إلى الأستاذ «جلال الدين الحمامصي»
أعتقد أنه بصدور القوانين التي فتحت حسابًا في البنك الأهلي لسداد ديون مصر الخارجية، تُوِّجت الحملة التي قادها الكاتب الكبير جلال الدين الحمامصي، تتويجًا لم أكن أتوقعه بمثل تلك السرعة والهمة … وهكذا أهنئ الدكتور علي لطفي رئيس الوزراء على أنه أثبت في أول امتحانٍ سريع له أنه قرن القول بالعمل، وأن روحًا جديدة قد جاءت بمجيئه، أما أستاذنا جلال الدين الحمامصي، فماذا أقول له؟ سلمت يدك أيها الرجل، ودمتَ لإخلاصك لكل كلمة تكتبها لأني أعرف أنها نابعة من صميم صدقك مع نفسك وواجبك ورأيك …
ولكن اسمح لي أيها الصديق أن أبدي رأيي المتواضع في حكاية أن ندفع، نحن الشعب، ديون مصر الخارجية تلك. إنها دعوة — من ناحية المبدأ — سليمة مائة في المائة … ولكنها في الواقع مسألة فيها شكٌّ كبير …
فالديون التي علينا ديون أخذنا معظمها من الولايات المتحدة ومن البنك الدولي ومن بعض الدول الأوروبية، أي من الدول الغنية، دول العالم الأول … وهي دول تشترط لإعطائنا القرض شروطًا، منها نسبة فائدة عالية جدًّا، بعضها يصل إلى ١٦ أو أكثر في المائة، هذا غير اشتراطها أن يتم شحن المعدات على سفن أمريكية، وأن تقوم الشركات الأمريكية بتنفيذ معظم المشاريع، أي هي نقود تعطيها أمريكا وغيرها باليمين، وتأخذ معظمها باليسار … هذه واحدة.
الثانية أننا لسنا وحدنا الدولة المديونة في العالم الثالث، كل دول العالم الثالث مديونة للعالم الأول، حتى الدول الأوروبية، يوجوسلافيا وبولندا والمجر ورومانيا وغيرها مديونة.
وقد كانت هناك نظرية تقول إن الدائن هو الأقوى دائمًا، لأنه باستطاعته، على أقل القليل أن يكفَّ عن إقراضك فتتوقف أنت عن السداد وتفلس.
ولكن مع أني غير اقتصادي بالمرة، أستطيع القول: إن الدائن لا يدفع لك خوفًا منك، إنما هو يدفع خوفًا على نفسه وعلى نقوده، لأنك إذا توقفت أنت وأفلست ضاعت نقوده هو كبنك أو كمقرض.
بمعنى أن مصلحة العالم الأول أن يظل يُقرِض العالم الثالث، حتى يظل هذا العالم الثالث يكدح ليُسدِّد أقساط الدين والفوائد. في وضعٍ كهذا لا بد أن ينقلب الموقف ويصبح المدين هو الأقوى، هو الذي يهدد الدائن بالتوقف عن الإنتاج، ويعلن إفلاسه، وليخبط الدائن رأسه في الحائط بعد هذا.
ولكني لا أطالب بأن تعلن مصر — لا قدر الله — إفلاسها وتوقُّفها عن الدفع، إنما أنا أطلب بأن نتوحَّد مع المديونين الآخرين لتكوين المنظمة الدولية للمديونين على نسق منظمة الدول المصدِّرة للنفط «الأوبك». فقبل قيام الأوبك كانت الدول التي تستورد البترول تملك في يدها زمام الموقف، وهي التي تحدد سعر برميل البترول باعتبارها تحتكر القدرة الشرائية للنفط. وبعد قيام منظمة الأوبك انقلب الحال، وأصبحت الدول المصدرة للمادة البترولية الخام هي الأقوى، وهي التي تحدد سعر النفط، وهكذا ارتفع سعر البرميل من دولارين إلى ٣٤ دولارًا، طبعًا بفضل حرب أكتوبر المجيدة.
فلماذا لا نصنع نحن المديونين نفس الشيء، وكما كونت الدول التي لا تخضع للشرق أو للغرب منظمة للدول غير المنحازة وأصبحت قوةً دولية يحسب لها ألف حساب، لماذا لا نصنع نحن المديونين مع أكثر من مائة دولةٍ أخرى مديونة مثلنا، منظمة الدول المديونة «م. د. م» ونذهب قوةً متحدة إلى البنك الدولي والعالم الأول ونقول: اسمعوا يا جماعة، أنتم لديكم فائض من الزبد تلقونه في البحر، وفائض من القمح تطعمونه للأسماك، وفائض من كل شيء. لديكم المال والبضائع والغنى كله، ونحن لدينا المجاعات والكوارث الاقتصادية والتضخم الرهيب … ونحن بصراحة لن نستطيع أن ندفع لكم إلا كذا من أقساط الدين وإلا كذا من الفوائد … نُحدِّد نحن ما تستطيع أن تدفعه كل دولةٍ مديونة، ولا يُشكِّل عبئًا رهيبًا على ميزان مدفوعاتها بحيث يعجزها عن الحركة والحياة والإنتاج. أي نحن الذين نُحدِّد حجم ما نستطيع أن ندفعه كل عام سواء لهذا أو لذلك.
وإذا لم يعجب هذا الكلام البنك الدولي أو العالم الأول فليشربوا من أي بحر يعجبهم، أو فليأتوا بطائراتهم وأساطيلهم ويحتلونا، وعليهم حينذاك أن يعملوا هم من أجل إطعامنا وتسديد ديونهم.
أجل أيها السادة، نحن المديونين، نحن الأقوى، وأبدًا ليسوا هم، فقط كل ما يجعلنا ضعفاء ومتهالكين أننا نواجه هذه القوى الغنية الكبرى منفردين، وبائسين وخاضعين. أما لو تكتلنا، فستخضع تلك القوى لنا، ليس حبًّا في سواد عيوننا، لكن لأنها لا تستطيع أن تفعل غير هذا، وإلا توقفنا جميعًا، كل المديونين، عن الدفع، وأفلست هذه القوى الغنية الكبرى.
لماذا لا تقود مصر، كما قادت حركة عدم الانحياز، هذا التيار وتنادي بإنشاء «م. د. م»؟
إنني في انتظار تعليقٍ اقتصادي على اقتراحي هذا …
وفي نفس الوقت لا أملك إلا أن أعود أحيي الأستاذ جلال الدين الحمامصي على حملته، وإذا ما أنشئت «م. د. م» فلتحول المبالغ التي تتجمع لسداد الديون، لإقامة مشاريع إنتاجية تساعدنا على سداد مديونيتنا من ناحية، ومن ناحية أخرى تمنع عنا التضخم والغلاء ومد اليد «للي يسوى واللي ما يسواش» …