الزوال
تخلع الشمس زهوَ الشباب عند الزوال وقد أعطَتْ للعالم حُبًّا عظيمًا.
***
١
حضر أصدقاؤه لزيارته من ضمنهم ناصر المسحور ثم انضم إليهم والد زُربة، بعد عودته من زيارة عاقل القرية صالح، المصاب بالسرطان، وهم يُخفُون عنه هذا المرض. لم يعجبهم مذاق القات، فقد كان فيما مضى خاليًا من المواد الكيماوية. تحدَّثوا عن قلة الأمطار في السنين الأخيرة، وعن الأهالي الذين تركوا حقولهم وانتقلوا إلى المُدن. كان زُربة ينظر إلى ناصر المسحور بين وقت وآخر فوجده يحدِّث نفسه، عَلِم أنه في لحظة جنونية وزَّع ماله على المتسوقين وهو يضحك في دكانه في شارع الشنيني في مدينة تعز. كان يقول بجنون: فلوسي وأنا حُر فيها …
ومن يومها هاجر علي الدحَّان هو وعائلته إلى مدينة القاعدة وعاش هناك. وفعلًا اكتشف أحد الرعاة اثنين بنادق كندا وراديو … في كهف صغير بالقرب من بيت على الدحَّان. انصرف الحاضرون من بيت زُربة، وهم يشعرون بالغثيان، تقيَّأ بعضهم في الطريق؛ فقد كان القات الذي أحضره زُربة مرشوشًا بمواد كيماوية أصابهم بالإسهال. راحوا يتندمون على قات زمان.
سخن المداح الدف فوق جمر بوري المداعة، وبدأ بالنقر عليه وراح يترنَّم بالشعر حتى نادته زوجته زهرة، تخبره أن ابنته نصيرة مُصابة بالحمى. عاد زُربة إلى بيته يكمل سهرته مع صفية. أما المداح فقد وجد ابنته نائمة ولا تعاني من شيء. وصل زُربة بيته ومضَّى وقتًا مع صفية في مضغ القات وتدخين المداعة. ثم ذهبا سويًّا إلى الفراش وعند لحظة التحرُّر من الزمان والمكان والجسد، نطق زُربة سهوًا باسم نادية ثم اضطجع بجوارها وهو يتصبب عرقًا. لكن صفية لم تنتبه لما قاله.
٢
توفي صالح محمد عاقل القرية، وأقيم له عزاء كبير، شارك زُربة في خدمة المُعزين الذين أتوا من قرى مجاورة. ذبح الجزار مقبل الدسم ثور العاقل للعزاء، وبقي صادق العردان بجواره يراقبه خوفًا من أن يخفي بعض اللحم لكنه قطَّع اللحم إلى قطع كبيرة، ثم قام العردان بطبخ نصف الثور لمأدبة العشاء في اليوم الأول، وزُربة يتذوق اللحم من القدور، لهذا طالت فترة التذوق، إلى أن تذوق حوالي اثنين كيلو. اختنق المسحور بعد تناوله قطعة كبيرة من اللحم، وبعد أن نجا من حتفه لعن الجزار واتهمه أنه لم يُجِد الذبح. كان زُربة يقوم بتوزيع القات على الحاضرين والوطواط يُقدِّم القهوة ويراقب زُربة بفضول وهو يوزع القات. همس الوطواط للبعض: والله، زُربة ظلَمك … يعطي أصحابه أكثر.
كانت صلصلة مدقَّات القات الحديدية ترن في الديوان من قبل أصحاب الأفواه الخاوية من الأسنان، يهرسونه إلى أن يصير نُثارة خضراء، ثم يتناولونه بالملاعق. استمر العزاء لمدة ثلاثة أيام شبع فيها الحاضرون من الرجال والفتيان من اللحم، أما النساء فيقدمن الماء والصابون.
٣
حين حدثت أحداث الثالث عشر من يناير (١٩٨٦م) وخيَّمت أدخنة الموت فوق سماء جنوب الوطن ودخان الموت يتصاعد من المدينة، كان زُربة في قريته يستمع إلى دويِّ المدافع التي استمرَّت لمدة عشرة أيام، ويشاهد أثناء الليل أضواء القذائف في سماء عدن، وأُعلن فيها عن موت الرفيق عبد الفتاح إسماعيل. تندَّر زُربة وأصحابه على هروب الرئيس علي ناصر إلى صنعاء، بعد أن هُزم في المعركة وهو الذي خطط لها للانفراد بالسلطة.
جلس ذات يومٍ على سطح داره يُشاهد الحقول التي لم يعُد أهالي القرية يهتمُّون بها كثيرًا، كما كانوا يفعلون من قبل ويتباهون بها؛ بسبب قلة الأمطار واستيراد القمح من الخارج. لم يَطُلِ التغيير للأرض فقط، بل والعادات والتقاليد كذلك؛ فقد انتقلت عادات المدينة إلى القرى. تلاشت براءة الأهالي، لم تعد النساء تحرث الأرض على أبقارهن، والفتيات منذ سن العاشرة يرتدين البالطو الأسود مع الخِمار حين يخرجن من بيوتهن.
التقى زُربة بالمقاول عبد العزيز في سوق القات، فعانقه ودعاه للعمل معه. سأله زُربة عن الجندي جمال عمر الحكيمي، رد عبد العزيز: ما زِلتَ تذكرهُ يا زُربة! اختفى من زمان ما يعرفوش له أثر بعد سفره إلى عدن مثل غيره يهجرون أسرهم، ما يعودوش إلا بعد سنين، يجلسون شهورًا ثم يعودون للهجرة مرة أخرى. قالوا إنُّه قُتل في أحداث يناير عام (١٩٨٦م).
مضَّى زُربة فترة قصيرة في القرية ثم عاد إلى صنعاء. لم تكن نادية تشعر بالغيرة من صفية، كان يُلاحظ كيف تستقبله بالبهجة والسرور، تغسل قدميه بالماء الساخن عند وصوله وتجفِّفهما. يفتتن بكلامها العذب وجسمها الرقيق، وأناملها الفاتنة، تلك الأنامل التي لا يراها عند صفية. كان يشعر أنه امتلك أنثى حقيقية.
٤
كانت سهراتهما حافلةً بالأنس والمرح، يحكي لها حكايات ومقالب عمه قاسم. كان له أسلوبٌ مشوقٌ في السرد يجعل المستمع يعيش الحكاية، يبدأ بالضحك أولًا قبل الحكاية. حكى لها عن عمه حين اغترب هو وأصحابه من اليمنيين في الخليج العربي للبحث عن عمل، بقي هناك خمسة أشهر دون عمل وقد كان هو وأصحابه يفكرون بالعودة، يندبون حظَّهم العاثر وخسارتهم.
وأخذ يحكي لها حكاية عمه وهو في الجزيرة مع الباكستانيين والأفغان والهنود وغيرهم، الذين كانوا معجبين به لطيبته وفكاهته. كان قبل أن يُعرض فيلمٌ سينمائيٌّ في المساء، يصعد قاسم إلى منصة العرض أمام الجمهور، يُغني المهاجل والأهازيج اليمنية ويحكي الطرائف. كانوا يضحكون دون أن يفهموه. بعد عرض الفيلم كانت الشركة تُخصِّص أربع عُلب بيرة لكل عامل. في أحد الليالي كان أصدقاء قاسم من حوله بحاجة للمزيد، فقال لهم: ما رأيكم لو أزيدكم أربع عُلب بيرة زيادة على حِصتكُم؟
تحدوه أن يفعل. وضع قاسم عمامته الشبيهة بعمامة الهنود، وذهب إلى موزِّع البيرة «كشور» يطلب منه بيرة مرة أخرى. قال الموزِّع: يا كاسم، أنت واحد معروف عندنا. أنت استلمت حِصَّة قبل قليل.
فضحك قاسم وقال له: أنا كنت أوَّل ما في عِمامة هندي، والآن معي عمامة، أنا واحد ثاني. فضحك كشور وأعطاه أربع علب أخرى، وقال له: هذي حِصة حقي أنا، خُذها أنت عربي تمام، تحب كُل الناس، ما في غرور.
٥
ذات يوم رأى زُربةُ صِهرَه علي الحرازي يضرب زوجته، وقد شاهده مرارًا يشتمها بأبشع السِّباب، فحاول زُربة أن يوفِّق بينهما، لكن صِهرَه قال له غاضبًا: المرأة لا تشعر برجولتك إذا لم تذلها. كلام أذهل زُربة فتذكر أمه حين ذهبت غاضبة من أبيه بعد سبة بسيطة، وحين ذهبت زوجة الحطاب غاضبة من أمر بسيط، ولو أن أحدًا في قريته ضرب زوجته يحقُّ لها طلب الطلاق. سأل نادية: كيف يُسمح للزوج بضرب زوجته؟ وجدها مستسلمة لهذا الأمر، حيث قالت: تأديب الزوجة من قبل الزوج موجود في القرآن. على الرغم من ثقافة زُربة البسيطة إلا أنه كان أكثرَ وعيًا والتصاقًا بالفطرة الإنسانية. وجد زربةُ أن الكثير من الناس يفهمون القرآن بطُرق مختلفة. يفكر هل التفسير القديم للقرآن يناسب كل زمان ومكان؟ أم يتغير بتغير ثقافة الشعوب. لعن إبليس الذي يوسوس أشياء كثيرة، ثم ذهب إلى فراش نادية، راءها تفاحة تفوح مسكًا وراح يقضمها، يقضمها … لا ينقص منها شيئًا، حتى شعر بذاته تتلاشى في الوجود.
٦
يوم إعلان قيام الوحدة اليمنية، كان زُربةُ يمضغ القاتَ مع صهره علي في صنعاء. كان ذلك اليوم أسعد أيام حياته. لكن ما سمعه من صهره بخصوص الوحدة أغضبه حين قال: لماذا لا تنضم دولة الجنوب إلى دولة الشمال «الجمهورية العربية اليمنية»، هم شويت هنود، صومال، أخدام …؟
لم يفهم زُربة معنى ما وراء ذلك الكلام إلا حين اكتسحت قوات الشمال جنوب اليمن بعد الوحدة في صيف (١٩٩٤م). نزل زُربة للعمل في عدن، كغيره من العمال والتجار وبياعي القات الذين تدفقوا إلى هناك بالآلاف. شاهد المدينة عكس ما وصفها أبوه وجده؛ فقد قيل له: إنها كانت مدينة جميلة. فتح محمد سالم الحطاب بوفيه، وفتح ثابت ابن الوطواط ورشة نجارة، وسمير ناجي المُقشش عمل نجارًا، وصادق العردان فتح مطعمًا، وهناك من فتح الدكاكين من قرية نجاد. تحوَّلت عدن إلى خلية نحل نشطة بعد أن كانت مدينة تعاني من الركود. وجد زُربة عملًا في ورشة كبيرة لصاحبها محمد علي العريقي، في منطقة الشيخ عثمان. هذا الاسم الذي كان يظنه بعض أبناء القبائل الشمالية بأنه شيخ قبيلة كمشايخهم؛ فقد كان رجال القبائل في حرب (١٩٧٢م) بين الشمال والجنوب، يحلفون بأنهم سينتفون شنب الشيخ عثمان ويسحبونه إلى صنعاء. عمل زُربة حارسًا في مخزن الورشة، فوجده عملًا أسهل من عناء حمل أحجار البناء. تدفق القات من الشمال إلى الجنوب بكميات هائلة، بعد أن كان تداوله يوم الخميس والجمعة فقط. كان زُربة يمضغ القات منذ الصباح الباكر، ويُرسل إلى زوجته صفية وأطفالهما السبعة مصروفًا شهريًّا، أما زوجته نادية فراتب زوجها الشهيد يكفيها، ويحمد ربَّه أنها لم تحمل منه.
٧
ولأن زُربة لا يسمح لنفسه بخيانة زوجتيه ولا يريد أن يقع في الزنى؛ تزوج سميرة التي لم تكلفه إلا اليسير، بعد أن عرفت ظروفه المادية، وما يتحملُه من نفقات أطفاله السبعة، لكنها لم تعرف عن زوجته نادية. سكن زُربة معها في منزل زوجها الشهيد، في صباح اليوم التالي أبعدت صورة زوجها من الحائط، لكن زُربة لم يوافق على تصرُّفها؛ فقد رأى أن عملها هذا سيترك جرحًا في أطفالها، أكبرُهم سالم في الخامسة عشرة من عمره. كان زُربة يشتري القات واللحم فتعد هي مائدة شهية لا يجدها عند زوجتيه صفية ونادية. وجدته سميرة يُلبِّي رغبتها في الفراش. اعترفت له أنها لم تجد هذه المتعة مع زوجها السابق، الذي كان له علاقات مع نساء غيرها، وقد كشفته يومًا حين عادت من عملها باكرًا وهو يخونها مع إحداهن. لم تستطع ردعه، فلم يكن هناك في عدن عقوبة الزنى في ذلك الوقت. كانت حين تستلم راتبها أو راتب زوجها الشهيد، تشتري لزُربة أحسن أنواع القات والحلاوة. كانت سُمية جارتها العجوز تشاركهم أحيانًا جلستهم، تدخن النارجيلة مع سميرة، يراها زُربة كوالدته. حدثته سُمية عن مشاهدتها لحرب استقلال الجنوب من بريطانيا، وأخبرته أن المرحوم زوجها الأول من شمال الوطن منطقة الأعبوس، كان عضوا في جبهة التحرير. مات إثر الصدامات بين جبهتي التحرير والقومية.
٨
عرف الوطواط ذات مساء أن زُربة تزوج امرأة عدنية، لم يجرؤ ساعتها على الذهاب إلى بيت صفية ليلًا، فانتظر حتى الصباح وذهب باكرًا لكنها سبقته بالذهاب إلى الحقول لجلب الحشائش لبقرتها، فبقي ينتظرها في الطريق، وسبَّب له طول الانتظار حُرقة في المعدة. ندبت صفية حظَّها وشمرت ساعديها في إصلاح حقولها.
ذات يوم اشترى زُربة ثلاث حُزم قات سامعي؛ ليسهر مع سميرة ليلة الخميس وقدمت هي النارجيلة مع المُعسِّل البحريني الممتاز. في البدء كان يضحك من النارجيلة القزم لتعوده على تدخين مداعة طولها متر ونصف وبوري كبير عليه الكثير من الجمر والتبغ، يبقى لمدة ساعتين، لكنه وجد النارجيلة أفضل من المداعة. في تلك الليلة حدثته عما شاهدته في أحداث الثالث عشر من يناير (١٩٨٦م) الدامية وعن زوجها الذي كان ضابطًا مع قوات علي ناصر محمد. كانت تتحدث وزُربة يبكي، ترى ذلك تعاطفًا معها، فأحبته أكثر وشكرته على إحساسه النبيل وتعاطفه معها. والحقيقة المضحكة أن زُربة لم يكن يبكي مما جرى لزوجها أو لما جرى للمتناحرين على السلطة، فهو يرى أن الذين يتقاتلون على السلطة لصوصٌ وسفَّاكو دماء أينما كانوا، لكن القات السامعي هو الذي ذكَّره بذكريات حزينة حدثت له قبل خمس سنوات، ويمكن لهذا النوع من القات أن يؤدي إلى الانتحار أحيانًا، إذا كان مُتعاطيه يشعر بالكآبة مسبقًا. تلك الليلة متعته سميرة كثيرًا في الفراش على تعاطفه معها، ذهبا معًا إلى الفراش وهما يمضغان القات. استلقى زُربة على ظهره، فاعتلته سميرة كهرة نشبت أظافرها فيه. ومن هناك راحت تنظر إلى باريس، لندن، موسكو … ثم عادا يكملان سهرتهما وهما يستمعان لمحمد مرشد ناجي أغنية «عَلَى ام سيري على ام سيري» ويستعدان للفراش مرة أخرى …
كان زُربة يتنقل بين صنعاء والقرية ويعود إلى عدن، مقر عمله الأخير. يقارن بين زوجاته الصنعانية والعدنية، والقروية. كان يرى في الصنعانية الحنان والرقة، تجيد طبخ السلتة والملوج والحُلبة، ويفتقد هذا الحنان عند زوجتيه العدنية والقروية، وتتميَّز العدنية ببخورها وطبخ الزُّربيان والعَقْدة والسمك، وأصناف الحلوى. أما زوجته صفية فيجلها كثيرًا؛ لأنها أُم أولاده، لكنه لا يجدها تُضاهي العدنية والصنعانية لا في مائدتها ولا في الفراش. كان يخبر سميرة أنه بحاجة إلى بخور حين يسافر إلى القرية، فتعد له بخورًا جيدًا، ليس حبًّا بضُرتها صفية؛ بل لكي يذكُرها هي حين يشم البخور وهو بجوار صفية، لكن زُربة كان يأخذه إلى نادية لإعجابها بالبخور العدني، أما صفية فقد اعتاد على رائحتها منذ سبعة عشر عامًا.
ذات يوم أخذت سميرة بدلة من بدلات زوجها الشهيد، وقامت بتعديلها على مقاس زُربة فلبسها وذهب يقابل أصحابه، كانت هذه أول مرة في حياته يلبس بدلة. كان زُربة كلما استخدم شيئًا يخص زوجها السابق دعا له بالرحمة: «الله يرحمك يا حيدر، قدَّمت روحك من أجل الآخرين». وكان عبد المجيد صاحب الورشة يتذمر من زُربة حين يحضر إلى العمل ببدلته الأنيقة، ورائحته الزكية، كأنه مدير أو صاحب شركة؛ لهذا توقَّف زُربة عن الذهاب إلى عمله بالبدلة، وحين يسافر إلى القرية لا يرتديها؛ لشعوره أنه لن يكون زُربة بدون مئزره وعمامته وثوبه وحزامه الأخضر العريض.
٩
كانت سميرة تحدثه عن الوحدة اليمنية التي لم تُحقق لهم ما كانوا يحلمون به، وعن اغتيالات كوادر الحزب الاشتراكي، وكيف أن الكثير من التنفيذيين الشماليين تنهب الأراضي في عدن وضواحيها. ذات مساء وهما يمضغان القات قالت له: الناس في الجنوب تشتي الانفصال.
– غير معقول، نِحن شعب واحد. الوحدة ما لهاش أربع سنين. عاد نحن نريد العرب يتوحَّدوا.
– وأنا أطلع معهم ههههه؟
رد المهمش بأسًى: تَهدَّم.
– بنيتُ جسر في باب المندب يربط بين قارة آسيا وأفريقيا.
– مُمتاز، كيف تهدَّم؟
– ما قدرتش باخرة إمبريالية تَمُر من تحته، وهي ترفع العلم وضربت الجسر بالمدفع.
ضحك زُربة؛ فغضب المُهمَّش وراح يشتم الإمبريالية، والرجعية والدحابشة وقال: قريبًا بانخرجكم من بلادنا يا دحابشة.
يوم أن قامت الحرب بين شريكي الوحدة، المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي، كان زُربة في صنعاء مع نادية وقد عطَّرت الغُرفة ببخور سميرة، حينها أخبرته بما سمعته من أخيها عن الحشد الشعبي الكبير من قبل المشايخ والتجار، وحزب الإصلاح، وعن فتاوى الجهاد لمُحاربة الاشتراكيين لترسيخ الوحدة، وعلم كذلك أن صديق كأسه القديم محمد مُدهش، يخطب في أحد مساجد مدينة تعز حيث استقر أخيرًا هناك، يحث الناس على المشاركة في محاربة المرتدين عن الوحدة، ويخبرهم أن الفُرقة لا يرضى بها الإسلام، وعرف مؤخرًا أن محمد مُدهش كان ضمن القادة الذين جنَّدوا الكثير من المُجاهدين اليمنيين لأفغانستان. قارن زُربة كلام مُدهش الجديد بكلامه السابق، فقد كان يخبره أن الإخوان عملاء مع الإمبريالية ويقول له: «إن الشعب مقهور على أمره ويعاني من هدر فكره وطاقاته لمصلحة الحكام؛ ليظل يدور في حلقة مفرغة يبحث عن لقمة العيش فقط وهم يعبثون بثروات البلاد».
شاهد زُربة نهب بعض منازل ومقرات الحزب الاشتراكي في صنعاء، وأسهم إعلان نائب الرئيس علي سالم البيض الانفصال في سرعة هزيمة الحزب الاشتراكي. شعر زُربة بقلق على مصير زوجته سميرة، فبيتها على خط المواجهات في الشيخ عثمان، فراح يُكثر من تناول القات كعادته حين يكون حزينًا. سمع أثناء الحرب عن تضحيات القوات الشمالية، التي اشترك فيها العائدون من أفغانستان، فكانوا يخوضون الحرب ببسالةٍ باحثين عن الشهادة في سبيل الله. أما زُربة بإحساسه الفطري، كان يرى أن الموت للشعب والنصر للقائد.
١٠
انتهت الحرب الشرسة بين الإخوة الأعداء، التي استمرَّت مائة يوم تقريبًا، هُزم فيها جيش الحزب الاشتراكي.
– يا عمة أين سميرة؟
ضحك ابنها سالم وقال له: نحن نحبك يا عمِّي …
شاهد زُربة سيارة طقم عسكري شمالي تقف في الشارع بالقرب من الورشة، عليها بعض الجنود وهم يمضغون القات. خرج زُربة إليهم حافٍ وسألهم من أين اشتروا القات، حين عرفوا أنه شمالي ابتسم قائد الطقم وقال: لا يوجد بائع قات هنا هذه الأيام، ثم أعطاه حُزمة قات «حرامي». ابتسم زُربة وشكره على كرمه بهذا النوع الممتاز، وعرف أن القات الحرامي يوزَّع على جميع الجنود الشماليين، فهذا النوع من القات يجعلهم يقظين، ويُشعرهم بالتعالي. رجع زُربة إلى الورشة سعيدًا. ضحك الحارس وقال: أمانة إنك تيس ابن تيس، قدرت تُخرِّج منهم قات.
مضغ زُربة القات وهو يشعر بالجوع وأعطى قليلًا منه للحارسِ الذي احتفظَ بحصته لمضغه بعد الغداء ثم ذهب يطبخ أرزًا لا غير. قدَّم الحارس الغداء فأخرج زُربةُ نُثارة القات من فمه، وربطها في قرطاس بلاستيكي ليعيد مضغها مرة أخرى بعد الغداء. لم يستطع زُربة البقاء أكثر من ثلاثة أيام في الشيخ عثمان وهو يتسوَّل القات من الجُند؛ فقرر العودة.
١١
عند عودته على سيارة خاصة تويوتا مع خمسة من رجال القوافل المساعدة الشعبية كانوا يتحدثون بغضب عن العسكر، يتهمونهم باللصوص فقد أخذوا منهم المعونة التي أحضروها معهم، ولم يسمحوا لهم بالدخول إلى عدن لإيصالها إلى المتضررين بأنفسهم كالقوافل التي دخلت قبلهم. كانوا يشتمون ويلعنون … وصل زُربة إلى مدينة الراهدة وذهب إلى سوق القات، فقابل خالد ثابت العامري أحد معارفه. اشترى الحلاوة من دكان علي سعيد، ثم ذهبا يمضغانِ القات سويًّا بجوار شاحنة درهم. حدَّق زربة في عجلات الشاحنة فرأى دمًا ملتصقًا بها. سأل درهم: من أين هذا الدم؟
– هذا دم بشر.
قام زُربة ينظر إلى أرضية الشاحنة، فشاهد دمًا متيبسًا. أخبره درهم أنهم أجبروه على نقل الموتى، وكان بينهم أشخاص على قيد الحياة جروحهم خطيرة. دمعت عين درهم وهو يتذكر أنين الجرحى، وفجأة ابتسم وقال: كان هناك شخص ملتحٍ، يردد «أين العين المرضية …» إلى أن مات. قالوا لي فيما بعد إنها اسم لحورية عين في الجنة.
١٢
رد زُربة: مَو علوك فضالة، شنزور أهلها.
كانت المسافة بعيدة إلى بيت أبيها، فحمل معها الشنطة وولده حمدي الذي كان يمشي رويدًا، كان يقول لها ضاحكًا: لنا مُدة طويلة ما نزورش أهلك. اشتقنا لهم.
جلس زُربة في الديوان. ضحك وقال: يا عمة نِحنَ اليوم ضيوف عِندك.
ذهبت صفية تنام مع طفليها في الغرفة التي كانت تنام فيها أثناء طفولتها. تذكَّرت حين جاء والد زُربة يخطبها وكيف كانت تتنصت من خلف الباب. كانت تود مشاهدة خطيبها قبل أن يعقد بها أبوها، لكنها العادات لا تسمح وكذلك الخاطب لا يُسمح له بمشاهدة خطيبته. تم زفافها على زُربة في يوم خطبتها ولم تنم تلك الليلة إلا في بيت والد زُربة، حينها تعرَّف زُربة عليها، وهي جالسة بجانبه أمام الحاضرين من الرجال والنساء. بعد أن دفع لها مالًا لتكشف عن وجهها كما تقتضي العادات.
١٣
عاد زُربة اليوم الثاني ظهرًا مع زوجته يحملان طفليهما، وقد أشاع الوطواط أن زُربة طلَّق صفية وأوصلها بنفسه إلى دار أهلها. أخذت النساء يعاتبْنَ فِعلة زُربة بحق صفية ويشتمن الرجال لعدم وفائهم لزوجاتهم كما يفعلن هُن. الأكثر قسوة أن بعض الأزواج كانوا يرون أن «الزوجة فردة حذاء، إن لم تكن على مقاس قدمك استبدل غيرها»، لكن هذه النظرة غير الإنسانية ذهبت أدراج الرياح. حين عرف أهل القرية الحقيقة راحوا يلومون الوطواط على كذبه. غضب زُربة منه وذهب إلى عمه قاسم؛ لتدبير مقلب ضد الوطواط، فذهب قاسم وزُربة صباحًا إلى سوق نجاد، وأشاعا في السوق أن الوطواط في هذه الليلة سيقرأ مولدًا للولي أحمد ابن علوان، وقد أعد ثورًا للمولد وجلب القات الشراري. توافد العديد من الناس قبل غروب الشمس إلى بيت الوطواط، ينتظرون متى سيُقدم العشاء الدسم. كان الوطواط يرحب بهم دون أن يعرف لماذا أتى هذا الكم من الناس لزيارته دفعة واحدة. سأله أحدهم: أين العشاء يا وطواط، الناس تنتظر؟
– سمعنا في السوق.
١٤
حملوه إلى بيته وهو يتألَّم. حضر عثمانُ فعرف أن هناك كسرًا في أحد أضلاعه. أحضروا نعشًا وحملوه إلى طريق السيارات وذهبوا به إلى مدينة تعز للعلاج، وباع ناجي حقلين من حقولِه إلى الجزار مُقبل الدسم تكلفة علاجه. كان أصحابُ قرية نجاد أناسًا طيبين، يقرضون أهالي قرية القرن المال، مقابل رهن حقولهم لديهم التي بدأت تنتقل إلى قرية نجاد. كان زُربة أكثرَ المديونين لمقبل الدسم، حق القات واللحم.
حين يكون زُربة في مدينة تعز، يُصلِّي صلاةَ الجُمعة في مسجد … الذي يخطب فيه محمد مُدهش. لاحظ المسجد يغوص بالمصلِّين، فالتحوُّل الأيديولوجي الذي حدث في المدينة ونواحيها كان كبيرًا، وهي التي كانت إلى ما قبل الثمانينات من القرن العشرين تناصر الأحزاب التقدُّمية في البلاد. كان نشاطُ السلفيين في المناطق الشمالية من البلاد كصعدة، ودماج … يقابله نشاط للإخوان المسلمين في تعز وإب وعدة مدن أخرى؛ حتى إنهم حققوا فوزًا كبيرًا في الانتخابات البرلمانية على جميع الأحزاب الأخرى في تعز، شيء لم يتوقعه أحد من الناس. حين كان زُربة يقابل محمد مُدهش في المسجد، يقابله بفتور. عرف زُربة أنه أصبح مديرًا لمعهد تدريب تقني وقد تزوج بالزوجة الثالثة؛ ليُطبق السُّنة كما يراها.
وهو في شارع المسبح التقى زُربة بصديق صباه سعيد السلفي مصادفة، كان سعيد أحد أهالي قرية عامر القريبة من قرية القَرن يسير برفقته فَتَيان. أتى من صعدة حيث يعمل مدرسًا في مدرسة دار الحديث في دماج، ويعيش مع أطفاله هناك، في حي كبير يضم معظم الدارسين في المدرسة وعائلاتهم. أخبره سعيد أنه أتى يُحضر طلابًا راغبين في الدراسة في مدرسة دار الحديث، وسيعود بخمسة طلاب هذه المرة. كان سعيد مستعجلًا في أمره فودعا بعضهما وذهب كلٌّ في طريقه.
١٥
قاول زُربة في بناء مسجد في قرية الحباترة، وكانت هذه أولَ مرة يعقد صفقة مربحة له، ثم أخذ بعد ذلك يبني مساجد في أماكن عدة على نفقة جمعية خيريَّة إماراتية تُقدم مساعدات في بناء المساجد، ومدارس تحفيظ القرآن، وكان هناك منظمات دولية أخرى تقوم بتمويل شق الطرقات التي تفرعت إلى قُرى كثيرة وسهَّلت حركة المواطنين.
انتشرت زراعة القات وتعددت أنواعه ومصادره على حساب الأراضي الزراعية، وحُفرت له الآبار ليسقوا جذوره التي لا ترتوي. أصبح زُربة وغيره من المواطنين يمضغون القات من مختلف الأنواع: سامعي، يوسفي، شرو، صعفاني، جدة، جندي، ضالعي، مريسي، صهباني، سحولي، عنسي، أرحبي، همداني، ضلاعي، صوطي، صعدي، عصري، حيمي، نهمي، مطري، حرازي ظراسي، صبري، جوفي، شامي …
ازداد دخل زُربة المادي فكان يمضغ القات الغالي الثمن، ويشتري لحم الضأن والحلاوة الجيدة، والتبغ الجيد ويفكر بزوجة جديدة، يفضل أن تكون أرملة لديها أطفال، فلديه تسعة أولاد، بعد أن ولدت له زوجته صفية أخيرًا توأمًا؛ سُمية وسامي.
ذات مساء والجو حار وزُربة يمضغ القات بجوار صفية، كان صوت المداعة يعلو في المكان، والعرق يتصبب من جبينه. كانت يده اليمنى على ركبته تحرِّك عودًا طويلًا من القات. رأى نفسه يقف بين الأهالي يطلب منهم أن يوقِّعوا له على طلب من الدولة ليكون شيخهم وتعهد للأهالي بالمطالبة بمشاريع تخدم القرية. ثم رأى نفسه يأخذ الموافقة من الدولة بسهولة، فأصدرت له بطاقة شيخ، وزودتْه براتب وسيارة، وعُيِّن له أربعة مرافقين. تعهد سرًّا بكسب الأنصار للحزب الحاكم في الانتخابات، ثم بنى دارًا ضخمةً في القرية أفضل من دار المرحوم صالح عاقل القرية سابقًا، وخصَّص لكلِّ ولد من أولاده غرفته الخاصة. وزوَّج ولدَيْهِ نجيب ومنير اللذيْن صارا شابين، وأحضر للضيوف قات حرامي من حجة. رقص زُربة أمام المهمشين الذينَ كانوا يقرعون الطبول في حفل زفاف ولديه. ثم رأى نفسه يبنى دارًا لزوجته الجديدة. أما صفية رأتْ أنها دعت نساءَ القرية لنقلِ الحطب معها من الجبل، بعد أن قام سالم الحطاب بتقطيعه من الأشجار وكدستْه بجوار البيت، وامتلكَتْ بقرةً ثانية وعشرين دجاجة، وساعدت زُربة بحفر خزان كبير بجوار البيت لجمع مياه الأمطار.
١٦
استمر زُربة في بناء العديد من المساجد في منطقة الحُجرية، وأحيانًا في أبين، ولحج … كان يصطحب معه رفيقه ناجي المقشش، وصادق العردان الذي أصبح بَنَّاءً، أما شماس المُطيِّن وسالم الحطاب فقد انتهى عهدهما بعد استبدال الطين بالإسمنت، والأخشاب بالحديد. كذلك كان لا ينسى سعد الوطواط، على الرغم من عادته القديمة في التفتيش عن عيوب بناء زُربة، ويخبر أرباب العمل بها، لكن بناء المساجد لم يكن هناك عليه رقابة كبيرة. حين كان زُربة يبني مسجدًا في مدينة لحج برفقة الوطواط، حضر عقد قران العامل عبده ناجي بزوجته الثانية نرجس، أرملة أحد الذين سقطوا قتلى أثناء حرب الانفصال في صيف (١٩٩٤م)، عمرها ثلاثون عامًا ولديها ولد، جدتها صومالية. عرض زُربة على الوطواط، أن يعطيَه خمسة آلاف ريال ليكتم سر زواج عبده ناجي بنرجس، ويقسم اليمين على ذلك، لكن الوطواط رفض العرض وقال: أقولك يا زُربة ما شَقدرش أنا أعرف نفسي.
كان زُربة يعرف أن الوطواط لن يكتم السر، ولو دفع له أكثر من ذلك. فكتم السر في أمر كهذا يسبب له حُرقةً في المعدة. بدأت أسنانُه تؤلمه أثناء أكل الحلاوة ولم يذهب إلى الطبيب فقد اعتاد على الألم. كانت أول زيارة إلى الطبيب بسبب إسهال وقيء شديد أقعده عن العمل؛ وذلك بسبب القات الذي كان يمضغه بعد شرائه مباشرة دون غسله بالماء لإزالة المواد الكيماوية العالقة فيه، التي تساعد على نمو الأغصان سريعًا. عالجه الطبيب بحقنة شرجية وغسيل للمعدة، وأخبره بأن القات أحدُ أسبابِ أمراض الكبد والسرطان، والبواسير وارتفاع ضغط الدم، ونصحه بعد خروجه من المستشفى بتناول سندوتش واحد في كل وجبة لمدة ثلاثة أيام. ضحك زُربة وقال: يا دكتور، السندوتش قبل الأكل أو بعده.
خرج من عند الطبيب يقول لأصدقائه: بالله عليكم هذا طبيب! يمنعني من اللحمة والقات.
– كُنتِ معه بثياب النوم يا نرجس.
– يا دِحباشي أنت ليش مُتخلِّف، هو مثل أخي.
خرج عبده ناجي من عندها وقد طلقها. لم يعجب هذا نرجس فكانت تذهب إلى مقر عمله فتشتمه أمام العمال لعدم ثقته فيها وعلى تخلفه.
١٧
أثناء عودته من السوق التقى بالمداح فراءه يهدهد رضيعة في حضنه، من زوجته الثانية. قال له: يا مداح، زُبك أفقرك.
غادره زُربة بعد أن أعطاه القات وقليلًا من المال.
توفي عثمان المتصوف بعد أن بلغ الخامسة والتسعين عامًا من العمر. حضر زُربة عزاءه في المسجد، وقد كان عثمان من المتشدِّدين في تقاليد العزاء لمدة ثلاثة أيام، يتمتع فيها المُعزُّون باللحم والقات، ولو باع أهل المتوفي آخر حقل من حقولهم أو ذبح بقرتهم الوحيدة لصالح العزاء. لكن خطباء الجوامع والمعاهد الدينية التي انتشرت بشكل كبير في المناطق، كان لها الأثر في إلغاء تلك العادة التي كان يدعمها المتصوفون والأئمة.
ذهب زُربة وزوجتُه لزيارة سميحة ابنة خاله، فوجدها في أشد مرضها، بعد إصابتها بمرض سرطان الثدي، وقد توفِّيت أمها بنفس المرض. في المساء حدثته صفية عن الحياة في المدينة، واقترحت أن يأخذهم للعيش هناك فلم يتبق في القرية إلا القليل من الأهالي أغلبهم من العجزة، وأصبحت القرية شبه خاوية فرفض زُربة طلبها.
على الرغم من زيادة دخل زُربة المادي، إلا أنه صرفها على أولاده والقات واللحم، ولم يدخر منها شيئًا فكل يوم عنده عيد؛ حتى إن أولاده نجيب ومنير وعبده درسوا في الجامعة على نفقتهم الخاصة، كانوا يشتغلون عتَّالين بعد الظهر عند التجار.
أما هو فكان يضحك ويقول: يا صفية، الجراد ما ياكلينش القات.
– الجراد يعرف ضرره أحسن منكم.
أحس سعد الوطواط بألم آخر ضرسين، فسافر إلى تعز للعلاج وركَّب له طقم أسنان، لكنه أعاده للطبيب بعد ثلاثة أيام بحجة واهية. قال لزُربة إنه حين مضغ القات بطقم الأسنان لم يجد للقات طعمًا، وفضَّل أن يعيش أدرد يأكل العصيدة. واشترى له مدقًا حديديًّا ليطحن به القات.
١٨
بلغ زُربة الخمسين من العمر وازداد ألم ضروسه أثناء تناول الحلاوة، فكان يَزْرَدُها دون مضغ وكذلك العنب أو أي شيء حلو. سافر إلى تعز ليشتري له دواء مهدئًا للألم وبقي هناك عند ولده نجيب وهو يدرس في الجامعة صباحًا ويعمل في المساء حمالًا مع تجار قرية نجاد. خلال بقاء زُربة في تعز وجد سعيد السلفي في شارع عُصيفرة في زيارة لأحد أقربائه. جلسا معًا يتحدثان فأخبر زُربة أنه عائد إلى دماج عن طريق الحديدة–حجة، وأقنعه بالسفر معه إلى مدينة الحديدة للنزهة. عند وصولهم ذهبوا إلى سوق القات فشاهد زُربة حُزمةَ قات شامي بحجم إطار سيارة صغيره، يحملها رجل على رأسه. قال زُربة بذهول وقد اتسعت عيناه: ما أكبر هذه الزُّرباااااااة! شتكفيني ثلاث أيام.
– يا زُربة هذي الزُّربة تكفي ثلاثين شخصًا. هذا قات شامي من شام حجة، تباع في المزاد العلني، انتظر قليلًا سترى بكم ستُباع. هذا القات يُهرَّب إلى السعودية.
بدأ المزاد وارتفع سعر تلك الحُزمة إلى خمسين ألف ريال، ما يقابل ألفين وخمسمائة دولار. ثم رأى المشتري يقسِّمها إلى حُزم صغيرة بحجم قبضة اليد، وباع الحزمة الواحدة بألفَيْ ريال. وجد زُربة في جيبه ألفًا وخمسمائة ريال واستدان الباقي من سعيد، ثم ذهب يأكل وجبة خفيفة على الغداء، واتجه الاثنان بعد ذلك لمضغ القات على شاطئ البحر. كان هناك نساء يتخبطن في الماء بثيابهن وهن يسبحن بجوار أقاربهن. تحدث زُربة عن سير العمل في مشروع المياه، الذي حصل عليه الشيخ ناشر جحَّاف منحة من منظمة دولية. حدثه سعيد عن عمله في مدينة حرض وعن دماج، وعن مدرسة دار الحديث وكم استقطب طلابًا إلى المدرسة، وأخذ يشيد بمُقبل بن هادي الوادعي: شيخنا مؤسس الدار، حصل على رسالة ماجستير في علم الحديث من جامعة سعود وهو أحد أقطاب العلم في الجزيرة العربية، لكن بعد أن وهن بدنه حدث بعض الاختلاف في الرأي بين أتباعه، الشيخ محمد سرور من جهة، الذي أسس دار الحكمة اليمانية الخيرية، ثم انشقَّت عنها جمعية الإحسان الخيرية والشيخ يحيى الحجوري من جهة ثانية، والشيخ أبي الحسن المأربي، أما أنا فسرتُ مع أتباع السروري.
استمرَّ سعيد يتحدَّث عن دار الحديث، وكان يظن أن زُربة يستمع إلى ما يقوله عن السلفية التي يرى أنها الفِرقة الناجية. حينها كان زُربة يستمتع بالقات الذي لم يذُقْ مثله في حياته، ويرى نفسه يُحلِّق كالنسر فوق أشجار القات الشامي في شِعاب حجة، وتخيَّل أنه تزوج امرأةً تملك مزارع القات في أحد جبال حجة، كان نصفه الأعلى لا يصلح للزراعة، فقام ببناء مدرجات إسمنتية فيه حتى قمة الجبل، وأحضر لها ترابًا خصبًا، واشترى لها محطة تحلية في البحر ومد أنبوب المياه إلى خزان في قمة الجبل، ثم زوَّد كل حقل بأنابيب المياه العذبة، وخصص له حقلًا لا يرشه بالمواد الكيماوية.
خرجت النساء من البحر، والثياب ملتصقة بأجسادهن في منظر مغرٍ، وقفن على الصخور لتجفيف ثيابهن. أشاح سعيد ببصره عنهن واستعاذ بالله من الشيطان، والتفت نحو زُربة وقال بصوت مرتفع مما أخرج زُربة من عالم القات: بجوار عملي كمدرس لديَّ دكان في حرض لبيع الملابس يعمل به ابنُ أختي. ما رأيك أن تأتي معي وتعمل هناك، ستجد القات الشامي رخيصًا هناك.
في اليوم الثاني سافرا إلى مدينة حرض، وأثناء السفر قال سعيد لزُربة: ما رأيك أن تحضر أبناءك للدراسة في دار الحديث، الدراسة هناك مجانًا والسكن والطعام كذلك، ويوجد سكن خاص للمتزوجين، لدينا هناك حي كبير فيه أكثر من ألفي منزل صغير، حياتنا هناك كعيشة الصحابة في المدينة المنورة. هي هجرة في سبيل الله. ابنك نجيب ومنير في الجامعة لن يجدا لهما وظائف بعد التخرج، لكن لو التحقا في الدار سيجدون لهم وظائف. ها، ماذا قلت؟
– يا أخي أهل الخير كثير …
في مدينة حرض قابل أحمد ابن المداح يعمل في الجمرك منذُ عشرين عامًا. طلَّق زوجته الأولى في القرية وتزوَّج امرأة تهاميَّة، استقبله ببهجة وذهبا معًا إلى سوق كبير للقات الشامي، وأخذ يُحدِّثه عن السوق وعن تهريب القات عبر الحدود على ظهور الحمير والمغامرين من الشباب. عرف زُربة المبالغ المالية الكبيرة التي يكسبها المُهربون. في تلك الليلة نام وهو يُفكِّر بهذه المغامرة. تعرَّف على مهربي القات، بواسطة أحمد وصادق مُجاهد الصراري، أحد كبار المهربين. هو رجل قصير القامة، سمين، ذو وجه أبيض يميل إلى الحُمرة. في المساء بعد أن ينتهي من مضغ القات، يشرب نصف قارورة خمر لكي تساعده على النوم حسب زعمه. يشتري القات من المزارعين ويقوم بتهريبه إلى الأراضي السعودية، بواسطة أناس يختارهم بعناية، وقد تخصَّص بهذا النوع من التهريب. على الرغم من علاقته الوطيدة مع مهربي الأدوية والمخدرات مثل الكبتاجون وغيره. حين مد مجاهد يده ليصافح زُربة وجدها خشنة ورآه رجلًا قويًّا، يصلح لهذه المهمة.
١٩
بدأت أول رحلة تهريب لزُربة برفقة كُلٍّ من: سالم المدحجي، سعد البرطي، وحسن المسعودي، لهم خبرة ودراية في الطريق الوعر ومواقع حرس الحدود وأسلوب التخفي. أعطاه مجاهد كمية من القات، حينما حمله زُربة على ظهره، ضحك وقال: يا مجاهد هذا حَمْل أطفال ههههه.
– أعرف أنك تقدر أن تحمل أكثر، لكنك أول مرة تعمل معنا، سنعطيك أكثر حين تتدرب على العمل.
أوصلتهم سيارة الحدود السعودية المتاخمة لصعدة مقابل جبل النار في نجران. هناك التقى بهم حسن المسعودي، فحمل حصته من القات كانت على السيارة. لم يكن هناك حرس حدود من الجانب اليمني. كان القات ملفوفًا بأوراق ولحاء الموز بإحكام، وكُلٌّ يحمل معه طعامه وماءه فالرحلة شاقة. بدءوا رحلتهم الخطرة ليلًا وهم يصعدون الجبال دون أن يحمل أحدهم كشاف ضوء، يتقدَّمهم المسعودي أكثرهم خبرة في دروب الطريق. قال المسعودي: لمَّا نبلغ قمة جبل … شَنشاهد موقع حرس الحدود السعودي في جبل النار على بعد ثلاثة كيلو. كنا ننسق مع حرس الحدود لكنهم طمَّاعين؛ فتركناهم واخترنا مسلك آخر.
وحكى لهم قصته مع الحطاب حين كاد يجرفه السيل وحمله على ظهره إلى بيته. وصلوا قمة الجبل قبل الفجر ثم هبطوا رويدًا؛ خوفًا أن تتدحرج حجرة وينكشف أمرهم. أشرقت الشمس فدخلوا كهفًا صغيرًا بالكاد يكفيهم الثلاثة وراحوا يشاهدون موقع حرس الحدود وأشجار السدر المنتشرة في السهول وهم يتناولون إفطارهم: كعكًا، عصيرًا، بسكويتًا. لم يكفِ زُربة، فتناول نصيب البرطي دون جدوى. حكى لهم زُربة قصصًا عن حياته، ثم حكى سالم المدحجي عن نفسه قال: كنت في سنة ثانية في كلية التربية ولم أستطع إكمال دراستي، بعد أن طرد المؤجر أبي من الدكان الذي فتحه ورشة للنجارة، واستولى على معدات الورشة بحُكم من المحكمة. عملت في ورشة نجارة خمس سنوات فلم أستطع أن أجمع تكلفةَ الزواج، فقرَّرت أن أعبر الحدود تهريبًا للعمل داخل السعودية، ودخلت مع عشرة أشخاص، وبعد ستة أشهر قُبض عليَّ، لم يسمحوا لي حتى بأخذ فلوسي التي كانت في سكني وعدت مفلسًا فوق عربة نقل إلى اليمن مع أكثر من مائة شخص بعد أن حلقوا لنا شعر رءوسنا، وأوصلونا إلى مدينة حرض. قررتُ ألَّا أعود إلى البيت إلا ومعي تكلفة الزواج. عمري الآن تجاوز الثلاثين عامًا، وبهذه الرحلة سأكون قد حصلت على ما أريد وستكون رحلتي الأخيرة.
حكى المسعودي عن نفسه: بصراحة أنا هنا أعيش قريب من الحدود، في قرية صغيرة مع زوجتي الجديدة وولدنا، كان عندي بيت وزوجة قبلها في مدينة حجة، لكنني لم أستطع العودة بعد أن طعنت شخصًا فوق بئر الماء، كانوا يأخذون الماء يسقون القات ويبيعون «الوايت» الماء بعشرين ألف ريال، وسعره في صنعاء ألف وخمسمائة. كانت لحظة غضب، فقدتُ فيها استقرار حياتي بسبب التنازع على الماء. هربت إلى قرية على الحدود وذهبت إلى شيخ القرية، آخيتهم وصرت فردًا منهم وعملت راعيًا مع الشيخ، وتزوجت منهم. كنت أشاهد الأغنام تعبر الحدود وتعود عند الغروب، دون أن يعترضها أحد. عرفت مُهربين كُثر بعضهم كان يعود من رحلة التهريب كئيبًا خائبًا، بعد أن يكتشفه حرس الحدود ويُجرِّدوه من القات، فيقترض المال مني ثمنًا لعودته إلى بلده، لكنه يعاود الكرَّة مرة أخرى، أو ينسق مع الحرس فيؤمن حمولته، وأعرف أيضًا آخرين يُهرِّبون مواد أخرى غير القات.
– لم أستطع إحضارها، انتظرت ثلاث سنين ثم تزوجت. كانت جميلة، ما زلتُ أرى عيونها الخضر أمامي، اسمها نِسمة وفعلًا كانت هي نسمة. كلما أذكرها أندم على فعلتي الشنعاء، وألعن إبليس والجنبية والدولة التي لم تمنع أصحاب مزارع القات من استخدام مياه الشرب لسقاية القات. أعيش الآن مطاردًا بعيدًا عن أهلي. منذ تلك الفترة تخلَّيت عن الجنبية حتى لا أقتل أحدًا لأتفه الأسباب. أصبحت أرى الجنبية شر نتزين به.
قال سالم المدحجي: لو فكروا رجال القبائل مثلك، لانخفض معدل الجريمة كثيرًا.
– تقصد مثلكم يا أهل تعز؟
– ليس مثلنا نحن فقط؛ بل مثل كل دول العالم. قيل لي: إن جدي كان يتحزَّم بجنبية غالية الثمن، لكن أبي تركها ولم يهتم بها.
– نعم، هناك جنبية بيعت بمليون دولار لأحد المشايخ …
– مليون دولار! غير معقول. لو بيعت هذه الجنبية في الخارج بكم تُقدِّر؟
– دولار واحد. سكين يقطعون بها البصل والبطاط، يا مدحجي.
٢٠
بقوا طوال النهار في الكهف؛ حتى لا يرصدهم حرس الحدود بالمنظار، وبعد الغروب تحركوا يمشون بين الصخور دون أن ينبسوا بكلمة ثم مشوا بحذرٍ بين أشجار السدر التي كانت تخفيهم عن رصد المناظير الليلية. اجتازوا الحدودَ والخوفَ من دوريات الحدود يتملَّكهم، فكانوا يتنقَّلون بحذر. كان هناك قاع مستوٍ مكشوف للحرس، فقرروا أن يجتازوه فرادى. تقدَّم سالم المدحجي يمشي سريعًا، ثم تبعه المسعودي. قطف زُربة بعض الأعشاب وربطها حول خاصرته، ثم تبعهم يمشي رويدًا أشبهَ بشجرة تتحرك. وصل إلى حيث رفيقاه وهما يكتمان ضحكاتهما. وصلوا عند الفجر إلى بيت مُتعب اليامي المحاط بأشجار السدر الكثيفة، أخذوا قسطًا من الراحة وتناولوا وجبة دسمة، أرزًّا مع لحم جمل. أخذ زُربة يحشو فمه بالأرز بلُقم كبيرة والجميع يُحدِّقون فيه بدهشة. عادوا في الليل يمشون سريعًا، ولم يتوقفوا إلا بعد أن وصلوا الأراضي اليمنية، وهناك تنفسوا الصعداء وضحكوا مما جرى لزميلهم البرطي، وكيف كان زُربة يمشي في التل والأغصان حوله، وحين مشى على يديه ورجليه وهو يصعد الجبل. ضحك المسعودي وقال: كنت أبصرك مثل حماري الذي كنت أهرِّب عليه القات، لكن ما شاء الله تحمل أكثر منه.
قال مجاهد: يا زُربة أنت أعجبتني من أول مرة أبصرتك وسأعطيك نصيب البرطي.
حصل زُربة على مائة ألف ريال دفعة واحدة، فرح كثيرًا فهو لم يستلم مبلغًا كهذا مقابل عمل يومين، وجد التهريبَ مربحًا جدًّا وقرر الاستمرار في تهريب القات، وتوسَّعت أحلامه لتحقيق مستقبل جيد لأسرته ورأى نفسه أنه من علية القوم.
٢١
بعد ثلاثة أيام استعد زُربة لرحلة تهريب أخرى. أخبروه أنهم سيعبرون طريقًا آخر ستكون هذه المرة عبر وادي المخدرة في جيزان وسيعبرون صحراء. أخذ زُربة معه مجرفة صغيرة. ركب السيارة هو ورفاقه إلى أن أوصلتْهم إلى المكان المحدد على الحدود. حمل زُربة القات على ظهره ضعفي المرة السابقة، كان يبدو كحمار يحمل على جنبيه، فكان يمشي وهو يتوكأ على المجرفة. مشوا ليلًا على جانبي الوادي حيث تغطيه شجر السدر لم تكن الطريق وعرة، يمر فيها الحمير المُدربة على التهريب. أثناء مشيهم ليلًا وجدوا حمارًا عائدًا، بعد أن أوصل حمولته من القات إلى المكان المحدد في منطقة عسير. سأل المسعودي زُربة: كم تُقدِّر سعر هذا الحمار؟
– عشرين ألف ريال.
– قيمته هِنا مائتا ألف ريال. حاول أن تقترب منه.
اقترب زُربة من الحمار فرمحه برجليه. مال قليلًا عن الرفسة فوقعت على القات وانقلب على جنبه، وفر الحمار مسرعًا. ضحك رفيقاه ثم قال المسعودي: لو كان الحمار يحمل القات شَيبرُك على بطنه مباشرة حين يرانا، ثم يتابع سيره بعد أن يشعر بزوال الخطر عليه.
وصل زُربة ورفاقه الصحراء صباحًا، فكَّروا أن الحرس لن يمروا في مثل هذا الوقت. مشوا فيها قليلًا فشاهدوا دورية حرس الحدود تقترب باتجاههم، فأيقنوا بفشل مهمتهم وتخيَّلوا السجن أمام أعينهم. انبطحوا أرضًا، أسرع زُربة يحفر بالمجرفة وغطاؤهم مع القات بالرمل، ثم غطَّى نفسه. مرت الدورية بقربهم فلم تشاهد إلا كثبانًا رملية صغيرة وابتعدَت عنهم، لكنها ظلت تحوم حول المنطقة؛ فهم متأكدون أنهم شاهدوا المهربين. وقفت السيارة واعتلى أحد الجنود تلًّا صغيرًا، ووقف هناك ينظر حوله بالمنظار. هتف لأصحابه: بلعتهم الصحراء!
– أظنهم مهربي القات، خسرنا صفقة كبيرة.
لم يستطع المسعودي والمدحجي البقاء كثيرًا تحت الرمل، فتحرَّكا من مكانهما، همس زُربة: اصبروا إن الله مع الصابرين.
فضحكوا وهم في ظرف عصيب.
ابتعدت الدورية، فتنفسوا الصعداء. نهضوا من تحت الرمال كموتى خرجوا من قبورهم، وراحوا ينظفون: أنوفهم، آذانهم، شعرهم، ويتمضمضون بالماء الحار، أمَّا القات فلم يضره شيء كانت أوراق ولحا الموز عليه بردًا وسلامًا. حمدوا الله على نجاتهم من الصحراء والجنود وأسرعوا يحثُّون الخُطا، إلى أن وصلوا دار مُعسر العسيري. لم يجدوه في استقبالهم، كان في الدار امرأةٌ في الستين من العمر لم تتعرف عليهم فقد امتزج عرقهم بالرمال وكان منظرهم منفرًا ومضحكًا. قال لها المسعودي: كيف حالك يا عمة موزة؟ أنا سعيد المسعودي.
ضحكت على حالهم وأدخلتهم الدار ثم تواصلت مع مُعسر. أقبل بعد نصف ساعة، ضحك حين شاهدهم على ذلك الحال وراح يعدُّ لهم الحمام ليغتسلوا. حكى له المسعودي عما جرى لهم في رحلتهم. قال مُعسر لهم: أستقبلكم أنا عادة قبل الظهيرة، وحين تأخرتم عن ميعادكم، اعتقدت أنه قُبِض عليكم، فتواصلت مع الصراري وأخبرته عن تأخُّركم.
قدَّم لهم مُعسر الغداء، فأكلوا وجبتهم وانتظروا حتى الغروب وعادوا ليلًا …
٢٢
– يا زُربة يكفيك، عِلمتُ أنك تزوجت اثنتين فوق صفية، ومعك عشرة أولاد.
خرج زُربة مع أحمد بعد غروب الشمس إلى السوق، وتناول وجبة العشاء، ثم ذهبا واشتريا القات لسهرة المساء وكان لدى زُربة في جيبه عشرة آلاف ريال، وبطاقته الشخصية وبعض الأوراق المهمة. عندما أراد أن يدفع قيمة القات لم يجد المحفظة. لم يهتم زُربة بالمال الذي سُرق بقدر اهتمامه بالأوراق. فكر أن يذهب إلى القسم؛ ليشكو ما حصل له عسى أن يجدوا السارق فالمدينة صغيرة. لكنه لم يذهب إلى قسم الشرطة، أخذه أحمد إلى شيخ السوق الذي يلقِّبُه العامة بشيخ السرق. له سلطة أقوى من سلطة قسم الشرطة. بعد ثلاث ساعات أعاد الشيخ إلى زُربة ما فقده إلا المال، قال له الشيخ إنها سارت مصروفات البحث عن السارق.
٢٣
استعد زُربة لتهريب الدفعة الثالثة من القات مع رفيقيه المدحجي والمسعودي وشاب آخر في الخامسة والثلاثين من العمر، لأول مرة يخوض هذه المغامرة، أسمر، طويل، مفتول العضلات. أوصلتهم السيارة إلى المكان الذي عبروا منه أول مرة في نجران ومشوا حسب الخُطة الأولى. جلسوا في الكهف نهارًا يتناولون وجبتهم ويتحدثون في أمور عديدة. تعرَّف زُربة على رفيق رحلته الجديد عُمر المحويي، أخبره أنه يعمل في مقلع للأحجار في قريته، لكنه بالكاد كان يوفر ما يقابل لقمة العيش له وأسرته. اجتازوا الحدود بسلام وهم رابطون حول جنوبهم فروع الأشجار. استقبلهم مُتعب اليامي كالعادة فسلموا له القات ثم تناولوا وجبة طعام. أثناء العودة ليلًا وهم يصعدون آخر جبل … في حدود الأراضي السعودية، كان سالم المدحجي مبتهجًا وهو يقول لزُربة: هذي آخر مرة أعمل في هذه المهنة.
– خلاص جمَّعت حق الزواجة؟
– نعم، الحمد لله. شَجلس في القرية أزرع أرض الوالد ونزرع القات ونحفر بئر. سنغتني يا زُربة. سأتزوج ابنة خالي. طُز ببنت جارنا التي أحببتها، زوَّجها أبوها إلى أحد المسئولين.
وصلوا قمة الجبل قبل شروق الشمس. وقف سالم على صخرة كبيرة وهو يُعبِّر عن فرحه بإتمام مغامرته الأخيرة بسلام. فرد يديه للريح كجناحي طائر، يستنشق الهواء الطلق وهو ينظر إلى الأراضي اليمنية، وشعر لأول مرة بالحنين إليها. التفت إلى الخلف يقول: وداعًا يا أرضنا القديمة.