الغروب
عند الغروب ترتدي الشمس حُلة الوداع وتستعد لحياة جديدة في عالم آخر.
***
١
انتهى دور الساحة، وانتقلت الثورةُ إلى مسارٍ آخر، سيطر فيها وجهٌ آخر من النظام برئاسة عبد رُبه نائب الرئيس السابق. فنقل زُربة بضاعته من الساحة، وفتح لابنه دكانًا في منطقة المسبح. زار زُربة الساحة يومًا بعد تشكيل حكومة باسندوه، ضمن اتفاقية المبادرة الخليجية في الثالث من يناير (٢٠١٢م) وقف هناك بجوار أحد الشباب، وهما يشاهدان الجرافات تجرف المباني المستحدثة في الساحة. قال زربة: نجحت ثورة الشباب، لكن أين الشباب؟ الذين يحكمون الآن هم أجداد الشباب.
– المُهم يا والد سقط عفَّاش …
– لا أفهمك يا والد!
ترك زُربة ذلك الشاب لحيرته ومضى إلى الصيدلية، اشترى مائتي قرص بروفين، وتناول حينها ثلاثة أقراص.
٢
ذهب زُربة إلى منطقة الجعاشن في محافظة إب حيث مزارع القات الكثيرة؛ للعمل هناك في بنَّاء بيت لأحد مزارعي القات. وجد نظام العمل هناك يختلف عن نظام العمل في منطقة الحُجرية، فالعمل يبدأ الساعة السادسة صباحًا، والقات على نفقة العامل، عرف كثيرًا عن المحافظة الخصبة فقد كانت تزود اليمن بالذرة والدخن، أما اليوم فنصف أرضها الخصبة مزروعة بالقات.
حزن كغيره من الناس على ضحايا الصراع السياسي في البلاد حين سمع عن التفجير الانتحاري، أثناء أداء العرض العسكري في ميدان السبعين في صنعاء يوم الثاني والعشرين من مايو (٢٠١٢م) والذي راح ضحيَّته مائة قتيل، كان يقف حينها على جدار مرتفع أثناء البناء، وكاد يهوي إلى الأرض وهو قابضٌ على حجرة فقذف بها وكادت أن تصيب أحد العمال. لم يستمر كثيرًا في الجعاشن وعاد إلى القرية، فهو لم يعد قادرًا على حمل الأحجار الثقيلة؛ بسبب فتور ساعديه. بقي يتنقل أسبوعيًّا بين صنعاء والقرية على سيارة أحمد جابر من قرية نجاد، والذي يعمل مراسلًا بين القرية وصنعاء، يحمل هدايا القُرى: سمن، حقين، حبوب الدخن، لحوح … للأهالي في المدينة، ويعود محملًا بهدايا المدينة. وظل يعمل مساعدًا لأحمد.
ذات يوم وهم بالقرب من مدينة ذمار أخذ الركاب يتحدثون عن مصير السلفيين، الذين كانوا في دماج بعد أن هجَّرهم الحوثيون من منازلهم. قال أحدهم: لماذا لا تحمِيهم الدولة؟ وكيف يخرجونهم وقد أصبحوا من سُكَّان المدينة؟
– يا أخي، لماذا يدرسون هناك ولا يدرسون في الجامعات الحكومية؟
– هُم يريدون دراسة علوم الدين فقط.
– يا أخي، جامعة الإيمان تُدرِّس كل العلوم الدينية، الدراسة فيها مجانًا: أكل، شرب، وسكن. ما عاد بقي إلَّا يزوجوهم.
ضحك زُربة والمسافرين، ثم أخرج أحد المسافرين تليفونه، وأراهم مشهد تفجير مسجد السلفيين في كِتاف، وسمعوا هتاف الصرخة بعد تفجير المسجد مباشرة «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، النصر للإسلام».
استمر زُربة في العمل مساعدًا لأحمد جابر لنقل المسافرين ليكسب لقمة عيشه، كان يستمع لحديث المسافرين وهم يتحدثون عن تقدُّم القوات الحوثية نحو مدينة عمران وتصريح الرئيس عبد ربُّه أن «عمران خط أحمر»، فأيقن زُربة أن الحوثيين بقواتهم البسيطة ستنكسر شوكتهم في عمران. حُصرت عمران لمدة شهرين وتفاجأ الناس بمقتل حميد القُشيبي قائد اللواء ٣١٠ مُدرع وهو مرابط داخل المعسكر الواقع في المدينة، بعد حصاره لمدة شهرين. تساءل زُربة: لماذا لم يُنجده الجيش؟ أمر لم يفهمه الكثيرون.
٣
قبل أسبوع من دخول الحوثيين صنعاء، كان زُربة متوجهًا إلى سوق القات في باب شعوب، اندهش حين سمع امرأة مُحجَّبة سمينة، تمشي بتثاقل وتقول: كيف حالك يا زُربة؟ أين أنت غائب؟
التفت إليها فلم يعرفها.
– والله، يا نادية ما عرفتِك. كيف حالك وحال أخوك وكيف حال ولدك زيد؟
أخبرتْه عن عنوانها الجديد، وأن يكون حذرًا في الأيام القادمة؛ فالحوثيون بقواتهم على أبواب صنعاء. لكنه لم يعد يخشى تفاقمَ الأحداث التي تُنبئ بحدوث صراع آخر في البلاد، فقد اعتاد على الصراعات المسلحة على السلطة في حياته. تلك الأحداث أكَّدتْها حشود الحوثيين الذين شاهدهم وهو في طريقه إلى القرية مُخيِّمينَ بسلاحهم في منطقة حزيز وكذا الحشود التي سمع عنها في كل الطرق المؤدية إلى صنعاء بحُجَّة المطالبة بتخفيض سعر البترول. حين عاد من القرية وجد تلك الحشود قد دخلت صنعاء من كل الاتجاهات بسلام، ونصبت خيامها في شارع المطار.
ذهب زُربة للبقاء في بيت ابن عمه عقلان طاهر، في الحي السياسي، اعتاد أن يبقى في بيته لبضعة أيام حين يكون في صنعاء. تحدَّثَ معه عن إمكانيةِ دخول القوات المسلحة الحوثية القادمة من عمران إلى صنعاء؛ لتلتحمَ بالحشود الموجودة في شارع المطار. قال عقلان بحماس: لا يمكن دخول قواتهم، شيتصدَّى لهم الجيش، وقوات الفرقة الأولى مُدرَّع التي هزمتهم عدة هزائم في حروب صعدة، وعبد ربه صرَّح أن صنعاء خط أحمر.
– يا عقلان الخط الأحمر عند عبد ربه هو خط أخضر. أقول لك شَيدخلوا، أكثرهم قد هُم داخل صنعاء، سلاحهم في البيوت.
– لو دخلت قواتهم شَتقع مجزرة داخل المدينة مع جنود الفرقة، ورجال الإصلاح جاهزون لقتالهم.
٤
اقترب قاسم من حرس المنصة قبل أن يبدأ الحفل وصاح أمام الجمهور: يا رئيس، يا رئيس أشتي أقابلك …
منعه الحرس فارتفع صوته أكثر، وكان الجمهور يشاهد ذلك الحدث باهتمام. سمعه الرئيس فسمح له بالصعود إليه وسأله عن طلبه وهو يبتسم من جراءته أمام الجمهور. قال: ماذا تريد؟
– أريدك تقول لي: «كيف حالك يا قاسم؟»
بعد انتهاء العرض العسكري حمل عبد الفتاح الملوق قاسم على كتفيه، أمام الجمهور ومشى به في الشارع وهو يدندن: ألا ليه، ليه … ترحَّم زُربة وعقلان على قاسم ثم ذهبا إلى النوم.
– الناس نزحت إلى قراهم متوقعين معركة طاحنة، الناس كلهم مُسلَّحين حتى زوجتي سلَّحتُها لنحمي بيتنا.
٥
– تقول شَينفذوا مُخرجات الحوار الوطني، لهم سنة يعدُّوه.
– يا زُربة، هُم يقولون إنهم جاءوا من أجل تنفيذ هذه المُخرجات وتخفيض سعر المشتقات النفطية.
مر أحمد جابر بسيارته إلى بيت عقلان، يوم أن اقتحم الحوثيون جامعة الإيمان، بعد أربعة أيام من الاشتباكات الشرسة حولها. نادى زُربة بخوف: قُم سافر القرية. الناس هربوا من صنعاء، زادت أجرة الراكب إلى القرية ثلاثة أضعاف.
لم يجد زُربة له مكانًا في السيارة؛ فركب على سطح السيارة بجوار حقائب المسافرين. جلس يمضغ القات وهو يشاهد رتلًا طويلًا من السيارات متجهًا إلى مدينتي إب وتعز … اشتد ألم ضروسه فابتلع أربعة أقراص بروفين.
ظل زُربة في القرية يتابع الأحداث، بعد إعلان الحوثيين سيطرتهم على مقاليد الحكم، في الواحد والعشرين من سبتمبر (٢٠١٤م). هدأت الأوضاع فعاد إلى صنعاء مع أحمد جابر، بعد أن تم التوقيع على اتفاق السِّلم والشراكة الوطنية، برعاية الأمم المتحدة والذي قضى بتشكيل حكومة جديدة، بقيادة خالد بحاح خلفًا لما سُمي بحكومة الوفاق الوطني «حكومة باسندوه». ظل زُربة يتنقل بين تعز والقرية مع أحمد جابر ينقلون النازحين إلى القُرى، حتى انهارت حكومة خالد بحاح وقدمت استقالتها، بعد فترة بسيطة من تشكيلها، وتلتها استقالة الرئيس عبد ربه من منصبه.
بعد حوالي أسبوعين وهما قادمان من القرية أوقفا السيارة على جانب الطريق مع السيارات الأخرى لمدة أربع ساعات، قبل بلوغهم جبل سُمارة، ليسمحوا بعبور القوات الحوثية نحو مدينة إب، بعد تمدُّدِهم إلى مدينة الحديدة.
٦
– يا زُربة، هناك أشياء نختلف عليها في العقيدة ووقفنا ضدهم مع الإصلاح في الحرب السادسة، وهم لم يقفوا معنا تركونا نواجه الحوثيين وحدنا. كان انتقامهم شديدًا أجبرونا على الخروج خلال أربعة أيام. تركنا هناك حوالي ألفي منزل، اقتلعونا من جذورنا دون رحمة يا زُربة. بكى البعض كأنه فقدَ أعز الناس إليه، فهناك عشْنا جُزءًا من حياتنا بعيدًا عن عالم الزيف والخداع والسياسة، كانت هجرتنا إلى دماج كهجرة رسول الله إلى المدينة، طغت المحبة على كل شيء بيننا، حتى الطلاب الأجانب كانوا يرون مدينة دماج وطنهم الحقيقي، أما الآن فقد تفرقنا في حضرموت وعدن وتعز والبعض عاد إلى الريف. قبَّح الله السياسة التي فيها يباع الدين بالدنيا.
– يا زُربة، نُحن لا نُدخن ولا نقرب السياسة، لكن بعد موت مُقبل الوادعي تشتت أمرنا واختلفنا، مننا راح مع التجديد ومسايرة الزمان والمكان، ومنا تمسك بسُنة أهل الحديث وعدم الخروج عن الحاكم، ومنا اتجه نحو الجهاد.
– كيف شَتَاكُل: اللحم، الخضراوات والفواكه.
– شَطحنُه بالمَدَق.
جلس زُربة في القرية، يعتمد في طعامه على العصيدة أو خبز مهروس باللبن والسمن وأحيانًا بالمرق، غالبًا يجلس مساءً على سطح بيته، يهرس قاته بالمَدق الحديدي، صَلصلته تُسمع إلى الجوار من داره. عانى كغيره من كفاف العيش في ظل أزمة خانقة تعصف بالأمة. أخذ يعاتب نفسه على خِلفته الكثيرة، رأى أنه لم يُحقِّق لهم غير الطعام والشراب أما السعادة فلا. ضحك على نفسه حين راح يحسب كم من المال أنفقه على القات في حياته، انذهل حين وجده أضعاف ما صرفه على أسرته.
– هَذي الفلوس أعطيتني أنت، من حق ليلة عرسنا خبِّيتها مع المنديل.
– آه يا صفية، كان حقنا الريال يساوي دولار، الله يُضيِّع من ضيَّعه.
– والله، ما نَضيع إلا نِحن يا زُربة.
– لا تحلم لا أنت ولا الدولة.
ملأ زُربة خزان المياه ظُهرًا من مياه المشروع ثم جلس فوق سطح الخزان لسماع الأخبار من الراديو. حضر سالم الحطاب وسَعد الوطواط وجلسوا يتحدَّثون عن هروب عبد ربه إلى عدن من مقر إقامته الجبرية في صنعاء. قال الوطواط: يا جماعة، كيف يقدر رئيس دولة يهرُب من بيته وهو مُحاصر؟
قال الحطاب: أقول لك رِحِموه وإلا كانوا شيقتلوه، لا معه قبيلة ولا شيء يحميه، والجيش لا يزال بيد علي صالح.
– ليش ما قبلوا استقالته؟ وكيف وصَل عَدن والنُّقاط العسكرية في كل مكان؟!
– تذكُري يا صفية لمَّا كُنا شباب، كنت أعمل خمس مرات في اليوم.
أكمل رغبته بصعوبة دون أن يشعر بنشوة حقيقية. في اليوم التالي كان زُربة يجلس فوق سطح داره بعد العصر يستمع إلى الراديو، فتفاجأ بتصريح عبد ربه بتراجعه عن استقالته. هتف ينادي الحطاب: وا سالم، عبده رِجَع رئيس.
– الله يعلم مَوْ يُخططوا الحُكام ونِحن راقدين. كُلُّه فوق رءوسنا، وهم جالسين في بيوتهم.
كان زُربة كلما سمع خبرًا من الراديو يُنادي الحطاب؛ ليُسمعه آخر الأخبار. في يوم نزوح عبد ربه إلى السعودية ناداه: وا سالم عبده رِحل إلى السعودية.
– مَوْ تقول شِيحُكم اليمن من السعودية؟ ههههه …
٧
كان زُربة يجلس على سطح بيته يراقب بحزن حقول القرية التي لم تعُد تُزرع، ومنها قد جرفها السيل والتي كان يمتلكها جده وبيعت لتجار قرية نجاد، وهو الذي كان يتباهى بها وترك العيش في فرنسا من أجلها. حين كان يمر جوار قبره يشعر بالخجل ويدعو له بالرحمة، يشعر أنه كان حرًّا حقيقيًّا؛ فقد كان يأكل مما يزرع.
– الحوثيون وصولوا عدن وا حطَّاب.
– قَد هُم داخِله من بعد الوحدة، مو غيَّروا ثيابهم.
– يا زُربة نشتي أن نحيِّد تعز عن الصراع.
– يا ابني، مثلما دخلوا صنعاء، شَيدخلوا كل المدن. هيَّا سافر معي للقرية.
– والله، ما دخلوا تعز أبدًا. عملنا ثورة على النظام، ويريدونا أن نرجع إلى أيام الإمام.
حاول أن يقنع ابنه بالعدول عن مشاركته في التصدي للحوثيين، وأخذ يخبره عن الماضي كيف ضحى البعض في ثورة سبتمبر ودافعوا عنها ثم طُردوا وشُرِّدوا وقُتل البعض، مثل عبد الرقيب عبد الوهاب وغيره. لم يقتنع ابنه، فقال: أقول لك يا ابني سمعتهم يقولوا إنهم نقلوا الحرب من صعدة إلى هِنا. نحن يا ابني ما لنا دعوة.
انصرف منير وهو يرفع البندقية بيده عاليًا ويقول لأبيه: يا زُربة، لا تخبر أمي بهذا الأمر … مع السلامة.
هكذا كان أولاده عندما يحبون يدللونه ينادونه بزُربة. سافر زُربة إلى القرية حزينًا وترك ابنه لمصيره فهو يؤمن بقضاء الله. خلال أربعة أيام أصلح ما خربته الأمطار في حقوله. كان يشعر بالأسى حين يمر بجوار حقول أعمامه التي جرفها السيل، ويرى جدَّه عُمر يقف حزينًا يعاتبه والدمع في عينه وأحيانًا يراه في منامه في ثوب أبيض يقول له: «الأرض يا زُربة الأرض. كل أحفادي تركوها فلا تتركها مثلهم.»
في منتصف ليلة السادس والعشرين من مارس (٢٠١٥م) كان في لقاء حميمي مع صفية، سمع تحليق طيران التحالف العربي فوق سماء القرية. قام سريعًا، لبس مئزره فقط وصعد إلى سطح الدار، شاهد الطيارات تُحلِّق على ارتفاع عالٍ، ليس كما شاهده في حربي عام (١٩٧٢م) و(١٩٧٨م) بين شمال وجنوب اليمن، ومعظم أهل القرية استيقظوا من نومهم؛ لمشاهدة تحليق الطيران وسماع دوي القصف على قاعدة العند التي لا تبعد كثيرًا عنهم، ومشاهدة أضواء الانفجارات في عدن. لم ينم زُربة وأسرته ما تبقى من تلك الليلة وكذلك سكان القرية حتى الصباح؛ بسبب الانفجارات المتواصلة في قاعدة العند ورصاص المضادات الأرضية التي لم تكن تصيب أي هدف. فتح راديو لندن وسمع بالغارات التي استهدفت المطارات اليمنية والدفاعات الجوية والمعسكرات … تحت مسمى عاصفة الحزم، يقوده التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية؛ لضرب القوات الحوثية التي استولَتْ على السلطة الشرعية في اليمن.
٨
– المباراة.
– تليفونك مَليح أيشْ مِن صُنع؟
– صيني.
– متى نحن شَنصنع تلفونات؟
لم يسمع الفتى سؤال زربة الأخير؛ لانشغاله بمشاهدة المباراة، كذلك لم يسمع طائرة وهي تُحلق عاليًا بينما زربة يُتلع ببصره نحو السماء علَّه يراها، وكان الشاب يشاهد بتوتر على سير المباراة، ثم ضرب ناصيته غضبًا وقال: هُزِمَ الريال، يا خسارة.
– مو تقول يا ابني؟ حقنا الريال من زمان مهزوم؟
– يا عم ما أقصدش حقنا العُملة.
– مو تقصد يا ابني؟
– أعني فريق برشلونة هزم ريال مدريد الأسباني.
– نعم يا عمي أنا ابنه.
– كُلنا جالسين في بيت جدي واثنين من إخوتي دخلوا السعودية قبل أسبوع.
– مِن أين دخلوا السعودية والحدود مُغلقة؟!
– مَنفذ الوديعة مفتوح، ينزح اليمنيون إلى السعودية بالآلاف.
عاد من السوق باكرًا ورأى نساء في الحقول يهرعن نحو زوجة صادق ابن ناصر المسحور، وقد استلقت على ظهرها وهي تصيح. ظن زُربة أن ثعبانًا لدغها، أسرع هو أيضًا للمساعدة وسمع إحداهن تقول: زينب شِتولد. أجرين يا نسوان. هيَّااااا.
وصلت النساء وقد وضعت وليدها على الحشائش التي جمعتها بين فخذيها. أسرعت إحداهن لتقطع الحبل السُّري بمنجل الحشائش التي كان بيدها فنهرتها امرأة أخرى، ثم أسرعت تلك المرأة وقطعت الحبل السُّري بحجرة حادة وربطته، وراحت إحدى النساء تتصل بالتليفون السيَّار إلى صادق تبشِّره بأن زوجته ولدت ولدًا، ثم ساعدن زينب للوصول إلى بيتها وخيط من الدم يسيل على قدميها. كان الرضيع ملفوفًا بغطاء رأس إحداهن، مستلقيًا في سلَّة منسوجة من سعف النخيل. ضحك زرُبة وقال: ما شاء الله، ذرتهُ وقامت.
حين عاد إلى داره أخبر زوجته بما شاهده، فقالت له: إن زينب في ولادتها الثانية ولدت ابنها وهي تحلب بقرتها، ثم أخبرته عن أخريات تلد في الطريق وحين يجلبن الماء.
حضر زربة نقاشًا دار في السوق بين بعض النازحين من المدن، وهم ينتظرون وصول القات قبل الظهيرة. ذلك النقاش الذي كان سيؤدي إلى نزاع بين أبناء المنطقة الواحدة. قال أحد النازحين، لم يعرفه زُربة: أظن إذا لم ينفذ الحوثيون قرار مجلس الأمن (٢٢١٦)، سيعطي ذلك مبررًا لأمريكا بضرب اليمن مثل العراق، فهي ترى أن اليمن أهم مصادر للإرهاب، وكما ترون طائراتها بدون طيار تصطاد أفراد تنظيم القاعدة على الأراضي اليمنية منذ سنين، والطائرات لا تكفي للقضاء على التنظيم، فهي تبحث عن فُرصة للتدخل العسكري في اليمن؛ لهذا يجب على الحوثيين ألَّا يعطوها هذه الفرصة وينفذوا القرار بسرعة. أليس كذلك؟
كان زربة يشاهد كمال عز الدين غاضبًا من قرية عَرار، يعرف أنه من آل البيت ويقف مع الحوثيين. قال غاضبًا: العدوان السعودي على بلادنا هو الذي أدخلنا جُحر الحمار، لماذا يتدخلوا في بلادنا ويدمروا قواتنا المسلحة، أيش من مخرجات حوار تتحدثوا؟ يريدوا يقسِّموا بلادنا إلى أقاليم ضعيفة. سنحاربهم ولن نخاف من طائراتهم سنضربهم في عقر دارهم. هُم معهم أمريكا وإسرائيل ونحن معانا الله. ومضى إلى بيته يشتم السعودية والمتآمرين معها.
مضى زُربة خمسة وعشرين يومًا في القرية يقضي أوقاته مع أصدقائه القُدامى، يصطحب مدق القات معه حيثما ذهب. يستمع إلى الأخبار من الراديو كغيره من الناس فعرف بما جرى من تدميرٍ للمعسكرات اليمنية ومخازن الأسلحة في أرجاء اليمن من قِبَل طيران التحالف العربي في ظل الحرب المشتعلة بين المتنافسين على كرسي الحكم، الذين يستخدمون الشعب المغلوب على أمره وسيلة لذلك.
٩
وجد زُربة الراديو صديقًا بعد انقطاع التيار الكهربائي عن البلاد، يُخبره بكل ما يجري في اليمن، مثلما كان محمد مُدهش يخبره بما يحدث في الكواليس الخفية من صراعات كانت تدور في الساحة اليمنية بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وما كان يحصل لصنعاء من حصار في التاريخ القديم، حين يقوم إمام جديد يدَّعي أحقيتَه في الحُكم. ازدادت ضربات الطيران والهجوم الصاروخي على جميع المعسكرات اليمنية بعد عملية إعادة الأمل، بينما القوات الحوثية تتقدم في عدة مواقع في عدن وأماكن أخرى وهناك اشتباكات على طول الحدود مع السعودية.
حين سمع زُربة بالتفجير الانتحاري داخل مسجد في القطيف والذي راح ضحيته واحدًا وعشرين مصلٍّ، ظهر على سطح بيته يصيح: وا مُقشش، قد هُم يُفجِّروا بالمساجد في السعودية، مثلما قتلوا العلامة المحطوري في المسجد.
١٠
سألت صفية ابنها عبده عن سبب عدم عودة أخيه منير من تعز، فقال لها إن منير التحق مع المقاومة في تعز، لكنه بخير، فجُنَّ جنونها ولم يخبرها بما يسمعه عن المعارك الشرسة التي تدور رحاها على طول خطوط المواجهات لإخراج الحوثيين من المدينة. سألت زربة وهي غاضبة لماذا لم يخبرها بأمر منير ولماذا لم يمنعه؟ فأخبرها أنه عصا أمره ولم يسمع كلامه. ذهبت تسأل عنه أولاد عثمان سالم، الذين نزحوا إلى دارهم بعد أن قاموا بإصلاح ما تخرب منه، فلم تجد ما يفيدها، ثم ذهبت إلى عبد الرقيب فأخبرها أن منير بخير وأشاد بشجاعته بعد مشاركته مع المقاومة في جبل صبر حين استولوا على معسكر جبل عروس. شعرت بالاطمئنان قليلًا ثم سألتْه عن أهل القرية الذين بقوا لمصيرهم في تعز. كانت تقف لبعض الوقت في طريق السيارات، تشاهد السيارات التي تحمل النازحين إلى القرى وهي تأمل أن يكون ابنها ضِمن العائدين.
ذات يومٍ عاد زُربة من سوق نجاد ظُهرًا بيده نصف دجاجة، وحزمة قات صغيرة، استقبلته صفية غاضبة وقالت: قُم رجِّع ابني إلى البيت، والله ما جلست في القرية، أني تعبتُ بُه مُش أنت.
– يا مَرَة، المدينة مُحاصرة ما يقدرش أحد يدخلها. أنا نصحته ما سمع كلامي. ابنك مُش مثل إخوته طِلَع شيطان.
بكتْ صفية كأنها ترى ابنها مقتولًا. قدَّمت ابنتها جميلة وجبة الغداء، فجلس زُربة حول المائدة وأخذ زُربة يمضغ الدجاجة بلثته ويهرس بعضها بمهراس القات. حينها قال متأسفًا: آه، نزعتُ أضراسي بنفسي، يا صفية.
رفضت صفية في تلك الليلة أن تنام بجوار زُربة ليلًا، وحلفت ألَّا يمسَّها إلَّا بعد أن يعودَ بمنير إلى القرية، على الرغم أنه منذ أسبوع لم يقرب فراشها. ذهبت صباحًا مع ابنتها جميلة لجمع الحشائش للبقرة وذهب هو صباحًا إلى بيت المداح فوجد ابنه أحمد ضمن النازحين. جلس يتحدث معه، وأخذ أحمد يصف له الخراب والسرقات التي أصابت مدينة حرض، بعد أن صارت ساحة مواجهات بين الحوثيين والمقاومة. وأخبره عن دخول مُدرعات كثيرة من منفذ الوديعة متجهة نحو مأرب. سأل زُربة عن حفصة زوجته التهامية حفصة، فأخبره أنه لم يعرف عنها شيئًا، وسأله عن تهريب القات، أفاده أن التهريب مستمرٌّ حتى أثناء الحرب كلٌّ يعمل في مجاله، وقد مات بعض المُهربين المغامرين في وادي المخدرة والجبال المحاذية لجبل النار وجبل الدود، وبقيَتْ منطقة بني سالم بعيدة عن المواجهات.
١١
عانى زُربة وأسرته من شظف العيش كغيره من الناس، شعر بالحزن وهو يزاحم الناس ليستلم حِصته من المساعدات الغذائية المقدمة من المنظمات الدولية، التي لولاها لمات الكثير من البشر جوعًا في البلاد، حتى إن بعض الأسر حصلت على المواد الغذائية أثناء الحرب، ما لم تحصل عليه أثناء السلام. سمع عبد القادر من قرية عامر وهو يقف في الطابور يتحدث: هذه الحرب كُلها بسبب مشروع الأقاليم. يا أخي يعملوا استفتاء عليها.
لم تتوقف صفية عن الدعاء إلى الله ليعيد الله منير إليها سالمًا. ذات مساء حلبت بقرتها وأخذت منه لزربة كعادتها فهي ترى جسده يضعف أمامها، بعد خلع أضراسه. صعدت إلى سطح الدار حيث زُربة وأولادهما يشاهدون القمر. جلست معهم وهم يتحدثون حول الحرب. شاركتْهم حديثهم وقالت: السعودية تُحاربنا ونِحن ما عَملناش لها حاجة، الله رزقهم وهم يلعبوا بالفلوس.
– يا صفية، الملك سلمان يقول: السعودية تُحارب مع المظلومين. ورِجع الشرق غرب والغرب شرق في أمة آخر الزمان.
توقف المطر فيبس الزرع وقد بدت سنابله بالظهور. لم يتأسَّف الفلاحون كثيرًا على ضياع محصولهم من الدخن والذرة، فقد عوضتْهم المساعدات الخارجية من القمح والأرز والدقيق والسمن … حين علمت صفية بمقتلِ تامر ابن عبده غالب الهندي، وهو يحاربُ مع المقاومة في جبهة مأرب التي بدأَت هناك، أخذت تبكي على ابنها منير، فضيَّقت الخناق على زُربة؛ ليعيد ابنها. خضع زُربة لأمرها ووعدها أنه سيذهب إلى تعز ولن يعود إلا بمنير وسيحصد مع إخوته ما تبقى من الزرع أعلافًا للبقرة.
١٢
سافر زُربة بسيارة أحمد جابر مجانًا وهو متوجِّهًا إلى صنعاء، نزل زُربة في منطقة الدِّمنة، واستقلَّ سيارةً أخرى خاصة بارعة في صعود الطرق الجبلية الوعرة بعشرة أضعاف الأجرة للوصول إلى وسط المدينة عما سبق. أقلَّتْهُم السيارةُ عبر مديرية سامع وجبل صبر المنفذ الوحيد المتبقي لمدينة تعز. تلك الطريق التي كان يُنقل عبرها المواد الغذائية والدواء بالحمير إلى المدينة عند بداية الحصار. استغرقت الرحلة سبع ساعات التي كانت من قبل تستغرقُ ساعةً واحدةً من القرية إلى تعز، وكما حدث مثل هذا الشقاء لصنعاء بعد ذلك حين قُطعت طريق صنعاء-مأرب وكان الوصول إلى مأرب عبر مديرة البيضاء.
شاهد المدينة شبه خاوية وهو يتَّجه إلى بيت عمه ثابت عمر، وجد عمه بصحة جيدة بعد أن عمل عملية البروستات، يؤيد الحوثيين ليس حُبًّا فيهم، بل لكراهيته للسعودية على الرغم من أن ابنه عبد الحافظ فقد ولده الوحيد جرَّاء القصف الحوثي على المدينة. رأى زُربة قصف طائرات التحالف وهي تقصف على مواقع الحوثيين، الذين بدورهم يقومون بقصف مواقع المقاومة في تعز، فهم يرونهم عملاء مع التحالف. استمع زُربة كثيرًا إلى الخلاف الدائر بين عمه المؤيد للحوثيين وأكبر أولاده عثمان الذي يرى أن الحوثيين غُزاة. ذات يوم انضمت زوجة عمه سارة مع ابنها في الرأي فشتمهما ثابت وذهب إلى غرفته يشكو خروج زوجته وابنه عن طاعته. كثيرًا ما كان ثابت يجلس بجوار بيته الواقع على الشارع الذي تمر فيه المقاومة، وحين كان قاداتهم يمرون يشتمهم ويصفهم بعملاء «الملك سلمان»، فكانوا يضحكون من كلامه فهم يعرفون أن أولاده من مؤيدِي المقاومة.
سأل زُربة جنود المقاومة التابعين للإصلاح عن ابنه منير الذين أخبروه أن يبحث عنه في فرقة أبو العباس في المدينة القديمة. ذهب إلى هناك فرحبوا به حين عرفوا أن له صِلةً بسعيد السلفي، وراحوا يبحثون في كشوفات الشهداء فوجدوا اسم منير محمد صالح العريقي بينهم، وتأكد من مقتله حين شاهد صورته وهو بلحية مبعثرة على خدَّيْه. جلس في مكانه منكِّسًا رأسه نحو الأرض، حتى لا يشاهدوه وهو يبكي وهم يقولون له: ابنك شهيد، بطل. قاوم المُعتدين الروافض. ابنك الآن مع حور العين.
– والله، إنَّها فتنة عثمان إلى اليوم يا عبده.
نصح عُمر ابن أخيه زُربة بالسفر إلى القرية، وأخبره أن يكون حذرًا من سقوط قذيفة فوق رأسه، أو رصاصة راجعة من الجو أو قذيفة عشوائية على المدينة، وأخبره أنه كان يود النزوح إلى القرية لو كان داره صالحًا للسكن، وراح يدعو على الحكام الذين يتقاتلون بشعوبهم.
١٣
ذهب زُربة إلى سوق القات بالقرب من السوق المركزي قبل الغروب ليشتري دفعة ثانية من القات، على الرغم من المعارك الدائرة بين المقاومة والحوثيين في حي الجحملية وشارع الستين … والقصف العشوائي على المدينة. شاهد قصف التحالف العربي على مواقع الحوثيين حول معسكر ٣٥ وقصر الشعب وقصر صالة، كان هناك دخان الموت الكثيف ينبعث من أماكن متفرقة من المدينة. مر أمام دكان صاحب الحلاوة عبد الحبيب القباطي في باب موسى وجده مغلقًا، وقد تراكمت أمامه القمامة أكثر بعلو أكثر من متر، والكلاب الضالَّة تتصارع فيما بينها على عظمة صغيرة في القمامة المكدسة، حدَّث نفسه: «ما أشبه هذه العظمة بالتاج عند العرب».
وقبل أن يعرف بموت زُربة سقطت قذيفة مُدوية على السوق بالقرب منهما، وتبعثرَت أشلاء المتسوِّقين وبيَّاعي القات حولهما وارتطمت يد مسلوخة من الكتف بجسد خِرباش حول معصمها ساعة ثمينة، فأبعدها عنه برعب. قام من تحت جسد زُربة وهو لم يستوعب الدم الذي عليه هل هو من جسده أم من جسد زُربة. نجا خِرباش من الموت فجسد زُربة حماه من شظية مميتة، وبعد أن تعدَّى ذهوله مما حصل، رأى تلك اليد وقد نُزعت الساعة عن معصمها، وسمع أنين الجرحى والمسعفين يصيحون: خمسة عشر شهيدًا …
منهم من اتهم طيران التحالف العربي بقصف السوق ومنهم من اتهم الحوثيين. سُجِّل زُربة ضمن قائمة الشهداء عن عمر ناهز الرابعة والخمسين من العمر. مات والقات في فمه يوم ٢٠ / ٨ / ٢٠١٥م. كما كان يتمنى يومه الأخير أن يكون.