رد هادئ على أستاذ جليل
حين قرأتُ رد الأستاذ خالد محمد خالد على الدكتور يوسف إدريس أحسستُ بأن أستاذنا الجليل قد شحذ من أسلحته أسلوبًا هو السهل الممتنع، وأملًا رائعًا يملأ عليه وجدانه وخياله، وإن كان لا يَزيد على كونه حلمًا لا يَرتبط بالواقع بسبب، ولا يؤيده من التاريخ سنَد، وهو حلم الدولة الإسلامية، تلك التي حاول أستاذنا الكبير إقناعَنا بقَبولها، مؤكدًا على أن الإسلام دين ودولة، ولعله وهو العاشق للديمقراطية أبدًا تعمَّد ألا يُكمِل العبارة، فلم يذكر أنه مصحف وسيف، ربما لعِلمه وهو العالم الجليل، بما فعل السيفُ — سيف المسلمين — برقاب المسلمين، تأكيدًا لجَور الحاكمين باسم الإسلام على مدى قرون طويلة، يصعب أن تتمثَّل فيها بأكثرَ من فترة حكم الرسول والعُمرَين، وأنى لنا بأمثالهم!
إن الأستاذ خالد يرى أن مصر من خير بلاد الله إسلامًا، وأنا له مؤيد، بل إنني أتزيَّد وأقول إنها خير بلاد الله إسلامًا، وهو يرفض كل مظاهر التطرف الديني، وأنا أنحني لمقولته إعجابًا، وأؤكد له أنني لم أتوقع منه غير ذلك، وهو الذي عاش عمره مدافعًا أصيلًا عن الديمقراطية مجاهدًا، يسعى جاهدًا لربطها بحلم رائع لدولة إسلامية تتبنى مفاهيمها العصرية، وهي دولة ألْتفتُ للخلف في صحائف التاريخ فلا أرى لها أثرًا، وأنظر حولي متأثرًا بالإعلان الشهير إلى دولة ترفع الراية فلا أجد لها محلًّا، وأقرأ وأسمع للمتشدقين بحديث الدولة الإسلامية في مصر، فلا أرى في أعينهم إلا شرًّا مستطيرًا، ولا أسمع منهم إلا توعُّدًا ونذيرًا، ولا أرى في الأفق إلا نُكوصًا عن رَكْب الحضارة، وفتنة تُمزِّق وحدة الوطن الآمن، وظلامًا يُسدِل أستاره على الفن والفكر والثقافة، ولا أحسب إلا أن ذلك كلَّه أو بعضه هو ما جال في خاطره، وهو يستدرك في الفقرة التالية بقوله: إن الشريعة حين تُطبَّق في بلادنا لن تكون شريعةَ الخميني ولا شريعةَ النميري ولا شريعةَ القذافي؛ ذلك أن الحق لا يُعرَف بالرجال، وإنما يُعرَف الرجال بالحق، وهو قول عظيم وصادق وأمين، لولا أنه يَدفع إلى تساؤل يُراوِد أذهاننا عن ذلك الحق الذي لم يُصادِف رجلًا يُعرَف به منذ ألف عام، ألا يَدفع ذلك إلى التروِّي في أحسن الأحوال، ولا أحسب أن وصف حالنا بالحسَن جائز، أو إلى الرفض في أسوأ الأحوال، ولا أحسب أن سوء حالنا يَخفى على أستاذنا الأريب.
إن أستاذنا يتساءل: لماذا الشريعة؟ وهو يُجيب: لأن الإسلام دين ودولة، بمعنى أن قَبولنا بالدين يترتب عليه قَبولنا بالدولة الإسلامية. ولا أظن أن صياغة العبارة بصورة عكسية يمكن أن تؤدِّيَ إلى نتيجة صحيحة، بل إني لا أحسب أن واحدًا يمكن أن يتحمل وزر القول بأن عدم القَبول بالدولة الإسلامية يُخرِج مسلمًا عن دينه، وحُجتي في ذلك أنني لا أعتقد أن ثلاثة ممن يتصدرون مجال الدعوة للدولة الإسلامية يمكن أن يجتمعوا حول مفهوم موحَّد لها. والأستاذ خالد يعلم أكثر مني أن أغلبية الفقهاء يُجمِعون على أن الحاكم مُلزَم بأن يستشير، لكنه غير مُلزَم بأن يأخذ برأي الأغلبية أو حتى برأي الإجماع، وهو عكس ما يُنادي به الأستاذ خالد، وهو أيضًا عكس ما تُؤكِّده روح الديمقراطية وجوهرها، وهو أيضًا ما يدفع إلى أن نتساءل: هل الدولة الإسلامية جزءٌ من العقيدة، فيصبح أحدُ الطرفَين خارجًا على صحيح الدين والعياذ بالله، أم أنها لزومُ ما لا يلزم فنتردد أمام مقولة الدين والدولة؟
والأستاذ خالد يعلم أيضًا أكثر مني أن اختيار أبي بكر في السَّقيفة بإجماع أغلبية المسلمين مناقِض لأسلوب اختيار أبي بكر لعمر، مُناقض لأسلوب اختيار عثمان على مرحلتَين؛ أُولاهما اختيار أهل الحَل والعَقد لعثمان وعلي، وثانيتهما ترجيح عبد الرحمن بن عوف لاختيار عثمان، مُناقض لأسلوب اختيار عليٍّ ببيعة أهل المدينة، مناقض لتولية معاوية بحد السيف، مناقض لتولية يَزيد بالوراثة، مناقض لتولية الرشيد للأمين، ثم أخيه المأمون، ثم أخيه القاسم! ومَعاذ الله أن يكون أسلوبُ اختيار الحاكم — وهو أحدُ أهم الأركان السياسية للدولة — جزءًا من عقيدة الإسلام وإلا كان الاختلاف خروجًا على صحيح الدين، والعياذ بالله، والله أكبرُ مِن أن يُفرِّط في الكتاب من شيء إلا أن تكون رحمتُه قد علَتْ بالعقيدة على السياسة، ونزهَت الدينَ عن الدولة.
والأستاذ خالد يعلم أن مَن استندوا إلى القرآن والسُّنة في تبرير المنحى الرأسمالي للإسلام لم يَخرجوا على قاعدة في الدين، ولم يتعسَّفوا في تفسير نصوصه، وأن مَن استندوا إلى القرآن والسُّنة في تبرير المنحى الاشتراكي للإسلام لم يَخرجوا على قاعدة في الدين، ولم يتعسفوا في تفسير نصوصه، وإنما وجَد كلٌّ ضالتَه في الإسلام؛ لأنه دين الرحمة الذي يسَع متغيرات الزمان والمكان، ولا يَضيق لكي يرتبط بشكل من أشكال الدولة أو نظُمها الاقتصادية والسياسية، وإنما يتَّسِع لها جميعًا رحمةً بالعباد وتأكيدًا على أن الدين أشملُ من الدولة، وأن العقيدة أكثرُ اتساعًا وشمولًا من المفهوم الضيِّق لنظام الحكم. وأصِل إلى تساؤلِ أستاذنا الجليل، ماذا يَعني تطبيق الشريعة؟ وبدون أن أدخل في متاهة الشريعة والفقه، أو أن أتساءل كما يتساءل الكثيرون عن ماهيَّة الحدود، وهل هي مقصورة على ما ورد في القرآن نصًّا؟ أم أنها تشمل أيضًا ما طبقه الرسول، أو تتسع أكثرَ لكي تشمل تطبيقات الخلفاء الراشدين، أو تزداد اتساعًا لكي تشمل اجتهاداتِ الفقهاء في مرحلة زمنية تالية؟ تلك قضية فقهية لا أتوقف عندها؛ لأن ما يَعنيني هو الجانب السياسي للقضية، ذلك الجانب الذي يدفعني إلى إجابة أستاذنا الجليل عن تساؤله بأن تطبيق الشريعة سوف يجعل المواطن المسيحي مواطنًا من الدرجة الثانية لا تُقبَل له شهادة، ويَزداد البعض تطرفًا بالقول بأن لا ولاية له. وسوف يُصبح غناء المطربات دعوةً للزنى لا تَستقيم مع إقامة حدِّه، وسوف يصبح الرقص مُجونًا، والتمثيلُ فسقًا، وتَزيُّن المرأة تبرجًا من الجاهلية الأولى، ونحتُ التماثيل كفرًا إلا إذا دمَّرنا موقع القلب فيها أو الكبد. والله وحده يَعلم مصير تماثيل الفراعنة التي تُصوِّر آلهة المصريين القدماء، وهي معلومة غابَت عن حكام الدول الإسلامية المتعاقبة رحمةً من الله بالتاريخ، وشاءت إرادتُه جل شأنه أن يَطْمرها الترابُ فتبقى لنا صامدة إلا مِن نَقْب المأمون للهرم، أو تشويه أحد الزُّهاد لوجه أبي الهول العظيم!
أما إجابة أستاذنا الكبير عن تساؤله: كيف ستَحكم الشريعةُ المجتمع؟ والتي سرَد فيها أروع ما أتت به الديمقراطياتُ الحديثة، من كون الأمة مصدرًا للسلطات، وحرية تعدُّد الأحزاب، وإصدار الصحُف، واختيار أعضاء البرلمان وحق نوَّابه في المعارضة وإسقاط الحكومة، فهي إجابة تَحتمِل القليل من التعجُّب والكثيرَ من الإعجاب، أما الإعجاب فبالرجل، وأما التعجُّب فمَصدره أنه لا يُوجَد نصٌّ ديني واحد في قرآن أو سُنة، يؤكد صراحةً على بند واحد من البنود السابقة، غير أن الأقرب إلى المنطق أن نقول: إنها روح الإسلام وليست شريعتَه، تلك الروح التي لا تُناقض عدلًا ولا تَنقض حقًّا، غير أن طرح الأمر بهذه الصورة ينشئ مأزقًا، ويطرح تساؤلًا، ويدفع إلى دعاء؛ أما المأزق فيتمثَّل في خروج نظُم حكم «إسلامية» مجاورة وغير مجاورة من دائرة روح الإسلام، كما أتصور، وشريعته كما يتصور أستاذنا الجليل. وأما التساؤل فمن الإصرار على نعت المبادئ السابقة بمسمًّى إسلامي، وهي مبادئُ وإن الْتقَت مع روح الإسلام وجوهره، فإنها بالقطع نشأَت في غير دياره وتسمَّت بغير مسمَّياته. وأما الدعاء فلأستاذنا العظيم بأن يحفظه الله من ألْسِنةٍ وأقلام وربما حناجر مَن يرفعون راية الإسلام، ولا يرَون فيه إلا حزبًا لله قائمًا وحزبًا للشيطان مقضيًّا عليه، ولا يَعترفون للإنسان بحقٍّ في التشريع. ويتزيَّد بعضهم فيُنكر عليه حقَّ الاجتهاد أو حتى حرية الفكر والعقيدة، ويَشغلهم حديثُ الذبابة في عالم منشغِل بحرب النجوم، ويُلهون مواطنيهم بالحديث عن الطين الأرمني في وقت يُنشئ فيه الآخرون متاحفَ لصخور القمر.
وأصِلُ إلى التساؤل الأخير لأستاذنا الجليل. وأستميحه العذر ألا يُنكِر عليَّ عجبي، وأنا الذي قضيتُ عمري كله معجَبًا به، أليس عجيبًا يا أستاذنا الفاضل أن تكون إجابتك عن سؤالك لماذا الشريعة الآن؟ موجزةً في أنه ما دام هناك احتمالٌ لأنْ يصل هذا التيار يومًا — قَرُب أو بَعُد — إلى الحكم فلنبدأ بتقنين الشريعة ونِظام الحكم الآن، ولنطرحه الآن في استفتاءٍ عام حتى لا يَخرج عليه أحدٌ بعد. ألا يُشبِه ذلك لجوءَ صاحب المنزل القديم إلى إحراقه بأكمله تخوُّفًا أو توهمًا لسقوطه على رأسه يومًا ما؟ أما قولك بأن الشريعة مطلبٌ شعبي، فإنه يَفتح عليَّ بابًا من أبواب الهمِّ لا لكونها كذلك، ولا لرفض ذلك، بل لأنني موقن بأنها تبدو بهذه الصورة لكونها طُرِحَت على الرأي العامِّ كقضية دينية، وأمام الدِّين لا يَملك أحد، ولا أملك أنا، أن يختلف أو يَعترض، بينما لو عُرِض الأمر على وجهه الصحيح، وهي أنها قضية سياسة ودنيا وحكم، لاخْتَلف الأمر، وليس هذا مَبعثَ الهمِّ الوحيد، وإنما مَبعثُه إفلاس الساسة حين يتوسَّلون إلى صوت هنا أو هناك بالمزايدة على أمن الوطن ومستقبله.
ما علينا أيها الأستاذ العظيم، بل رُب ضارة نافعة، فقد استمتَعنا بما ذكرتَ وسَعِدنا بالحوار معك.
والله والوطن من وراء القصد!