التخليص في التلخيص
حاولتُ فتح باب غرفة الفندق الذي نزلتُ فيه، والذي كان اسمه «رويال بالاس هوتيل»، وهو اسم كان «يخضُّ» كل من يسمعه؛ إذ ليس فيه من سمات الملكية إلا الاسم، ومن صفات القَصْر إلا القِصَر (بكسر القاف) فقد كان مكوَّنًا من دورَين فقط، ورغم هذا فإيجار الغرفة فيه لا يزيد عن الألفَي دولار في الشهر؛ إذ هو يقع في حي «وست وود» القريب جدًّا من الجامعة، المزدحم، باهظ التكاليف لمغتربٍ مثلي لا يملك سيارة، وسوف يقطع في اليوم الواحد ما لا يقل عن الكيلومترات الأربعة ذهابًا وإيابًا، «وتلك أقصر مسافات السير مشيًا على الأقدام في لوس أنجلوس» المهم، حاولت فتح باب الغرفة في الصباح، فوجدت خلف الباب شيئًا كان يمنعني عن فتحه، وكررت المحاولات حتى فتح الباب وعرفت السبب. خلف الباب كانت جريدة الأحد (العدد الأسبوعي) من «لوس أنجلوس تايمز» عددٌ هائل الحجم، وزنه لا يقل عن الكيلوجرامات الخمسة، ومربوط كالطرد بدوبارة من النايلون حتى لا تتبعثر أجزاؤه؛ إذ هو عدة ملاحق، ومجلتان مصوَّرتان على ورقٍ مصقول، ملحق للبيت وأدواته، للحدائق، للسفر، لرجال الأعمال، للرياضة، للسينما والمسرح والتليفزيون، للمعسكرات «الكامبنج»، للمقالات والرأي وخطابات القراء، في الحقيقة كمٌّ هائلٌ أكبر بكثير من حجم أي دليل تليفون لمدينة كبيرة.
حملت العدد بيديَّ الاثنتَين؛ إذ لم تصلح اليد الواحدة في حمله، ورحتُ أتفحَّصه، ولا أقول أتصفَّحه؛ فتلك عمليةٌ مستحيلة. رحت فقط أفصل الملاحق، وأضعها جانبًا وأنا مذهول، ذهولًا يكاد يشابه ذهول رفاعة رافع الطهطاوي حين رأى الجرائد والمجلات لأول مرة في فرنسا؛ إذ كانت شيئًا لم يُعرف بعدُ باللغة العربية في مصر، يقول رفاعة الطهطاوي في وصفها (وأنا أنقله هنا عن الكتاب الرابع الذي أصدره الدكتور أنور لوقا عنه): وأما المادة الثانية «من الدستور الفرنسي»، فإنها تُقوِّي كل إنسان على أن يُظهِر رأيه وعمله وسائر ما يخطر بباله، مما لا يضر غيره؛ فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه، خصوصًا الورقات المسماة بالجرنالات والكازيطات (جمع جازيت على ما أعتقد) فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة، سواء كانت داخلية أم خارجية، وإن كان قد يوجد فيها من الكذب ما لا يُحصى، إلا أنها تتضمن أخبارًا تتشوق نفس الإنسان إلى العلم بها، على أنها ربما تضمَّنت مسائلَ علميةً جديدة التحقيق، أو تنبيهاتٍ مفيدة أو نصائحَ نافعة.
وقطعًا في ذلك الوقت لم تكن الصحافة قد عرفت الإعلانات الصحفية بعدُ، ولو كان الشيخ رفاعة قد رأى الإعلانات وحدها في الصحف الأمريكية لكان قد كتب فصلًا عن تلك الأعجوبة، بل لقد كانت بالنسبة لي أنا القادم من القاهرة — وقد عرفت الإعلان الصحفي والتليفزيوني والإذاعي — أعجوبة. صفحة من جريدة مثلًا تُعتبر في عرف الإعلان الصحفي هنا حدثًا فريدًا، بينما في أمريكا مسألةٌ عادية تمامًا، ومفروض أن حجم الإعلانات في الصحف المصرية لا يزيد على ٣٠ أو ٤٠ في المئة من حجم الصحيفة، هذه الإعلانات تكاد تتجاوز اﻟ ٧٠٪ من حجم الصحيفة، وتصل إلى ٥٠٪ من وقت الإرسال التليفزيوني، وقطعًا لو أن لوس أنجلوس تايمز تصدر في القاهرة لما عرف عددٌ واحد منها طريقة إلى قارئ؛ إذ لا بد أن تذهب جميع أعداها إلى باعة الورق؛ فثمن ورقها يزيد كثيرًا جدًّا على ثمن العدد منها.
سألتُ أحد أصدقائي من أساتذة الجامعة: ألا يزعجكم أبدًا هذا الكمُّ المغرِق المقلِق من الإعلانات، «وما أكذبها في معظم الأحيان»، فالإعلان يقول لك تستطيع أن تكسب ٢٥٠٠ دولار إذا اشتريت سيارة كذا مثلًا، والمكسب أو بالأصح «المكذب» … إعلاناتٌ مطارِدةٌ آمرة، محرِّضة تكاد تصيب قادمًا غبيًّا مثلي بالدوار.
ردَّ صديقي قائلًا: إن الإعلانات هنا مادةٌ مقروءة ومسموعة جدًّا، فالأمريكي العادي يبحث عن الأرخص دائمًا والأقل تكلفة والأكثر جودة، فهي مباراة إذن بين المحالِّ والشركات لإثبات أنها الأرخص والأجود، ولم تكن تلك أول أعجوبةٍ أمريكية أصادفها.
•••
وأيضًا لم تكن أول مرة يرد فيها على ذاكرتي اسم رفاعة الطهطاوي، وأنا في لوس أنجلوس. كنت قد قرأت كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» في صدر شبابي، وكان ما يبهرني فيه هو هذا التقبل الواعي الناقد لفرنسا ما بعد الثورة، وتفتح عصر النهضة، مع أنه كان الوحيد الذي لم يرسله محمد علي ليتعلم شيئًا، إنما أرسله ليكون إمامًا للبعثة فقط، حتى يحفظ على طلبته الذين كان معظمهم من الأتراك والشركس دينهم وإسلامهم. ولكن، بينما انصرف عدد من طلبته إلى العربدة في شوارع باريس، تفرَّغ هو للدراسة، وتعلَّم اللغة الفرنسية وأجادها، وترجم الكثير من أمهات كتب ذلك العصر، وبالذات كتب مونتسكيو وفولتير ومفكري ما قبل الثورة. بحسه الإسلامي الفطري أدرك أن ما يشهده من رقي ونظافة وتحضُّر ونظام؛ ليس بعيدًا كثيرًا عن روح الإسلام، وإنما هي تكاد تكون «بضاعتنا رُدت إلينا»، فأنا شخصيًّا أعتقد أن النهضة الأوروبية لم تحدث إلا بتأثيرٍ إسلاميٍّ عربيٍّ كبير تسرب إلى أوروبا عن طريق الأندلس، وأن النهضة الأوروبية بعد قرونها المظلمة الوسطى لم تكن إلا الامتداد الحقيقي للحضارة الإسلامية التي وُجدت في إسبانيا وأوجدت أعلى مستوًى للتحضر البشري في ذلك الوقت.
ولكن الفارق بين أستاذنا الشيخ رفاعة الطهطاوي وبيني أنه ذهب إلى بلد، كان تتجسد فيه روح أوروبا الناهضة، قبل أن تتحوَّل إلى أوروبا المستعمِرة الطاغية، ولم يكن ذلك البلد في حالة عداء أو تربُّص ببلده، العكس هو الصحيح. كانت مصر في ذلك الحين بعين «محمد علي» ذات الفراسة تتطلع إلى فرنسا؛ لتتعلَّم وتُتقن العلم الحديث والتفكير العقلاني المستنير، تتعلم الطبيعة والكيمياء والطب، وقد طوَّرها العرب من العصور البدائية، وأوقفوها على عتبات التفكير العلمي مثلما فعل ابن رشد وابن سينا وجابر بن حيان والغزالي، ثم أخذت أوروبا الزمام وتعلَّمت من هؤلاء، إنما في نفس الاتجاه إلى مرحلةٍ أعلى حتى أصبح علينا، وقد نُكبنا بالعصر المملوكي الأول والثاني والتركي «ألف عام ربما من الركود وانعدام أعمال الفكر، والطاعة العمياء»، أصبح علينا أن نأخذ نحن عنهم هذه المرة ونتعلم الأرقى والأنفع …
كان هذا شأن الشيخ رفاعة في زمانه.
ولكني إنسان يذهب إلى أمريكا وهو يعرف أمريكا، وثورة المواصلات والاتصالات في العالم قد جعلت كل ركن من أركان المعمورة معروفًا بكل ما يدور فيه لديَّ، وفي جميع المجالات، ثم إني قادم من قاهرة تحيا شريحة منها في مثل مستوى الشرائح الأمريكية العليا نفسها، وتستعمل كل أدواتها وتكنولوجياتها، كل ما في الأمر أن الشريحة العليا الأمريكية هنا بالغة الاتساع «١٠ ملايين مليونيرٍّ أمريكي مقابل مائتي ألف مصري»، وقفتُ ذات مرة على ساحل الخليج «مارينا دل راي»، أحاول أن أتصوَّر عدد اليخوت القابعة في الميناء؛ إذ هو بالتقريب يمثل عدد المليونيرات في مرسًى واحدٍ من مدينةٍ أمريكيةٍ واحدة، وإن كانت غنيةً جدًّا، فوجدت أن اليخوت لا تقلُّ عن عشرة آلاف في حين أن كل اليخوت في مصر راسية قريبًا من شيراتون، ولا يزيد عددها على عشرة أو ربما أقل.
بمعنًى آخر ليس نمط الحياة في أمريكا بغريب علينا، فلست ذاهبًا لقارةٍ مجهولة إذن، بل إن هذا النمط أصبح ظاهرةً عالمية تكاد تجدها في كل مكان من العالم غير الاشتراكي من بانجوك إلى جبل طارق. إن الأمركة أصبحت هي النظام الغربي الرأسمالي السائد، وبرغم كل كفاح الإيطاليين والفرنسيين والألمان للصمود في وجه تلك الأمركة، فإنها تستشري بألباب الأجيال الجديدة في كل مكان …
ماذا كان يفعل الشيخ رفاعة الطهطاوي في مكاني هذا؟
•••
يصف المدينة.
ولكن المدينة موصوفة ومعروفة في التليفزيون المصري تمامًا.
والشوارع الواسعة وناطحات السحاب والبساطة التامة في تخطيط المدينة: شوارعُ طولية مع شوارعَ عرضيةٍ، ونظام للمرور الدقيق، ونعيق عربات الإسعاف أو الحريق أو البوليس لا ينقطع ليلًا أو نهارًا. ونفس حلقات دالاس وديناستي وسفينة الحب، كل ما في الأمر أنك تشاهدها تحت وابلٍ مستفز من الإعلانات التجارية، ومعظمها عن موادَ غذائيةٍ تعتقد معها أن الأمريكان يعشقون الطعام عشقًا وأن قوامهم لا بد كالأفيال، ولكنك تُفاجأ بالنساء، في الشوارع وفي كل مكان، في سُمك عصا الخيزران، والرجال حريصون على قوامهم بالأوقية والجرام، والناس حريصون على صحتهم تمامًا حتى لكأنهم يريدون أن يعيشوا إلى الأبد. تمطرك وسائل الإعلان على الدوام بوابل من التحذيرات، وكأنها وابل من البلاغات العسكرية تُحذِّرك من العدو المبين؛ المرض، أو التدخين، أو القيادة تحت تأثير الخمر أو المخدرات. غسيل مخ صحيٌّ مستمر حتى إنني أول مرة في حياتي أفكر في الإقلاع عن التدخين، وظللت أكافح نفسي حتى يصعد هذا القرار من مستوى النية الحسنة إلى مستوى التنفيذ، حتى تمكنت من تنفيذه في آخر أسبوع لي في لوس أنجلوس، ولكن للأسف داهمني الفيروس اللعين من الإنفلونزا الكاليفورنية؛ اضطرني لتأجيل السفر، ودخولي غرفة الإنعاش، والمرور في سردابٍ مرضيٍّ رهيب، من أعراض في القلب وأعراض في الكبد والأمعاء والعظام، ولما أفقتُ وأبديتُ دهشتي للطبيب أو بالأصح للطبيبة رئيسة قسم الإنعاش، وهي أستاذةٌ طويلة القامة تمامًا مهيبة، أثارت دهشتي من أن يحدث لي كل هذا من مجرد إنفلونزا، قالت: إنها تقتل في العادة ما بين ٢٥٠٠ إلى ٣٠٠٠ شخص في كاليفورنيا وحدها، وهي ليست كالأنفلونزا عندكم؛ إن ميكروبها يجيء طازجًا من أقصى الشرق، اليابان والصين وكوريا والساحل الشرقي لآسيا؛ إذ إننا في لوس أنجلوس نُعتبر نهاية العالم الغربي، وليس بعدنا سوى الشرق عبر المحيط الهادي، والقادم الجديد مثلك ليست لديه مناعة ضد هذا الفيروس؛ لا بد أن تحمد الله أن أفقت منها في أربعة أيام كادت تكلفني تسعة آلاف دولار، لولا نظام التأمين الصحي، الذي تؤمن به الجامعة وكل مؤسسة، على العاملين فيها.
أجل، ماذا كان يمكن أن يقول الشيخ رفاعة، القادم من قاهرة اليوم، عن لوس أنجلوس وأمريكا؟ لا بد أنه كان بفراسته وذكائه سيُزيح جانبًا كل ما يلمحه على سطح المجتمع الأمريكي، ولا بد أنه كان سيضحك كثيرًا حين يعود إلى القاهرة، ويسمع عن ظاهرة «اغتصاب» البنات؛ لأن حوادثَ ثلاثةً قد حدثت في أماكنَ متفرقةٍ من قاهرتنا العتيدة، يضحك لأن الصحف الأمريكية خلال السنوات الأربع الماضية، والتي تم فيها إبلاغ البوليس، كانت مليونًا ونصف مليون أنثى اغتُصبت، من الأطفال إلى سن الشيخوخة، وهذه هي الحالات التي وصل علمها إلى السلطات فقط، وأبدًا لم تطلق الصحف الأمريكية لفظ «الظاهرة» على هذا العدد المهول، وإنما بقيت في عداد الحوادث اليومية العابرة التي لا بد أن يحفل بها أي مجتمعٍ صناعي أو في طريقه إلى العصر الصناعي، كما هي حالتنا الآن.
لا بد أن الشيخ رفاعة كان سيقف موقف المتأمل من مجتمعنا نحن وليس من أمريكا؛ فالحقيقة أننا ليس كثيرًا وإنما دائمًا ما نحيا عصرًا بتفكير عصرٍ سابق، فتصوَّر أننا ممكن أن نحدث إصلاحًا زراعيًّا، ونهضةً صناعية، وتغييرًا لعلاقات الإنتاج، ثم نغير هذا التغيير من مجتمعٍ شبه اشتراكي إلى مجتمعٍ رأسماليٍّ صناعي، ومن مجتمع لم يكن أحد يجرؤ على الهجرة منه، وإنما كانت الهجرة إليه، إلى مجتمع هاجر منه مئات الآلاف، ويُصدِّر العمالة البشرية للدول المحيطة بطريقة لم تحدث في تاريخه، ويغيب منه أربعة ملايين شاب ورجل وزوج على الأقل، تاركين عائلات تتلقى النقود، ولكنها تفتقد الأب والمربي الحامي. نتصور أن يحدث هذا كله ونظل نحيا «بأخلاق القرية» أو بتقاليد عصر كان عدد المصريين فيه ربع العدد الحالي وحياتهم مستتبة، ما أقل ما كان يحدث فيها من تغيير، كانت الوزارة تستمر أحيانًا ثلاثة عشر عامًا برئيسٍ واحد ومجلسٍ واحد دون أن يثير هذا شيئًا من دهشة أحد. في العام الذي أخذتُ فيه الابتدائية كان عدد المتقدمين للامتحان خمسة آلاف تلميذ، اليوم عددهم يربو على المليون! نتضاعف عشرين مرة، ونبقى على نفس النمط من التفكير وعلى شاكلة التصرف؟
هذا هو المستحيل بعينه.
إن بلادنا تمرُّ بفترة مخاضٍ عسير، نعاني آلامه النفسية والبدنية الهائلة، ميلاد سينشأ عنه مجتمعٌ آخر غيرنا الآن، وغير ما كناه في الماضي؛ فالماضي لا يعود أبدًا، والزمن لا يتوقف، والحياة هي التغير المستمر، وهو تغيرٌ دائمًا إلى الأرفع والأفضل، حتى وإن بدا — خاصة وهو يحدث أمام أعيننا — تغيرًا إلى الأسوأ. وما نشاهده اليوم في حياتنا من تغير في القيم والأخلاق والتصرفات والعلاقات، ونذهل له في أحيان، لو وضعناه في منظوره الصحيح، لا أقول لتقبلناه، معاذ الله! وإنما أقول لقلَّت دهشتنا له، ولأخذناه مأخذًا علميًّا جادًّا، ودرسنا أسبابه الحقيقية وأبعاده العلمية والنفسية والحضارية، ولما فكرنا لثانيةٍ واحدة أن يكون منع جرائم الاغتصاب بإجراءٍ عامٍّ نُعيد فيه المرأة إلى البيت بالقوة، ونضعها خلف ستائر الحريم والحرملك. لقد انتهى عصر الحريم والحرملك إلى الأبد، وخرجت امرأة المدينة، مثلما خرجت زميلتها امرأة الريف من آلاف السنين، إلى الحقل، وإلى العمل، وإلى مسئوليتها كإنسانٍ كامل لا يقلُّ حصانة وحصافة وتعقُّلًا وتأدُّبًا عن الرجل.
أعتقد إذن، أن شيخنا رفاعة كان، مثله مثل أي مصريٍّ صادقٍ مخلص، سينظر إلى مجتمع كالمجتمع الأمريكي نظرةً علميةً موضوعية، لا يتعالى عليها، ويقول: ما دام ذكر أمثال هذا المجتمع لم يرد في كتب الأقدمين، فلا مناص أمامنا إلا أن نرفضه تمامًا ونتحصَّن ضده، ونحارب علمه وفنَّه وثقافته.
إن ما يستحق محاربته في المجتمع الأمريكي ليس هو ذلك المجتمع، وإنما إدارة هذا المجتمع بطريقةٍ عدوانية، بحيث تحوَّل هذا التقدم الهائل إلى قوًى تكبت الشعوب في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وتقف بجوار الديكتاتوريين، وضد التطور والتقدم، وتساعد على انتشار التعصب والجهل والخرافات، وتحاول أمركة العالم الثالث؛ لضمان ولائه وموارده ومحصولاته ونفطه.
أهذا الموقف وتلك السياسة شيءٌ حتمي من خصائص الرأسمالية، حدثت في أوروبا وتلقفتها أمريكا، وطورتها حتى وصلت بها إلى ما يحدث اليوم؟
أم إنها خاصيةٌ أمريكية بحتة؟
وإذا سلمنا بهذا، فهل من الممكن أن نتعلم — نحن الشعوب المغلوبة على أمرها في العالم الثالث — من هذا المجتمع الذي يصرُّ على قهرنا؟ أم نرفض ذلك المجتمع جملة وتفصيلًا، ونرتد محاولين دراسة مجتمعاتنا في جملة حياتها النقية الإسلامية الأولى؟
من حسن الحظ أني عدت إلى القاهرة فوجدت النقاش حول هذا الموضوع مشتعلًا، ووجدت أزهريًّا عبقريًّا آخر قد تصدى بشجاعة للإجابة عنه. ذلك السؤال الذي دوَّى صوت رفاعة رافع الطهطاوي به، وظل يدوِّي، وجد «خالد محمد خالد» يردُّ عليه بعد مائة وخمسين عامًا من الصدى.
ولكن ذلك حديثٌ آخر.
عشتَ يا أزهر.