الغرق القادم في الطريق
ألا تشمون معي رائحةً غريبة لم نعهدها أبدًا ومنذ زمنٍ طويل في عالمنا العربي، رائحة بالقطع ليست منبعثة من داخله وإنما هي على وجه التأكيد محقونة من خارجه؛ شيءٌ غريبٌ نشاز، تسلل رويدًا رويدًا ودون أن ندري، أو لأننا ظللنا نتجاهله، ولا نحفل به حتى صار أمرًا واقعًا، وحقيقةً ملموسة لا يمكن لأي إنسان أن ينكرها.
أن يختلف الزعماء والحكام العرب، أو يتفقوا، هذه حكايةٌ قديمة ومعروفة تعودنا عليها من قديم الزمان، حتى أصبحنا نحن الشعوب العربية لا نقيم لها وزنًا، مسألة غير أساسية، فقد يتفق هذا الحاكم أو ذاك اليوم ثم يختلفان غدًا، ثم يعودان إلى الاتفاق. قد تتلاقى بعض النظم العربية وتنسجم ثم تتعارج وتلتحم أيضًا، واقعٌ عربيٌّ أليم ولكنه لم يكن يُشكِّل خطرًا كبيرًا ما دامت القاعدة العريضة من الشعب العربي، أي الأمة كلها، في حالة توافق وتلاحم وانسجام.
أما ذلك الذي يُشكِّل خطرًا حقيقيًّا فعلًا، أكبر الأخطار في رأيي وأعظمها، بل هو الكارثة بعينها؛ فهو أن تبدأ النعرات الإقليمية تأخذ شكل الاختلاف والتنابز الشعبي، أي يصل المرض إلى صلب الأمة وعمودها الفقري الصلب المتين.
فعلًا، بدأتُ، وبدأتم بلا شك تشمون تلك الرائحة وتلاحظونها، لست واهمًا في الإحساس بها أو مبالغًا، بل حتم الوضع أن يبدأ الإنسان يتصدى لها علنًا، ويكشفها، بل ويكشف جذورها، ومن أين؟ ولماذا جاءت؟ وما الهدف؟ وإلى أي مصير تريد أن تؤدي بنا؟
نعم، نحن أمةٌ كبيرة، هذا صحيح، تعدَّى مواطنوها المائة والعشرين مليونًا، تحتل مساحةً شاسعة من الأرض، هذا صحيح، من حافة المحيط الأطلنطي إلى حافة الخليج العربي، تكاد تشكل أهم جزء من الكرة الأرضية، وكأنما هي القلب من العالم ومركز الدائرة.
ومن الطبيعي في رقعةٍ كبيرةٍ عريضة هذا شأنها، حتى لو كان لها كل مقومات الأمة الواحدة والدين الواحد، اللغة الواحدة، والتكوين النفسي المتشابه، من الطبيعي أن تكون هناك خلافات واختلافات بين الأمزجة والطباع وحتى بين السياسات والمواقف، من الطبيعي أن يحب كل إنسان وطنه الأصغر كما يتعصب لقبيلته أو قريته أو منبته، هذه كلها أمور طبيعية واردة ومفهومة وموضوعة في اعتبار أي عقلٍ مفكر لهذه الأمة ككل، ويعمل من أجلها ككل، ويحافظ عليها ككل، بل ويموت من أجلها ودفاعًا عنها.
ولكن مع افتراض أن كل قرية من حقها أن تسخر بعض الشيء من القرى الأخرى، ومن حق كل قبيلة أن ترى من العيوب في القبائل الأخرى وأنها أقل مزايا منها ومن إنسانها.
مع افتراض أن كل هذا أمرٌ حادث ويحدث، إلا أن هذا لم يمنع أبدًا — ولا يمكن أن يمنع — أن تشكل كل القرى وطنًا، وكل القبائل وكل تلك المواقع الصغيرة المتناثرة وطنًا، وأن تشكل الأوطان أمةً واحدة سليمة البنيان، مدركة أنها وحدة لا يمكن أن تتجزأ، إذا اشتكى عضو منها تداعى له سائر الأعضاء، إذا أضير جزء منها، هبت الأجزاء جميعها تدفع عنه الخطر والضرر، وقد كنا فعلًا كذلك.
كنا كذلك حتى ونحن مستعمرون، يعمل الاستعمار القديم بلا هوادة على التفريق بيننا، وعلى طعن وحدتنا ليل نهار، وعلى إثارة الأحقاد القديمة والحزازات وتضخيمها، دائمًا حاولوا تقطيع أوصالنا وتقسيمها إلى مشرق ومغرب، والمشرق إلى عدة مشارق والمغرب إلى عدة مغارب، والمغرب الواحد إلى طوائف واتجاهاتٍ متناحرة تطعن بعضها البعض بلا رحمة؛ ذلك أن شعار الاستعمار القديم ذاك كان السياسة المعروفة: فرِّقْ تَسُد …
ورغم هذا لم يستطع ذلك الاستعمار أبدًا أن يقطع أوصالنا أو يوصلنا إلى درجة التطاحن الأهلي.
بل أكثر من هذا؛ لم يفشل الاستعمار في فض تجمعنا فقط، بل نجحنا برغم مكره ودهائه في التكاتف والتلاحم. وكلما ثارت قطعة منا تطلب الحرية والاستقلال هب الوطن العربي الشعبي، وأحيانًا الرسمي بأكمله يعاضده ويؤيده، ليس بالقول وإنما بالمال وبالسلاح وبالرجال وبكل شيء؛ هذا ما حدث في ثورة لبنان ضد الاستعمار الفرنسي، وفي ثورات مصر والسودان ضد الاستعمار الإنجليزي، وفي ثورة تونس والجزائر والمغرب ضد الاستيطان الفرنسي، وفي ثورة العراق ضد خونته الحاكمين المتعاونين مع الاستعمار الإنجليزي عليه.
واستقل العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه …
لم يعد هناك عَلمٌ أجنبيٌّ واحد فوق شبر واحد من الأرض العربية، ما عدا ذلك الجزء من فلسطين الحبيبة التي أيضًا مضينا صفًّا واحد نحاصره ونحاربه، ونطلب مع الفلسطينيين حقهم الشرعي المنتزع في أرضهم ووطنهم ودولتهم المستقلة؛ ليشكل عَلمها بقية قوس قزح الناقص من الأعلام العربية المرفرفة تتقارب أهلَّتها ونجومها وألوانها؛ لتوشك أن تصبح ذلك العلم الواحد الذي نرنو إليه ونتمناه.
ولكن مع الاستقلال، جاءت الخلافات أيضًا، وتكوَّنت من الحكومات محاورُ متعاركة ومعسكرات، ولكننا قلنا إن هي إلا أمور سيتكفل بها الزمن السريع، وحتمًا إلى زوال.
ولكن يبدو أننا لم نكن من بُعد النظر بحيث ندرك أن المسألة ليست بهذه السهولة التي تخيلناها وأن الحلم ليس قريب المنال، كما ظننا أو قاب قوسين أو أدنى من التحقيق.
وجاءت الحقنة غير المحسوسة ولكنها المحسوبة بدقة، تجلُّ على الوصف وبذكاء عدوٍ خارق وعارف تمامًا من أين وكيف يطعن!
هذه المرة لا يوجد استعمار أو احتلالٌ سافر نلقي عليه اللوم.
هذه المرة توجد «دول» مستقلة تمامًا، مصائرها كما يبدو لا بد أن تكون في أيديها، وتصرفاتها مفروض أنها محسوبة عليها.
هذه المرة تجيء الحقنة الرهيبة من الخارج، هذا صحيح، ولكن المناخ في الداخل كان مهيأً أيضًا، وبشدة لتفعل الحقنة مفعولها الأكيد القاتل. وليبدأ الأمر من لبنان بالذات …
والبداية من لبنان ليست صدفة، إنما هي اختيارٌ عميقٌ دقيق؛ فلبنان كان يشكل أكثر المناطق في الوطن العربي التهابًا وحساسيةً عرقية وطائفية وعقائدية، وأيضًا بداخله توجد أصابع وأيدي كثير من الدول العربية حتى البعيدة عنه تمامًا؛ واطعن يا أخ أخاك، واقتل يا مواطن جارك، وليتحوَّل الالتهاب بسرعة الحريق إلى دملٍ واسعٍ رهيبٍ مفتوح، بسرعة أيضًا تنتقل عدواه، وبسرعة أيضًا تنتشر ميكروباته وجراثيمه؛ بسرعةٍ هائلة تصاب الأمة العربية كلها بالحمى.
حمى حاكمية أو حكومية في مبدأ الأمر، ولكن القصد الأكبر كان أن تتحول إلى حمى شعبية، ومتى قال العراقي: أنا العراقي، فسوف يرد عليه المصري ويقول: أنا المصري، أنا الجزائري وأنا الليبي وأنا التونسي وأنا الخليجي بل وأنا الشارقي. وليبدأ التنابز بالإقليمية …
وليبدأ ذلك الإقليمي يكره الآخر كرهًا، ربما فاق كرهنا لعدونا نفسه …
وليجلس العدو على كرسيه مسترخيًا وقد نعم — لأول مرة — باله، فسوف تتكفَّل لا الحكومات العربية وحدها، ولكن الشعوب نفسها أيضًا؛ سوف تتكفل بحل إشكال وجوده وأمنه المزعوم، سوف تتكفل بشغل نفسها تمامًا حتى لا تعود تملك السيطرة حتى على أمنها هي، وعلى وجودها، على ثروتها نفسها.
لقد تكفَّل العرب أخيرًا بأنفسهم.
وويل العرب حين يتكفلون بأنفسهم.
وما قصة الأندلس ببعيدة حتى كان العالم العربي، المسلم فيهم يستعين على أخيه الحاكم العربي المسلم بالحليف الأوروبي الكاثوليكي؛ حتى سقطت أخيرًا غرناطة، وضاعت حضارة، وبدأت أمةٌ عظيمةٌ رائعة ينحسر ظلها من فوق سطح الأرض، ولا يبقى منها سوى بقايا ولاياتٍ متناثر كالآثار الباقية من مدينة هائلة خرَّبها، أول ما خربها أهلها، ولم يعد باقيًا منها سوى آثارٍ باهتة تدلُّنا فقط على ماضٍ حافل كان!
المسألة إذن خطيرةٌ جدًّا.
هي مسألة بقاء أو زوال.
مسألة وجود أو هلاك.
والبداية تبدأ هكذا؛
خلافات بين حكومات ومحاور.
العدوى تنتقل إلى الشعوب والأفراد.
ثم النهش الداخلي والسرطان في دم الأمة، بعده الموت.
أليس كذلك؟!
أنا لا يهمني أن يصيب ذلك الحاكم أو يختلف أو حتى يجرم …
أنا لا يهمني أن يصيب ذلك الحاكم في حكمه على خطأ الآخر، أو يتجنَّى.
أنا لا يهمني أبدًا أي خلاف حدث بين حاكمين أو حكومات.
الذي أصبح يهمني ويُقلق مضجعي هو أن الأمر وصل حد العراك الشعبي الداخلي؛ إذ كان قد أدى إلى حربٍ سافرة في لبنان.
فهو قد امتد تقريبًا إلى كل مكان في الوطن العربي بنفس البداية وبنفس الأعراض.
يا سادتنا الحاكم والحكومات، نستحلفكم حتى بحق المحافظة على وجودكم نفسه، بحق رغبة كل منكم الضاربة في البقاء والاستمرار، أن تصنعوا شيئًا يسد الثقوب في السفينة؛ فهي الآن أمام أعيننا جميعًا … تغرق، كل منا يتشبث بجزئه الخشبي الواقف عليه، ولكن السفينة ككل تغرق، ومعها ستغرقون ومعكم نحن نغرق.
بربكم. أي جنون هذا الذي يحدث؟ أي جنون؟!
هل أضعنا مع وحدتنا العقل أيضًا؟
كل العقل؟
ألم يعد عاقلٌ واحد، أو مبصرٌ واحد، يرى الغرق المحتَّم القادم!