إلى الأستاذ خالد محمد خالد
وعَدتُك — يا حبيبَ المؤمنين بالدِّين والحياة — على أثر مقالاتك عن الإسلام والديمقراطية، تلك التي شرَعتَ فيها لتطبيق ديمقراطي، حديثٍ تمامًا وأصيلٍ جدًّا، للشريعة الإسلامية، وعَدتُك أن أكتب لك رسالة مفتوحة أقول لك رأيي فيها عن هذا الموضوع بأكمله. وكان في نيتي أن أكتب لك رسالة مطوَّلة ومُسهبة ولكني، بعد ترَوٍّ، وجدتُ أن رسالتي إليك إذا طالت ستتحول إلى نوع من «المونولوج» — ولْتَسمح لي باستعمال هذا التعبير الأجنبي الذي يَعني الحديثَ إلى النفس، والتعبير عن النفس — وكان العرب الأقدمون صُنَّاع اللغة لم يكن شائعًا لديهم هذا النوع من التعبير؛ إذ هم دائمًا كانوا يتحدثون عن الآخرين وللآخرين، ونادرًا ما كان الواحد منهم يُحدِّث نفسه أو يُناجيها، فما بالك أن يُحاورَها ويَنقدها، وجدتُ أنها ستتحوَّل إلى مونولوج، مع أن الممتع فيك ومعك أن يكون الأمرُ ليس سِجالًا — مَعاذ الله — لكن حوارًا صادقًا خلَّاقًا لا تأخذ فيه الإنسانَ العزةُ برأيه ونفسه إلى درجةٍ قد تَدفع إلى مُجافاة الحق والعدل. حوار، لأنه ما أكثرَ ما شاع «المونولوج» في حياتنا إلى حدٍّ كِدنا نتحول فيه إلى ما يُشبِه مسرحية الصَّديق الكبير سعد الدين وهبة التي تَصف الناس فيها بأنهم «طرش» لا يسمعون، ولكنهم دائمًا يتكلمون، ونصفهم الآخر خرس يسمعون ولكنهم دائمًا لا يتكلمون.
نحن في حاجة ماسة إذن إلى حوار حقيقي خلَّاق، ليس فقط حول تطبيق الشريعة الإسلامية، بطريقة ديمقراطية أو شمولية، ولكن في كل أمور حياتنا، بحيث يَسمع الجميع، ويَتكلم الجميع، فلا يدفع انعدامُ السمع إلى ثورة الطرش على المتكلمين، ولا تدفع كثرة الكلام الذي لا يسمعه أحد إلى أن يَئوب مجتمعُنا إلى نُعاس، أو تَئوب حياتُه إلى كابوس على أوهن الفروض. نحن في حاجة إلى الحوار، وبالذات حول قضية تطبيق الشريعة؛ لأن السيل قد بلغ الزُّبى كما يقولون، وأصبح الشغلُ الشاغل لصحف الحكومة والمعارضة «والمعارضة بالذات، وهذا هو وجه العجب» هو تطبيقَ الشريعة الإسلامية، وتطبيقَ الحكم الإسلامي.
وقد قرأتُ كثيرًا من آراء سادتنا علماء الدين الأجلَّاء، حول هذا الموضوع وعن وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية فورًا ودون إبطاء. وكنتُ أَطوي الجريدة أو المقال وأُحدِّث نفسي: أي حكم إسلامي يُريد تطبيقَه هؤلاء الأفاضل؟ هل هو الحكم الإسلامي الخميني؛ أي تحويل المشايخ إلى حُكام كما حوَّل آيةُ الله «المولات» إلى حكومة وحُكام؟ أم هو حكم إسلامي وهَّابي كالسائد في السعودية ودول الخليج؟ أم هو حكم إسلامي قذَّافي كالسائد في ليبيا؟ أم هو حكم كحُكم ضياء الحق في باكستان، حيث أعلَن أن الاستفتاء على رئاسته يَعني الاستفتاء على تطبيق الشريعة الإسلامية، وأنه هو ومَن يَرتضيهم من علماء الدين الذي سيتولى صياغةَ الشريعة مثلما فعل نميري، ويُفكِّر غيره في فعله؟
هل هو تطبيقُ فقه الإمام الشافعي الذي يَعتنق مذهبَه معظمُ المصريين، أو فقهِ الإمام مالك، أو الإمام أبي حنيفة، أو ابن تيميَّة، أو مذهب ابن حنبل؟
وكيف نَشْرَع في تطبيق هذا المذهب أو ذاك إذا اخترناه؟ هل نعتبر أن كلَّ حياتنا المعاصرة التي جدَّت بعد وفاة هؤلاء الأئمة الكبار، وقفل باب الاجتهاد، كل ما جد على حياتنا تلك، مِن ملابسَ مُعاصِرة، و«بِدَل» وراديوهات وساعات وتليفزيونات وسينمات ومسارح وموسيقى وغناء وركوب سيارات والحج بالطائرات والسفر إلى الخارج، ومشاهدة النساء السافرات هناك، والبنوك والمعاملات، والتصنيع والتكنولوجيا، والنظريات الكثيرة في تفسير الكون والحياة، والهندسة البيولوجية، وآلاف غيرها من الأشياء، هل نعتبر كلَّ هذه الأشياء جميعِها خروجًا على الشريعة، باعتبار أنه لم يَرِد بها حديثٌ أو اجتهاد، فنُلْغيها كلَّها، ونعود نَحيا في خيام أو مَساكِنَ من الطين، ونرتدي الجلاليب، ولا يَعود لنا من عمل إلا العبادة في المساجد أو البيوت؛ إذ إن بعضَهم يُفسِّر الأمر هكذا استشهادًا بالآية الكريمة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وفي الحديث الشريف: العمل عبادة؟!
هل يعني تطبيق الشريعة أن نَتبع نظامَ البيعة الذي أخَذ به المسلمون في صدر الإسلام، فيجتمع ٤٦ مليون مصري، أو بالأصح ١٢٠ مليون عربي في مكان واحد، لِيَختاروا واحدًا يُبايعونه إمامًا للمسلمين جميعًا وحاكمًا مطلقًا، حتى الشورى بالنسبة إليه ليست أمرًا مُلزِمًا؟
كيف يتم اجتماع كهذا، وعلى أي أساس نَعرف نوع الخليفة لِنُبايِعَه، لقد بُويِع أبو بكر لأنه كان صديق النبي وحبيبَه ورفيقَ رحلته العُظمى في إبلاغ الرسالة، وبويع عمر لأنَّ أبا بكر أوصى ببيعته، وبُويع يزيدُ بن معاوية بسيفِ معاوية وذهَبه وأثناء حياته، فماذا نفعل نحن الآن، وعلى أي أساس نُبايع أمير المؤمنين في عصرنا الحديث؟ أعلى أساس فَصاحته أو قدرته على الخطابة، وأَسْر النفوس أو عدد مرات ظهوره في التليفزيون مثلًا، أم نختار رئيس جمهوريتنا الحاليَّ باستفتاء؟ وما الفارق حينَذاك بين نظام الانتخابات الحديثة ونظام البيعة؟ أم لا بد أن تكون البيعة لفقيه من فقهاء الدين؟ بمعنى أن المسألة في النهاية ليسَت في كيفية الحكم، ولا في تطبيق الشريعة، أو عدم تطبيقها، ولكنها في نهاية الأمر الطريقةُ الوحيدة لكي «يحكم» رجال الدين.
وأنا شخصيًّا لا اعتراض عندي أن يَحكمنا رجلُ دين، بل إني لأحلم بهذا؛ شرط أن يكون هذا الحاكم الدينيُّ في سَعة أفق الإمام محمد عبده، وفي طهارة الشيخ الغزالي، وفي تفتُّح الشيخ خالد محمد خالد، وعُنف الشيخ كشك «في مواجهة الأعداء فقط، وليس في صبِّ لعناته على مُذيعات التليفزيون» ورِقَّة الشيخ عمر التِّلمساني.
- أولًا: طرد الاستعمار البريطاني من أرضنا.
- ثانيًا: خلع الملِك والملَكية وإقامة نظام جمهوري ديمقراطي حقيقي، يتم فيه كلُّ شيء بالانتخاب المطلَق، من العمدة إلى مأمور المركز، إلى النائب العام، إلى رئيس الجمهورية.
- ثالثًا: عن طريق هذا الانتخاب يَختار الشعبُ مُمثِّليه في مجلس تشريعي يُصبِح فيه أعضاؤه أُولي الأمر، وتحت رِقابة الشعب والصحافة أيضًا.
- رابعًا: أن تقوم في بلادنا نهضة تعليمية صِناعية نَستعيد بها أسرارَ التقدم العلمي، الذي أخذَتْه منا أوروبا، وطورَته إلى أن استعمَرَتنا وأذلَّتنا بتطويرها لحياتها وأسلحتها به.
- خامسًا: أن تبدأ مرحلتنا الحضارية الحقيقية مبنيةً على الأسس السابقة بحيث نتعرَّف على حقيقة ديننا ولغتنا وهُويَّتنا، ونُطوِّر مفهوماتنا إلى درجةٍ تصل بنا إلى أن نُصبِح مُصدِّري فكر وثقافة وحضارة وتَمدْيُن، وليس كما صِرْنا مجردَ مستهلِكين لمواد تمدين نشتريها بالقروض من أمريكا.
- سادسًا: أن نَحمي هذا كلَّه بجيش قوي وطني عظيم.
هكذا قرأتُ كتابك إذن: من هنا نبدأ، وآمنت بما جاء فيه لأنه كان يتمشَّى مع معتقداتي الشخصية كطالب وطني يُحب بلدَه وشعبه ودينه، إلى درجة لا يتردد فيها لحظة أن يُضحِّيَ بحياته من أجل هذا الدين وهذا الشعب.
وما زلتُ أحمل عواطفَ ذلك الطالب إلى الآن، ما زلتُ أحلم أننا سنتغلب على كل عقباتنا، وفي النهاية سننتصر.
ولكن …
ولكن يا أستاذ خالد …
لا أريد أن أقول في الوقت الذي يُذبَح فيه المسلمون بأيدٍ مسلمة، وتقوم حربٌ ضَروس بين شعبَين مُسلِمَين، ويبتسم الإسرائيليون في أكمامهم؛ لأن المسلمين والعربَ أنفُسَهم قد كفَوْهم عناءَ إفنائهم، إذ هم يتولَّون الآن وبأيديهم إفناءَ بعضهم البعض!
ألا ترى معي أن هذا الحديث، عن تطبيق الشريعة وقطع يد السارق ورَجْم الزاني، في هذا الوقت بالذات، وعلى صفحات الجرائد المصرية والسعودية بالذات، يُشكِّل في حد ذاته تساؤلًا لا بد أن يَطرأ لأي إنسان لديه ذرةٌ من العقل؛ لقد كان نبيُّنا صلواتُ الله عليه وسلامه «يُبشِّر» بالرسالة، وهي بعدُ في حيِّز عددٍ قليل من المؤمنين، وهو «يُحارب» أعداءَ الإسلام وأعداء الرسالة، لم يكن همُّ المسلمين بقيادة الرسول عليه السلام أن هذا المسلم الفرد قد سرق أو زنى، بقدر ما كان همهم الأوحد أن يَقهَروا أولًا عدوَّ الله وعدوَّهم، ثم يتفرغوا بعد هذا للتشريع والتهذيب والعقاب، لم يكن همُّ المسلمين في ذلك الوقت أن امرأة زنَت وجاءت تَعترف لرسول الله الذي حاول إثناءها عن اعترافها، فأصرَّت؛ تأمَّلوا هذا يا قوم: الرسول الكريم بجلالة قدره يُحاوِل إثناءَ «زانية» لأن نفسَه العظيمة تُدرِك مدى ضعف البشر، وتَعرُّضهم الدائم للخطأ والخطيئة، بمعنى أنه كان يتلمَّس لها العُذر أو البراءة، وأصرَّت، فأُقيمَ عليها الحد. حالة واحدة أو عددٌ قليل من حالات السرقة أو الزنى حدثَت؛ إذ كان همُّ المسلمين الأكبرُ ليس هو «الحكمَ»، ولكنه رفعُ راية الإسلام والمسلمين، إذ تلك هي المهمة العظمى الجديرة حقًّا برسالة النبي الكريم، أما تلك الحوادث التي بالضرورة لا بد أن تكون فرديةً ولا يُمكِن أن تُشكِّل ظاهرة عامة تصبح خطرًا على الإسلام والمسلمين، فإنها ليست هي الخطر، إما الخطر الأكبر يأتي من أعداء الإسلام والمسلمين القابعين في غُرف مكيَّفة، لديهم الإحصاءات والمعلومات والخطط، ويَعرِفون كيف يوقِعون بين الشيعة والسُّنة وبين اللُّبنانيين والفلسطينيين، وبين المصريين والعرب، وبين السودان ومصر، وبين مصر والمغرب، وليبيا وسوريا، وبين إيران والعراق، وبين أفغانستان وباكستان، كيف يَستقطبون ماليزيا لِتُصبِح إسلامًا نموذجًا وحده، ويوقِعون بين الصومال والحبشة، ويُهرِّبون الفلاشة ويُقنعونهم أنهم يهودٌ أبناءُ يهود، ويَرشون، ويتلمَّسون نقط الضعف ومن خلالها يَنخرون …
هذا هو الخطر الحقيقي على الإسلام والمسلمين يا مولانا الشيخ خالد. وإذا كان البعضُ منا يُريد تطبيق الشريعة فأول بنودها — كما هو واضحٌ لكل ذي عينَين — حماية الإسلام نفسه من أعدائه الخارجيِّين أولًا، أعدائه الحقيقيين، فأعداؤه في الداخل قِلة ممن يُسمَّون فاسِقين أو مارقين أو ماركسيِّين، أمرهم سهل تمامًا، أما الأمر الصعب فهو أن يُواجِه هؤلاء الزاعقون باسم الإسلام أعداءَ الإسلام، ويشيرون إليهم بجماع أيديهم وحناجرهم، ويَحضون المسلمين على التكتُّل لاتقاء شرهم.
إذا لم يكن هذا هو العملَ الأول للمنادي بتطبيق الشريعة، فماذا يكون عمله إذن؟ قطع يد ٢٠٠ سارق كما حدث في السودان، وجلد عشرين زانٍ وزانية، بينما يَموت كلَّ يوم في إيران والعراق ولبنان مئاتٌ من مسلمين أبرياء، تركَهم وُلاتهم وشيوخهم لأنهم مُتفرِّغون لقضية أهمَّ بكثير: تطبيق الشريعة باعتبار أن أعداء الإسلام هم داخل الإسلام نفسه، هم هؤلاء النساء اللاتي لا يُغطِّين كل شعورهن، ومذيعات التليفزيون اللاتي لا يَظهَرن بأشياء شرعية محتشمة؟
اللهم إذا كان أعداء الإسلام هؤلاء، فما أسهلَ قضية المسلمين إذن!
حاضر يا أسيادنا، سنُعيد كلَّ نسائنا إلى البيوت، وسنُغلق التليفزيونات والمسارح والفنادق وسنَرتدي الجلاليب … فهل تَكفُّ إذن الحربُ بين إيران والعراق؟
هل تتوقف بهذا مذابحُ صبرا وشاتيلا الإسلامية ضد الفلسطينيِّين المسلمين بأيدٍ عربية ومسلِمة؟
هل سيَنصرنا الله آنَذاك على «الكفار» القابعين بيننا، أم أننا سنَعصي الله حينئذٍ عِصيانًا لن يَغفره لنا سبحانه؛ إذ سنفعل مثلما فعَلوا في أحُد، وننشغل بالغنائم الصغيرة عن معركتنا الكبرى؟
معركتنا مع عدو لا يَرحم، ولن يرحمَنا.
•••
الأستاذ العظيم خالد محمد خالد.
لقد قلتَ لنا يومَ كنا نحلم: كيف نبدأ، من أين نبدأ؟ والآن نحن ما زِلنا نخوض معركة البداية الشرسة، ضدَّ أعداء شَرِسين جُدد، دخلتَ أنت الحَلبة لتُساهم في معركة تطبيق الشريعة، أو تطبيقها على الأصح بشكل متحضِّر يَستوعب كلَّ ما آلت إليه حياتنا المعاصرة.
ولكن يبقى السؤال يا أستاذ خالد: ألستَ ترى معي أنهم قد شغَلوكم جميعًا، يا فُضلاءنا وعلماءنا ومشايخنا بقضية داخلية؛ لِيَتفرغوا هُم للإجهاز علينا من الخارج، لِيتفرَّغوا هم «للطوفان» الذي يُريدون به القضاء علينا؟
كتابك أتذكره جيدًا، هذا أو الطوفان، وقد أعطوكم «هذا» وامتلَكوا هم ناصيةَ «الطوفان» يأتون علينا به، فما قولك، دام فضلك، ودام فضلُ أساتذتي وشيوخي وعلمائي الأجلاء؟