًا لاجتماعاتهم، وعندئذٍ بدأت قدرة «إزيس» على تمثيل دورها تظهر، وقد آلَتْ على نفسها ألَّا تترك «ست» حتى يقر على نفسه ويشهد لابنها بعدالة مطلبه، فتراءت أولًا في صورة عجوز شوهاء قوَّسَتْ ظهرَها السنون، وأغرت «عنتي» النوتي حتى عبر بها إلى جزيرة الوسط، حيث كان الآلهة مجتمعين، وقدَّمت له في بادئ الأمر رغيفًا أجرًا له على مخالفة ما أصدره إليه الآلهة من الأوامر فأبى، فلما رفعت العطاء إلى خاتم من الذهب لم يقوَ «عنتي» على مقاومة هذا الشفيع الغالي، وأُخِذ ببريقه فاندفع يعبر «بإزيس» إلى الشاطئ الآخَر، وهناك خلعت رداء الشيخوخة المزري ولبست ثوب الكاعب الحسناء ترفل في أثوابها الهفهافة، فجذبت نظر «ست» إليها وهو جالس في مكانه بين الآلهة، فتدَلَّهَ في حبها وبدأ قلبه يحدثه في أمرها، فسعى إليها يمني نفسه بقنيصة يتمتَّع بها، وهنا مدت شراكها إليه فوقع فيها راضيًا سعيدًا، قالت له: «إن زوجي قد مات، وترك لي ابنًا وحيدًا يرعى ماشية والده، وجاء أجنبي فأكرمته، ولكنه ضرب ابني وأراد أن يغتصب ما نملك من الماشية (واستعملت في تعبيرها عن الماشية كلمة «ياوت»، ولهذه الكلمة معنًى آخَر هو «الوظيفة»، وبذلك استفادت من هذه التورية في تسجيل ما فاه به «ست» بعدُ)، فقال «ست»: «وكيف يمكن ذلك وابن الرجل لا يزال على قيد الحياة؟ فلا بد أن تُعطَى الماشية (الوظيفة على المعنى الآخَر للكلمة) لابنك.» وما كادت تسمع هذا الاعتراف الذي أرادته وقصدت إليه من أول الأمر حتى فرحت وانتفضت، فصارت حدأة طارت وحطت فوق شجرة وقالت «لست»: انعَ نفسك الآن فقد حكمت عليها بفمك، فإن الماشية (ياوت) ليست إلا وظيفة الملك التي تسعى لاقتناصها من ابني «حور» … ولما قصَّ «ست» هذه الواقعة على «رع» لم يسعه إلا أن يحكم «لحور» بملك والده راضيًا أو ساخطًا.
ولم ينتهِ دور «إزيس» بذلك، بل قامت بمغامرات أخرى في النزال الذي قام بين «حور» و«ست»، وفي إرجاع بصر «حور» إليه عندما أعماه عمه، ثم في إنقاذ ابنها من وهدة السقوط والفحش التي دبَّرها له «ست»، بل قلبت القضية وجعلت البئر تستقبل من حفرها لأخيه، فوضعت نطفة «حور» على شجرة الخس التي اعتاد «ست» أن يأكل منها فلصقت به الرذيلة، وانتكس عليه الحكم.
موقف الإله «ست»
يُلاحَظ في قصتنا أن الإله «ست» كان غبيًّا أعمته شهوته، فاندفع وراءها، ووقع في حبائل «إزيس»، وكان من جهة أخرى قويًّا عنيدًا يريد أن يصل إلى أغراضه، إما بالوعيد الإجرامي؛ فقد هدَّد الآلهة بأن يقتل كل يوم واحدًا منهم إذا وقفوا في سبيله، وإما بالحيل الدنيئة، وذلك عندما أراد أن يأتي الفاحشة مع أخيه «حور» حتى يسقط من قدره فلا يصل إلى الملك، وإن الدور الذي لعبه في هذه القصة كان الدور الذي يلائم شخصيته في كل أطوار التاريخ المصري تقريبًا، فإنه كان يمثِّل الشر والغدر والظلام، وقد أبرز في هذه القصة يده على الإله «رع»، فإنه كان حاميه من الثعبان «إبوبي»، وقد ذكره بهذه المنة ليكون في جانبه عند القضاء. وإذا جعلنا الإله «ست» رمزًا لشخص تاريخي، فإن ذلك الشخص التاريخي الذي يرمز إليه «ست» يكون حاكم إقطاع من الذين كان لهم نفوذ عظيم في بداية الأسرة الثانية عشرة.
وقد كان «ست» في عهد الرعامسة، أو بعبارة أخرى في عهد الدولة الحديثة، يُعتبَر إله الحرب والقوة، وقد تبدَّدَتْ بمضي المدة شهرتُه السيئة الماضية، وكان كذلك معتبرًا إله البلاد الأجنبية، ولذلك وَصَّتِ الإلهة «نيت» بأن يُزوَّج من الإلهتين «عنات» و«عشتارت»، وهما إلهتان آسيويتان. ونرى في آخِر الأمر أن «رع» رغب في النهاية أن يتخذه ابنًا له يعيش معه ويكون إله الرعد في السماء، وفي ذلك ما يشير إلى أن «رع» قد انحاز إلى «ست» في النهاية حتى بعد أن غلب على أمره؛ لأنه عدو «أوزير» الذي كانت له السيادة والكلمة العليا في ذلك الوقت، وبذلك أصبح «ست» يسكن مع «رع» في السماء، وتركا العالم السفلي «لأوزير» يحكم فيه كيف يشاء.
موقف الإله «تحوت»
إن الدور الذي قام به الإله «تحوت» (إله العلم والعرفان) خليق به؛ فقد كان ينوب عن التاسوع في أعماله، فهو الذي قدَّمَ العين المقدسة (أي مصر) للإله «رع» ليقرِّر مصيرها، وهو الذي ألَّفَ الرسائل التي تبودلت بين «رع» من جهة وبين الإلهة «نيت» والإله «أوزير» من جهة أخرى، وهو الذي حكم في نداء النطفة عندما ادَّعَى كل من «ست» و«حور» الغلبة له على قرنه، وقد كوفئ على عمله هذا بوضع القرص الذهبي الذي خرج من جبين «ست» على جبينه، وبواسطة هذا القرص أُحِّدَ تحوت بالإله القمر؛ لأن ذلك القرص كان يمثِّل القمر نفسه، على أن هناك رواية أخرى جاء فيها أن القرص الخارج من جبين «ست» هو الإله «تحوت» نفسه الذي كان يمثِّل القمر، ونجد في المتون الخرافية شيئًا آخَر غريبًا هو أن تحوت أو القمر وَلَدٌ للإلهين «حور» و«ست»، وهذا هو الحادث الوحيد الذي نسمع فيه أن الذكرين قد تناسَلَا. ولكن الخرافة في الواقع تُخفِي في ثناياها ظاهرة طبيعية هي النضال بين النهار والليل، أو بين النور والظلام، والذي انتهى بتغلُّب النور على الظلام لخلق القمر الذي شدَّ من أزره. ولما كان المصري لا يعرف المعنويات صوَّرَ هذا النضال بمحسات وحقائق ملموسة؛ «فحور» وهو النور قد تغلَّبَ على «ست» وهو الظلام بالتلقيح، فنتج من ذلك القمرُ الذي أصبح يضيء الكون ويبدِّد دياجير الظلمات.
الموقف التاريخي الذي توضحه القصة
قد أشرنا من قبلُ إلى أن لهذه الملحمة أصلًا تاريخيًّا توضِّحه وتشير إليه، وعلينا أن نوضح الآن هذا الأصل التاريخي الذي تمثِّله، والعصر الذي بدأ فيه.
إن «رع» يمثِّل شخصية الفرعون، وآلهة التاسوع يمثِّلون مجلس بلاطه، ومظاهرة «رع» «لست» على «حور» صاحب الحق الموروث تعني رغبة فرعون في تنصيب أحد عظماء قومه في وظيفة حاكم، متخطِّيًا بذلك قانون الوراثة الذي تسير عليه البلاد، وما دمنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة فإنه يسهل علينا أن نعرف العصر الذي ترمز إليه هذه القصة؛ فإن موقف فرعون الذي شرحناه من أحد عظماء القوم لم يحدث إلا مرة واحدة في تاريخ مصر، وذلك في العهد الذي تلا سقوط الدولة القديمة؛ فإن أمراء الإقطاع قد ازداد نفوذهم، وصارت المقاطعات التي يحكمونها كأنها ضياع لهم، يستغلونها في حياتهم، ويورِّثونها أبناءهم بعد مماتهم، ولما جاء ملوك الأسرة الثانية عشرة، ووجدوا أن قوة هؤلاء الأمراء عظيمة إلى حدٍّ بعيد، اضطروا أن يسلموا بالأمر الواقع، وبذلك اعترفوا بقانون الوراثة في تلك المقاطعات، ولكنهم أخذوا يعملون على هدم هذا النظام شيئًا فشيئًا بتنصيب حكام موالين لهم على تلك المقاطعات، والقضاء على الأسر الوراثية كلما مكَّنَتْهم الفرصُ من ذلك. وأكبر دليل على أن هذه السياسة قد نُفِّذَتْ ونجحت، هو نقصان عدد مقابر أمراء الإقطاع في عهد الأسرة الثانية عشرة، وإن كان محو هذا النظام جملةً كان بطيئًا وشاقًّا، ولم تظهر بوادره إلا في عهد «سنوسرت» الثالث. وقد أراد أحد الفراعنة — جريًا على تلك السياسة التي استَنُّوها لأنفسهم — أن ينصب حاكمًا قويًّا ممَّن يثق بهم على إحدى المقاطعات بدلًا من آخَر يستحقها بالوراثة؛ فقام هذا العراك بين الاثنين، فصُوِّرَ ذلك بصورة «رع» يعاضد «ست» في الخصام الذي جرى بينه وبين أخيه على وظيفة الملك التي آلت «لحور» بطريق الوراثة، ويريد «ست» — ويعضده في تلك الإرادة «رع» — أن يجعلها لنفسه بالقوة والجبروت، فإرث «أوزير» الذي كان يستحقه «حور» يُفَسَّرُ هنا بمقاطعة، وإذن فليس الشجار الذي أمامنا واقعًا بين «حور» و«ست»، بل بين الملكية وبين حكام المقاطعات الوراثيين في بداية الدولة الوسطى؛ فهي قصة تشرح في طياتها موقفًا سياسيًّا تاريخيًّا يدور حول ما كان يلاقيه الملك في ذلك الوقت من الصعوبات، وما كان لأمراء المقاطعات من القوة والبطش.
وهناك موقف آخَر في القصة نستطيع أن نجد له مقابلًا يفسِّره في الأصل التاريخي الذي نتحدث عنه؛ ذلك أن «ست» قد أصبح من أصدقاء «رع»، مناقضًا بذلك الحقائق التي وردت في الخرافات المصرية. ولقد برَّرَ «ست» هذه الصداقة التي جمعت بين الاثنين مع اختلافهما بقوله: «ماذا حدث لي؟! إني «ست» أعظم الآلهة قوة، فأنا الذي أقتل عدو «رع» كل يوم لأني أقف في مقدمة سفينة الملايين، على حين أنه لا يوجد إله آخَر في قدرته أن يعمل هذا، ولهذا أرجو أن تسلم إليَّ وظيفة «أوزير» … إلخ.» وترجمة ذلك بلغة الواقع أن ذلك الحاكم الذي كان يعضده الملك كان يقوم بدور سياسي مستتر لمساعدة الملك على تعزيز ملكه وبناء سلطانه، ومن ثَمَّ زكَّاه الملك بدوره ليتقلد هذه الوظيفة.
ونرى كذلك مشهدًا آخَر في القصة يترجم عن حقيقة تاريخية؛ ذلك أن «ست» كانت له مكانة عالية بين أعضاء مجلس الآلهة، فكان يُعامَل معاملة حسنة، وكان في الوقت نفسه لا يأبه بهم، يدلُّك على ذلك أنه لما غضب منهم مرةً قال لهم مهدِّدًا: «سآخذ سيفي الذي يزن ٤٥٠٠ رطل، وأقتل به واحدًا منكم كل يوم.» وترجمة ذلك أن مَن تسوِّل له نفسه من حكام المقاطعات أن يقوم بعمل عدائي ضد الملك، فإنه مستعد لإبادته.
ومما يدل على علاقة «ست» الوثيقة بالإله «رع»، ما جاء عند تبادل الآراء بين «رع» والإلهة «نايت»، التي كانت تُعتبَر أمًّا للإله «رع» نفسه عندما سألها عن رأيها في مصير تلك الوظيفة التي تشاحَنَ الاثنان عليها؛ إذ قالت: أعطِ ابن «أوزير» الوظيفة، ولكن في الوقت نفسه ضاعِفْ أملاك «ست» وأعطه ابنتيك «عنات» و«عشتارت». فلِمَ هذا الإكرام كله «لست»؟ وما سبب تلك الخطوة التي جعلت أم «رع» تسعى لترضية «ست» وإعطائه ما يعوضه عن التركة التي ينشدها؟ السبب واضح، وهو أن «ست» هذا ليس إلا الحاكم الذي يفضِّله الملك أميرًا للمقاطعة، وأنه ما دام قد التوى عليه القصد، فلم يقدر أن ينصبه في المركز الذي طمح إليه، فلا أقل من أن يعوضه عن ذلك غنى وجاهًا؛ تطييبًا لخاطره، وجزاءً لما قدمه لمليكه من أجَلِّ الخدمات. على أنَّا نلاحظ هنا شيئًا، فإن ذكر إعطاء «عنات» و«عشتارت» «لست» لا يمكن أن يتفق مع تاريخ الدولة الوسطى الذي تُنسَب إليه قصتنا، وليس من البعيد أن تكون تلك الفقرة دخيلة على القصة، أضيفت إليها في العصر الذي كُتِبت فيه حينما كانت مصر على اتصال وثيق بالأمم المجاورة التي كانت تُعبَد فيها هاتان الإلهتان، وهذه ظاهرة نجدها في كثير من القصص المصري؛ فلقد وجدنا في خرافة «حور» المنقوشة على معبد «إدفو» حوادثَ ترجع كذلك إلى أقدم عهود التاريخ المصري، ومع ذلك قد دُسَّ عليها، وأضيف إليها حوادث ترجع إلى عهد الهكسوس وغيره.
وقد لمحنا في القصة بعض التناقض، فهذا «رع» يسمِّي نفسه مرة «رب العالمين»، وأخرى «الملك الطيب لمصر»، وهذا مجلس التاسوع يطلق عليه أحيانًا مجلس الثلاثين.
مجلس الثلاثين
ومجلس الثلاثين — وقد يُسمَّى مجلس الثلاثين العِظَام — يضم الحكَّام الذين كانوا يديرون دفة البلاد في عهد الحكم الإقطاعي، ومنهم يُؤلَّف مجلس البلاط، وقد خلف مجلسُ الثلاثين مجلسَ العشرة العظام للوجه القبلي، الذين كانوا يتولون أمور البلاد في عهد الدولة القديمة. وفي ازدياد أعضاء هذا المجلس الذي أنشئ لمساعدة الملك، وللحد من سلطان حكَّام المقاطعات؛ تقويةٌ لهم، وعونٌ على تعزيز الأداة الحكومية، وداعٍ إلى القبض على ناصية الحال في طول البلاد وعرضها؛ لأن معظم الأعضاء كانوا يشتغلون في الوقت نفسه حكَّامًا للأقاليم، وسادت هذه الحال في العهد الأهناسي، وعهد الأسرة الحادية عشرة، وهي الفترة التي طغت فيها سلطة حكَّام الأقاليم، واستمرت إلى أوائل حكم الأسرة الثانية عشرة. وقد كان أعضاء هذا المجلس يمثلون سلطة الملك في مختلف المقاطعات، غير أنه استبدل بهم حكَّامًا انتخبهم بنفسه، وقد لاحظنا أن لهذا المجلس سلطانًا قاهرًا في أوائل عهد الدولة الوسطى، وكان أعضاؤه يقومون بأهم الأعمال في كل مرفق من مرافق الدولة، ولقد كان له هذا السلطان في قصتنا أيضًا؛ فقد رأينا أن التاسوع كان يفصل في الأمور الخطيرة، وكان يحد من سلطة الفرعون. وهذا المجلس بعينه كان يُسمَّى «قنبت» أي المجمع، ولقد عرفنا تكوينه من نقش وُجِد في «حاتنوب» القريبة من ملوي، جاء فيه عن أمير مقاطعة «الأرنب» (المقاطعة الخامسة عشرة) المسمَّى «نِحْري» الأول ما يأتي: «وقد اجتمع للتشاور مع المجمع «قنبت» دون أن يعرف ذلك أحد، وقد كان البلاط منشرحًا للآراء التي أدلى بها، وقد كان من الرجال المخلصين، وقد كان يأتي إليه (المجلس) الحكَّام (حكَّام المقاطعات) من الوجه القبلي.» والظاهر أن اجتماع المجلس هذا كان سريًّا كما يدل على ذلك سياق الكلام، وكذلك كان اجتماعه لمحاربة العدو ولتسيير دفة الحرب في الجنوب. ويمكننا هنا أن نجد وجه شبه بين مجيء «نحري» إلى هذا المجلس، وندب الإله «با» من بلدة منديس (تل الربع الحالية) لحضور مجلس الآلهة.
أوزير والعهد الإقطاعي
ولقد قلنا إن هذه القصة تمثِّل حقائق تاريخية سياسية، فهل يتمشَّى ذلك مع تحدُّث ملك إلى الأحياء وهو في عالم الأموات؟ والجواب ما قلناه من أن الملاحم المصرية تجتمع فيها الحقيقة مع الخرافة، ويتكون من المزيج المنصهر وحدة ترمي إلى هدف معين، وهذا ما نراه هنا.
ومما يدل على أن هذه القصة لم تُكتَب في عصر الرعامسة إغفال ذكر اسم الإله «آمون»، مع أن كاتب القصة يقول إنها كُتِبت في طيبة في عهد رعمسيس الرابع، أي أيام أن كان الإله «آمون» هو الإله الأعظم للدولة، فلو كانت قصتنا قد كُتِبت في عصر الرعامسة لجاء ذكر «آمون» كما جاء في أنشودة «آمون» العظيمة الموجودة بالمتحف المصري، والتي يرجع تاريخها إلى عصر الدولة الحديثة، والتي قالت: إن «آمون» كان القاضي فيما نشأ بين «حور» و«ست» من النزاع.
أسلوب القصة ولغتها وطريقة إنشائها
نلاحظ في أسلوبها البساطة التي انحطت إلى حد الابتذال والتعبير بلغة العامة، وهذا عين ما نجده في أساليب الدولة الحديثة؛ ذلك إلى أن مفردات القصة قليلة في عددها، عادية في نوعها، إذا استثنينا بعض ألفاظ وتراكيب أغفَلَها كاتب عهد الرعامسة الذي صاغ القصة من جديد ليُظهِرها في ثوب يلائم عصره، وأكثر التعبيرات سذاجةً ما جاء على لسان «ست» «لرع» يقصُّ عليه ما دار بينه وبين «إزيس» من الحديث، وفي نسج القصة تكرار ممل دفعنا واجب الأمانة إلى تسجيله كما رأيناه. كما أوردنا الألفاظ المكشوفة في صورة تهدي القارئ إلى ما أراده منها واضع القصة.
وبين أسلوب هذه القصة وأسلوب قصص الدولة الوسطى الرائع فرق كبير يتضح جليًّا إذا قرنتها بأخرى من إنتاج هذا العصر كقصة «سنوهيت» مثلًا، وكذلك نجد بينها وبين كتابات عصر الرعامسة فارقًا كبيرًا تلمسه إذا قستها بالخطاب الوارد في ورقة أنستاسي الأولى، وسنوردها بعدُ.
ولا بد أن يكون القاص لقصتنا هذه قد أراد أن تكون غذاءً للعامة، فانحدر بأسلوبها إلى مستواهم، كما يفعل قاصُّو القرى الآن في مجالس الفلاحين، ومن هذا النوع قصة الملك «خوفو» والسحرة، وقصة الأخوين، وقصة الأمير المسحور، وغيرها، وقد تشابهت في طريقها وأسلوبها وكثير من تعبيراتها. وقصتنا من ناحية أخرى متصلة الحلقات، تسير في سردها إلى نتيجة منطقية ناجحة.
(ﺟ) المصادر
- (1) Gardiner, “The Chester Beatty Papyrus No. I”, P.P. 8–26, Pls I–XVI.
- (2) J. Spiegel, “Die Erzählung vom streite des Horus und seth in Pap. Beatty 1”.
- (3) Blackman, “The Journal of Egyptian Archaeology”, Vol. 19, 1933, p. 200 f.f.
- (4) Gardiner, “Late Egyptian stories”, P.P. 37–60.
(د) متن القصة
(لقد حدثت) المحاكمة بين «حور» و«ست» صاحبي الصورة الخفية، العظيمين، وأكبر أميرين وُجِدَا.
وهنا صاحت «إزيس» عاليًا وفرحت جدًّا، وخرجت أمام رب العالمين وقالت: «يا ريح الشمال هبِّي غربًا! وأنعشي «قلب وتنفر» (أوزير) بهذا الخبر، وهو أن ابنه سيكون خلفه. ثم قال «شو» بن «رع»: «قرِّب العينَ (إلى حور)، فإن في ذلك عدالة للتاسوع.»
وعندئذٍ قال «رب العالمين»: «ما معنى أنكم تتخذون تدابيركم وحدكم؟!»
وهنا تكلَّمَ (التاسوع) وقال: «ليته يأخذ خاتم الملك «لحور»، وليت التاج الأبيض يوضع على رأسه.» فوجم «رب العالمين» (برهة طويلة) وغضب من التاسوع، ولكن عندئذٍ تكلَّمَ «ست» بن «نوت»: «دعه يخرج معي لأجعلك ترى أن يدي تقبض على يده في حضرة التاسوع؛ لأنه لا يعرف أحد طريقة التغلب عليه.»
وعلى ذلك قال له «تحوت»: «إذن سوف لا يمكننا أن نعرف من الكذَّاب، فهل ينبغي للإنسان على ذلك أن يعطي وظيفة «أوزير» إلى «ست»، في حين أن ابنه موجود هنا؟»
ولكن «التاسوع» قال ﻟ «با» رب «منديس»، الإله العظيم الحي: «لقد فصل بينهما سابقًا في القاعة (المسماة) «الوحيدة للعدل».»
وعندئذٍ تكلَّمَ التاسوع إلى «تحوت» أمام رب العالمين: «اكتب خطابًا إلى «نيت» العظيمة أم الإله، باسم «رب العالمين» الثور الذي يقطن عين شمس.»
فقال «تحوت»: «سأفعل ذلك حقًّا، سأفعل ذلك.»
وعندئذٍ جلس ليؤلِّف الخطاب فكتب: «ملك الوجه القبلي والوجه البحري «رع-آتوم» محبوب «تحوت» رب الأرضين وإله عين شمس، ونور الشمس الذي يضيء الأرضين بجمالها، والنيل العظيم في وفائه «رع حور أختي» — إلى «نيت» العظيمة أم الإله التي أنارت في الأزل، ليتك تعيشين في صحة وشباب غض يا روح رب العالمين الحي، الذي يقطن عين شمس وملك مصر الطيب، إن خادمك هنا: (أنا) (يعني نفسه) الذي أسهر الليل من أجل «أوزير»، وأهتم كل يوم بأحوال الأرضين.
ووصل جواب «نيت» العظيمة أم الإله إلى «التاسوع» حينما كانوا جالسين في القاعة (المسماة) «حور أمام القرون»، وسلَّمَ الجواب ليد «تحوت»، وعندئذٍ تلاه «تحوت» أمام رب العالمين، وأمام التاسوع كله، فقالوا بفم واحد: «هذه الإلهة على حق.»
وعلى ذلك خرج «التاسوع» وصاحوا عاليًا في وجه الإله «بابي»، وقالوا له: «اخرج من هنا! إن الجرم الذي أتيته عظيم جدًّا.» وذهبوا إلى مآويهم.
وقد أمضى الإله العظيم يومًا مستلقيًا على ظهره في حجرته، وكان قلبه في شدة الحزن، وظل في عزلة.
فتكلم «ست» العظيم القوة وابن «نوت» وقال: أما فيما يختص بي فإني «ست» أعظم الآلهة قوة بين التاسوع، ولذلك فإني أقتل عدو «رع» يوميًّا؛ لأني (أجلس) في مقدمة «سفينة الملايين»، وليس هناك إله آخَر في قدرته أن يعمل هذا، و(لذلك) أرجو أن أتسلَّم وظيفة «أوزير»؛ وعندئذٍ قالوا (أي التاسوع): «إن «ست» بن «نوت» على حق.»
وعندئذٍ صاح التاسوع صيحة عظيمة أمام «حور» (؟) وقالوا له: «ما هذه الكلمات التي فُهْتَ بها وليست جديرة بأن تُسمَع؟!»
وهنا تكلَّمَ «حور» بن «إزيس»: هذا ليس بالحسن في الواقع بأن أُظلَم أمام التاسوع، وأن تُغتصَب مني وظيفة والدي «أوزير».
فاغتاظ «ست» بن «نوت» من التاسوع عندما قالوا هذه الكلمات لإزيس الجليلة أم الإله، وعندئذٍ قال لهم «ست»: سآخذ سيفي الذي يزن ٤٥٠ رطلًا وأقتل به واحدًا منكم كل يوم … ثم أقسم «ست» يمينًا لرب العالمين قائلًا: «لن أتناقش بعدُ أمام العدالة ما دامَتْ «إزيس» هنا.»
وعندئذٍ تكلَّمَ «رع حور أختي» إليهم: «اعبروا إلى «جزيرة الوسط» وافصلوا بينهما وقولوا ﻟ «عنتي» لا تعبر بأية امرأة في صورة إزيس.» وعلى ذلك عبر التاسوع إلى «جزيرة الوسط» وجلسوا يأكلون.
فقالت له: «هل ما قيل لك خاص «بإزيس»، ذلك الذي تكلمت به؟»
فقال لها: «ما الذي ستعطينه إياي حتى أعبر بك إلى «جزيرة الوسط»؟»
فقالت له «إزيس»: «سأعطيك هذا الرغيف.»
وعندئذٍ قال لها: «ماذا يكون رغيفك؟! هل ينبغي لي أن أعبر بك إلى جزيرة الوسط — على حين أنه قيل لي: لا تعبر بأية امرأة — من أجل رغيفك؟!»
وعندئذٍ قالت له: «سأعطيك الخاتم الذهبي الذي في يدي.»
فقال لها: «أعطيني الخاتم الذهبي.»
فأعطته إياه، وعلى ذلك عبر بها إلى «جزيرة الوسط»، وبينما هي سائرة تحت الأشجار، إذ نظرت فرأت التاسوع وهم جالسون يأكلون في حضرة «رب العالمين» في نزله؛ فنظر «ست» ولمحها وهي آتية من بعيد، فتلت تعويذة من سحرها وغيَّرت نفسها إلى عذراء جميلة الجسم لم يكن لها مثيل في الأرض قاطبةً، فأحبها حبًّا جمًّا.
وحينئذٍ قام «ست» بعد أن كان جالسًا يأكل مع التاسوع العظيم، وذهب ليقابلها، ولم يكن قد رآها أحد سواه، فوقف خلف شجرة وصاح بها وقال لها: «إني أريد أن أكون معك أيتها الفتاة الجميلة.»
فقالت له: «آه يا سيدي الرفيع! ما حدث لي أني كنت امرأة راعي ماشية، وقد جئتُ منه بولد، وقد مات زوجي وأصبح الصغير يرعى ماشية والده، ثم حضر غريب وجلس في حظيرتي وخاطب ولدي قائلًا: «سأضربك وسأستولي على ماشية والدك وسأطردك.» وهكذا تكلَّمَ إليه، ورغبتي هي أن أجعلك تحميه.» وعندئذٍ قال لها «ست»: «هل ينبغي للإنسان أن يعطي الماشية الغريب، في حين أن ابن الرجل موجود هنا؟»
فوقف باكيًا، ثم ذهب إلى المكان الذي كان فيه «رع حور أختي» وبكى، وعندئذٍ كلَّمَه «رع حور أختي»: «ماذا جرى لك ثانية؟»
فأجاب «ست» قائلًا: «هذه المرأة الشريرة قد اعتدت عليَّ كرة أخرى، وقد خدعتني مرة ثانية؛ فقد غيَّرَتْ صورتها إلى عذراء جميلة أمامي، ثم قالت لي: «ما حدث لي أني كنتُ زوجَ راعي ماشية، وقد مات بعد أن وضعتُ منه ابنًا، وأنه يرعى بعض ماشية والده، وأن غريبًا أتى إلى حظيرتي مع ابني فأعطيته طعامًا، وبعدَ مضيِّ عدة أيام على ذلك قال الغريب لابني: «سأضربك وسأستولي على ماشية والدك وستكون ملكي.» وهكذا كلَّم ابني. وهكذا قالت لي.»
فكلَّمَه «رع حور أختي»: «وماذا قلتَ لها؟»
فقال له «ست»: «قلتُ لها: هل ستُعطَى الماشية (ياوت) الغريب، وابن الرجل لا يزال موجودًا هنا. وعلى ذلك قلت لها: يجب أن يُضرَب المتطفل على وجهه بعصا ثم يُطرَد، وينبغي أن يجلس ابنك في مكان والده — وهكذا قلت لها.»
فقال له «رع حور أختي»: «انظر، إنك حكمت على نفسك بنفسك، فماذا تريد زيادة على ذلك؟» فقال له «ست»: «مُرْ بحضور «عنتي» ليوقع عليه عقاب صارم، وسَلْهُ: لماذا سمحت لها أن تعبر؟ هكذا ينبغي أن يقال له.»
وعندئذٍ غضب «ست» غضبًا شنيعًا، ولكن التاسوع قال «لست»: لماذا أنت غاضب؟ أَلَا ينبغي أن يفعل كما قال «آتوم» رب الأرضين في عين شمس و«رع حور أختي»؟ وعلى ذلك وُضِع التاج الأبيض على رأس «حور» بن «إزيس»، فصاح «ست» عاليًا أمام التاسوع وعصف، ثم قال: «هل ستُعطَى الوظيفة أخي الصغير، وأخوه الأكبر ما زال موجودًا هنا؟»
وعندئذٍ حلف يمينًا وقال: ينبغي أن يُنزَع التاج الأبيض من رأس «حور» بن «إزيس»، وينبغي أن يُلقَى به في الماء حتى يمكنني أن أتنازع معه على وظيفة «الحكم!» (ياوت).
وبعد ذلك ألقت به في الماء ثانيةً فاشتبك في جلالة «ست»، فصاح «ست» عاليًا وقال: ماذا فعلت ضدك يا أختي «إزيس»؟! مُرِي شصك أن ينفكَّ عني، إني أخوك من أمك يا «إزيس». فآلمها قلبها من أجله جدًّا، ثم ناداها «ست» قائلًا: «هل تحبين الغريب أكثر مما تحبين أخاك من أمك؟!» فأمرت «إزيس» شصَّها قائلة: «انفكَّ عنه، انظر، إنه أخو «إزيس» من الأم ذلك الذي عضضته.» وعلى ذلك انفكَّ الشصُّ عنه.
وعندئذٍ رجع «ست» وخاطَبَ «رع حور أختي» كذبًا: إني لم أجد «حور». والواقع أنه وجده.
ثم ذهبت «حتحور» سيدة شجرة الجميز الجنوبية ووجدت «حور» كما كان مضطجعًا يبكي في الصحراء، فأمسكت بغزالة وحلبتها وقالت «لحور»: «افتح عينك حتى أضع فيها هذه النقط من اللبن.» ففتح عينه ووضعت فيها نقط اللبن، ووضعت في العين اليمنى، ووضعت في اليسرى، وقالت له: «افتح عينك.» ففتح عينه، فتأملتها ووجدتها سليمة.
وعندئذٍ ذهبت إلى «رع حور أختي» لتقول: «إن «حور» قد وُجِد وقد اقتلَعَ عينَيْه «ست»، ولكني قد أعدتهما ثانيةً. انظر، إنه آتٍ.»
وعندئذٍ قال التاسوع: فَلْيُنَادَ كلٌّ من «حور» و«ست» ويُفصل بينهما. فأُحضِرَا أمام التاسوع، وتكلَّمَ رب العالمين أمام التاسوع العظيم إلى «حور» و«ست» وقال: «اذهبا واسمعا ما سأقوله لكما، وكُلَا واشْرَبَا، وبذلك ستكونان في سلام، تنحَّيَا عن المشاحنة كل يوم.»
وإذ ذاك قال «ست» «لحور»: «تعال وسنمضي يومًا سعيدًا في بيتي.»
فقال له «حور»: «بالتأكيد وعن طيب خاطر.»
ولما حلَّ المساء فُرِش (السرير) لهما واضطجع الاثنان، وفي الليل دسَّ «ست» قناته المنتشرة بين فخذي «حور»، ولكن حور وضع يديه في فخذيه وتلقَّى بها نطفة «ست»، وعندئذٍ ذهب «حور» ليقول لوالدته: «النجدة يا «إزيس» يا أمي! تعالي وانظري ما آتاه «ست» معي!»
وعلى ذلك وضعت «إزيس» نطفة «حور» عليه (الخس)، ثم حضر «ست» حسب عادته كل يوم وأكل الخس الذي تعوَّدَ أكله فصار حاملًا من نطفة «حور»؛ وعلى ذلك ذهب «ست» ليقول لحور: «تعالَ، دعنا نسرع لنتخاصم معًا أمام العدالة.» فقال له «حور»: «بالتأكيد، وعن طيب خاطر!» وعلى ذلك ذهب الاثنان إلى المجلس ووقفا أمام التاسوع العظيم وقيل لهما: «تكلَّمَا عن شخصيكما!»
وعلى ذلك أقسم «ست» يمينًا بالله بهذه الكلمات: «لا ينبغي أن يُعطَى الوظيفة حتى ينزل معي لنصنع لنفسينا سفينتين من الحجر، ونتحارب سويًّا، والذي يتغلَّب على زميله يُعطَى وظيفة الحكم.»
فصنع «حور» لنفسه سفينة من خشب الأرز، وغطَّاها بطبقة من الجبس، وألقى بها في الماء عند الغروب، ولم يَرَه أحد في كل العالم، ولكن رأى «ست» سفينة «حور» وظنَّ أنها من حجر، فذهَبَ إلى الجبل، وقطع قمته، وصنع لنفسه سفينة من الحجر، ذرعها مائة وثمانية وثلاثون، وفي هذا الوقت نزَلَا في سفينتيهما في حضرة التاسوع، فغرقت سفينة «ست» في الماء، فتقمَّصَ «ست» جاموس بحر، وسبَّبَ غرق سفينة «حور».
وبعد ذلك وصل الجواب إلى الملك ابن «رع» غزير الفيضان ورب القوة، وهنا صاح صيحةً عاليةً عندما قرئ الجواب أمامه.
وقد وصل جواب أوزير إلى المكان الذي فيه «رع حور أختي» أثناء جلوسه مع التاسوع في الحقل الأبيض في (بلدة) «سخا».
وقد قرئ في حضرته وفي حضرة التاسوع وقال «رع حور أختي»: أجِبْ بدلًا مني عن هذا الخطاب بغاية السرعة، واكتب إلى «أوزير» ردًّا عليه: «هَبْ أنك لم توجد بعدُ، وهَبْ أنك لم تُولَد قطُّ، فإن الشعير والحنطة كانا — لا بد — موجودين!»
وإذ ذاك وصل جواب «رب العالمين» إلى «أوزير» وقُرِئ أمامه.
وبعد ذلك وصل خطاب «أوزير» إلى حيث كان رب العالمين الذي كان مع التاسوع، فتسلَّم «تحوت» الجواب وقرأه أمام «رع حور أختي» والتاسوع.
فقالوا: «إن «العظيم في فيضانه ورب الطعام» محق في كل ما قاله.» وهنا قال «ست»: اذهبوا إلى «جزيرة الوسط»، وعلى ذلك يمكنني أن أتخاصم معه (هناك). وعلى ذلك ذهب إلى «جزيرة الوسط» وقد أعلن أن «حور» صاحب الحق عليه، وعندئذٍ أرسل «آتوم» رب العالمين في عين شمس إلى «إزيس» قائلًا: ائتي «بست» مكبَّلًا بالأغلال، وعلى ذلك أحضرت «إزيس» «ست» مكبَّلًا بالأغلال مثل السجين.
فقال له «آتوم»: لماذا لم تقبل أن يفصل بينكما (حسب القانون)، بل بحثت لتغتصب لنفسك وظيفة «حور»؟ فقال «ست»: ليس الأمر كذلك يا سيدي الطيب قطُّ. مُرْ بأن يُنادَى «حور» بن «أوزير»، ثم يُعطَى وظيفة والده «أوزير».
فأُحضِر «حور» بن «إزيس»، ووُضِع التاج الأبيض على رأسه، وأُجلِس على عرش والده «أوزير»، ثم قيل له: «إنك ملك مصر الطيب، وإنك الرب الطيب لكل بلاد أبد الآبدين.»
وعندئذٍ رفعت «إزيس» صوتها عاليًا أمام ابنها «حور» وقالت: «إنك الملك الطيب، وإن قلبي لفي سرور عندما تنير الأرض ببهائك.»
وإذ ذاك تكلَّمَ «بتاح» العظيم القاطن جنوب جداره، رب «عنخ-تاوي» (منف): ما الذي ينبغي أن يُعمَل لست (الآن)؟ إذ تأمل؛ فإن «حور» قد جلس في مكان والده «أوزير»، وعندئذٍ قال «رع حور أختي»: «أتمنى أن يُسمَح «لست» بن «نوت» أن يسكن معي بمثابة ابن، وكذلك ينبغي أن يرفع صوته في السماء (يرعد)، وأن يخاف الإنسان في حضرته.»
وعندئذٍ أتى مَن يبلغ «رع حور أختي» أن «حور» بن «إزيس» قد نصب حاكمًا، وعلى ذلك فرح «رع حور أختي» فرحًا شديدًا وقال للتاسوع: «أقيموا الأفراح في كل البلاد «لحور» لابن إزيس.» ولكن «إزيس» قالت: «إن «حور» قد نصب حاكمًا، والتاسوع في سرور، والسماء في حبور، وهم يأخذون أكاليل الأزهار عندما يشاهدون «حور» بن «إزيس»، وكيف أنه نصب حاكمًا عظيمًا لمصر.»
أما التاسوع فإن قلوبهم كانت فَرِحة، وكل البلاد في حبور، عندما رأوا «حور» بن «إزيس»، وكيف أنه قد أخذ وظيفة والده «أوزير» سيد «أبو صير». لقد انتهى بخير في طيبة في مكان الصدق (؟).
(٢-١٢) قصة سياحة ونأمون
(أ) ملخص القصة
كان القارب الرسمي المشهور المسمى «وسرحات» الذي كان يستعمله «آمون» طيبة في حاجة إلى خشب من أرز لبنان، وكان ذلك سهلًا ما دامت مصر قوية، ولكن حوالي سنة ١١٠٠ق.م كانت مصر ضعيفة، فلم يكن لديها المال ولا النقود لجلب ما يلزم لإعادة بناء القارب من الخشب، ومع ذلك فقد جُمِع المال بطريق التبرع، واتفق على إرسال آمون نفسه إلى «ببلوس» «جبيل»، وقد اختير لهذا الغرض تمثال للإله يُسمَّى «آمون الطريق» وصاحبه «ونأمون» أحد موظفي المعبد (أسَن رجال القاعة)، وأخذ معه خطابات توصية «لسمندس»، و«تنتامون» لمدِّه بما يحتاج إليه في طريقه إلى ببلوس «جبيل».
وصل ونأمون إلى «تانيس» مقر «سمندس» و«تنتامون»، وفي الشهر الرابع وصل إلى «دور» في بحر سوريا العظيم، وهناك سُرِقت نقوده فشكا إلى أميرها فلم يُنصِفه، فاستمر في سياحته إلى «زاكار بعل» أمير «جبيل»، وقد قابل بعض الأهالي فسلبهم كيس نقود تعويضًا عما سُلِبَه، فغضب أمير «جبيل» لما حدث وأمر بطرده من ثغره، ولكن «ونأمون» لم ينفذ الأمر، ودار حوار بينهما حول السفر والإقامة وسبب المجيء إلى بلاده، وطلب ثمنًا لما يراد منه، وانتهى الأمر بإرسال سبع قطع من الخشب إلى مصر، وأرسل «سمندس» «وتنتامون» هدايا كثيرة فرح لها الأمير، وحشد جمعًا من الرجال والثيران لإعداد الخشب المطلوب، وبعد أن جُهِّزَ الخشب على شاطئ البحر جاءت سفن من «زاكار» للقبض على «ونأمون» وسجنه، وللحيلولة دون سفر الخشب إلى مصر، فأبى الأمير أن يُقبَض عليه في أرضه وأرسله بعيدًا عن بلاده، فساقت الريح سفينته إلى أرض «إرسا» وخرج أهلها ليقتلوه، فلجأ إلى ملكتها، ثم كُسِرت البردية بعد ذلك، فلم يُعلَم كيف نجا «ونأمون» من أخطاره؟ وهل حقَّقَ الغرض من رحلته أم رجع كما ذهَبَ.
(ب) دراسة القصة
هذه القصة تُعَدُّ من أدب الدولة الحديثة الراقي، وإذا قستها بغيرها من قصص الدولة الوسطى كقصة «سنوهيت» الراقية المغزى والتعبير، أو قصة «الغريق» السهلة التناول العذبة الأسلوب، وجدت أهم ميزة لقصتنا هذه الوصفَ الحيَّ الذي تضعه أمامنا، والحوار الحاد الممتع الذي تعرضه على أسماعنا، وأهم من هذا وذاك البيئة التي أظهرها القاص فيها، والجو الذي نقل القارئ إليه، والنواحي النفسية التي تناولها؛ كإبراز أخلاق «ونأمون» أهم شخصية فيها، وبيان أن الأسرة العشرين التي انحطت قوتها أعجز من أن تجلب لمصر ما اعتادت الأسر القوية أن تفعله؛ فلم يكن في مقدور حاكمها أن يصدر أمرًا في مصر لينفذ في لبنان. ولقد سرد الكاتب قصته بطريقة جميلة حتى لترسخ في ذهنك صورة أمير «جبيل» في حجرته العليا، وظهره مستند إلى شرفتها، وأمواج البحر السوري تتلاطم من خلفه، وحتى تشارك ونأمون أساه لهروب أحد أتباعه بما كان عنده من ذهب وفضة، وحتى لترثى لخذلانه عندما طُولِبَ بإبراز ما يتسلح به من توصية أو عدة، وحتى لتبكي معه سوءَ طالِعِه عندما رأى الطيور تنزح للمرة الثانية إلى مصر وهو على حاله من الخيبة والفشل في سوريا مقيم.
وقد وضع الكاتب أمام أعيننا صورة مدهشة لتدهور الدولة المصرية وسقوطها، مشربة باعتقاد رقيق مؤثر في قوة آمون، وقدرته على انتشالها من وهدتها وإعادتها لما كانت عليه في غابر الأزمان.
وهذه القصة جديرة بأن تُوضَع جنبًا لجنب مع بعض أحسن القصص التي وردت في التوراة، مثل قصة «يونس ورسالته» أو «قصة راعوت في وسط القمح»، مع فارق واحد هو أن قصتنا قد سبقت كلًّا منهما بنحو خمسة قرون، كما أنها تقدِّم لنا صورةً حيةً عن السياحة وعن التجارة في شرقي البحر الأبيض المتوسط، وتساعدنا على تصور ذلك العالم على حقيقته كما كان، ذلك العالم الذي لا تزال صورته نتمتع بها في قصة «الأوديسا» بأسلوبها البسيط الخالي من المحسنات العميقة القديمة، هذا إلى أن القاص يستميلنا أكثر من هذا بنكاته الدقيقة التي تجري على لسانه من غير تكلُّف أو اصطناع.
(ﺟ) المصادر
- (1) Erman, Zeitschrift für Aegyptische Sprache, XXXVIII, P.P. 1. f.f.
- (2) Erman, “The Literature of the Ancient Egyptians”, (translated by Blackman), P. 174.
- (3) Eric Peet, “A comparative study of the Literature of Egypt, Palestine and Mesopotamia”, P. 47. f.f.
- (4) Maspero, “Popular Stories of Ancient Egypt”, P. 202.
- (5) Wiedmann, Altagptische Sagen und Märchen, (Leipzig, 1906). P.P. 94–113.
- (6) Breasted, “Ancient Records of Egypt”, Vol. IV, P.P. 274 f.f.
(د) متن القصة
وقضيت تسعة أيام مقيمًا في ثغره، ثم ذهبت إليه وقلت: «انظر، إنك لم تجد نقودي (فسأقلع أنا) مع القائد ومَن سيسافرون.»
وفي الكسر الكبير الذي في الورقة البردية في هذا المكان يمكن أن نقدِّر أن عبارة كالآتية قد قِيلت، قامت مناقشة حادة بين «ونأمون» وأمير «دور»؛ إذ قال له: «الزم الصمت.» وقد أساء له إنسان النصيحة بأن يعمل مثل غيره على أن يسترد ماله ثانية بنفسه — أي يذهبون ليبحثوا عن سارقهم — ومن ثَمَّ أتى إلى «صور».
وهكذا استمر الشاب المخبول في خبله طول الليل، في حين أني وجدت سفينة مقلعة إلى مصر، وكنت أنقل كل ما عندي على ظهرها، وكنت أرقب الظلام حتى إذا أسدل ستاره أنزل الإله حتى لا تراه عين أخرى، وأتى إليَّ رئيس الثغر قائلًا: «امكث إلى الصباح تحت تصرُّف الأمير.» فقلت له: ألستَ الذي لا يفتأ يأتيني كل يوم قائلًا: اخرج من ثغري، ولم تقل قطُّ «ابقَ»؟ والآن سيدع الأمير المركب التي وجدتها تسافر، ثم تأتي أنت إليَّ ثانيةً قائلًا: «فَلْتذهب»؟
فذهب وأخبر الأمير بذلك، ولكن الأمير أرسل إلى قائد المركب قائلًا: «امكث إلى الصباح تحت تصرُّف الأمير.»
وقد كنتُ صامتًا في تلك اللحظة الرهيبة، فأجاب قائلًا: «لأي داعٍ أتيتَ إلى هنا؟» فقلتُ له: «أتيتُ من أجل الخشب اللازم للسفينة العظيمة الشأن مِلك «آمون» ملك الآلهة، وقد كان والدك وجدك معتادين أن يفعَلَا ذلك، وأنت ستفعل كما فعَلَا أيضًا.»
والآن من جهة «آمون رع» ملك الآلهة، فإنه هو رب الحياة والصحة، وقد كان رب آبائك الذين قضوا مدة حياتهم يقدِّمون القربان لآمون، وأنت كذلك خادم لآمون، والآن إذا قلت: نعم، سأفعلها ونفذت أمره، فإنك ستعيش وتفلح وتكون في صحة جيدة، وستكون محسنًا إلى كل الأرض وإلى قومك، ولكن لا تأخذ شرها لنفسك أي شيء خاص «بآمون رع» ملك الآلهة، حقًّا إن السبع يحب متاعه!
دَعْ كاتبك يحضر إليَّ حتى أرسله إلى «سمندس» و«تنتامون» قائدي الأرض، وهما اللذان قد منحهما آمون الجزء الشمالي من أرضه، وسيرسلان كل ما يحتاج إليه، وسأكتب أنا إليهما قائلًا: أرسلها (أي الأشياء) حتى أعود للجنوب وأرسل لك كل ما أنا مدين به لك.» وهكذا تحدثت له. وقد سلم خطابي إلى يد رسوله، ثم حمل خشب قعر المركب والمقدمة والمؤخرة وكذلك أربع قطع أخرى، أي إن المجموع كان سبع قطع، وأمر بإرسالها إلى مصر، وقد ذهب رسوله إلى مصر وعاد إليَّ في سوريا في أول شهر من الشتاء، وأرسل إلى «سمندس» و«تنتامون».
عدد | |
---|---|
أباريق وإناء كاكمنت | ٤ ذهب |
أباريق | ٥ فضة |
ملابس من الكتان الملكي | عشر قطع |
كتان جيد من الوجه القبلي | ١٠ خرد |
بردي جميل | ٥٠٠ خرد |
جلود ثيران | ٥٠٠ خرد |
حبال | ٥٠٠ خرد |
جولق عدس | ٢٠ خردًا |
سلة سمك | ٣٠ خردًا |
عدد | |
---|---|
عدس | ١ جولق |
سمك | ٥ سلات |
ففرح الأمير وخصَّص ثلاثمائة رجل وثلاثمائة ثور على رأسها ملاحظون لقطع الأخشاب، وقد قطعوها وبقيت ملقاة طول الشتاء، وفي الشهر الثالث من الصيف جُرَّت إلى شاطئ البحر.
وبعد ذلك زاد عدد أعضاء التاسوع حتى أصبح عددهم (نظريًّا) ١٨ أو ٢٧ إلهًا، غير أنه لم تصلنا قائمة بأسمائهم.
«حتحور» والكشف عن العورة
حتحور: إن الطريقة التي طيَّبت بها الإلهة «حتحور» خاطر والدها رب العالمين «رع»، تُرَى في ظاهرها من الأمور المعيبة التي تدل على الفحش والدعارة، ولكن كشف النساء عن عورتهن عند قدماء المصريين كان يُعتبَر عادةً دينية. وقد ذكر لنا «ديدور» وصفًا لهذه العادة في عبادة العجل إبيس (Diodor I. 85, 3) وهي تنطبق على ما جاء في قصة المخاصمة، ويؤيِّد ذلك ما ذكره الأستاذ فيبر (weber)؛ إذ عثر على تمثال من الخزف في متحف ليبزج (Leipzig Inv. Nr. 3634) في كتابه (Berliner Terrakotten text. b 119. A 5.) وقد مثل وهو يقوم بتلك الحركة، وكذلك قد ذكر هيرودوت شيئًا عن تلك العادة نفسها عند سفر القوم للاحتفال بعيد الإلهة «باست». وهي في ظاهرها عادة وحشية، إلا أنها بلا شك ترجع إلى نفس تلك العقيدة، والواقع أن ذكر هذه العادة هنا مما يثبت لنا أن الإغريق قد نقلوها عن المصريين؛ حتى إننا عندما نقرؤها في كتبهم ننظر إليها على أنها وحشية فاحشة، ولكن الكشوف الحديثة تضع الأمور في نصابها. والواقع أن هذه العادة تعبِّر عن منتهى الخضوع والخشوع، وأن الإله هو الذي يعرف عورات النساء، ولكن مما يلفت النظر هنا هو ضحك الإله «رع» من العمل الذي أتته أمامه «حتحور» بكشف عورتها؛ لأن ذلك منتهى ما يمكن من علامات الخضوع والدعاء، ولا يأتيه إلا عامة الشعب؛ ولذلك فإن قيام ابنته به أمامه لم يكن إلا لشدة محبتها له، وإرضائه بأعظم شيء يدل على الخضوع يمكن لامرأة في عالم الدنيا أن تأتيه، فكيف إذا أتته إلهة؟!و«عنتي» في الأصل إله في صورة صقر، ويُنعَت «عنتي» أي صاحب المخالب، وكان في الأصل يقطن المقاطعة الثانية عشرة من الوجه القبلي (مقاطعة الثعبان) ووظيفته نوتي، وهي التي يُعرَف بها هنا في قصتنا، ولم تكن معروفة من قبلُ، ويمكننا بالمتن الذي في أيدينا أن نقتفي أثرها كما أشار «زيته» إلى ذلك في متون الأهرام (وازِنْ سطرَيْ a 792 و(a 1359 وكذلك نلحظ في الرسم المقوس الذي تحت الصقر أنه لا بد أن يكون قاربًا، وبخاصة أن هذا القارب له سكان. والعقاب الذي وقع عليه هو قطع الجزء الأمامي من قدمَيْه؛ أي مخالبه التي يدافع بها عن نفسه؛ ومن أجل ذلك كان يُطلَق عليه صاحب المخالب (أي الصقر صاحب المخالب)، وهذه من الأمور التي ذُكِر فيها السبب والنتيجة في القصة.
والمقصود من هذه الخرافة هو محاولة تفسير رأس البقرة الذي تظهر به الإلهة «حتحور»، وثانيًا تأحيد «إزيس» و«حتحور». غير أن قصتنا لم تذكر لنا السبب؛ ولذلك حُذِف منها كل الجزء الخاص بإعادة الرأس بوساطة «تحوت».
وعندئذٍ قال «رع»: «لقد شوَّه ابن «إزيس» هذا بما اقترفته أمه بنفسها ضده. دع «سبك» (إله في صورة تمساح) يحضر إلينا من نهاية الماء لأجل أن يصطادهما لتتمكن أمه «إزيس» من إعادتهما إلى مكانهما (الأصلي).» ولسنا في حاجة للتعليق هنا على أوجه الشبه والاختلافات التي توجد بين الخرافتين.
أما الرواية القصيرة فتشتمل على ما يأتي: «إنك (تدفق) نطفتك في جسم العدو (أي «ست») حتى يحمل، وحتى يخرج ابنك (تحوت) من جبينه.» والفرق الوحيد الهام الذي نشاهده في رواية قصتنا هي العبارة التي تقول: إن قرصًا من الذهب خرج من جبين الإله «ست» لا الإله «تحوت» نفسه، وترى أن قرص الذهب يصبح مرتبطًا مباشَرَةً بالإله «تحوت» عندما يضعه على رأسه بمثابة حلية. ولا نزاع في أن الخرافة كانت خارقة لحد المعقول في نظر مؤلِّف قصتنا؛ إذ كيف يمكن أن يكون «تحوت» في وقت واحد محكِّمًا بين «حور» و«ست»، وابنًا «لست»؟! والظاهر أن هذه الخرافة كان يرمز بها للحرب بين النور والظلمة، أو الليل والنهار، أي بين «حور» و«ست»، وأن «حور» وهو النهار، تغلَّبَ على «ست» وهو الليل، وكانت نتيجة إتيان «حور» «لست» أنْ وُلِدَ الأخير القمر؛ ولذلك يُسمَّى ابن الإلهين، وقد شرحنا ذلك في درس القصة.
وكذلك يمثل لنا نفس الفكرة أسرة «أوزير» المصنوعة من الغرين الصالح للزراعة والقمح الذي كان يُوضَع عليها لينبت في القبور، وكذلك التماثيل التي كانت تصنع في عيد كيهك، وهو عيد إحياء «أوزير»، يضاف إلى ذلك ما جاء في «بلوتارخ» وغيره من كتَّاب اليونان مفسِّرًا لهذا الرأي (Plutarch De I side ch. 65.) على أن مظهر هذا الإله في هذه الصورة قد بحثه سير جيمس فريزر في كتابه: Sir james Frazer Osiris, Attis and Adonis Vol. 11 PP. 89 ff. وكذلك بحث في Journ. Egypt. Arch. II, 121–5 & A. Moret La mise au Mort du Dieu en Egypte.
وقد كان الرأي السائد في العصر الإغريقي الرومإني أن «إزيس» هي التي كشفت عن القمح، ولكن استعماله وزراعته يرجع الفضل فيهما إلى «أوزير». راجع Plutarch De Iside Ch. 31 & Diodorus Siculus I. 14.
«إن كل أقاربنا يرتاحون فيها منذ الأزل، وكذلك مَن سيولدون: (الملايين) منهم تلو (الملايين) سيأتون إليها جميعًا ولا يتباطأ أحد عنها في مصر، وليس هناك فرد واحد لا يقترب منها.» وكذلك في العصور المتأخرة نجد في قصة «خامواس» (Griffith. Stories of the High Priest of Memphis PP. 46–8) أن الموت قد مثلوا داخلين إلى الغرب (يمنتي) ليحاكمهم «أوزير»، فالشقي يدفع به إلى المارد المسمَّى «أما» (الملتهم)، أما الفاضل فإن مكانه بين الأبرار الذين يخدمون «أوزير».