الكلام لطوبة والفعل لأمشير
أحيانًا يصبح عدم الكتابة كتابة …
وصحيح أنه لا توجد عند الكاتب أي حالة من حالات عدم الكتابة؛ إذ هو دائمًا يكتب، صحيحًا يكتب، ومريضًا يكتب، صاحيًا يكتب، نائمًا يكتب، إذ الجهاز الخالق منتج ومطور وراصد الأفكار والأحاسيس والتخاريف داخل عقله، لا يتوقف أبدًا عن العمل، إنه مثله مثل الموتور للسيارة الذي يعمل باستمرار.
كل ما في الأمر أن حالة الكتابة الفعلية، مثلها بالضبط مثل حالة، تعشيق الفيتيس، لإعداد العربة للسير …
وهكذا تصبح حالة عدم الكتابة كتابة، كل ما في الأمر أنها كتابة مع إيقاف التنفيذ، أو مع الموتور الدائر على الفاضي دون أمر عصا «الفيتيس» بالسير. وقد اضطررت خلال الأسابيع الماضية إلى التوقف عن مزاولة «فعل» الكتابة بالنظر إلى سفري لبغداد للتحكيم في مهرجانها المسرحي الأول. ولنا حديث قادم عن هذا المهرجان وعن الأنيميا الخبيثة التي أصابت المسرح المصري بالقياس إلى حالة الصحة المفرِطة التي أصبح يتمتع بها المسرح العربي في بلاد علَّمناها نحن — ومنذ أقل من خمسة عشر عامًا في أحيان — فنَّ المسرح. ولكن إحدى النتائج الهامة بالنسبة لهذا المهرجان، أنني أُصبتُ في آخر أيامه لا بالأنيميا المسرحية الخبيثة وإنما بإنفلونزا عراقيةٍ محترمة. لي الآن، حتى وأنا أكتب هذه الكلمات، عشرون يومًا وأنا أعاني منها. فيروس «عراقي» لا بد أنه اشترك في الحرب العراقية الإيرانية، وأصيب بكل القنابل والقذائف والغارات حتى تحصَّن منها تمامًا؛ ولم يعد يؤثر فيه أي مضادٍّ حيوي وأي راحة وأي علاج! مع أن الذي يتولى علاجي اثنان من خيرة أطباء مصر، الدكتور حسن حسني أستاذ الصدر والدكتور مصطفى المنيلاوي أستاذ الأمراض الباطنية، رغم كفاحهما الرهيب، وأدويتهما المعجزة، فالفيروس ماضٍ ينخر في جسدي وعظامي، ويخرج لسانه لي مؤكدًا أنه سيمضي إلى نهاية شوطه الذي قد يأخذ شهرًا بأكمله، باعتباره فيروسًا مقاتلًا من المؤكد أنه ساهم في قهر إيران وشارك، مع الجيش العراقي الباسل في «إبادة» طوابيرها الزاحفة!
المهم، أعود فأقول: إن عدم الكتابة يصبح أحيانًا كتابة في أعلى مستوياتها. وقد بدأت رحلتي للعراق ومع المرض قبل تفاقم الأحداث الأخيرة بسويعاتٍ قليلة. ولأني لم أكن أستطيع أن أكتب، فكل ما كان يمكنني أن أصنعه، أن أراقب. وحتى لا أراقب الأحداث من داخل مصر حيث كان مركزها الرئيسي وإنما من هناك، من أقصى الشرق، وحسنٌ أن كان معي راديو يابانيٌّ صغير الحجم رهيب القدرة؛ إذ باستطاعته أن يعثر على أي محطةٍ إذاعة في العالم كله، من أول أمريكا الجنوبية إلى جزائر فيجي. وهكذا لم يفتني تعليقٌ واحد من تعليقات مختلف الدول والمحطات على هذه الأحداث.
أول ما سمعت كان خبرًا عاديًّا ضمن نشرة أخبار لندن للساعة الواحدة، تقول إن ست طائرات إسرائيلية قد أغارت على مقر منظمة التحرير في مدينة تونس، وإن عدد القتلى يربو على الستين، وإن عدد الجرحى يبلغ المئات، وإن مصير «أبو عمار» لا يزال مجهولًا.
وقد صيغ الخبر وطريقة إذاعته بلهجةٍ عادية تمامًا، وكأنها لهجة خبر فوز إحدى فرق إنجلترا لكرة القدم على فريق آخر، إلى درجة أني لم أصدق أنه حقيقي، ورحت أجري كومبيوتر الراديو الصغير على كل محطات الدنيا لأتحرَّى الخبر. وتوقف الكومبيوتر عند محطةٍ عربية تذيع باللهجة الفلسطينية وظللت أسمع، فإذا بالمحطة تهاجم أبا عمار بطريقة لم أسمع بمثلها، قائلة إنه استسلم للعدو الإسرائيلي، وإن الخراب والدمار والقتل يحل بالشعب الفلسطيني أينما وُجد أبو عمار. وتأكدتُ بالطبع أنها إذاعةٌ إسرائيل الموجَّهة للفلسطينيين؛ ولكن المفاجأة كانت صاعقة حين انتهى الحديث فإذا بالمذيع يقول: هنا صوت فلسطين من دمشق العربية الصامدة!
حديث كهذا يُذاع بعد سبع ساعات من وقوع الغارة، ومحاولةٍ مجرمة لاغتيال ياسر عرفات، محاولةٍ ضاربة عرض الحائط بكل القوانين الدولية والأعراف، وحاظية باعتراف أمريكا وتأييدها المطلق! شيءٌ غريب جدًّا جدًّا! من دمشق «قلب» العروبة «الصامد»! وتوقعتُ أن تصحِّح الإذاعة موقفها، وتُدين الغارة، وتدين إسرائيل أو أمريكا، ولكن شيئًا مما توقعتُ لم يحدث.
وأنتقل إلى بقية المحطات العربية، لعلمي أن حادثًا كهذا لا بد أن تقطع معه الإذاعات العربية إرسالها العادي، وتُذيعه وتُندِّد به، بصوت ملوكها ورؤسائها شخصيًّا، وأن تلغي البرامج العادية، وتخصِّص اليوم كله للتعليقات حول الحدث وأخذ آراء الناس، وحتى آراء رجل الشارع. ولكن المحطات الإذاعية العربية كلها، بعون الله، من الدار البيضاء حتى الشارقة، كانت ماضية في إرسالها العادي، وكأن شيئًا ما لم يقع؛ ما يطلبه المستمعون، حديث المرأة والرياضة، آداب المعاشرة الزوجية في الإسلام، تعليم اللغة الإنجليزية ونطقها الصحيح، قصة من التراث العربي المجيد! ولا شيء أبدًا عن أكبر صفعة نالت الأمة العربية على مسمع ومرأى من العالم أجمع! هكذا، بالبلطجة والقوة والسفالة. ولولا التعليق اليتيم القادم من القاهرة والاستنكار الواضح الذي بدا في التعليق لأصبت بالفالج من الأمة العربية التي «هي والأحداث تستهدفها تعشق اللهو وتهوى الطربا … لا تبالي لعب القوم بها أم بها سرف الليالي لعبا» هكذا قال شاعرنا الشعبي العظيم حافظ إبراهيم منذ أكثر من ثمانين عامًا، والقول ما زال ساريًا إلى الآن.
ظللت بقية اليوم حائرًا بين محطات الإذاعة الأجنبية التي خصصت برامج بأكملها للحدث، وبين محطاتنا العربية التي اكتفت بأن تسوق الخبر مصحوبًا بصفات مثل الاعتداء الغاشم أو المجرم، لإسرائيل في أحيان، والعدو الإسرائيلي في أحيان، واستنكارًا باهت اللون لتأييد أمريكا لإسرائيل، «ذلك الذي يخرق كل الأعراف الدولية»!
حين يئست أن ينطق العرب، بَلْه أن يفعلوا شيئًا، رحتُ أفكر … إسرائيل قالت إنها قامت بهذه الغارة ردًّا على مقتل المدنيين الإسرائيليين الثلاثة في لارناكا، وجاء هذا الرد بعد ثلاثة أيام فقط وربما أكثر قليلًا.
وعملية الغارة الإسرائيلية التي ضربت قنابلها بالسنتي والملِّي، مباني منظمة التحرير، لا يمكن أن يستغرق الإعداد لها أقل من ستة أشهر بالتمام والكمال.
إذن العملية مُعدَّة وجاهزة، بالضبط مثل عملية ضرب المفاعل النووي العراقي، وكان لم يبقَ على تنفيذها إلا ذريعةً ما.
في حالة المفاعل النووي العراقي اتخذت إسرائيل من حادث إطلاق النار على السفير الإسرائيلي في لندن ذريعة للغارة الجاهزة الإعداد تمامًا، وقبلها بشهور، وللآن لم يثبت مَن أطلق النار على السفير الإسرائيلي، وأكاد أقسم أن الفاعل كان أحد أفراد «الموساد» المخابرات الإسرائيلية نفسها.
في حادث الغارة على تونس كانت الذريعة مقتل ثلاثة مدنيين في لارناكا، وإن كنت لا أستطيع أن أقسم أن الفاعل أو الفاعلين من الموساد، وإذا كان الفاعلون هم فلسطينيين فأعتقد أنهم جناحٌ منشق، وما أكثر الأجنحة الفلسطينية المنشقة التي تتولى الموساد وبواسطة «الريموت كنترول» توجيههم إلى حيث تريد، وإلى من يغتالون بالضبط، وفي أي وقت.
إننا نواجه دولة كلها تقريبًا تعمل لحساب الموساد؛ إذ الموساد — كما يقول الكاتب الإسرائيلي «هاليفي» — هي نواة الإرهاب التي أنشأ عليها بن جوريون وبيجين وشارون ورابين وأخيرًا انضم إليهم المحترم بيريز؛ ما يسمى جيش الدفاع الإسرائيلي، وهو المؤسسة العسكرية الإرهابية التي تقود إسرائيل الآن وتوجِّه سياستها. ومن أجل هذا يقول الكاتب الإسرائيلي «هاليفي» إن إسرائيل ستظل ترهب وتخلق وتختلق الإرهاب العربي لترد عليه بإرهابٍ إسرائيليٍّ متوحش، هو عماد إسرائيل الأول في القضاء على الشعب الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية باجتثاث أصحابها؛ فهي تعلم علم اليقين أن بقاء الشعب الفلسطيني يعني بقاء قضيته. فبقاء شعب وقضية معًا مصيره دائمًا أن ينتصر الشعب وتُحلَّ القضية. والشعب الإسرائيلي خير مثال على هذا، فقد بقي حسبما يزعمون، ثلاثة آلاف عام، وهو يكافح «لاستعادة» وطنه، وأخيرًا وبالجبر والقهر والقوة والإرهاب استعادوه، وهو لا يريد أن يكرر المأساة، فليكن الأمر هذه المرة اجتثاث الشعب الفلسطيني نفسه.
وإسرائيل تعلم جيدًا أن اجتثاث شعب على مرأى ومسمع من العالم الحاضر «المتحضر، أو المفروض أنه كذلك» ليس بالأمر السهل، ولذلك فالحل هو قطع الرأس لذلك الشعب، فإذا كان اليهود قد التفوا حول العهد القديم والتلمود وجعلوه وطنهم أيام الشتات، فالشعب الفلسطيني يتلف حول منظمة التحرير، ويجعل منها وطنه الأرضي الأصلي؛ ولهذا فقد كان قطع الرأس — منظمة التحرير — هو المطلوب.
وهكذا بينما إسرائيل وأمريكا يضحكان علينا بلعبة السلام، وطريق السلام، وهل يكون الحوار بين الأطراف المعنية فقط، أو في مؤتمرٍ دولي، بينما كل هذا الحديث يدور، كانت المنظمة الإرهابية الإسرائيلية تجهز لقطع رأس الشعب الفلسطيني.
ومن المثير للدهشة هنا أن إسرائيل لم تضرب أولئك الذين ينادون باستمرار الحرب مع إسرائيل، وانشقُّوا على عرفات لهذا السبب، وهم بجوارها في سوريا والبقاع، ولكن التجهيز الأساسي كان لضرب ياسر عرفات ومنظمة التحرير المطالبين بالسلام، لأن السلام والاستقرار هما العدو الأكبر لقادة المجازر والإرهاب التي لا يعتنقها فقط حزب الليكود وكاهانا والمنظمات الإرهابية الصغيرة، ولكن ثبت للأسف أن بيريز ذلك المبتسم هدوءًا وسلامًا وزعيم حزب العمل الاشتراكي الديمقراطي هو أيضًا من الأعضاء السريين في جماعة المجازر الإسرائيلية.
سأكون صريحًا وأقول إن إسرائيل لا تخاف من هؤلاء الذين ينادون بالكفاح المسلَّح ضدها، وعلى رأسهم سوريا وليبيا، فإن هذا يتيح لها أن تغذي لهب فرن الإرهاب والحقد والمجازر التي تعدُّها للشعب الفلسطيني.
ومن أجل هذا، ومن أجل هذا فقط، كان على إسرائيل وأمريكا أن تحرج الرئيس حسني مبارك بحيث ينفض يده من عملية السلام، وأن ينسحب الملك حسين تجاه سوريا الداعية لحرب لا تقوم أبدًا، وأن توقع بين المنظمة والملك حول فقرة في بيان لا يقدم ولا يؤخر لأن المطلوب في النهاية هو: فك حلف السلام الذي قد بدأ يقوى ويشتد بين مصر مبارك والأردن والمنظمة والعراق. والغريب في الأمر أن بعض الدول البترولية لم تكن راضية عن هذا الحلف باعتبار أنها ضد عودة مصر، حتى لو كانت العودة لمصلحة الشعب الفلسطيني والقضية العربية بشكلٍ عام!
لست أذكر من قال هذا، ولكنه قال: إن الطريق إلى السلام ما لم يصحبه إعدادٌ عسكري قوي وفعال، إنما هو الطريق الحقيقي للاستسلام.
وقد أثبتت لنا الغارة وخطف الطيارة أننا في ظل الإمبراطورية الأمريكية الإسرائيلية المهيمنة على منطقتنا لا بد أن تكون لدينا وسيلة ما من وسائل الدفاع عن النفس، فهم «يتحدثون» عن السلام، ولكنهم «يفعلون» الخطف والإرهاب والتهديد، ونحن «نفعل» من أجل السلام، ونتصور أن هدفنا هذا لا بد أن يكون وسيلتنا في نفس الوقت، أي باستبعاد فكرة العدوان والقرصنة، وحتى الطعن في الظهر.
حسن جدًّا …
لقد انتهت الضجة، وعدنا نتحدث عن الطريق إلى السلام، وعاد «هوايتهد» يبشر بمستقبلٍ مشرق للمحادثات القادمة.
وكأن شيئًا لم يكن!
لا أيها السادة … لقد كان هناك شيءٌ بشع ومخيف. وعلينا إما أن نستسلم ونحيا تحت التهديد و«نمشي بجوار الحائط» …
أو نبدأ نفكر، و«نعمل» من أجل أن نعيش شعبًا ذا كرامة …
ولا كانت الشعوب إذا حكم عليها أن تحيا في ذل واستكانة …
ولا كنا … إذا ا خترنا هذا المصير المهين.