العطش الفكري
ليتحدث إخصائيو الاقتصاد في عالمنا العربي قائلين: إن مشكلة عالمنا العربي هذا، مشكلة بالدرجة الأولى اقتصادية، فائضٌ كبير في الدخل من ناحية، ونقصٌ كبير في دخول الأفراد والدول الأخرى من ناحية. ليقولوا إننا — في مجموعنا — شعوبٌ مستهلِكة مستوردة، حتى الزراعي فيها يستورد القمح واللحم، والبترولي فيها يستورد البترول مصنَّعًا. ليقولوا: إن كل بلد منها محاصَر بالشيء ونقيضه في آن معًا. وفرة في السكان رهيبة في مصر مع قلة في الأيدي العاملة الخبيرة، وفرة في البشر وقلة في الأرض، وفرة في الأفواه وقلة في الإنتاج. في الجزائر مثلًا وفرة في الثروة الطبيعية، وقلة إلى درجة الشح في الثروة السكانية، في السودان أرض لا أول لها ولا آخر، ماءٌ لا أول له ولا آخر، ونقصٌ رهيب في المال اللازم والفلاح اللازم.
ليقل الاقتصاديون هذا وربما ما هو أكثر بكثير وأدقُّ منه، وليُشخِّصوا مشكلتنا على أنها عدم تكاملٍ اقتصاديٍّ عربي بحيث إن الأجزاء الثلاثة موجودة وبكثرة: الإنسان والمال والأرض بثرواتها، ولكنها أجزاء لا تزال متنافرة، لا تريد أن تتحد ليتكوَّن منها ذلك المركَّب العظيم القادر على أن يجعل منها «خير أُمَّة أُخرِجتْ للناس».
وليقل السياسيون ما شاءوا، السياسيون بيمينهم ويسارهم ووسطهم. اليمين ينادي بالارتباط السياسي الاقتصادي، وحتى العسكري مع الغرب لحل المشكلة القومية؛ مشكلة الوطن الفلسطيني والأرض المحتلة، واليسار يتفرع من النداء بالحرب الشعبية وسيلةً وحيدة، لتخليص العالم العربي من الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني والاحتلال الغربي الاقتصادي، يتفرع من النداء بهذا والرفض الكامل لأي حل ما عداه إلى قبول لحلول، شرط أن تكون في إطار الثورية، وشرط ألا تكون في إطار الاستسلام لمطالب العدو ومطامحه، بل هناك يسار طلع علينا أخيرًا يطالب بأن ينفض اليسار نفسه من الموضوع كله، ويترك اليمين يجرب تجربته، ويمشي في طريقة إلى منتهاه، عساه ينجح فيما فشلت فيه الثورية اليسارية.
وليقُلْ علماء الاجتماع: إنها مشكلة تطور، إننا في عالمٍ ثالث، على رأسه هذا صحيح، حضارتنا قديمة، وإنساننا ليس ابن الأمس، وإنما عمره آلاف الأعوام، ولكنا لا نزال نتخبط مع إخواننا المساكين، مثلنا أهالي العالم الثالث الذين فاجأهم الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والبرتغالي والهولندي بخروجه المفاجئ المبكر أو المتلكِّئ. ولعلمه أنها مجتمعات تنقصها مكونات الدولة، فقد عادت هي تستعين به وبزعيمته الصاروخية أمريكا. خرج من النافذة ودخل من الباب ضيفًا عزيزًا مكرمًا لا يخسر مليمًا على جيش احتلال، ولا يعاني أفراده من خوف القتل والثورة والهبات.
ولْيقل الكتاب والفنانون: إننا في مجتمع يعاني الإحباط، وإننا رقصنا على السلم، وإننا بينما كنا نقاوم الاستعمار كأمم وقوميات، ها نحن بعد زوال معسكراته نعود إلى القبلية، والعشائرية والإبطية.
وليقل المؤرخون: إن الإسلام كحضارة ورسالة لم يحدث إلا لزمنٍ قليل؛ فالوحدة الإسلامية صنعت الفكر والحضارة، وهزمت الإمبراطوريات، واستولت تقريبًا على العالم القديم كله حين انطوى العرب وغيرهم تحت راية الإسلام الواحدة، ولم يعد فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وأن الأمة تبعثرت، والحضارة تبخَّرت، والعالم الشاسع الواحد تمزَّق حين خفتت راية الرسالة؛ لتعود تطفح فوق السطح الخلافات بين عرب يعرب وعرب لست أدرى ماذا، هكذا بالتناحر الوحشي بين أبناء العمومة والخئولة، وحتى الأشقاء، انحسرت الشمس عن الأندلس، وجاء المغول، ومن بعدهم الصليبيون والأتراك، وانتهى أعظم فصل من القصة.
ليقل كلٌّ منا ما يقول؛ فالأقوال كثيرة، وباب الاجتهاد في التفسير مفتوح، ليفسر الجائع الذي يقرص بطنه الجوع ما يتراءى له من تخاريف الجوع، وليفسر الشبعان «المبسوط كده» ما شاءت له أبخرة الشبع والشراب المتصاعدة إلى مخيلة ضمنت تمامًا حاضرها، وضمنت تمامًا على الأقل مستقبلها ومستقبل أولادها. وليكن بعد هذا ما يكون.
بل لا أبالغ إذا قلت إنه أصبح لكلٍّ منا على حدة، لكل إنسان قادر على التفكير في أمتنا العربية، أصبح لكل منا رأيه الخاص ورؤاه الخاصة، بل حتى من لا يملكون أدوات التفكير يفكرون، بل ويخرجون بحلول. مائة وعشرون مليون رأي وحلٍّ، حتى ابنتي نسمة (عشر سنوات ونصف) لها تحليل ورأي وحل، فكلما رأت رونالد ريجان على شاشة التليفزيون صاحت: روني أهه … روني أهه.
وأسألها مشاكسًا: من يكون روني هذا؟ فتقول (متأثرة بالجو النفسي الذي تحياه مع ابننا الأكبر والثانوية العامة): آه عارفاه، مش ده اللي في إيده ٩٩ في المائة من أوراق اللعبة!
وقد يَعتبر البعض أني أخترع نكتة على لسان «نسمة» ولكن لا تتصوروا كم تتمتع أجيالنا الجديدة جدًّا، وخاصة مَن لديه أو لديها استعداد، كم تتمتع بقدراتٍ عقلية وإبداعيةٍ مخيفة.
وحين يصبح الرأي ١٢٠ مليون رأي فلا يعود ثمة رأي، ولا يعود ثمة قيمة لرأي؛ فالرأي يستمدُّ قوَّته وفاعليته من عدد المجمعين عليه.
•••
جاء وقت على أمتنا العربية كان مثلها الأعلى في حاكمها أن يكون ذلك «المستبدُّ العادل»، فيه وعنده تتركز وسيلتنا للخلاص. كم أرقتنا الأحلام بذلك المستبد! بذلك المستبد العادل الذي سيجتمع رأينا في رأيه، وبقوة يطبق العدالة والقانون، بل لعل وراء هذا الحلم كثير من الثورات والانقلابات التي حدثت في عالمنا العربي، وفي العقل الباطن لكل ثائر أو منقلب، أنه لا بد أن يكون أو يحقق ذلك المستبد العادل.
وجاء وقت على هذه الأمة راحت تحلم فيه بالزعيم الواحد أو الأوحد الذي يجمع الجماهير حوله، ويجعل من ملايين الأصفار أعدادًا صحيحة تقبل الجمع والتكاثر والضرب وتصبح لها فعلًا فاعلية الملايين. أناس كانوا يفكرون في الفرد الزعيم، وأناس يفكرون في الشعار، وهكذا!
وجرَّبنا …
وجرَّبت هذه الأمة الزعامات أشكالًا وألوانًا وأسماء، بل جرَّبنا أحدث صيحات القيادة؛ القيادة الجماعية، ومؤتمرات القمة، والقرارات الحاسمة التي لا رجعة فيها.
وسوف نظل نجرب؛ لأننا سوف نظل نحيا.
ولكن المشكلة أننا بعدُ لم نجرب كلمةً غريبة ينظر الناس إليها دائمًا «وخاصة الحكومات» بريبة، وبنوع من الإحساس بالأرتيكاريا، ألا وهي «الفكر».
أنا أُفكِّر؛ فأنا موجود. قالها الرياضي الفيلسوف «رينيه ديكارت» من زمن، ولكن لا أقصد ما قال «رينيه ديكارت» ولا أقصد الفكر بمعنى التفكير.
أنا أقصد الفكر بمعنى النور.
أنا أقصد الفكر بمعنى الثراء الفكري الوافر.
ونحن أغنياء في بشرنا، أغنياء في أرضنا، أغنياء في صحارينا، أغنياء بمحيطنا المتحد الواسع الذي يحتل قلب العالم، وجغرافيًّا يتحكم فيه، وبتروليًّا وأرصدة يتحكم فيه، بل واستراتيجيًّا أيضًا يتحكم فيه. أغنياء في كل شيء بوفرة، ولكنَّ تفرُّقنا الأزلي هو فقر فكرنا.
ببساطةٍ شديدة تعالوا بنا في جولةٍ سريعةٍ خاطفة نستعرض كمَّ ونوع الفكر المطروح في عالمنا العربي. لا أقصد الفكر بذاته أو لذاته وإنما أقصد الفكر كمشاعلَ متعددة الأنواع ولكن هدفها واحد؛ أن تُنير، لمن يريد أن يفكر أو يحل أو يعرف، الطريق إلى الحل.
إن الذي أحدث الانقلابات الرهيبة في سياسة أمريكا الخارجية بضعة كتب — من بينها بالطبع كتاب كيسنجر الشهير — التي كانت إحدى الأفكار الهينة فيه فكرةً مبسطة جدًّا: لماذا نقاطع ونعادي المعسكر الشيوعي، لماذا بدلًا من أن نقاطعه ونعاديه لا نتاجر معه، بل ونحيله إلى سوق لبضائعنا.
بهذه الفلسفة الجديدة التي تخلَّت بها أمريكا عن موقفها «المبدئي» من معاداة الشيوعية عالميةً ومحليةً وروسيةً وصينيةً، إلى أن أصبحت الصداقة بين أمريكا والصين ربما أشد من الصداقة التي بين أمريكا وجارتها الرأسمالية المكسيك.
هذه أفكار طُرحت فكانت نتيجتها تثقيفًا للساسة والسياسة، وتعبيدًا للطريق، ومكاسب عظمى ليس لأمريكا وحدها وإنما للنظام الرأسمالي في العالم كله، بل نتيجتها أن تحوَّل الدولار من هابطٍ على الدوام في سلم القيمة إلى مرتفع ومرتفع؛ لتصبح أمريكا قابضة على أقوى اقتصادَين في العالم ألمانيا واليابان، ومن بعدها فرنسا وإنجلترا وعالمنا العربي والثالث كله، قابضة قبضة لم تحدث لأمة من قبلُ ولا أعتقد أنها ستحدث من بعدُ.
النقود أصلها فكر، وازدهار الاقتصاد أصله فكر، والثورة فكر، والحرب فكر، والسلام فكر. وهناك صحيح أفكار مطروحة في سوقنا الفكرية العربية، مثل فكرة التعامل الاقتصادي، ولكن، وهذا هو الفارق الهائل بيننا وبين العالم الذكي الذي يفكر من حولنا، الفكر هناك يتحول، ما دام جديدًا وصحيحًا ومقنعًا بسرعة البرق، إلى أعمال، بينما الأفكار عندنا تتحول إلى شعارات تبقى معلَّقة كالنجوم في سابع سماء، دونك ودون تحقيقها الفوري الفعال خرط القتاد كما قال الأقدمون، بينما العطش الفكري في عالمنا العربي تتشقق له شفاهنا وتكاد تقتلنا ظمأً، فهناك عشرات القضايا التي ندركها ولكن لا نراها؛ لأن رؤيتها في حاجة لتسليط ضوءٍ فكري عليها، ماذا بعد المفاوضات وقيام الكيان الفلسطيني؟ ماذا إذا لم يقم هذا الكيان؟ ماذا إذا لم يتحدد موقفنا من الدولتَين العظميَين، أما من نظريةٍ جديدة تُحدِّد لنا كيف نقف المواقف ولماذا نقفها؟ أي مصلحتنا الكبرى في بترولنا؟ هل نقوده نحن أم يقودنا هو؟ وإلى أين؟ وأي الطرق نسلك لاستثمار الفوائد؟ وهل الأجدى أن ننسلخ عن الأوبك، أم نلتزم جديًّا بقراراته؟
حتى وضعُنا السياسي نفسه في حاجة إلى إعمال للعقل، وتفكُّر وابتكار فكرٍ جديد؛ ذلك أنه، وايم الحق، مضحك، هناك المعسكر الاشتراكي العربي، وهناك المعسكر الرأسمالي العربي، وفي الغرب النمط الرأسمالي واحد مع قليل جدًّا من التعديلات، والنمط الشيوعي واحد مع قليل جدًّا جدًّا من التعديلات، أما مَن في معسكرَينا نحن، فالدولتان اشتراكيتان مثلًا، ولكن البعد بينهما أكبر بكثير من المسافة الكائنة بين أيهما والدولة العربية «الرأسمالية» المجاورة. حتى «الناصرية» في مصر شكل وفي لبنان شكل، وفي الأردن أو سوريا شكل، الموقف من أفريقيا، الموقف على المدى الطويل من إسرائيل، هل نقيم صناعات، أم الأرخص أن نستورد ونستهلك؟ وما موقف صناعة تخلفت كصناعاتنا المحلية، حتى لقد أصبحنا نستعمل الكبريت أو الشفاط المستورد، هل نغلقها أم الأجدى أن نقويها وندعمها؟
•••
مثلي لا يستطيع في هذا الصدد إلا أن يحلم، لا بالمستبدِّ العادل ولا بالزعيم «الملهَم» وإنما أنا أحلم بمفكِّرٍ عملاق أو عمالقةٍ مفكرين، يُزيحون أستار الرؤى التقليدية، يَركنون جانبًا أطنانَ الشعارات، بجُرأة وقوة واقتحام يرَون واقعنا، ويخلقون له الحلول، أو على الأقل يقترحون له الحلول، مفكرون أغنياء لأنهم عِصاميون، خارج الأطُر والأجهزة، فيا ويلنا إذا تركنا للِجاننا وأجهزتنا أن تفكر لنا! إن هذا لهُو فكر الفقر المدقِع بعينه، والمشكلة أننا في سعينا للخروج من الأزمات الاقتصادية والسياسية والفكرية نطرح أفكارًا، تحاول علاج فكر الفقر بفَقر الفكر، حتى إذا لم يَصلح الدواء حاولنا أن نأتيَ بفقر الفكر ليُعالج فكرَ الفقر، وهذه أضغاثُ أحلام، ومعادلات مستحيلةُ التحقيق كما هو مستحيلٌ أيضًا أن نبقى في انتظار — القائد الفكري الملهم ليُخرِجنا من المأزق العقلي، ومن ثَم المأزق الإنساني. والردُّ الوحيد على هذا كلِّه هو أن نبدأ صحوةً فكرية أولًا. صحوة لا تَخجل من أن تقول الحقيقة في وجه مَن يريدها ومن يرفضها. صحوة قبل أن نموت يا حكوماتنا العزيزات، فنحن لو مُتنا مُتُّم أنتم الآخرون، وعليكم أن تُبقونا أحياء، حتى تَبقَوا أحياء، وتبقَوْا تحكمون.
والصحوة وسيلتها الصِّحافة والإذاعة ووسائل الإعلام، وكل هذا كيف يتأتَّى إلا بحدٍّ أدنى من الحرية؛ ليُعطيَ للكاتب أو المفكر حرية لن يَعبث بها.
صحوة ليس هدفها النقد، وإنما هدفها الصحوة، الإفاقة من غيبوبة الدوامة الرهيبة التي نَحيا فيها. وحتى مجرد رؤية الواقع، رؤيةً واضحةً صريحةً غير مهزوزة، هي في حدِّ ذاتها بدايةُ أي حل حقيقي.
وإلا لماذا كان الفكرُ أصلًا، لماذا أفرزَت البشَرية مُفكِّريها، إن لم يكن لمواجهة الغيبوبات الفكرية والحضارية كالتي بالضبط نواجهها؟