الظهيرة
ترتدي شمس الظهيرة زهوَ الشباب فتمنح العالم حبها الأكبر.
***
١
عَلِم المقاول عبد العزيز، في قرية الرُّجاع التي تبعد ساعة مشيًا من قرية القَرن أن زُربة في قريته، فأرسل رسولًا إليه ليخبره أن لديه عملًا لبناء دار في قرية شرار، لرجل يمتلك مزارع قات، وأخبره أن يصطحب عمالًا من قريته.
يفضِّل زُربة العملَ مع مُزارعي القات؛ لأنهم يوفرون عليه شراء القات وكرماء به، فاستجاب للمقاول واختار ثلاثة عمال من قريته هم: سالم الحطَّاب، ناجي أحمد المقشش وشمَّاس المُطين. وصلوا إلى موقع البناء فوقَ تلٍّ صغير، يطل على جنة القات كما يراه زُربة، الشجرة التي يقول عنها إنها أخرجت آدم من الجنة، وإن الله أنزلها مع آدم إلى الأرض؛ لهذا كان زُربة يؤكد لأصحابه أن آدم نزل في الحبشة، حيث يوجد هناك القات الهرري أجود أنواع القات في العالم؛ لهذا صدَّق كلام محمد مُدهش حين قال له: إن الإنسان وجد أولًا في الحبشة.
بدأ العمال يحفرون الأساس، وكان عمال آخرون قد نقلوا الحجارة سلفًا. ثم قاموا وقرها للبناء ويعدُّون حجارة الأركان، التي كانت الواحدة تأخذ يومًا ونصفًا في تشذيبها وتجهيزها. في التاسعة صباحًا وزَّع صاحب المزرعة القات على العمال، أخذوا نصف ساعة استراحة لمضغه، ثم عادوا إلى العمل وهم يردِّدون المهاجل الشعبية حتى صلاة الظهر. تناولوا غداءهم الذي لا يخلو من اللحم، ثم افترشوا التراب واتكئوا على الأحجار تحت ظل شجرة قريبة، وأخذوا يمضغون القات حتى الساعة الثانية بعد الظهر، ثم قاموا للعمل حتى الساعة الخامسة مساءً. تناولوا وجبة العشاء ثم جلسوا لمضغ بقية القات. أما زُربة فيمنحه المقاول حُزمة إضافية؛ لما يبذله من جهد كبير في العمل، حتى إن بعض العمال الكُسالى الذين ينقلون الحجارة والطين إليه يرفضون العمل معه؛ لأنه لا يسمح لهم بالذهاب إلى التبول مرارًا لمكرهم.
٢
في اليوم الثالث أعد المُطين شمَّاس كميةً كبيرةً من الطين؛ لخبرته في هذا المجال وكثيرًا ما كان زُربة يصحبه في عمله. هو رجل طويل ونحيف، قدماه عريضتان، تغرق ساقيه حتى منتصفهما في الطين. كانت معهما أربع نساء تنقل الأحجار الصغيرة، وكان سالم الحطاب يساعدهن بوضع الأحجار على رءوسهن وهن متكئات على رءوس أصابع أقدامهن. المضحك أن سالم لم يعتَدْ على لبس السروال الداخلي تحت مئزره المشدود بحزام عريض في مقدمته محفظة للنقود. كان حين يضع الحجارة على رءوس النساء يعلق طرف مئزره أحيانًا بين رأس المرأة والحجرة، فيتدلى أيره الطويل أمام عيون النساء فيحمر وجوههن خجلًا. اشترَتِ العاملات سروالًا داخليًّا لسالم، أخذه منهن وهو يشعر بالخجل، وراح يتذكر حين كان يتسلق الأشجار بخفة في القرية وفأسه بيده وبعض النساء يقفن تحته يجمعْنَ الأحطاب في حزم كبيرة، ولم يكن يعرف سر ضحكاتهن.
كان العمال يقضون جزءًا من الليل في مضغ القات ويتسلون بالفكاهة والفوازير والحكايات الشعبية، يعوِّضون ما ينقصهم من حرمان. لا يفكِّرون بشيء غير قوتهم ولباسهم وبيتٍ يأويهم مع أطفالهم، يكسبون من كدهم، ليس كما يفعل الذين يطوفون في فلك الدولة والارتزاق منها. كان زُربة يسرد لهم أحيانًا بعضًا من مقالب عمه قاسم التي اشتهر بها وكان يمكن أن تودي به إلى السجن لو أنهُ عملها اليوم. في هذه الليلة تناول ناجي المُقشش قاتًا قُطف للتو، فلم يُصغِ إلى زُربة وهو يروي أحد مقالب قاسم، كان يُحلق بعيدًا وهو يتسلق جبل «شوكة» الطرماح، حيث تسكنه القرود، التي لا تسمح لأحد أن يعلوَ قمته، فهي تنهال على المتسلقين بالحجارة.
– ها، كيف استقضوا؟
فجأة سمعوا المُقشش يصيح: القرود، القرود فوقنا اهربوا، ثم قام وخرج يجري من الغرفة وهو يصيح: القرود …
٣
ذات ليلة كان زُربة يحكي لهم حكاية أخرى من مقالب قاسم، قال وهو ينظر ببهجة إلى أغصان قاته الطرية ويمجُّ النارجيلة بهدوء، وينفخ الدخان في وجوههم: شَخبِّركم عن حكاية حدثت في سوق السبت.
٤
ضحك العمال على زُربة، وعند عودتهم إلى النوم ثانية، سمعوا صياحًا في القرية، قيل لهم إن السارق الأسود سرق راديو من نافذة الدور الثالث لأحد البيوت، وقد تكررت سرقاته ولم يستطيعوا إلقاء القبض عليه. عرف زُربة أنه عُبادة. انتهوا بعد أربعة أشهر من البناء ولم يبق إلا السطح، فأخذ سالم الحطَّاب يُشذِّب الأخشاب لوضعه على السطح وشماس يعد الطين ليكوِّن طينًا لازبًا حتى لا يتسرَّب المطر إلى الغرف، قام العمال ببسط الطين بعناية على السطح ثم وضعوا التراب الجاف عليه.
٥
انتقلوا من قرية شرار في بني يوسف لبناء دار جديدة في منطقة قريبة من عزلة الأحكوم، تقع في منتصف جبل مستطيل، على ضفاف واد كبير تنمو فيه أشجار البن والخضراوات. كانت الأحجار جاهزة للبناء، بينها أحجار مستطيلة كبيرة بحاجة إلى عامل قوي لنقلها، فبحث المقاول عن عامل من أبناء المنطقة ووجد رجلًا اسمه جمال محمد، قويًّا وطويل القامة.
في الليلة الثالثة، لم يكن زُربة يسرد الحكايات، كان جمال عمر يحكي حكايته هو. بقوا تلك الليلة مشدودين لسماعها، وأخذ جمال عمر يتحدث بوجه حزين. قال: كنت جنديًّا في معسكر الصاعقة، في سرية يقودها محمد مُدهش كان منتسبًا لحزب البَعث العربي الاشتراكي قُطر اليمن. كنا نمشي في الشارع ونحن نرتدي بدلة الصاعقة، نشعر أننا أبطال، والناس تنظر إلينا بهيبة واحترام. تدربنا تدريبًا قاسيًا على مختلف أنواع القتال والسلاح، كانت أصواتنا تخيف أنصار الملكيين أثناء التدريب. كانت فِرقنا تتوزع في كل الجبهات أثناء القتال لصد هجوم الملكيين على صنعاء؛ لشحذ همم الجنود الآخرين. كان النقيب عبد الرقيب عبد الوهاب يطوف على كل الجبهات باستمرار ينادينا بالوحوش، فتشتد عزيمتنا أكثر. كانت الإمبريالية العالمية تظن أننا لن نصد هجوم الملكيين على صنعاء، بخطتهم اللعينة المسماة «الجنادل» التي وضعها الجنرال «كواندا» الذي كان يعمل مسئول المخابرات الأمريكية في الجزيرة العربية، هو ومساعده المرتزق بوب دينار. أثناء القتال انسحبت السفارات الأجنبية؛ ما عدا: روسيا، الصين، سوريا، الجزائر وهرب الكثير من المسئولين اليمنيين إلى الخارج؛ خوفًا من أن يحدث لهم كما حدث لقيادات الثورة الدستورية عام (١٩٤٨م). كانت الطائرات ميج ١٧ الروسية الصنع، التي تقلع ليلًا من مطار الحديدة وتقصف مواقع الرجعيين تشد من عزيمتنا، وأخافهم أيضًا الجسر الجوي الروسي، الذي كان بمعدل ١٨ طائرة في اليوم إلى مطار الحديدة، من أسلحة ومعدَّات حربية وقاذفات اليوشن.
حك سالم الحطاب رأسه وسأله فجأةً: ما تحُس بالذنب من القتل؟
– في المعركة لا يشعر الجندي بالذنب على قتل الخصوم، فهو يجرِّدهم من إنسانيتهم ويراهم هدفًا يجب التخلص منه وينال مكافأة على ذلك، كالمُحققين في المعتقلات الذين يقومون بتعذيب المعتقلين؛ لنزع الاعترافات منهم. لكنني حين كنت أمرُّ أمام جُثثهم المبعثرة، كنتُ أشعر بالحزن، فبعضهم كان يقاتل من أجل قوته، وليس مثلنا من أجل حماية الثورة وبناء الوطن، وفي الأخير كلنا نحن يمنيُّون. بعد أن دحرنا الملكيين وعملاءهم الرجعيين عن صنعاء، وهزيمتهم في منطقة حضور، بقيادة إبراهيم محمد الحمدي، عاد الكثير من المسئولين الذين في الخارج، يحتفلون بالنصر وحدث الاختلاف بين اليمين واليسار، وتمترس كُلٌّ في معسكره وجُرحتُ أثناء قتالنا فيما بيننا نحن الثوار …
كان عمر يتحدث بحماس ويداه تعبِّران عن الغضب، أما زُربة فكان يحشو فمه بالقات مُحلِّقًا فوق السحاب على بساط القات، يشاهد صنعاء بعينيه وجلس فوق جبل نُقم، شاهد مناظر غريبة، كأنه في كابوس مرعب: غربانًا، نسورًا، صقورًا بأحجام كبيرة لها أياد بشرية، تُحلق فوق سماء صنعاء، ونافورة حمراء من الدم وسط بحيرة من الدماء. كانت تلك النافورة ترتفع إلى عنان السماء، والطيور الجارحة تحوم حولها وتضحك كالإنسان، ثم شاهد أناسًا يخوضون في الدم ويرقصون على أطراف البحيرة رقصة الحرب. كانت أرجلهم تطول حتى صاروا عمالقة. انتشروا في كل مكان وحين مر أحدهم فوقه وهو على جبل نُقم تبوَّل عليه. أخذ زُربة يمسح رأسه وكتفه، فاستغرب الحاضرون في السهرة من فعلته. لعن زُربة الشيطان وعاد يستمع إلى جمال عمر وهو يقول: استمر القتال بين الفريقين خمسة أيام من ١٨ إلى ٢٢ أغسطس (١٩٦٨م)، قُصف معسكر الصاعقة ومدرسة سلاح المشاة وسلاح المدرعات … وكان القتلى بالآلاف من ضمنهم النقيب محمد فرحان قائد سلاح المشاة، قُتل وهو على سطح مقر قيادة سلاح المشاة، وانتصر اليمين الثوري علينا وانضم الكثير إليهم من الذين كانوا يقفون مع الملكيين، بعد إعلان توبتهم وغفران عما سلف عن وقوفهم مع الملكيين. هرب البعض منا إلى خارج الوطن، والبعض عمل في الزراعة والسواقة والبناء، وأخيرًا التحق الكثير منا في صفوف الجبهة الوطنية.
ذهب العمال إلى النوم وهم في قهر إلى ما مضت إليه الثورة. كان زُربة يعتمد على العامل جمال في نقل الأحجار المستطيلة الكبيرة تلك التي توضع على سطوح النوافذ، يرفعها رجلان شديدان فوق ظهره، كان المقاول عبد العزيز يُعطيه أجرةً زيادة عن الآخرين، ليس لذلك الأمر فقط؛ بل لشعوره أنه رفيق دربه في الكفاح؛ فقد كان المقاول جنديًّا سابقًا وهو الآن متخفٍّ عن النظام منذ عودته من ليبيا، حين ذهبوا إلى هناك باسم اليمن ليساهموا في تحرير فلسطين بعد نكسة (١٩٦٧م). حاول زُربة أن يذهب إلى زوجته ليلة الخميس، ويعود ليلة السبت، لكن أصدقاءه العمال والمقاول أقنعوه بالعدول عن رأيه، ووعده بحزمتين قات واثنين بواري مداع حتى الصباح. أعجب زُربة بعرضهم وجلس يحدث نفسه «اصبر يا زُبي إلى الخميس الثاني، لا تحرمني من القات الشراري».
٦
في صباح الجمعة، التقى المقاول عبد العزيز مع الضابط جمال وجلسا معًا. سأله ما لم يستطع أن يسأله أمام الغير، عن انتمائه السري للجبهة الوطنية. أسند جمال ظهره على حجرة وكان عابس الوجه، شابك كفَّيه تحت رأسه، وحكى عن انضمامه مع الجبهة. قال: كانت تحركاتنا تحدث ليلًا في القُرى المنقسمة بين مؤيد للجبهة ورجال السُّلطة ومؤيد للإخوان المسلمين المدعومين من مشايخ القبائل، كان بعض الفلاحين يزودوننا بالمعلومات والطعام. قاتلنا بشراسة وحين اشتد الصراع في المناطق الوسطى من البلاد، أثناء حكومة القاضي عبد الله الحجري، زرعنا الألغام للسيطرة على الأرض. كنا نباغتهم من حيث لا يعلمون، وكبدنا السُّلطة خسائر كثيرة. كانت هناك طلائع كثيرة من الشباب المُغرَّر بهم من قِبل السلطة التي تزج بهم في المعارك. كانوا يقاتلوننا دون معرفة بقتال العصابات، ويعتقدون أنهم يقاتلون في سبيل الله. كنا نرثي لحالهم وجثثهم ملقاة في العراء. أما الآن فكما ترى أنا هنا في القرية، بعد أن هدأت المواجهات وتراجع النشاط المسلح لفصائل اليسار، في فترة الرئيس إبراهيم الحمدي. تزوَّجت وفضَّلت أن أعيشَ حياة يكتنفها الحب، بدلًا عن تلك الحياة التي كان يطغى عليها الكراهية. لديَّ الآن ثلاثة أطفال. المضحك أن أسماءنا ما زالت تنزل في كشوفات الرواتب، لا ندري من يستلمها.
ثم راح يهمس إلى المقاول: زُربة هذا أراه طيبًا وأخشى أن يخفي أمرًا ما، فالطيبة هذه كنا نشاهدها في وجوه الفلاحين، الذين كانوا يعملون جواسيس معنا، أراه غير مهتم بمصلحة البلاد، يرى الصراع على السلطة صراع مصالح لا غير. يقول إنه صديق محمد مُدهش المنتسب لحزب البعث، الذين انضموا إلى اليمين المنتصر؛ ليحظوا بنصيبهم من السلطة.
ضحك عبد العزيز وقال: هذا هو زُربة، يرى جنته في الدنيا: قات، لحم، حلاوة، مداعة. لا يهمه من يحكم الوطن، يحلم أن يتزوج الأرامل اللاتي لديهن أطفال. يقول «إنه يعمل خيرًا معهن ومع أولادهن». وأنت تعرف أننا في حالة حروب مستمرة في البلاد.
استمر زُربة يعمل في مناطق عدة من الحُجرية مع المقاول عبد العزيز، يتنقَّلون من منطقة إلى أخرى: بني حمَّاد، قَدس، … حين كان يعمل في منطقة بني يوسف، عرف أن اللص عُبادة، قد سرق خيل الشيخ طربوش، وذهب به إلى سوق الثلاثاء ليبيعه. شاهده بعض الناس وكانوا يظنون أنه عَبْد الشيخ طربوش. وفي السوق عرف البعض أن الخيل يخص الشيخ والعبد ليس عبد الشيخ. وحاولوا الإمساك به لكنه هرب من بين أيديهم.
٧
عاد زُربة والحطَّاب إلى القرية في بداية موسم الزراعة، واشترى أثناء العودة عشر حُزم قات وعشرة كيلو حلاوة. فاجأهم المطر الغزير وهم في منطقة الزبيرة، فجلسا في جُرف صغير على جانب الطريق يمضغان القات ويشاهدان هطول المطر الغزير. شاهد زُربةُ الحطابَ وهو يتزحزح من مكانه قليلًا إلى الأعلى، ثم أخذ يسعل بقوة، فضربه على ظهره؛ ليخرج رذاذ القات العالق في قصبته الهوائية. قال الحطاب بعد أن توقَّف عن السعال وقد فتح عينيه على اتساعهما: تخيَّلتُ يا زُربة، سيل الوادي طِلع وأغرقنا.
جلس زُربة يمسح الأتربة عن الأوراق ويمضغها، ثم راحا يفتشان عن نقودهما ويُجفِّفانها. وبعد نصف ساعة حمل زُربة صاحبه على ظهره، ومن حُسن حظِّه أن الحطَّاب كان خفيفًا، فانطلق يصعد به طريقًا وعرًا نحو قريتهما. مرَّا على قُرى عدة صادفا فيها الكثير من الأهالي، سألوا زُربة إن كان بحاجة إلى مساعدة، فقال لهم: الحطَّاب وزنه مثل حُزمة حطب شحمله لمَّا الراهدة. وهي مدينة تبعد ست ساعات مشيًا من قريته.
٨
تناقل أهل القرية عودة زُربة وهو يحمل الحطاب على ظهره، فأقبلوا إلى دار الحطاب أولًا ليروا ما جرى له، وجدوه يرتجف من البرد تحت البطانية، ثم ذهبوا إلى زُربة ليسهروا معه. وجدوا القات على أرضية الغرفة في منظر أبهجهم، بعد أن نظفه من الأتربة العالقة فيه. أخبرهم زُربة ما حدث لهما مع السيل، فضحكوا وهو يصف لهم ذلك المشهد، فحمدوا الله على نجاتهما. جلسوا يمضغون القات، ويتحدثون فيما بينهم، ثم راحوا ينصتون لحديث منصور النحَّال عن الكابوس الذي أرعبه الليلة الماضية لم يمضغ فيها القات. رأى في منامه أنه كان يمشي في جبل عصران وحيدًا، فظهر له فجأة رجل عملاق، وقبض على رقبته. حاول منصور أن يفلت منه فلم يقدر فاستنجد، لكن صوته لم يخرج من فمه، قذف به العملاق من قمة الجبل، وظل يهوي في الجو وقبل أن يرتطم على الأرض قام من نومه يلهث وهو يرتجف من الفزع.
منذ تلك الليلة أصبح المداح يعاني من البواسير، وكان يهرب من النوم مع زوجته زهرة متذرعًا بمعاناته.
٩
هكذا كان زُربة يقاوم المرض بالقات واللحم والحلاوة والمداعة. شعاره في الحياة «القات واللحمة حياتي والمداعة راحتي». استيقظ قبل الفجر يتحسَّس زوجته، فعرف أنها ذهبت تجلب الماء من وادي الرُّجيمة، مع نساء القرية. يبعد الوادي عن القرية أربع ساعات ذَهابًا وإيابًا؛ خوفًا من السِّباع يذهبن معًا بعد منتصف الليل، ويعُدن قبل طلوع الشمس. هكذا تبقى المرأة في الريف تعمل منذ الفجر حتى العِشاء كالنحل، لا يرتحن إلا أثناء النوم.
عادت صفية من الوادي فأفرغت نصف الماء لبقرتها، والنصف الآخر ليغتسل به زُربة، وذهبت تعد وجبة الإفطار من الخبز والبيض. حينما ذهبت لتحضر البيضَ الذي أحضرتْه مريم، لم تجد إلا القشور. عرفت أن زُربة قد شربهن دفعة واحدة، خمس عشرة بيضة؛ ليعالج نفسه من البرد حسب زعمه. لم تندهش، فهي تعرف أنه أكل نصف تيسٍ اليوم الماضي، وتذكرتْ حين أكل اثنين كيلو ونصف من الحلاوة مرة واحدة، وذات يوم التهم سبع علب أناناس، ومضغ عشر حُزم كبيرة من القات حين وصل ليلًا هو ووالده يحملان القات ليبيعاه يوم عيد الأضحى. أشرقت الشمس وقد أتيا على معظمه، لم يبقَ منه إلا كمية قليلة ليوم العيد، وتذكرت ذات يوم أنه ازدرد نصف كيلو حلاوة أثناء مضغه للقات وهو يقول: ربي خلق جهتين للفم؛ جهة للقات وجهة للحلاوة ههههه.
١٠
اجتمعت نساء القرية في دار سالم الحطاب بعد الظهر، يمضغن القات ويدخن المداعة. تحدثن بأمور نسائية شتى وحول زُربة وقوته وشجاعته، وكيف استطاع حمل الحطاب على ظهره كل هذه المسافة، وصعد جبلًا يقدر ارتفاعه بأكثر من اثنين كيلو. سلمى بنت عُثمان التي كانت تحلم بزُربة زوجًا لها، لم تسمع حديثهن وضحكاتهن. كانت تُحلق بعيدًا مع زُربة وهي تقفز من النافذة والتقفها بيديه والجو يكسوه الضباب. حملها على ظهره كما حمل الحطاب، وصعد بها قمة الجبل المطل على القرية. أحسَّت بزُربة تحتها يتصبب عرقًا وشعرت بسخونته وارتفعت حرارتهما معًا واشتعلت النيران في جسديهما. وراحا يضحكان على تلك النار التي كانت بردًا وسلامًا عليهما وهما يحسان بالأرض تهتز تحتهما. كانت أحلام اليقظة تراودها حين تسمع شيئًا عن زُربة.
مرض سالم الحطَّاب بالحمى، أخذتْ زوجته مريم ثلاث خيوط طويلة. قبض الحطاب بيده على الخيوط لمدة خمس دقائق ثم هرولت إلى طرف القرية. جلست هناك تنتظر هبوب الرياح لترمي بالخيوط. هكذا كان أهل القرية يعتقدون أن هذه الطريقة تشفي المريض من الحمى، إذا أخذ الريح الخيوط بعيدًا ستذهب الحمى عن المريض. لكن حظ مريم كان سيئًا فلم تهب الرياح، وبقي زوجها أسبوعًا يعاني من الحمى.
ماتت «فنون» الزوجة الثانية لعاقل القرية، بعد معاناة طويلة من ألم في الرأس، كان هذا بعد مضي ثلاث سنوات من موت زوجته الأولى لول؛ بسبب ورم في الأحشاء. أمطرت السماء بغزارة بعد دفنها واستبشر الأهالي لها بالرحمة، وراحوا يتذكرون سنة موت سعد محمد من قرية نجاد، حين توقف المطر عن الهطول طوال الموسم بعد دفنه، فظنوا أنهم لم يضعوه في اتجاه القِبلة؛ فالسماء لن تمطر وهو مستلق على ظهره ووجهه نحو السماء، فذهبوا ينبشون قبره بعد أربعة أشهر من دفنه. لم يجدوه كما كانوا يظنون، وجدوا هيكله على هيئة جلوس والكفن مطويًّا بشكل كرة على رأسه، مما يدل على أنه كان حين دفنوه في حالة غيبوبة، وحين صحا منها حاول رفع أحجار القبر. زعم بعض الأهالي المجاورين من المقبرة، أنهم سمعوا صياحًا داخل قبر سعد بعد دفنه، وظنوا أن الملائكة تعذبه، فقد كان يُغيِّر حدود حقول جيرانه لصالحه. أما الجدة بهجة أم عبده راجح، كانت تصحو في منتصف الليل أحيانًا، وتدعو ربها أن يعيد ابنها الوحيد عبده راجح الغائب عنها منذ عشرين عامًا. قالت إنها شاهدت في منتصف الليل سلسلة حديد حمراء مثل الجمر، تنزل من السماء فوق المقبرة بعد دفن سعد محمد.
أقيم لزوجة العاقل عزاء لمدة ثلاثة أيام، وذبح الجزار مقبل الدسم بقرة، بعد أن تأكدت نُعم جدة زُربة أنها لا تحمل حملًا في بطنها. حضر الكثير من سكان القرى المجاورة، بعد أن سمعوا التهليل في ذكر الله ليلًا. أكلوا اللحم والقات ودخنوا المداعة كأنه مولد للولي ابن علوان.
١١
تذكَّر زُربة ما حدث قبل خمس سنوات، وقتها لم تمطر السماء إلا بعد أن طلع الأهالي قمة جبل شوكة يستمطرون ويتضرعون بالدعاء إلى الله، ينشدون معًا:
وكان معهم الدجَّال عبده الواسع، يفتش عن «رسمة» وهي ورقة سحرية لمنع المطر، توضع تلك الورقة في علبة رصاصة فارغة، وتغلق بإحكام ثم ترمى في أعلى قمة في المنطقة. وقد اتضح بعد زمن بأنه هو الذي كان يقوم بفعل ذلك ليحصل على المال. كان يدَّعي أنه يوحِّد القلوب ويفرِّقها ويجلب الرزق للمرء، فإذا أراد شخصٌ أن يفتح دكانًا يكتب له ورقة سحرية يضعها في باب الدكان، وإذا أراد أحد أن يطرد شخصًا من القرية، يعمل له ورقة ويخبره أن يضعها في الباب الخارج لدار خصمه. يدَّعي أن الجن يساعدونه في عمله وهذا ما جعل الناس تخشاه.
شاهد زُربة حقوله وقد اعتنت بها صفية قبل الحرث، ذهب يُراقب المحراث فوجده بحاجة إلى شحذ، أخذه إلى عند الحداد في سوق الصافح لشحذه. خرج أهل القرية بأثوارهم وأبقارهم لحرث الأرض قبل شروق الشمس، حمل زُربة محراثه على ظهره وخرج إلى حقوله البعيدة وزوجته خلفه تحمل البذور، وتبعهما والده وهو يهجل:
قبل أن يبدأ زُربة بجر المحراث على ظهره، التهم نصف كيلو حلاوة، ثم ثبَّت المحراث جيدًا على كتفيه، وأخذ يجرُّه بخفَّة ووالده يقبض بعصا المحراث، وزوجته ترمي البذور خلفهما. كان زُربة يجر المحراث وهو ينظر أحيانًا إلى حُسن ابنة سعيد فارع، أجمل فتاة في القرية، كانت تحرث بالقرب منهم فوق بقرتهم وأمها خلفها ترمي البذور. ظل زُربة وأبوه يتنقلان من حقل إلى حقل بخفة حتى التاسعة صباحًا. جلسوا يأخذون قسطًا من الراحة لمدة نصف ساعة لمضغ القات. كان يشاهد حُسن وهي تحرث بعمل متقن كالرجال. مروا على قرية ذارع التي في الجبل المقابل لقريتهم، وهي خاوية على عروشها، سخروا من أهلها الذين تركوا حقولهم وتفرقوا في المدن والقرى، على الرغم من أن القرية كانت أكبر قرية في المنطقة. تلك السُّخرية انتقلت فيما بعد إلى قرية القَرن، وقرى أخرى كثيرة في المنطقة. عاد زُربة وأبوه وزوجته ظهرًا إلى البيت؛ لتناول الغداء وأخذوا قسطًا من الراحة لمضغ القات حتى الثانية ظهرًا، ثم خرجوا مرةً أخرى إلى الحقول القريبة. شاهد زُربة سالم الحطَّاب وهو يحرث على ثوره وخلفه زوجته ترمي البذور، وكذلك شاهد عمته سعيدة تحرث على بقرتها وبنتها ترمي البذار خلفها. وسمع الحطاب وهو يدندن:
١٢
كانت السماء تمطر كل يوم، والحقول تنضح ماءها من حقل إلى حقل، والجداول تنهمر شلالات من الجبال، وهدير سيل شوكة يدوِّي في الوادي، اكتست الجبال والمراعي بحُلة خضراء. والعصافير تلتقط حشرات الشظوية التي تخرج من بيوتها تحت الأرض بعد المطر، وكثير من سكان القرى يحبون أكلها مقلية. والراعية العجوز حسناء تعود باكرًا من المرعى الوحيد في القرية. بدأت النساء المرحلة الأولى من العناية بالزرع وهي «الفَقح». يبقين الأفضل منه وينزعن الآخر لأبقارهن. هي فطرة لدى الفلاح كاختياره لأفضل الحبوب بذورًا للسنة المُقبلة، وهو لا يعرف الانتخاب الطبيعي، البقاء للأفضل، تلك النظرية التي عرفها الفلاح قبل أن يعرفها دارون وماندل.
كان زُربة يقوم ببناء غرفة لسعيد حيدر مقابل حُزمة من القات ودجاجة لغدائه، أو بيضًا لعشائه. حين انتهى من البناء كانت فرحة سعيد كبيرة، لولا تلك الصخرة التي انزلقت من الجبل أثناء المطر، ودكَّت في طريقها عشرة جدران من حقوله، أخذ سعيد يندب حظه ويلوم نفسه على سُخريته من المطر، حين كان ذات يوم يشاهد مزنًا يصب ماءه أسفل جبل قريتهم وظل يمطر هناك، حينها وصف سعيد المطر بالعاجز على صعود الجبل. اجتمع أهل القرية وأعادوا بناء ما دكته الصخرة. هكذا كان أهل القرى يُعيدون بناء ما يهدمه المطر من الحقول أولًا بأول ويستصلحون حقولًا جديدة.
استغل الوطواط وجود زُربة في القرية وتوفر المياه، فدعاه هو وبعض الأهالي لمساعدته في بناء غرفتين فوق سطح بيته. كان القات الذي يوزِّعه لا يكفي زُربة، وكذلك لحم الدجاج، فكان زُربة يُعوِّض نفسه بالحلاوة. الشيء الذي لم يُعجب زُربة هو أن ناجي المقشش، كان ينقل الحجارة ويدندن:
رد زُربة عليه:
غَضِبَ ناجي المقشش ولم يعد ينقل الحجارة إلى زُربة، وذهب إلى بيته، فتوقَّف العمل يومًا كاملًا. حينما سمع قاسم بهذه الحادثة، صعد سقف داره في المساء يدندن:
بدأ الموسم الدراسيُّ وذهب فتيان القرية إلى المدرسة، وكذلك أبناء زُربة: نصرة وجميلة ونجيب. تلك المدرسة التي درس هو فيها إلى صف أول ثانوي. كان أبوه يشجعه على تناول القات في صغره، كغيره من الآباء الذين يرون أن القات يُشكِّل الرجولة باكرًا في الفتيان، فاعتاد زُربة على المزيد من القات، ولم يجد طلبه إلا بالكسب من العمل؛ فترك الدراسة.
١٣
التهب حلق ابنته نصرة وذهب بها إلى الجدة نعيم، قامت بفحص اللوزتين فوجدت الوقت غير مناسب لإزالتها، وأخبرته أن يعود بعد يومين، فهي ماهرة في نزع اللوز بظفرها، تغسل يدها بالماء المالح جيدًا قبل أن تقوم بعملها، ثم تنصح الأطفال بالغرغرة بالماء المالح و«شب الفؤاد» ملح الأمونيا القابض للأوعية الدموية. كانت تقدم تلك الخدمة مجانًا، كمريم زوجة سالم الحطَّاب، تقوم بخلع الأسنان اللبنية للأطفال وكذا تخلع الضروس للكبار حين تؤلمهم، ثم تضع الملح مكان الضرس المخلوع. كان لديها أداة قلع الأسنان حصلت عليها من عاقل القرية، وكان هو يوفر محاليل المُجارحة للقرية.
بدأت المرحلة الثانية من مراحل العناية بالزرع، وهي «النقوة» التي يتم فيها تقليب التربة بالمحافر اليدوية ليشرب الزرع أثناء المطر، يقوم بها الرجال فقط، ومن كان لديه حقولٌ كثيرة يستأجر العمال للقيام بهذه بالمهمة. ذهب زُربة والوطواط وعشرة فلاحين للعمل في أرض الجزار مقبل الدسم. اصطفَّ الفلاحون في الحقل صفًّا واحدًا جنبًا إلى جنب، وهم منحنون وفي أيديهم المحاريث يقلِّبون التربة حول الزرع لشرب الزرع بسهولة، يشدُّون عزمهم بالمهاجل الشعبية بصوت موحِّد. لا يقفون عن العمل إلا في نهاية الحقل، فكان الوطواط يتعمَّد البقاء بجوار زُربة، ليساعده بحفر ما يُترك له من الحرث. وقفوا ظهرًا يتناولون وجبة غداء دسمة ثم أخذوا استراحة لمضغ القات، وعادوا للعمل والسُّحب تتراكم في السماء وبعد فترة قصيرة بدأ رذاذ المطر بالهطول عليهم، فوقف الوطواط عن العمل ووقف إلى جانبه بعض العمال. اعترض مُقبل على وقوفهم فالمطر ليس غزيرًا. كان زُربة يضحك ويقول لنفسه: «أينما وجِد الوطواط وجِدت الفتنة». استمر العمل رغم تبرم الوطواط حتى الخامسة مساءً.
كان زُربة يقضي سهرته أحيانًا في بيت المداح المتواضع، تبعد قليلًا عن بيته بجوار الطريق العام. يحب السهر مع المداح لطيبته وظرفه، على الرغم من تجاوزه الخامسة والستين من العمر؛ لهذا كان زُربة يشتري القات لهما الاثنين أحيانًا. كان يمازحه بسؤاله عن سعر الرطل المعجون (مقوٍّ جنسي) فزوجة المداح الأخيرة زهرة ما زالت في ريعان الشباب، بيضاء، جميلة، تصغره بأربعين عامًا، أنجبت له ست بنات وولدًا واحدًا، ولولا يدُها المبتورة ما كانت ستقبل به. أما زوجته الأولى وردة أنجبت له ستةً من الأولاد وبنتًا. هي امرأة سمراء نحيفة من لا يعرفها يظنها من المهمشين. كانت نجاة تفتخر أنها أمُّ الرجال، وضُرتها زُهرة أم البنات. ذات يومٍ سمع زُربة وردة وهي تغني أمام زهرة:
ردت عليها زُهرة بغنج:
كان المداح يُشجع زهرة على وردة التي أحيانًا تلعنهما معًا، وتستقوي بأولادها. ذات يوم قرأ المداح مستقبل زُربة من خلال كتابه، وأخبره أنه سوف يتزوج خمس نساء، لم يصدقه زُربة حينها وراح يضحك من كلامه. كان للمداح عمل خفي لا يعلمه أهل القرية، وهو إعداد الطعام لأفراد الجبهة الوطنية، الذين يمرون أحيانًا بعد منتصف الليل بجوار بيته، يحضرون معهم تيسًا ليطبخه وقد كمَّموا فمه برباط. كان يُكلِّف زوجتَه وردة بالقيام بذلك ولا يسمح لزهرة بالظهور أمامهم.
١٤
بدأت المرحلة الثالثة من العناية بالزرع قبل ظهور السنابل وهي «الجَلَب». أخذ زُربة يجر المحراث على ظهره، بينما كانت زوجتُه صفيةُ تُمسك بعصا المحراث. راءهما الوطواط فأقبل إليهما وتحدَّى زُربة بجر المحراث إذا حرث هو عليه. قَبِل زُربة التحدِّيَ وأخذ الوطواط يغرس المحراث بقوة في التربة فزاد زُربة من سرعته بالتقدم للأمام وهو يقول: أقدر أجرُّك أنت والمحراث. وقف الوطواط فوق المحراث وصفية تمسك بعصا المحراث. حضر عبده راجح وكان الوطواط يقف على المحراث وزُربة يجره بسهولة. ضحك وقال لصفية: والله، يا صفية معك ثور، ما شاء الله. مثل الحراثات التي رأيتها في الحبشة.
كان عبده راجح جنديًّا مع إيطاليا، في الحبشة لمدة عشرين عامًا، حارب معها في الحرب العالمية الثانية، تقول أمه بهجة إن ليلة القدر ظهرت لها، ودعت حينها أن يعود ابنها من غُربته، ولكنها لم تنس أن تقرأ مولدًا للولي أحمد بن علوان. فقد استنجدت به مرارًا أن يُعيد ابنها كالأهالي الذين يطلبون قضاء مطالبهم من الأولياء، ويقدِّمون لأضرحتهم النذور: سمنًا وبيضًا وموالد أحيانًا.
أقبل عيد الأضحى وكانت الفرحة فرحتين فرحتهم بجمع غِلال حصادهم وفرحة العيد. دعا العاقل أهل القرية لحضور عرس ابنه عادل من زعفران ابنة خاله على محمد التي كانت تكبره بسنتين. أحضر العاقل الأخدام (المُهمشين) من قرية الهجر، كان الرجال يقومون بضرب الطبول والنساء بالدفوف. أُحضرت العروس وجلست بجوار عريسها في الديوان بين الحاضرين من أهالي القرية رجالًا ونساءً يمضغون القات ويدخنون المداعة. بدأت خادمتان بضرب دفيهما فقام والد زُربة يرقص برفقة زوجة سعيد عبده، رقصة تسمى «زُبيرية». رقصا معًا حتى قام ناجي المقشش يرقص مع علوم زوجة عبد القوي. ظل كل رجل وامرأة يرقصان معًا، حتى ذهب العريس مع عروسه إلى خلوتهما ليلًا. مثل هذه العادات لم يعد لها وجود بسبب الفكر المتطرف الذي يمنع الاختلاط. حين حضرت والدة العروسة اليوم الثالث إلى بيت العريس للضيافة، عرفت أن ابنتها فاطمة ما زالت عذراء لأن عادل كان مجبرًا على الزواج بابنة خاله، فلم يَنَمْ بجانبها حتى يوم الضيافة ثم أجبر بعد ذلك.
ذات يوم كان زُربة عائدًا إلى البيت من قرية نجاد وهو يحمل القات، واثنين كيلو حلاوة اشتراها من دكان مُقبل الذي فتحه أخيرًا بجوار الطاحون الذي اشتراه من عدن. نُقل الطاحون من عدن على سيارة عبر الوادي إلى منطقة قريبة من الجبل حيث تقع قرية نجاد على قمته. ثم حمله عشرة رجال صاعدين به الجبل في طريق وعر. كان زُربة خلال الطريق يلتهم الحلاوة، ولمَّا وصل إلى باب داره لم يتبقَّ منها إلا قطعة صغيرة لا تكفي لأولاده فأكلها. كانت زوجته تُخفي الحلاوة أحيانًا في مكان خفي، وحين تذهب لتأخذ منها لأولادها لا تجد منها شيئًا والنمل يحومُ حول المكان، فيضحك معها ويزعم بأن النمل أكلها، ويندب حظه كيف أن الحشرات أكلَتْ أربعة كيلو حلاوة خلال أسبوع، لكن زوجته عرفت أنه كان يقوم ليلًا ليأكلها.
١٥
عاد زُربة إلى صنعاء وقد حملت صفية بطفلٍ جديد، أسماه منير وهو في بطن أمه، وتراكمَت الديون عليه للجزار مُقبل وابنه حَسن قيمة اللحم والقات والحلاوة. في يوم اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، كان في حي القاع مع الوطواط، في دكان ثابت ناجي وكان حاضرًا معهم محمد مُدهش وسعيد النجار. بمجرد أن سمع الوطواط بمقتل الحمدي، سافر خوفًا من وقوع حرب في صنعاء، فيكفيه ما شاهده في أحداث أغسطس (١٩٦٨م). تلك الأحداث الدامية التي شكَّلت عنده عُقدة نفسية.
تحدث زُربة مع محمد مُدهش عن لقائه صدفة بجمال عمر الحكيمي، أحد الجنود الذين كانوا تحت إمرته، خلال حصار صنعاء. قال محمد بأسف بالغ: أعرفه، لقد دافعنا معًا عن الثورة. ثم ذهب الاثنان واشتريا قارورة شراب. أثناء تناولها أخبره محمد مُدهش أنه عضو في التنظيم السري للجبهة الوطنية.
نام ثابت ناجي تلك الليلة عنده في الدكان، وفي منتصف الليل كاد يموت من كابوس مرعب شلَّ تنفسه، لو لم يوقظْه زُربة.
١٦
شيَّع جنازةَ الحمدي عشراتُ الآلاف من الناس، لكن زُربة لم يخرج معهم صباحًا وبقي في دكانه بعد الظُّهر يمضغ قاته، فهو يرى أن الساعين إلى السلطة يمضون إلى حتفهم. وبينما هو غارق في أحلامه الوردية رغم الأحداث، عاد محمد مُدهش حافيًا من تشييع الجنازة فوصف هيبة الجنازة وشبَّهها بجنازة الرئيس جمال عبد الناصر، وأنه رمى بحذائه الجديد مع الذين رموا بأحذيتهم، على المتهم بقتل الحمدي.
ذات مساء وهما يستمعان إلى الراديو، وقارورة الشراب أمامهما، سمعا أن ثلاثة جنود سقطوا شهداء في منطقة التُّربة من محافظة تعز، وهم يتتبعون القائد عبد الله عبد العالم، عضو مجلس قيادة الثورة، بعد فراره ببعض جنوده إلى قريته وتحصنه بها، بعد تولي كرسي الرئاسة أحمد الغشمي. قال زُربة وهما يشربان الخمر: شُهداء، شُهداء … يا أخي كيف هذا الخبر؟ الجندي يُقاتل أخوه لمَّا يموت يسمُّوه شهيد. تقول كلامي صحيح وإلا أنا سكراااااااان؟
– أقول لك ما فيش حاجة اسمها شهييييد، في حاجة اسمها بطل عظيم، ضحى من أجل الغير، يعتنوا بأهله وأطفاله، ويكتبوا اسمه في التاريخ.
حينها قال مُدهش مندهشًا: من أين أتيت بهذه الفلسفة يا زُربة؟! الخمر لعبت بعقلك، كيف تنكر كلمة شهيد نحن مسلمون يا زُربة. لا يجوز أن تنكر كلمة شهيد. يمكن تقول إن السياسيين استغلوا هذا المبدأ لصالحهم، وضحى الآخرون لأجلهم، وهم يظنون أن تضحيتهم في سبيل الله. لا، يا زُربة كيف سنقاتل أعداء الوطن بغير هذه المبدأ.
ذات مساء جلس مُدهش يتحدَّث بإسهاب مع زُربة عن السياسة واغتيال الحمدي، وكان يظن أن زُربة يستمع إليه، لكن زُربة كان في عالم القات. يرى نفسه قد تزوج امرأة صنعانية، والناس حوله تزفُّه وهو يجلس على كرسيٍّ في الشارع يحمل على كتفِه سيفًا ذهبي اللون ويتحزم بجنبية ومُسدس، وحين دخل على زوجته بعدته وقد شغفه اللقاء، سمع مُدهش يقول: أين عقلك يا زُربة!
انتبه زُربة إليه وهو يبتسم مما كان يحلم به في يقظته.
١٧
قُتل الرئيس أحمد الغشمي بعد بضعة أشهر من توليه الرئاسة، ثم ترأس بعده علي عبد الله صالح فارتفعت الأجرة اليومية لعامل البناء إلى عشرين ريالًا وشعر البعض أن الاستقرار السياسي قادم. لكن ما حدث هو العكس؛ ففي منتصف ليلة الخامس عشر من أكتوبر (١٩٧٨م)، سمع زُربة وهو في دكانه طلقات نارية كثيفة في بعض أحياء صنعاء، استمرَّت حتى آخر الليل، عرف أن تلك الاشتباكات من أجل السلطة وفي مساء اليوم الثاني عرف أن انقلابًا وقف وراءه التنظيم الناصري وأُعدم قادته فيما بعد.
استمر زُربة يعمل في صنعاء، فحركة التطور العمراني والنشاط التجاري فيها كانت نشيطةً، وتهافت الكثيرون من سكان الأرياف إليها، فتوسَّعت المدينة بشكل غير متوقع، على الرغم من عودة نشاط الجبهة الوطنية إلى ما كانت عليه قبل فترة رئاسة إبراهيم الحمدي. ذات يوم قابل محمد مُدهش زُربة وكان غاضبًا، بعد ارتفاع سعر قارورة الخمر إلى أربعة أضعاف عن سعرها السابق، فراح يشتم الإخوان المسلمين في اليمن، بعد أن شدَّدوا على تداول الخمر. جلس يحدِّث زُربة عن حرب محتملة بين شمال الوطن وجنوبه. قال: النظام السياسي في الجنوب يستعدُّ للحرب ضد النظام هنا؛ لمساعدتنا في التسريع بإسقاطه.
اشتعلت الحرب بعد ذلك في الثالث والعشرين من فبراير (١٩٧٩م) وتكبَّد جيش الشمال هزيمةً كبرى، وازداد نشاط الجبهة الوطنية فتدخَّلت القبيلة ودعت إلى الجهاد واشتركوا في الحرب ضد الجبهة. في تلك الفترة والحرب مشتعلة في المناطق الوسطى من البلاد، لم يعُد زُربة يشاهد محمد مُدهش، اختفى فاعتقد أن الأمن قبض عليه بذريعة مكافحة عناصر الجبهة وجواسيسها، حتى إن الأمن قبض على قاسم عم زُربة في صنعاء، حين شكُّوا به عند جلوسه يتبول ليلًا بجوار سجن الرادع في التحرير، فذهب زُربة إلى قسم شرطة جمال جميل وأخرج عمه بكفالة تاجر معروف …
١٨
فقد كان من السائد عند الأهالي في منطقة الحُجرية، أن أي شخص يطلق لحيته فجأة يظنون أنه أصيب بحالة نفسية أو بالجنون، ففي تلك الفترة كانت هذه المنطقة مناهضة لحركة الإخوان المسلمين.
– نعم، ترقيت، لكنِّي فضَّلت الدعوة إلى دين الله.
بقي زُربة يتتبع كغيره تفاقم المعارك، وخاصة في صيف عام (١٩٨٠م) في منطقة خُبان محافظة إب، بين مقاتلي الجبهة الوطنية من جهة، وأنصار الإخوان المسلمين والجيش من جهة ثانية، وإسناد قيادة الإخوان إلى أشخاص ينتمون إلى نفس المناطق التي فيها المواجهات. كان محمد مُدهش يغيب عن المسجد أيامًا، فيسأل زُربة نفسه: «ترى هل يقاتل مع أصدقاء اليوم ضد أصدقاء الأمس؟ وهل حصل على لقب شيخ بعد إعلان المشايخ انضمامهم إلى جانب فرق الجبهة الإسلامية، التي أدت إلى تسريع هزيمة الجبهة الوطنية؟»
كان زُربة يرى أن السياسة لعبة قذرة، خصوصًا بعد أن رأى نديمه وصديقه الذي علَّمه أشياء كثيرة عمَّا يدور في البلاد، قد تلوَّن بلون آخر. شعر زُربة كغيره بارتياح كبير، حين انتهى الحوار بين الرئيس علي عبد الله صالح وممثلي الجبهة الوطنية، إلى بحث مشاركة الجبهة في إدارة البلاد، ووافق الرئيس على ضم عناصر من الجبهة في الحكومة، على ألَّا يأخذ ذلك طابع التمثيل الرسمي للجبهة. لم يأتِ منتصف يونيو (١٩٨٢م) إلا وقد انتهت الحرب بين الحكومة والجبهة الوطنية، التي حصدت آلاف الأرواح على مدى خمس سنوات، وهي المدة الزمنية نفسها التي دارت فيها الحرب بعد ثورة (١٩٦٢م) بين الملكيين والجمهوريين.
– خرج عمي بسرعة، أما نعمان لم يقدر وضَرَبنُه النسوان، ضَرْب كلب دخل مسجد هههههه.
١٩
كان زُربة يقوم ببناء الدور الثالث في بيت العقيد المتقاعد علي الحرازي الكائن في حي باب شعوب، تعرَّف على أخته نادية، التي استشهد زوجها وهو يقاتل في المناطق الوسطى ضد الجبهة الوطنية مخلفًا وراءه ثلاثة أطفال. بعد أن توطدت علاقته بأخيها طلبها للزواج وحين عرف الأخ ظروف زُربة أخبره أن مصاريف أخته لا تهم؛ فهي تسكن عنده ولديها راتب زوجها الشهيد، وهذا ما يبحث عنه زُربة، امرأة تصرف على نفسها. كان يشاهد صهره يلبس البدلة العسكرية حين يود أن ينهي أعماله بنجاح في الدوائر الحكومية، وهذا ما شجع زُربة أيضًا على مصاهرته. لم تكن نادية جميلة كغيرها من بنات حراز، لكن حُبها له عوضه عن جمالها. وجدته نادية رجلًا قويًّا، جيدًا في الفراش. كان يقضي سهراته الليلية عندها، بعد أن انعزل عن أصدقائه القدامى، كما انعزل عنهم محمد مُدهش سابقًا، كُلٌّ ذهبَ يفتش عن رغباته في الحياة. ووجدتْه هي أفضل من زوجها الراحل، فزُربة لا يشتمها ولا يضربها، وفيه الكثير من الحنان ورجل ضحوك، حتى إنها تعلمت الكثير من لهجته وحدثته بها.