غداء في الحادية عشرة مساءً
كان موعدي على الغداء مع الدكتور جورج صباغ، رئيس مركز دراسات الشرق الأدنى وحضارته، في الثانية عشرة ظهرًا تمامًا، وقد عرض الرجل بكرمه المعهود أن يمرَّ عليَّ بسيارته ليصحبني إلى مركز هيئة التدريس (وهو ما يقابل نادي هيئة التدريس هنا، ولكنه موجود في قلب الجامعة)، غير أني شكرته، وذكرت له أني أريد أن أكتشف الطريق إلى الجامعة بنفسي، وكأنني بمجرد وصولي إلى باب الجامعة، سأستطيع الوصول إلى النادي بلا مشقة، ولكني كنت واهمًا؛ فلقد ظللت أسير في شارع «ولشير» المؤدي إلى شارع «هيلجارد» حيث يوجد أقرب مداخل الجامعة؛ أقربها إليَّ حيث كنت. الجامعة لها عشرات المداخل، بلا حراسة أو حرس أو عربات أمن مركزي قريبة. ظللت أسير وأسير، والشارع يبدو وكأن لا نهاية له. ناطحات السحاب مدكوكة على الجانبين دكًّا دكًّا، عماراتٌ مهيبةٌ شامخة بُنيت بإسرافٍ شديد في المتانة والضخامة، ورغم ازدحامها فإنك تحسُّ أنها بدأت تتنفس، حولها فراغات غالبًا مزروعة، تقطعها الشوارع العريضة وإشارات المرور الكثيرة، فتحسُّ رغم ازدحام كل شيء بسيارات ومبانٍ وبشر، إلا أنه ازدحامٌ مكدَّس، ازدحامٌ منظَّم؛ تحسُّ أن هناك «بلدية» ومجلسًا وعقولًا خططت المدينة، ونفَّذت، وبكل صرامة ودقة. وعلى العموم فإن من حسن حظ أمريكا أن مدنها كأنها تقريبًا بُنيت في أوائل القرن العشرين، ولم تمرَّ بالعصر القبلي أو الإقطاعي أو حتى الصناعي الأول للمدن، بل وُجدت مباشرة في عصر السيارة فصُنعت لتلائمها؛ ولهذا فالسيارة جزء لا يتجزَّأ، ليس من الحياة الأمريكية، ولكن من الطبيعة نفسها، ظللتُ أسير وأسير، وأسأل عن شارع هليجارد، فيقولون لي: إنه على بُعد بضعة «بلوكات» أمامك. «والبلوك هو الوحدة الأساسية لتكوين الشارع هنا»؛ إذ بين كل بلوك وبلوك يوجد شارعٌ فرعي. يقولون بضعة بلوكات وأسير وأسير، وألهث. وقد سرت ما لا يقل عن عدة كيلومترات، والتفتُّ بحثًا عن سيارة تاكسي تنقذني من هذا العذاب؛ فاكتشفت أن مدينة لوس أنجلوس لا يوجد بها تاكسيات أبدًا، ولا حتى أمام الفنادق، وكل التاكسيات مركزية ولا سلكية! وما حاجة هؤلاء الناس إلى تاكسيات، وكلٌّ منهم يمتلك أو يؤجِّر سيارة، بل في معظم الأحيان كل فرد من أفراد العائلة يمتلك سيارة؛ فالسيارة هنا أهم من البيت؛ إذ تستطيع أن توقفها في شارعٍ جانبي وتبيت فيها إذا أعجزك البيات. «وقد اكتشفتُ أن الطلبة الفقراء في الجامعة يفعلون هذا»، ولكن بدون سيارة، أنت متصبِّب عرقًا مثلي، زائغ النظرات، تبحث عن تاكسي متطلعًا إلى السماء، وكأنما أصبحت الناطحات تطبق على أنفاسك فيضيق منك الصدر. حتى البنوك، أجل البنوك؛ مئات البنوك يحفل بها الشارع، يضع أصحاب البنك همهم في واجهته؛ ليجعلوها أفخم ما تكون، وأرصن ما تكون، وأكثر قدرة على اكتساب ثقة المودعين. وحين سألت ذات مرة صديقًا لي عن حكاية البنوك الفاخرة تلك وضخامة مبانيها؛ ذُكر لي أن البنك في العادة لا يحتل إلا طابقًا واحدًا من طبقات البناية، ولكنه هو الذي يقيم المبنى، ويؤجِّر معظمه بعد هذا؛ مكاتب ومساكن بلافتات توهمك أن مكاتبه هو هي التي تحتل كل المبنى، «لماذا لا نفعل هذا في مصر؟ ونطلب من كل بنكٍ عام أو استثماري أن يقيم مبناه الخاص بدلًا من أن يزاحم المواطنين في تأجير المباني والشقق، على الأقل يستثمر شيئًا من حصيلة إيداعاته على هيئة مبنى، يعود بالنفع على بلادنا المسكينة.»
بعد عناءٍ كثير وصلتُ إلى أول مدخل للجامعة، ولأن هناك كشك استعلامات يديره ويعمل فيه طلبة الجامعة أنفسهم، سألت فقالوا لي: إن هذا المدخل يفضي إلى كلية الطب والمستشفى الجامعي، وعليَّ لكي أصل إلى مركز هيئة التدريس، إما أن أخترق الكلية والمستشفى فأصبح داخل الحرم الجامعي، وإما أن آخذ الشارع الموازي لأصلَ إلى مدخلٍ قادم، وحين سألت عن المسافة إلى المدخل القادم، قالت لي الطالبة الصينية الملامح: بضعة أميال. بضعة أميال! لي أنا القادم «محطم الخطوات» من شارع «ولشير»! لا يا فتاتي، سأخترق كلية الطب والمستشفى، وأصل إلى الحرم الجامعي من أقرب الطرق، قلتُ هذا لنفسي، ولم أقله لها لسوء الحظ؛ حظي! فما حدث أني فقدت طريقي تمامًا داخل أكبر مستشفًى جامعي رأيته في حياتي «واتضح فعلًا أنه كذلك»، إلى درجة أنهم يُعلِّمون طرقاته بخطوطٍ ملوَّنة، فإذا أردت الذهاب إلى الاستقبال عليك باتباع الخط الأصفر، والحوادث الخط الأحمر، والصيدلية الخط الأبيض، وهكذا … والخط يُفضي من باب ممرٍّ طويل إلى باب، وتحسب أن مشوارك سينتهي عند الباب، وتفتح الباب فتجد أن الخط يواصل سيره إلى ممرٍّ آخر … وهكذا.
وأخيرًا وجدت نفسي خارج الخطوط والممرات كلها، وبالأصح خارج المبنى الرئيسي العلاجي للمستشفى، وأصبحت في كلية الطب، أدركت هذا من أسماء الأقسام غير الإكلينيكية.
وحين كنا طلبة في كلية طب قصر العيني (أي من ألف سنة) كانت الأقسام غير الإكلينيكية لا تتعدى أقسام التشريح، وعلم وظائف الأعضاء، والأقرباذين، والكيمياء الحيوية، ستة أو سبعة أقسام. هنا وجدت شجرةً طبيةً أخرى، ذات أفرع وأغصان وثمار لا علم لنا بها بالمرة؛ قسم الطب النووي، أبحاث السرطان، أبحاث ضغط الدم، زرع الأعضاء، الميكروبيولوجي (أي علم الحياة الميكروسكوبي) وعشراتٌ أخرى من الأقسام. وصحيح أن هذه الأسماء ليست جديدة على أي طبيب، ولو كان مخضرمًا مثلي، بل على أي مثقف، ولكن الجديد أن هذه الأقسام موجودة عندنا كفروعٍ صغيرة للتخصص داخل أقسام أمراض باطنة أو جراحة أو كيمياء حيوية، وليست أقسامًا مستقلة هذا الاستقلال الراسخ الكامل.
سرتُ حتى لم أعد أستطيع السير، ليس من قبيل المبالغة ولكن من قبيل الحقيقة والواقع، وبصعوبةٍ شديدة أمكنني أن أقف، ولو تركتُ العِنان لنفسي لارتميتُ فوق الحشائش المنسَّقة التي تحيط بكل مبنًى. وخُيِّل لي أني لو تحركت خطوةً واحدة لمتُّ من فرط التعب، وقلت لنفسي لماذا لا تحاول «الهتيش هايك» داخل هذا الحرم الجامعي المهيب؟ وأشرت إلى أول سيارةٍ قادمة ولم تقف، وكان هذا حظي مع الثانية والثالثة، واكتشفت السبب؛ فأنا واقف في مكان تسرع فيه السيارات في العادة، ولكي أنجح لا بد أن أصل إلى خطوط «الحمار الوحشي» المحدَّدة لعبور المشاة، حيث قانون المرور يلزم كل سائق عربة بالوقوف تمامًا عندها، حتى لو لم يكن هناك مشاة يعبرون بالمرة. وفعلًا توقفت عربة وأزاحت صاحبتها أكوامًا من الكتب كانت على المقعد المجاور، وجلست، وفوجئت أنها تُقدِّم لي نفسها، فقدمتُ لها نفسي، وطرحتُ عليها مشكلتي، فأنا تائه في الحرم الجامعي، وعندي موعد في النادي في الساعة الثانية عشرة، والساعة الآن جاوزتها بكثير، وسعدتُ تمامًا أنها ذاهبة إلى قريب من المكان، وأنها ستأخذني إليه. كانت أستاذة «هندسة وراثية». ولو كنت في حالة أطيب لاستفسرت منها عن كثير من الأسئلة التي تشغل بالي عن هذا العلم الحديث المخيف؛ ذلك الذي يستطيعون بواسطته أن يضيفوا بعض «جينات» الوراثة إلى «الجينات» الأصلية للنبات أو الحيوان؛ لتكسبه صفاتٍ لم تكن فيه؛ طولًا أو عرضًا، أو ضخامة، أو حتى قدرةً إخصابية، أو عضلية. ذلك العلم الذي يقف العالم الآن على مجرد عتباته والذي لا حدود لما يمكن للبشرية أن تبلغه إذا تمكن علماؤها منه، واكتشفوا أسرارًا أخرى عنه تجعلهم يستطيعون أن يطبقوا اكتشافاتهم على الإنسان نفسه، بعد النجاح الفائق لتطبيقه على النبات والحيوان.
ولستُ أدري لماذا قفز إلى ذهني فجأة الدكتور زكي نجيب محمود، الذي أخطأ خطأً جسيمًا مرة حين نادى بإعمال العقل والعلم في حياتنا؛ فكادوا يحرقونه حيًّا، ولو طالوا العقاد الذي نادى بأن الإسلام دين العقل، لأخرجوه من ضريحه وأعادوا محاكمته.
والحقيقة أن الخاطر لم يقفز إلى عقلي صدفة أبدًا؛ ذلك أني أثناء ذلك الطريق الطويل الذي قطعتُه سواء خارج الجامعة أو داخلها، وأنا أشاهد العلم والعمل دائبَين جنبًا إلى جنب، كنت رغمًا عني أفكر في مصرنا الغالية ماذا حدث لها وفيها؟ وما المخرج من عنق الزجاجة التي تمر بها؛ ليس عنق الزجاجة الاقتصادي أو الثقافي أو الإنتاجي أو حتى البشري، ولكن عنق الزجاجة الحضاري. فكل ما أراه أمامي في أمريكا دليل تقدمٍ تكنولوجيٍّ هائل، تقدم وراءه قارةٌ ضخمةٌ بالغة الثراء الطبيعي، ولكنه ثراء لم يذهب هباءً وإنما تسلَّمته عقول تديره وتدبره وتوجهه وتوائم نظامها لكي ينطلق هذا التقدم رغم العوائق. إن تمسك أمريكا مثلًا بالحريات الفردية ليس نوعًا من الوجاهة، وليس حتى تقليعةً أمريكيةً أخرى، وإنما هو اقتباسٌ مباشر لصيحة الرأسمالية الأوروبية الناشئة على لسان الثورة الفرنسية «الحرية والإخاء والمساواة»؛ إذ اكتشف المهاجرون الأمريكيون الأُوَل، الثائرون على الإقطاع الأوروبي أن قيام مجتمعٍ غنيٍّ جديد لا يحدث إلا بأن تتحول شعارات الثورة الفرنسية إلى قوانين، تحكم المهاجرين الجدد، وتصبح مقدسة ذلك التقديس الذي لا يجرؤ أحد على خدشه؛ لأن الرأسمالية لا يمكن أن تنمو في ظل الديكتاتورية أبدًا، أو في ظل انعدام العدالة. فالرأسمالية يؤمن بها الفرد العادي؛ لأنه يتصوَّر أنه في ظلها من الممكن أن يصبح غنيًّا، وصاحب رأسمال، وعضوَ مجلس شيوخ، بل وحتى رئيسًا للجمهورية، فإذا وجد الطريق أمامه مسدودًا بتحكُّم فرد أو أفراد، أو أحسَّ أن فرصته غير متساوية؛ كفر بالنظام وانعدم ولاؤه. وحرية التفكير والاجتهاد والبحث العلمي والابتكار والاختراع، وحتى حرية التقاليع هي قطعة السكر التي يعطيها النظام لكل من يأتي بجديد؛ إذ ينعكس هذا الجديد على المجتمع كله؛ فالذي اخترع التليفون والسيارة واكتشف أنصاف الموصِّلات الترانزستور، لم يكن ليفعل هذا وهو مكتوف الأيدي بقوانين وآراء الأقدمين مثل نيوتن ولافوازييه وأرشميدس، لقد فعل هذا فقط لأنه أحسَّ بعمقٍ أنه حرٌّ في أن يأتي بما لم يستطعه الأوائل، حُر ليس فقط في تطوير ما قاله الأوَّلون، ولكن في الثورة التامة على آرائهم أنفسهم. ليس هناك إذن معجزةٌ أمريكيةٌ رأسماليةٌ خاصة، مثلما لا معجزة روسيةً اشتراكية أو شيوعيةً خاصة، باعتبار أن الدولتين تعتبران اليوم أقوى دولتَين ظهرتا في التاريخ البشري؛ فهما في رأيي وجهان لعملةٍ واحدة من الحضارة الأوروبية المسيحية الحديثة، المبنية على أسس من الإبداع العربي والإسلامي والإغريقي، بل إنني لأجرُؤ وأقول: إن الماركسية نفسها ثورة داخل الحضارة المسيحية، وإن أخذتْ شكل الثورة عليها؛ فالبروستانت حين ثاروا على الكاثوليك كان البابا يعتبرهم ملحدين وكفرة، مثلما نعتبر اليوم أن الشيوعيين كفرة.
والمعجزة الحقيقية هي إعمال العقل البشري لحل مشاكل الوجود الإنساني وإتاحة الفرصة كاملة للتطور والتقدم، وإذا كان البعض منا — بافتراض الإخلاص وحسن النية — يريد أن يلغي عندنا العلم والعقل باعتبار أنهما عدوَّان لدودان للإيمان اليقيني الشامل، فإن إسلامنا الحنيف قرن العلم والعقل بالإيمان، ولم يضعهما أبدًا على طرفَي نقيض. إن أول كلمة نزلت في قرآننا الكريم كانت «اقرأ»، والحديث الشريف: «اطلبوا العلم ولو في الصين.» حديث لا يأتيه الباطل أو التشكيك من بين يديه ولا من خلفه، إنها دعوات لا تفيد إلا أعداءنا، فأعداؤنا وحدهم هم الذين يريدون أن يتعلَّموا هم ويحتكروا العلم والتكنولوجيا، ونجهل نحن به وبها، ويريدون أن يكون لهم وحدهم حرية التفكير والاختراع، ويتركون لنا مهمة أن نغلق نحن تفكيرنا بأيدينا، «نحلق» نحن عقولنا ونطلق شعورنا ليتقدموا هم ونتأخر نحن، وفي النهاية ينتصرون هم، وتحيق بنا — معاذ الله — الهزيمة، وبأيدينا نحن وليس بأيديهم.
ولكن هذا حديثٌ آخر …
فالآن، وقبيل الواحدة بدقائق كنتُ قد وصلت إلى مبنى أعضاء التدريس والغداء قد انتهى والجميع في طريقهم إلى قاعات البث والمحاضرات، ولم يعد باقيًا إلا الدكتور جورج صباغ مضيفي وبعض من أساتذة القسم، وما كدت أصل حتى سلَّمتْ عليَّ الدكتورة عفاف لطفي السيد مستأذنة؛ إذ إن ميعادها مع طلبتها قد حلَّ، رائعة تلك المصرية الشامخة الرابضة في آخر معاقل الدنيا الغربية منذ ما يقرب من الأعوام العشرين، بينما قلبها وعقلها وأحلامها مع مصرنا العربية الحبيبة.
استقبلني الدكتور جورج بضحكةٍ عربيةٍ عراقيةٍ صافية؛ إذ هو من أصل عراقي، فالتأخير ساعة عن موعد غداء ليس جريمةً كبرى في عالمنا العربي، وإن كان التأخير خمس دقائق هنا كارثة، وحين أخذت أحكي مغامراتي للوصول، ظل الرجل يستمع لي بأدبٍ شديد، ثم فجأة أدركتُ أنهم لم يتناولوا جميعهم الطعام، وأن نظام خدمة النفس هو السائد، وأن على كلٍّ منا أن يخدم نفسه، وبسرعة؛ فساعة الغداء قد انتهت، وكل شيء محسوب هنا بدقَّة، ومحاضرات ما بعد الظهر قد بدأت من زمن.
وتكاسلتُ تمامًا في خدمة نفسي؛ فأنا لم أكن جوعان بالمرة، فمعدتي كانت لا تزال تعمل بالتوقيت المحلي للقاهرة، وكانت ساعتها بالضبط الحادية عشرة مساءً، وأبواب المعدة جميعًا مغلَقة استعدادًا لنوم القاهرة …
نوم القاهرة!