عكس الكتابة
شديد النهَم أنا لقراءة كلِّ ما يَصدُر في عالمنا العربي من صحف ومجلات؛ ذلك أني بعد انتماءٍ عاطفيٍّ وجدانيٍّ فطري لعُروبتي، بدأتُ أُحِسُّ أني لا بد أيضًا أن أنتميَ «عقليًّا» لهذا العالم. وإذا كانت العاطفة والإحساس والوجدان مسائلَ تَصدُر عن عقلٍ مجهول يُسمُّونه اللاوعي مرةً، أو العقل القديم؛ فالعقل الجديد، ذلك الذي يتميز به الإنسانُ عن كافة المخلوقات، هو العقل الذي «يدرك» «ويَعي» و«يتأمَّل» و«يناقش» ثم يخرج باستنتاجات تُصبح قوانينَ يَستنير بها الإنسان نفسُه، وأيضًا يُنير بها الطريق لغيره، إلى أن يأتيَ عقلٌ آخرُ أو عقولٌ أخرى، تعي وتُدرِك وتتأمل وتُناقش إلى أبعدَ وأبعد، ثم تَخرج باستنتاجاتٍ وقوانينَ ذاتِ مدًى أطولَ وربما أعمق، وبهذه الطريقة تتقدم المجتمعات، وبهذه الطريقة يتقدم البشر.
وقد خرجتُ من قراءاتي — كل ما تُصدِره المطبعة العربية في كل مكان من أنحاء وطننا الكبير، سواءٌ أكان صحفًا أم مجلَّاتٍ أم كتبًا — بعديد من الانطباعات والأفكار، فلم أكتمها، ولِمَ لا أذكرها معكم وجميعًا نناقشها، لعل وعسى نخرج ببصيص نور، والله دائمًا أعلم.
الانطباع الأول الذي خرَجتُ به أن كثيرًا من كتاباتنا هي بالضبط «عكس الكتابة»، مثل اكتشافهم أن هناك نقيضًا للمادة اسمه ضد المادة. فالكتابة وُجِدَت أصلًا ليُسجِّل الإنسانُ الحقائقَ التي يكتشفها عن الدنيا وعن نفسه، هكذا الكتابة؛ وسيلة لتسجيل الحقيقة. وجدتُ أن الكتابة عندنا كثيرًا ما تكون لإخفاء الحقيقة، أو على أوهن الفروض للتَّمويه عليها؛ ففي الجرائد مثلًا بينما الأخبار الخارجية التي تنقلها وكالات الأنباء الأجنبية وتُترجمها وتنشرها صُحفنا، وهذه الأخبار نادرًا ما تُضبَط أنها كاذبة، قد تكون أحيانًا مُغرِضة أو مُروِّجة لغرض مُغرِض، ولكنهم أبدًا لا يُروِّجون «كذبة»، لا بد أن الحادث الذي يَسوقونه قد وقَع فعلًا، وبالطريقة التي وقع بها، أقول: هذه هي القاعدة العامة «ولكل قاعدة شواذ»، بحيث إننا لم نَعُد نتوقف لدى أي خبر يأتينا من وكالة أنباء محترمة، لنتساءل هل هو كاذب أم حقيقي؟ كل الأخبار الخارجية صحيحة، أما الذي دائمًا نتوقف عنده فهو الخبر المحلي القادم من أي مكان من عالمنا العربي، أو بالتحديد لو كان الخبر مصدره الدولة التي تَصدُر فيها الصحيفة، بل وبشكلٍ محدَّدٍ أكثر لو كان مصدره وكالة الأنباء التي تتبع هذه الدولة. فنحن حين قلَّدْنا الغرب وأنشأنا وكالات أنباء «طوَّرنا» الفكرة، وجعلنا هدفَ كل وكالة أنباءَ الدعاية، والدعاية فقط، للحكومة التي تتبعها الوكالة، أو لنظام الحكم السائد في بلدها؛ فوكالات أنبائنا لا تنشط إلا لإظهار الأخبار «أو أحيانًا تلفيقها»، تلك التي تُرضي المسئولين في هذه الدولة أو تلك، وترفع من شأن سياستها، وتؤكد أن رأيها هو الأصح واتجاهها هو الأضبط.
إذا راجعتَ محصلة ما تَحفل به أيُّ صحيفة من أنباءٍ محلية، لوجدتَ أن كل شيء في البلد على ما يُرام، والشعب يرقد دائمًا في بُحبوحة العيش، سعيدًا بحكومته أيَّما سعادة، يُكِنُّ عظيم الامتنان لما تبذله في سبيله من جهدٍ شاقٍّ وعرق. لم أضبط مرةً وكالةَ أنباء عربية أو صحيفةً عربية تنشر خبرًا محايدًا عن بلدها أو عن بلدٍ آخر. فإذا كانت السياسة في ذلك البلد الآخر مُنسجِمة مع سياسة دولتها فالأخبار الواردة هي التي تُنشَر عن ذلك البلد. أما إذا كان الأمر العكس، فلا تُنشَر أبدًا إلا الأخبار المحلَّاة بالسواد أو الدم، أو أي تهمة من التهم الكثيرة التي تَضخَّم بها قاموسُ الاتهامات في عالمنا العربي الجديد الشجاع السعيد. صحيحٌ أنها أخبار، ولكنها أيضًا كتابة، وهكذا كما قلت نحن في مجال الخبر، والأخبار تَستعمل الكتابةَ عكس ما قُصِدت به الكتابة، وسيلة لإخفاء الحقائق الموضوعية من ناحية أو التمويه بها أو عنها، وفي نفس الوقت وسيلة لتجسيد «حقائق» هي في معظم الأحيان محض أكاذيب.
وقد يظن القائمون على أمر الصحف والمجلات في تلك البلاد أنهم يَنجحون بهذا في الضحك على قارئهم سواءٌ قارئهم المحلي أو العربي، ولكنهم في الحقيقة لا يضحكون إلَّا على أنفسهم؛ فنحن في عصر الموجات الإلكترومغناطيسية، وما تُخفيه المطبعة تتلقَّفه الآذان من الإذاعات الخارجية، والنتيجة الوحيدة المحتَّمة لهذا أن يَزداد القارئ المحليُّ والعربي انعدامَ ثقةٍ في تلك الصحيفة أو المجلة؛ وبالتالي من الدولة الصادرة عنها، وهي قطعًا نتيجةٌ مدمِّرة على المدى الطويل، وعلى المدى القصير أيضًا، لعلاقة الثقة بين المواطن ودولته.
الانطباع الثاني الذي خرَجتُ به من قراءاتي لمعظم ما تخطه أقلام كُتَّابنا هو انطباعٌ غريب يدعو للضحك؛ فمثلما تفعل الدول وكثير من المجلات والصحف، يصنع أيضًا بعضُ الكتاب، فتقريبًا لكل كُتابنا نوعٌ غريب من الدفاع عن النفس، ومحاولة مستميتة لإبعاد العيون عن ذات الكاتب أو مراميه، ومرتديًا ثوب «الموضوعية» المحضة نجد أن لا هدف للكاتب سوى إثبات أنه وحده الذي على صواب، وأما الباقون جميعًا فهم المخطئون.
ويتبنَّى تمامًا وِجهة نظر الآخر. إن الاتفاق — أي اتفاق — بين بشرَين ليس أبدًا كتمارين الهندسة التي كنا نأخذها في الثانوي، ونقول في النهاية: إن هذا المثلث ينطبق على الآخر تمامَ الانطباق. إن الاتفاق البشري يَختلف في أنه «يتماسُّ» تَماسَّ الدوائر حيث تتلامس الدائرتان بجزء من محيطَيهما فقط، وتبقى معظم أجزاء الدائرة حرةً لها ما تشاء من آراء. ونحن لا نفعل هذا.
حين نتفق نريد أن يكون الاتفاق تامًّا وشاملًا لكل جزئية من جزئيات التفكير. وحين نختلف نختلف في كل شيء، حتى إذا تخاصَمَت دولتان في بلادنا العربية فكل ما يتعلق بالدولة الأخرى ملعونٌ ملعون، حتى شعراؤها ومُطرِبوها ملعونون، أرضها ملعونة، طعامها الشعبي ملعون هو الآخر!
بصراحة هذه الطريقة من التصالح الكلي أو التخاصم الكلي هي طريقة الأطفال، حين يتخاصمون تخاصمًا تامًّا أو يتصالحون تصالحًا تمامًّا.
ولهذا يَبقى السؤال قائمًا: هل مِن الممكن أن نحصر خلافاتنا واتفاقاتنا بحيث دائمًا تكون حول «بعض النقاط»؟ الاتفاق حول بعض النقاط، والاختلاف أيضًا، إذا حدث، يكون حول بعض النقاط؟
ألا نصير بهذا أكثرَ عمَليةً في خلافاتنا، وبالتالي تصبح خلافاتنا مثمرة. وبمناسبة «الموضوعية» هذه لا بد لنا من وقفة حِيالَها؛ فما أكثرَ ما تُستعمَل هذه الكلمة «الموضوعية» في كتاباتنا، مع أني نادرًا ما أقرؤها في كتابات الآخرين! لا أحد دائمًا يُردِّد: «وبشكل موضوعي أقول …» ذلك أنهم دائمًا يكتبون بشكلٍ موضوعي حتى لو كان الموضوع ذاتيًّا، أو أنهم حين يتحدثون عن ذواتهم لا يكون هدفُهم الدفاعَ عنها، وإنما الهدف مناقشة ذواتهم تلك بطريقةٍ موضوعية تُحتِّم عليهم أن يَعترفوا بالخطأ إذا أخطَئوا أو يُراجِعوا موقفهم إذا عنَّ لهم مراجعة مواقفهم. أما نحن فنقول كثيرًا: «ومن ناحيةٍ موضوعيةٍ محضة»؛ لأننا حقيقةً نستعمل هذا التعبير لإخفاء عدم موضوعيتنا، وإلباسِ ذاتيتنا لباسَ الموضوعية.
ونتيجة هذه المباريات الحامية في «الموضوعية»، فإن كتاباتنا كلَّها تكاد تتشابه، وإن هذه الرغبة العارمة في تجريد كتاباتنا من الذاتية لا تخلق سوى مواضيعَ ممسوخةٍ لا أثر للتفرُّد فيها، وكأنها مكتوبة جميعها بقلمٍ واحد. إن أحدًا منا لا يريد أن يَكتب مثلما يُفكِّر، ومثلما يعيش، ومثلما تتوارد له الخواطر؛ لأنه دائمًا يريد أن يَكتب مثلما يكتب الآخرون، ولأن الذاتية في الكتابة هي الموضوعية نفسها؛ لأن الذاتية تعني التفرد، والموضوعية في الكتابة تَعني أن يقترب كلٌّ منا من «الموضوع» بطريقته، ويتناوله من وجهة نظره الشخصية المحضة، ومن جِماع وِجْهات النظر الشخصية تأتي الموضوعية.
النتيجة أيضًا أنني لم أقرأ حتى الآن لكاتبٍ عربي مقالًا يعترف فيه أنه أخطأ مرة أو زلَّ، أو يَذكر لِذاته المصونة عيبًا، كلنا حين نكتب نكذب؛ إذ نتحشَّم ونرتدي أزياءنا الرسمية تمامًا، والعامة تمامًا، والمتفَق عليها تمامًا؛ حتى لا يبدوَ أحدُنا شاذًّا عن الآخرين، في حين أن الكتابة الحقة هي أن يَصدُق الإنسانُ مع ذاته وذوقه، ويرتديَ أو يكتب ما يحلو له وحده؛ إذ مِن جماع هذا يأتي الثراء الفكريُّ والغِنى الأسلوبي، وتتكوَّن لدى القراء عادة أن يخجلوا من أنفسهم ومن عيوبهم لو وُجِدَت. ويخلق الكُتاب الكذَّابون قراءً كذَّابين؛ فالكُتَّاب يَنظر إليهم الناسُ كمُعلِّمين سواءٌ أرادوا أو لم يُريدوا، ولأن معظمنا يُفضِّل أن يُسايِر الرأي العام والذوق العام والنفاق العام والكذب العام؛ فإننا نصل إلى درجة الفقر الفكري المدقِع؛ فالكل مسترخٍ في ظل الرأي المتفَق عليه، ولا أحد يريد أن يَصدم الآخَرين بالحقيقة حتى لو كان شديدَ الإيمان أنها الحقيقة، إنه يُفضِّل أن يَقول ما يُحب الناسُ أن يقوله، أو ما يُحبون سماعه، حتى لو كان هذا على حساب الحق، وحين يقرأ الناس ما يحبون قراءته فقط يتعوَّدون ألا يَقولوا أو يكتبوا للآخرين ما يحبون قراءته أو سماعه.
ولا يبقى إلا رأيٌ عقيمٌ واحد.
رأي لا يمكن أبدًا أن يُثير الفكر أو يُحرِّك الوجدان أو يُنشط الهمة.
ومحلَّك سر نتوقف!
بينما غيرنا بصدقهم مع ذواتهم، بالصراعات الفكرية القائمة بينهم؛ لا يخافون منها أبدًا ولا يرعبهم الخلاف، بالعكس، يعتبرونه علامة الصحة الجماعية، بينما هم بهذا يتقدَّمون، وبسرعة الصاروخ.
الانطباع الثالث والسريع أننا لا نعرف كيف نختلف؛ ولهذا فنحن أيضًا لا نعرف كيف نتفق. إن أي اتفاق بين شخصَين أو مجتمعَين أو دولتَين لا يَعني أبدًا أن يذوب كلٌّ منهما في الآخر، أو أن يتناسى كلٌّ منهما نفسه، ويكظم آراءه الخاصة، وإنما معناه أنه عند تلك النقطة، أو عند هذه النقاط بعينها، قد اتفقا، أما بقية آرائهما ومعتقداتهما فهي لا تزال كما هي محل خلاف …
أما نحن، فنحن كما قلت: إما أن نتفق حول كل شيء، أو نختلف حول كل شيء، فإذا تصالَحْنا تناسَينا كل أوجه الخلاف، أو عِشنا شهرَ عسلٍ سعيدًا مديدًا، وإذا تخاصَمنا تذابحنا، وكأننا قوم من المجانين لم يكن بينهم أبدًا ماضٍ كانوا متفقين حوله، ولن يكون أمامهم مستقبل من المحتم أنه بعد حين سيتفقون حوله أبدًا.
•••
ولهذا فالحقيقة ضائعة تمامًا في عالمنا العربي «السعيد الشجاع»؛ فالخلافات ليست حقيقة، والاتفاقات أيضًا ليست حقيقة، والآراء ليست اجتهاداتٍ شخصيةً هدفُها إطلاع الناس على رأيك أنت في القضية، وليس نفاقُ الناس عن طريق إيراد رأيٍ تَعرف أنهم يُجمِعون عليه، ولا خلاف بينهم حوله.
ولهذا أيضًا فالتفرُّد يُنظَر إليه في عالمنا العربي على أنه رجس من عمل الشيطان، وأن صاحبه لا بد مجنون أو مصاب بمرض من أمراض الكبرياء؛ إذ كيف يَجسُر على مخالفة «الإجماع» العام، ويخرج بهذا الرأي النشاز المتفرد، لا بد أنه مأفون أو معتوه … فلو كان عاقلًا حقًّا لآثر السلامة ومشى مع القطيع، ولمَا حدَّثَته نفسُه الأمَّارة بالسوء أن يشذَّ عن الرأي العام أو النفاق العام، وأن يقول ما يعتقد أنه الحقيقة، ورزقه على الله.
•••
أجل … إن أحد أسباب تخلُّفنا الكبرى أننا نتحاشى مواجهة الوقائع والحقيقة، وأن المواجهة بالرأي الصريح في وجه المُقال في حقه، وفي حضوره مسألةٌ غير واردة بالمرة؛ إذ الأسلم، والأكثر تمشيًا مع «الإجماع» الأخلاقي، أن يُقال الرأيُ في غير حضرة صاحبه، أو في غير وجوده …
ولن نتقدَّم أبدًا حتى نستطيع مواجهة أنفسنا؛ أولًا بحقيقتنا وحقيقة ما نفعله، ولا يَطرِف لنا جَفنٌ أمام ما ارتكبناه، فنعترف أننا ارتكبناه، وبشجاعة أيضًا نُعاهد أنفُسَنا على عدم تَكراره، ولن نتقدم أبدًا حتى نستطيع — بعد مواجهة أنفسنا — أن نواجه الغير، وبشجاعة أيضًا نقول له رأيَنا فيه في وجهه وفي حضوره … وحين نفعل هذا لن تَستطيع حكومةٌ من حكوماتنا أن تكذب علينا، ولا حاكمٌ من حكامنا أن يكذب ونُصفِّق له، وكأنه لا ينطق عن الهوى! وحين يَحدث هذا كله لنا على المستوى الفردي، ولنا على مستوى مجتمعاتنا وحكوماتنا، سنستطيع — أؤكد لكم أننا سنستطيع حينئذٍ — أن نواجه أعداءنا مواجهةً ساحقةً ماحقة، ننسفهم تمامًا؛ فأحد الأسلحة السرية التي اعتمد عليها أعداؤنا في محاربتنا هو علمهم أننا منافقون، غير قادرين على مواجهة أنفسنا أو كبارنا أو حكامنا أو حتى أصدقائنا.