زُربة اليمني
كم اشتقتُ إليك يا زُربة وأنا أكتب حياتك للعالم. قيل: إن في كل إنسان ملاكًا وشيطانًا، فلا يوجد أحدهما دون الآخر، لكن الشيطان فيك كان تحت وطأة الملاك. كُنت قويًّا، رحيمًا، مخلصًا، تحب الحياة وعملت لأجل الحياتين. كنت تعرف مصير يومك الأخير، ومَن هو قاتلك الذي أحببتَه كنفسك. كانت لك طاقات خلَّاقة لكنها هُدرت كما هُدرت عن غيرك، ولم تستطع أن تحقِّق ما تصبو إليه، فعشتَ في زمن يتوارث فيه الإنسان الهدر والقهر.
قريَتُك التي تعانق السماء في جبال الحُجرية، ما أجملها والسحب تحتضنها، في الصباح الباكر، وهي مُقبلة من جهة الجنوب كأنها مدرجات سماوية! يكاد المرء يفقد بوصلة توجهه وهي تعانق الجبال. بدأت قريتك من بضعة بيوت يسكنها الحُب والوئام، إلى أن صارت قرية كبيرة، وانتهى بها المطاف إلى عروش خاوية بعد أن هجرها سكانها إلى المُدن. لم يتبقَّ فيها إلا أسرتك وبضع أسر، في ظل عالم مادي طغى على صفاء ونقاء القرية.
كُنتَ طاحون قات كغيرك من الناس، لكنك كنت الأكثر إدمانًا فيهم. سألتك ذات مرة: كيف ستعيش يا زُربة لو مُنع القات من البلاد؟ فضحكتَ ضحكة هستيرية، وحين توقفتَ عن الضحك قلت لي: لا تحلم كثيرًا، مَن يحاول قلعَهُ سيُقلع هو أولًا. لقد تأخرتُ ثلاثين عامًا عن كتابة قصتك، بعد أن شقَّ كُلٌّ منا طريقه في الحياة. وجدت دُنياكَ وجنتك حول شجرة القات، وأنا هجرت مهنة الطب بعد أن أخلَّ الطبيب بقسَمِه العظيم، وذهبتُ لشحذ أقلامي لأكتب عن أوجاع الآخرين، وأبثَّ فيها وجعي أنا أيضًا. سأروي حياتك للناس من أول يوم بكيتَ فيها حقًّا، يوم أن عرفتَ بمقتل صديقك ناصر.